بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب ولاية الفقيه/ المجلد الثالث/ القسم الخامس: المؤاخذة علی مصارف بیت المال، وجوب الرجوع الی الاعلم

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

نقل‌ منام‌ عن‌ آية‌ الله‌ الخوئي‌ّ حول‌ المؤاخذة‌ علی مصارف‌ بيت‌ المال‌

 في‌ الايّام‌ التي‌ كنت‌ فيها متشرّفاً بالسكن‌ في‌ النجف‌ الاشرف‌ لاجل‌ إكمال‌ التحصيل‌، كنت‌ أحضر أحد دروس‌ الاُصول‌ عند آية‌ الله‌ العظمي‌ الحاجّ السيّد أبي‌ القاسم‌ الخوئي‌ّ دامت‌ بركاته‌ العالية‌، وفي‌ أحد الايّام‌ واجهت‌ إشكالاً في‌ الدرس‌، وكان‌ الوقت‌ بعد مضي‌ حوالي‌ أربع‌ ساعات‌ من‌ الظهر، والطقس‌ حارّ جدّاً، فأتيت‌ إلی منزله‌ من‌ أجل‌ السؤال‌ عن‌الإشکال، وكان‌ في‌ ذلك‌ الوقت‌ يسكن‌ في‌ منزله‌ الاوّل‌ الذي‌ كان‌ وقفاً، ويبعد قليلاً عن‌ الحرم‌، فطرقت‌ باب‌ المنزل‌، فجاء بنفسه‌ وفتح‌ لي‌ الباب‌ وأدخلني‌ إلی داخل‌ البيت‌ وأكرمني‌، وكان‌ من‌ الواضح‌ أنـّه‌ قد خرج‌ توّاً من‌ السرداب‌، وجلس‌ في‌ ذلك‌ الجوّ الحارّ في‌ المنزل‌ تحت‌ سقف‌ الإيوان‌ ( بعض‌ منازل‌ النجف‌ لها إيوان‌ يكون‌ له‌ سقف‌ بصورة‌ شبّاك‌ لمنع‌ الحرارة‌ ) فجلست‌ هناك‌، وسألته‌ عن‌ إشكالاتي‌، وسمعت‌ أجوبتها. وقد كان‌ في‌ ذلك‌ اليوم‌ وحيداً في‌ المنزل‌، ولذا طال‌ المجلس‌ قليلاً، ونقل‌ لي‌ أُموراً كثيرة‌.

 من‌ جملتها أنـّه‌ قال‌ لي‌: بعد وفاة‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌ السيّد أبي‌ الحسن‌ الإصفهاني‌ّ رأيت‌ في‌ عالم‌ الرؤيا كأنـّي‌ في‌ طهران‌ في‌ منزل‌ الحاجّ الشيخ‌ محمّد حسين‌ الخراساني‌ّ، والد المرحوم‌ الشيخ‌ أبي‌ الفضل‌ الخراساني‌ّ، وجدّ الحاجّ الشيخ‌ محسن‌ الخراساني‌ّ ( الذي‌ هو حاليّاً من‌ علماء طهران‌، وهو رجل‌ محترم‌ جدّاً، وهو صهر المرحوم‌ السيّد محمّد جمال‌ ابن‌ المرحوم‌ آية‌الله‌ الحاجّ السيّد جمال‌ الدين‌ الگلبايگاني‌ّ. وكنت‌ قد تشرّفت‌ بلقاء أبيه‌ مراراً، وهو رجل‌ جليل‌ جدّاً، لكنّي‌ لم‌ أدرك‌ المرحوم‌ الحاجّ محمّدحسين‌ وذلك‌ لانـّه‌ قد توفّي‌ قبل‌ ذلك‌ ).

 قال‌ آية‌ الله‌ الخوئي‌ّ مدّ ظلّه‌ العالي‌: رأيت‌ في‌ المنام‌ كأنـّي‌ في‌ منزل‌ الشيخ‌ محمّد حسين‌ الخراساني‌ّ في‌ طهران‌، وكان‌ من‌ المقرّر أن‌ يأتي‌ السيّد أبو الحسن‌ الإصفاني‌ّ إلی هناك‌ أيضاً، ولم‌ يمضِ من‌ الوقت‌ شي‌ء يذكر حتّي‌ جاء السيّد أبو الحسن‌ وجلس‌، ثمّ انشغل‌ بالحديث‌ مع‌ الشيخ‌ محمّدحسين‌، فتعجّبت‌ من‌ أنـّه‌ إذا أراد أن‌ يأتي‌ من‌ النجف‌ إلی طهران‌ فعليه‌ أن‌ يأتي‌ مع‌ مقدّمات‌ كثيرة‌ وصرف‌ وقت‌ وتشريفات‌ واستقبال‌ لائق‌، فكيف‌ أتي‌ من‌ دون‌ ضجيج‌ ولا مقدّمات‌، ودون‌ أن‌ يلتفت‌ أحد إلی ذلك‌ أيضاً؟!

 رأيت‌ أن‌ لا فائدة‌ من‌ تعجّبي‌، فهو حاضر وجالس‌ ويتكلّم‌ مع‌ الشيخ‌ محمّدحسين‌ الخراساني‌ّ. وفي‌ أثناء الحديث‌ أشار السيّد أبو الحسن‌ إلی الجهة‌ المقابلة‌ له‌ التي‌ كانت‌ قفراً تشبه‌ تلّة‌ كبيرة‌ مثل‌ الجبل‌، وقد جمع‌ فيها النقود والامتعة‌ والاثاث‌ فقط‌، وكان‌ مقدارها كبيراً جدّاً، وقال‌ للشيخ‌ محمّدحسين‌: هل‌ تري‌؟ هذه‌ الاموال‌ هي‌ التي‌ أعطيتها في‌ زمن‌ مرجعيّتي‌ إلی الوكلاء الذين‌ كانت‌ عندهم‌ وكالة‌ منّي‌ في‌ جميع‌ أنحاء العالم‌ وفي‌ مختلف‌ المناطق‌، وهم‌ قد صرفوها من‌ سهم‌ الإمام ومن‌ الوجوه‌ الشرعيّة‌. فهذه‌ هي‌ الاموال‌ والآن‌ يريدون‌ أن‌ يحاسبونني‌ علی ها جميعاً. فقلت‌ للسيّد الخوئي‌ّ عندئذٍ: حسناً؛ فما تفعلونه‌ الآن‌ أنتم‌؟ هذه‌ هي‌ حال‌ وقضيّة‌ السيّد أبي‌ الحسن‌ الإصفهاني‌ّ، أفلا تعطون‌ أنتم‌ من‌ هذه‌ للوكلاء؟ فقال‌: إنّي‌ أعمل‌ بنحو آخر وهو أنـّي‌ لغاية‌ الآن‌ لم‌ أعطِ أحداً وكالة‌، إنَّما أُعطي‌ إذْناً في‌ الاستفادة‌ من‌ هذه‌ الاموال‌، والإذن‌ بخلاف‌ الوكالة‌ ولا مسؤوليّة‌ فيه‌.

 وبالطبع‌ لم‌ يذكر السيّد الخوئي‌ّ تفسيراً لهذا المعني‌، لانَّ مراده‌ معلوم‌ إذ إنَّ الوكالة‌ نحو من‌ النيابة‌، فالإنسان‌ عندما يوكّل‌ شخصاً فهذا معناه‌ أنـّه‌ نائب‌ عنه‌، وعمل‌ الوكيل‌ عين‌ عمل‌ الموكِّل‌، كما أنَّ عمل‌ النائب‌ عين‌ عمل‌ المنوب‌ عنه‌.

 ولذا، فعمل‌ الوكلاء بسبب‌ الإجازات‌ المعطاة‌ إليهم‌ من‌ قبل‌ الفقيه‌ محسوب‌ علی ذلك‌ الفقيه‌، أمَّا إذا لم‌ ينشي‌ الفقيه‌ هذا التنزيل‌ والنيابة‌ واقتصر علی قول‌: إنّي‌ أُعطيكم‌ إذْناً بأن‌ تتصرّفوا بالمال‌ بالشكل‌ الفلاني‌ّ، فليس‌في‌ هذا مسؤوليّة‌ الوكالة‌.

 الرجوع الي الفهرس

مسؤوليّة‌ التوكيل‌ والإذْن‌ في‌ التصرّف‌ علی المجتهد واحدة‌

 لكنَّ الظاهر أنـّه‌ ليس‌ هناك‌ أي‌ّ فرق‌ بين‌ الإذن‌ والوكالة‌، والإشكال‌ في‌ الإذن‌ نفس‌الإشکال في‌ الوكالة‌، لانـّه‌ وإن‌ لم‌ يكن‌ في‌ مسألة‌ الإذن‌ عنوان‌ تنزيل‌ ونيابة‌ عن‌ الشخص‌ وليس‌ تصرّفاً عن‌ الشخص‌ الآذن‌، ولكن‌ إنَّما يكون‌ الإذن‌ حينما يكون‌ عمل‌ الشخص‌ محتاجاً إليه‌ ولا يتمّ من‌ دونه‌، إذ لا معني‌ للإذن‌ لمن‌ يصحّ له‌ القيام‌ بعمل‌ بدون‌ إذن‌.

 وإنّما يكون‌ العمل‌ صحيحاً حيث‌ يكون‌ إتيان‌ العمل‌ في‌ الخارج‌ مشروطاً به‌، ولا يتمّ ما لم‌ يكن‌ الشخص‌ مأذوناً. وبعبارة‌ أُخري‌: الإذن‌ هو الجزء الاخير من‌ العلّة‌ التامّة‌.

 فمثلاً، لو أراد إنسان‌ أن‌ يعطي‌ مالاً لفقير فلا يتمّ ذلك‌ إلاّ بحصول‌ شروط‌ معيّنة‌ في‌ الخارج‌، مثل‌: وجود المال‌ في‌ الخارج‌، وجود الفقير، ومن‌ ثمّ رغبة‌ وإرادة‌ الإنسان‌ بالإعطاء، ليتمّ إعطاء ذلك‌ المال‌ إلی الفقير. فالإرادة‌ إذَن‌ هي‌ الجزء الاخير من‌ العلّة‌ التامّة‌.

 وهكذا بالنسبة‌ للإذن‌، أي‌ أنَّ العمل‌ لا يتمّ في‌ الخارج‌ من‌ دونه‌. وبناء علیه، فمسؤوليّة‌ الإذن‌ هي‌ نفس‌ مسؤوليّة‌ الوكالة‌، لانَّ النتيجة‌ واحدة‌ وهي‌ التصرّف‌ في‌ أموال‌ بيت‌ المال‌ التي‌ جعلها الله‌ تعالي‌ منوطة‌ بإذْن‌ المعصوم‌ والشخص‌ المتولّي‌ علی أرواح‌ الناس‌ وأموالهم‌ من‌ قِبل‌ المعصوم‌، فإذا تحقّق‌ ذلك‌ في‌ مورد ما فحسابه‌ يكون‌ في‌ عهدة‌ المعصوم‌ أو المنصوب‌ من‌ قبله‌.

 وعلي‌ هذا الاساس‌ فليس‌ هناك‌ أي‌ّ تفاوت‌ بين‌ الإذن‌ والوكالة‌ من‌ الناحية‌ الواقعيّة‌. إنَّما الفرق‌ بينهما فرق‌ مفهومي‌ّ. وأمَّا بالحمل‌ الشائع‌ الصناعي‌ّ والمصداق‌ الخارجي‌ّ فهو عمل‌ يقع‌ بالخارج‌ ويرتبط‌ بشخص‌ الآذن‌ والموكّل‌، ولا تفاوت‌ فيه‌ من‌ ناحية‌ المسؤوليّة‌ أبداً.

 الرجوع الي الفهرس

نفس‌ الإنسان‌ قابلة‌ للتغيّر ما لم‌ ترسخ‌ فيها العلوم‌ الباطنيّة‌

 والمطلب‌ المهمّ الآخر هنا هو: أنَّ كثيراً من‌ الاشخاص‌، وقبل‌ وصولهم‌ إلی المرجعيّة‌، كانوا من‌ الطاهرين‌ الافاضل‌ والعدول‌ والمتّقين‌ والمقدّسين‌، حتّي‌ شوهد من‌ بعضهم‌ أنـّهم‌ كانوا يسيرون‌ برفق‌ أثناء صعودهم‌ ونزولهم‌ عبر سلالم‌ المدرسة‌ لكي‌ لا تستهلك‌ تلك‌ السلالم‌ والاحجار بسبب‌ كثرة‌ السير علی ها، فكانت‌ دقّة‌ تصرّفهم‌ في‌ أموال‌ الاوقاف‌ إلی هذا الحدّ. ولكنّهم‌ بعد وصولهم‌ إلی المرجعيّة‌ ارتكبوا إلی ما شاءالله‌ من‌ الالاعيب‌ المثيرة‌ للقلق‌ الشديد، التي‌ تجعل‌ الإنسان‌ يشكّ في‌ أنَّ هذا الشخص‌، هل‌ هو نفس‌ ذلك‌ الشخص‌ المحتاط‌ أم‌ أنـّه‌ شخص‌ آخر؟!

 غالباً ما يُشاهد أشخاص‌ يتحدّثون‌ قبل‌ أن‌ يصلوا إلی الرئاسة‌ والحكم‌ عن‌ لزوم‌ حصول‌ بعض‌ التغييرات‌ وضرورة‌ إصلاح‌ أمر الطلاّب‌، وتوجّههم‌ نحو الاخلاق‌ والزهد والعرفان‌، ولزوم‌ تدريس‌ القرآن‌. وعندما يصلون‌ إلی السلطة‌ ينسون‌ هذه‌ الاُمور بشكل‌ كامل‌، فلا يُقام‌ درس‌ أخلاق‌، ولايُهتمّ بأُمور الضعفاء والمساكين‌. وهذا بحسب‌ تجربتنا لا ينحصر بمورد أو موردين‌، بل‌ شوهدت‌ له‌ موارد كثيرة‌ جدّاً.

 فما علّة‌ هذا الامر؟ وما الذي‌ يمكن‌ أن‌ يكون‌ السبب‌ الواقعي‌ّ في‌ ذلك‌؟ فهل‌ قد تغيّرت‌ ماهيّة‌ هؤلاء الناس‌ حقيقة‌؟ وهل‌ يكون‌ الفقيه‌ بعد المرجعيّة‌ شخصاً آخر غير ذلك‌ الفقيه‌ الذي‌ كان‌ قبلها؟ أم‌ أنَّ هناك‌ سبباً آخر؟

 وجواب‌ هذه‌ المسألة‌ هو: أنَّ طبيعة‌ الإنسان‌ تتلوّن‌ بسرعة‌، وسريعاً ما تتعرّف‌ نفس‌ الإنسان‌ علی ما يحيط‌ بها فتتأثّر به‌، ويؤثّر علی ها الكلام‌. والخلاصة‌، أنَّ الإنسان‌ سريعاً ما يقع‌ تحت‌ التأثير. وهؤلاء الاشخاص‌ قد كانوا واقعاً طاهرين‌ ومتّقين‌ ومقدّسين‌ ويعيشون‌ ببساطة‌، ولكن‌ ما أن‌ وصلوا إلی مقام‌ الرئاسة‌، وهجمت‌ علی هم‌ الاموال‌ من‌ النواحي‌ والاطراف‌، وصار يؤخذ منهم‌ التكليف‌ في‌ المسائل‌، ويصدر الامر والنهي‌ عنهم‌ بفعل‌ الشي‌ء الفلاني‌ّ وترك‌ الشي‌ء الفلاني‌ّ، فعندئذٍ صاروا يرون‌ أنفسهم‌ في‌ أُفق‌ آخر، ويلاحظون‌ أنفسهم‌ أساساً من‌ خلال‌ إحساس‌ كبير بالذات‌ وبالمحوريّة‌. ولازم‌ ذلك‌ القيام‌ بالامر والنهي‌ علی أساس‌ ولاية‌ وهميّة‌ ومصطنعة‌، وصاروا يحدّثون‌ أنفسهم‌ بأنَّ هذه‌ التصرّفات‌ جائزة‌ لهم‌ من‌ باب‌ الولاية‌. وهذه‌ المسألة‌ من‌ المسائل‌ المهمّة‌ جدّاً.

 كان‌ سعر عَقْد زوجة‌ عثمان‌ ( نائلة‌ بنت‌ فَراضة‌ ) بمقدار ثلث‌ خراج‌ إفريقيا. فعثمان‌ هذا هو غير عثمان‌ الاوّل‌، ومن‌ المسلّم‌ أنـّه‌ قد تغيّر. نعم‌؛ صحيح‌ أنـّه‌ لم‌ يكن‌ زاهداً وعابداً منذ البداية‌ أيضاً، لكنّه‌ لم‌ يكن‌ بهذه‌ الدرجة‌ من‌ الخباثة‌ كذلك‌. فينبغي‌ أن‌ لا نظنّ أنَّ هؤلاء الاشقياء هم‌ أشقياء بالذات‌ وقد ختم‌ علی هم‌ بذلك‌، وهم‌ مجبورون‌ علی الذنب‌، بل‌ إنَّهم‌ ساروا في‌ طريق‌ الشقاوة‌ باختيارهم‌، لانـّهم‌ في‌ بعض‌ الظروف‌ يكونون‌ من‌ المقدّسين‌ المؤمنين‌ المتديّنين‌، لكنّهم‌ يميلون‌ مع‌ الظروف‌ فيتغيّرون‌ مع‌ تغيّرها! [1].

 لاحظوا مثلاً أنـّه‌ عندما تكون‌ هناك‌ أُختان‌ تعيشان‌ في‌ منزل‌ واحد مع‌ بعضهما، فتكون‌ المحبّة‌ بينهما إلی درجة‌ تستعدّ إحداهما للموت‌ في‌ سبيل‌ الاُخري‌، وإذا مرضت‌ إحداهما تريد الاُخري‌ أن‌ تقتل‌ نفسها لاجلها، لكن‌ حين‌ توافي‌ المنيّة‌ الاب‌ ويرتحل‌ عن‌ هذه‌ الدنيا، ويأتي‌ الحديث‌ عن‌ تقسيم‌ الميراث‌، ويصير الكلام‌ حول‌ حقّي‌ وحقّك‌، تتبدلّ تلك‌ الحالة‌ شيئاً فشيئاً ويظهر التكدّر.

 ويصل‌ هذا التكدّر إلی درجة‌ أن‌ تتمنّي‌ هذه‌ الاُخت‌ وفاة‌ أُختها مع‌ أنـّها كانت‌ في‌ حياة‌ أبيها تفديها بنفسها!

 وهذه‌ مسألة‌ مهمّة‌ جدّاً وتفتح‌ للإنسان‌ الكثير من‌ أبواب‌ المعارف‌ وتوصله‌ إلی أُمور كثيرة‌.

 الرجوع الي الفهرس

علي‌ الحاكم‌ تجاوز الجزئيّة‌ والاتّصال‌ بالكلّيّة‌

 ولذا، يقول‌ الشيعة‌: يجب‌ أن‌ يكون‌ الحاكم‌ معصوماً. وهذا هو أساس‌ الإمامة‌ عندهم‌. يجب‌ أن‌ يكون‌ هناك‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ وإلاّ كانت‌ الحكومة‌ حكومة‌ غير دينيّة‌. وكذلك‌ الشخص‌ الذي‌ يرتبط‌ به‌ علیه السلام‌ فيجب‌ ـوكما بيّنتُ مراراًـ أن‌ يكون‌ قد تجاوز الجزئيّة‌ واتّصل‌ بالكلّيّة‌. أي‌ أن‌ يكون‌ قد عبر عالَم‌ الجزئيّة‌ والكثرات‌ واتّصل‌ قلبه‌ بعالم‌ الكلّيّة‌ والباطن‌، وأن‌ يكون‌ له‌ اتّصال‌ بحقيقة‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ وحقيقة‌ صاحب‌ الزمان‌ علیه السلام‌، وإلاّ فلا يستطيع‌ القيام‌ بعمل‌ كهذا.

الاجتهاد مَلَكَةٌ قُدْسيَّةٌ، وَمِنْحَةٌ إلَهيَّةٌ

 ولا يصحّ القول‌: إنَّ الاجتهاد عمليّة‌ رياضيّة‌، لكي‌ يقال‌ إنَّه‌ إذا جمعنا « أ » مع‌ « ب‌ » وضربناهما باثنين‌ يساوي‌ كذا مثلاً. وإنَّ كلّ مَن‌ تعلّم‌ العمليّة‌ صار مجتهداً!

 وإنَّما الاجتهاد ـ كما قال‌ المرحوم‌ الشهيدـ مَلَكَةٌ قُدْسيَّةٌ، وَمِنْحَةٌ إلَهيَّةٌ. بنحو إذا وجدت‌ هذه‌ الملكة‌ عند شخص‌ تكون‌ جميع‌ أعماله‌ ممضاة‌، وإلاّ كان‌ متورِّطاً في‌ جميع‌ خطواته‌ وأعماله‌.

 وكلامه‌ ناظر إلی هذه‌ الجهة‌، ولا يجب‌ أن‌ يتوهّم‌ الإنسان‌ أنـّه‌ بما أنَّ هؤلاء الاشخاص‌ جيّدون‌ فيجب‌ أن‌ نوصلهم‌ للمرجعيّة‌ ونعتبر المسألة‌ منتهية‌. أو إذا انجرّ حاكم‌ أو مرجع‌ من‌ الصلاح‌ إلی الفساد، يقال‌ إنَّه‌ يجب‌ نصيحته‌ لإعادته‌ بهذه‌ الطريقة‌ من‌ الفساد إلی الصلاح‌. فالامر ليس‌ كذلك‌.

 بل‌ المسألة‌ هي‌: أنَّ نفس‌ الإنسان‌ عندما تنتقل‌ من‌ بيئة‌ إلی بيئة‌ أُخري‌ فإنَّها تتغيّر، ويضيع‌ الإنسان‌ الجيّد، ويري‌ ذلك‌ الشخص‌ الذي‌ عاش‌ في‌ ظروف‌ الرئاسة‌ والامر والنهي‌ نفسه‌ فَعّالٌ لِما يَشاء وَحاكِمٌ لِما يُريد، ويحسب‌ نفسه‌ وَليَّاً وَمُسَيْطِرَاً علی الاموال‌ والنفوس‌، فهو يري‌ لنفسه‌ في‌ الواقع‌ حقّاً كهذا، ويسمح‌ لنفسه‌ أن‌ يقوم‌ بهذه‌ الاعمال‌، ولذا يلجأ إلی هذه‌ التصرّفات‌، لانـّه‌ يجد في‌ نفسه‌ ولاية‌ وسلطة‌ وحقّاً في‌ الامر والنهي‌. وهذه‌ مسألة‌ مهمّة‌ وخطيرة‌ جدّاً.

 ذهبت‌ في‌ أحد الايّام‌ إلی منزل‌ آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد محمّد علی سبط‌ الشيخ‌ في‌ طهران‌، ذكر أثناء الحديث‌ الذي‌ دار بيننا قضيّة‌ لطيفة‌ جدّاً، كانت‌ جيّدة‌ بالنسبة‌ لي‌.

 فحدّثني‌ بأنَّ المرحوم‌ آية‌ الله‌ الحاجّ الميرزا علی الشيرازي‌ّ ( ابن‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌ الميرزا محمّد حسن‌ الشيرازي‌ّ الذي‌ كان‌ من‌ المراجع‌ في‌ النجف‌ الاشرف‌ ) كان‌ يقول‌ للذين‌ يريدون‌ أن‌ يصبحوا مراجع‌: إذا شكّ الإنسان‌ في‌ عدالتهم‌ فلا يستطيع‌ إجراء استصحاب‌ عدالتهم‌ التي‌ كانت‌ قبل‌ زمان‌ المرجعيّة‌؛ وكان‌ يقول‌: إنَّ هذا المورد من‌ موارد تبدّل‌ الموضوع‌، ومع‌ تبدّل‌ الموضوع‌ لا يجري‌ الاستصحاب‌.

 ولم‌ أعهد مثل‌ هذا الكلام‌، لانَّ الجميع‌ يقولون‌: إذا كان‌ ـمثلاًـ زيدٌ عادلاً ووصل‌ إلی المرجعيّة‌، ثمّ صدرت‌ منه‌ أعمال‌ توجب‌ الشكّ في‌ بقاء العدالة‌، فيجب‌ في‌ هذه‌ الصورة‌ استصحاب‌ عدالته‌.

 بينما يقول‌ الميرزا علی: إنَّ الاستصحاب‌ هنا لا يجري‌، لانَّ الموضوع‌ قد تبدّل‌.

 فقلت‌ له‌: وكيف‌ يصحّ هذا الذي‌ تقولونه‌؟ فقال‌: ومن‌ الصدف‌ أنَّ المرحوم‌ آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد محسن‌ الحكيم‌ قد أورد هذا الكلام‌ بالمناسبة‌ في‌ « مستمسك‌ العروة‌ الوثقي‌ ». [2]

 وأمَّا بيان‌ المطلب‌: فقد كان‌ اعتقاده‌ هو وطلاّبه‌ علی أنَّ الإنسان‌ قبل‌ أن‌ يصير مرجعاً فإنَّ نفسه‌ تعيش‌ في‌ إطار مصون‌ من‌ كثيرٍ من‌ الامراض‌ والعاهات‌ والآفات‌ والامراض‌ النفسيّة‌، لكن‌ عندما يصل‌ إلی المرجعيّة‌ ويتجاوز ذاك‌ الإطار السابق‌، وتتأثّر نفسه‌ بمؤثّراته‌، تكون‌ له‌ نفس‌ أُخري‌ غيرالنفس‌ الاُولي‌. فقد تغيّر الموضوع‌ هنا، فاستصحاب‌ العدالة‌ يرتبط‌ بنفسه‌ قبل‌ المرجعيّة‌، والنفس‌ قد تغيّرت‌. وقد كان‌ مصرّاً علی هذا الاعتقاد في‌ عدم‌ جريان‌ الاستصحاب‌.

 ولِنَرَ الآن‌، هل‌ استصحاب‌ عدالة‌ زيد وسريان‌ زمان‌ اليقين‌ إلی زمان‌ الشكّ ـوالذي‌ هو من‌ استصحاب‌ القسم‌ الثالث‌ من‌ الاستصحاب‌ الكلّي‌ّ تقريباًـ صحيح‌ أو لا؟

 لقد قسّموا الاستصحاب‌ الكلّي‌ّ إلی ثلاثة‌ أقسام‌:

 القسم‌ الاوّل‌، هو أن‌ يكون‌ لنا يقين‌ بتحقيق‌ طبيعة‌ كلّيّة‌ في‌ ضمن‌ فرد معيّن‌، ثمّ نشكّ أنَّ هذا الفرد هل‌ زال‌ لكي‌ يكون‌ الكلّي‌ّ قد زال‌ أيضاً أو لا؟ ( لانَّ الطبيعة‌ بما هي‌ طبيعة‌ غير موجودة‌ في‌ الخارج‌، وإذا أرادت‌ أن‌ تتحقّق‌ في‌ الخارج‌ فيجب‌ أن‌ تتحقّق‌ وتتشخّص‌ ضمن‌ خصوصيّة‌ معيّنة‌. فالكلّي‌ّ الطبيعي‌ّ بما هو كلّي‌ّ طبيعي‌ّ لا يستطيع‌ أن‌ يوجد في‌ الخارج‌، وخارجيّته‌ لازمة‌ لتشخّصه‌ وتخصّصه‌ ).

 فنتيقّن‌ مثلاً: أنَّ كلّي‌ّ العدالة‌ قد تحقّق‌ في‌ نفس‌ زيد، ثمّ نشكّ فيما بعد في‌ بقاء العدالة‌ وعدمه‌، وذلك‌ لشكّنا مثلاً في‌ موت‌ زيد وعدمه‌.

 ونظرنا الآن‌ ـ بالطبع‌ـ إلی استصحاب‌ العدالة‌ الكلّيّة‌ لا إلی استصحاب‌ عدالة‌ زيد، إذ لو أردنا استصحاب‌ عدالة‌ زيد فعدالة‌ زيد أمر جزئي‌ّ مثل‌ وجود زيد وحياته‌. ومن‌ الواضح‌ أنَّ استصحاب‌ ذلك‌ أمر لا إشكال‌ فيه‌. لكنَّ الاستصحاب‌ الجزئي‌ّ ليس‌ مورد نظرنا حاليّاً، وإنَّما الكلام‌ هو: أنَّ العدالة‌ الكلّيّة‌ كانت‌ موجودة‌ في‌ الخارج‌ ومتحقّقة‌ مثلاً في‌ ضمن‌ زيد، والآن‌ عندما شككنا في‌ موت‌ زيد، فهل‌ نستطيع‌ أن‌ نستصحب‌ تلك‌ العدالة‌ الكلّيّة‌؟ وذلك‌ لانَّ موضوع‌ العدالة‌ الذي‌ هو في‌ الواقع‌ نفس‌ موضوع‌ الكلّي‌ّ متّحد حدوثاً وبقاءً ( أي‌ أنَّ تحقّق‌ العدالة‌ سابقاً هو في‌ ضمن‌ نفس‌ الفرد المتيقّن‌ الذي‌ يُشكّ الآن‌ في‌ تحقّق‌ العدالة‌ في‌ ضمنه‌ بقاءً ).

 القسم‌ الثاني‌، هو أن‌ نتردّد في‌ تشخّص‌ وتخصّص‌ الطبيعة‌ التي‌ نتيقّن‌ بوجودها في‌ الخارج‌ ضمن‌ هذا الفرد أو ضمن‌ فرد آخر، بحيث‌ إذا كانت‌ ضمن‌ هذا الفرد فهو متيقّن‌ الزوال‌، وإذا كانت‌ ضمن‌ الفرد الآخر فهو متيقّن‌ البقاء. وبما أنـّنا لا نعلم‌ في‌ أي‌ّ فرد قد تحقّق‌ الكلّي‌ّ، فلذا حيث‌ نشكّ الآن‌ في‌ بقائه‌ ( بسبب‌ احتمال‌ تحقّقه‌ في‌ ضمن‌ الفرد الاقصر عمراً ) فلانستطيع‌ إجراء الاستصحاب‌.

 ويقيناً أنَّ الحيوان‌ الكلّي‌ّ قد تحقّق‌ في‌ الخارج‌ سابقاً، لكنّنا لانعلم‌ هل‌ كان‌ تحقّقه‌ ضمن‌ الفيل‌ أو البعوضة‌؟ ففي‌ الصورة‌ الاُولي‌ يكون‌ موجوداً إلی الآن‌ بشكل‌ مسلّم‌، لانَّ عمر الفيل‌ طويل‌، وفي‌ الصورة‌ الثانية‌ قد زال‌ يقيناً. فلو أردنا الآن‌ استصحاب‌ خصوص‌ الفيل‌ فنحن‌ نشكّ في‌ أصل‌ حدوثه‌. ولذا أردنا استصحاب‌ كلّي‌ّ الحيوان‌ الذي‌ قد تحقّق‌ ضمن‌ فرده‌، فهذا أيضاً لا يجري‌، لانَّ شكّنا في‌ أصل‌ وجوده‌ وتحقّقه‌، مع‌ أنَّ الاستصحاب‌ يحتاج‌ إلی ركنين‌: الاوّل‌: اليقين‌ بالحدوث‌، والثاني‌: الشكّ في‌ البقاء. أي‌ يجب‌ أن‌ يكون‌ لدينا يقين‌ بوجود الموضوع‌ سابقاً ونشكّ فيما بعد في‌ بقائه‌. وهنا تلك‌ الحيوانيّة‌ التي‌ كنّا متيقّنين‌ بها سابقاً مشكوكة‌ من‌ الاوّل‌، حيث‌ هل‌ هي‌ حيوانيّة‌ فيليّة‌ أو بعوضيّة‌؟ ولا يمكننا جريانها إلی هذا الزمان‌، لانـّه‌ لا يقين‌ لنا في‌ وجود الحيوان‌ الذي‌ كان‌ في‌ السابق‌. وعليه‌، فلا يكون‌ قابلاً للاستصحاب‌.

 القسم‌ الثالث‌، هو أن‌ يكون‌ لنا يقين‌ بنحو مسلّم‌ بتحقّق‌ الكلّي‌ّ في‌ الخارج‌ في‌ ضمن‌ فرد ما، ونتيقّن‌ الآن‌ أنَّ ذلك‌ الفرد قد زال‌، لكن‌ نشكّ في‌ أنـّه‌ هل‌ تحقّق‌ الكلّي‌ّ أثناء زوال‌ ذلك‌ الفرد في‌ ضمن‌ فرد آخر أو لا؟ لانَّ ذلك‌ الكلّي‌ّ إذا أراد أن‌ يوجد الآن‌ في‌ الخارج‌ فيجب‌ أن‌ يوجد في‌ ضمن‌ فرد آخر.

 كأن‌ نعلم‌ مثلاً: أنَّ زيداً كان‌ في‌ الخارج‌ قطعاً، وكان‌ كلّي‌ّ الإنسانيّة‌ متحقّقاً فيه‌، ثمّ نتيقّن‌ بأنـّه‌ قد مات‌، ولكنّنا لا نعلم‌ في‌ أنـّه‌ هل‌ ولد عمرٌو أثناء موته‌ أو لا؟ وهل‌ استمرّ وجود أصل‌ الكلّي‌ّ الطبيعي‌ّ الذي‌ كان‌ موجوداً بوجود زيد في‌ الخارج‌ بوجود عمرو أو لا؟

 أو نعلم‌، بأنَّ الحيوان‌ الكلّي‌ّ قد كان‌ حيّاً في‌ الخارج‌ ضمن‌ الفيل‌، ومن‌ المسلّم‌ به‌ أنـّه‌ قد مات‌ الآن‌، لكنّنا نشكّ في‌: هل‌ تزامن‌ مع‌ لحظة‌ موته‌ ولادة‌ حيوان‌ كلّي‌ّ آخر في‌ ضمن‌ البعوضة‌ أو لا؟ فلا نستطيع‌ إجراء الاستصحاب‌ هنا أيضاً، لانَّ الموضوع‌ قد تبدّل‌ ( لانَّ الفرد الذي‌ تيقّنا بحدوثه‌ قد زال‌ الآن‌ يقيناً، والفرد الآخر الذي‌ يحتمل‌ وجوده‌ ـ أصل‌ حدوثه‌ـ مشكوك‌ ).

 إذَن‌، من‌ المسلّم‌ به‌ أنَّ الاستصحاب‌ لا يجري‌ في‌ القسمين‌ الثاني‌ والثالث‌، ولا إشكال‌ في‌ جريانه‌ في‌ الاوّل‌، وهو الاستصحاب‌ الجزئي‌ّ.

 وزيد ـفي‌ مورد البحث‌ـ كان‌ يمتلك‌ سابقاً صفة‌ العدالة‌. أي‌ أنَّ العدالة‌ الكلّيّة‌ كانت‌ موجودة‌ سابقاً في‌ شخص‌ زيد، وكانت‌ نفسه‌ في‌ الخارج‌ تمتلك‌ صفة‌ العدالة‌، لكنّنا لا نعلم‌ في‌ أي‌ّ درجة‌ من‌ القوّة‌ كانت‌ تلك‌ العدالة‌، فإذا كانت‌ لا تزال‌ موجودة‌ إلی الآن‌، فهذا يعني‌ أنَّ نفس‌ زيد كانت‌ في‌ السابق‌ نفساً عالية‌ وملكوتيّة‌ تحفظ‌ لنفسها تلك‌ المصونيّة‌ والعدالة‌ والتقوي‌ مع‌ تغيّر الوضع‌ وعروض‌ الاهواء والافكار والميول‌ والامراض‌ الروحيّة‌؛ لانـّه‌ إذا لم‌ تكن‌ نفس‌ زيد بتلك‌ الدرجة‌ من‌ التقوي‌ والورع‌ وكانت‌ مكتفية‌ بتلك‌ العدالة‌ الظاهريّة‌ فمن‌ المسلّم‌ أنَّ هذه‌ الاجواء المسمومة‌ قد أزالت‌ تلك‌ العدالة‌، وأنَّ تلك‌ الشجرة‌ قد انكسرت‌ وقُلعت‌ من‌ جذورها. ونحن‌ لانعلم‌ أنَّ ذلك‌ الشخص‌ يمتلك‌ قبل‌ المرجعيّة‌ والحكومة‌ تلك‌ الدرجة‌ العالية‌ من‌ الصفاء والثبات‌ والإتقان‌ لكي‌ لا يميل‌ مثل‌: الهَمَجِ الرَّعَاعِ إلی هذه‌ الجهة‌ أو تلك‌.

 فلا يمكننا إذَن‌ إجراء الاستصحاب‌، لشكّنا في‌ أصل‌ تحقّق‌ الموضوع‌، فذاك‌ الموضوع‌ الذي‌ كان‌ وجوده‌ محرزاً في‌ زيد في‌ السابق‌ ـأي‌ متيقّناً في‌ السابق‌ـ هو العدالة‌ الاعتياديّة‌ والمتعارفة‌ لزيد الذي‌ لايحلّ استصحابها المشكلة‌، بينما المطلوب‌ واللازم‌ للولاية‌ هو الدرجة‌ العالية‌ من‌ العدالة‌ التي‌ نشكّ في‌ أصل‌ تحقّقها. ومن‌ المسلّم‌ به‌ أنـّنا لانستطيع‌ الآن‌ استصحابها وإجرائها إلی الزمان‌ اللاحق‌، لانَّ شكّنا هو في‌ أصل‌ تحقّق‌ الموضوع‌.

 نعم‌؛ لو كان‌ عندنا يقين‌ في‌ السابق‌ بامتلاك‌ زيد لتلك‌ النفس‌ الملكوتيّة‌ العالية‌، فيمكننا استصحابها فيما لو شككنا في‌ بقاء تلك‌ الصفات‌، ولكن‌ بما أنَّ نفس‌ الإنسان‌ تتغيّر باختلاف‌ البيئة‌ والظروف‌، ( والاغلب‌ ما يلاحظ‌ ذلك‌ أيضاً، وقد اطّرد إلی درجة‌ أنـّه‌ كثيراً ما لايبقي‌ للإنسان‌ محلّ للشكّ، أي‌ أنـّها ظاهرة‌ قويّة‌ إلی هذه‌ الدرجة‌ ) بنحو يتبدّل‌ فيه‌ الموضوع‌، فعندئذٍ لا يمكن‌ أن‌ نستصحب‌ عدالة‌ زيد.

 كان‌ هذا توجيهاً وتفصيلاً وشرحاً للكلام‌ الذي‌ نقلناه‌ عن‌ هؤلاء الاجلّة‌، ولا نريد إبداء رأينا في‌ هذا المقام‌، ولكن‌ نظراً لاهمّيّة‌ المسألة‌ نقول‌ إجمالاً: يتوهّم‌ الكثيرون‌ أنَّ بإمكانهم‌ حيازة‌ مقام‌ الولاية‌ بتحصيل‌ مجموعة‌ من‌ المصطلحات‌ والتحصيلات‌ المتعارفة‌، وبمراعاة‌ بعض‌ الشؤون‌ العرفيّة‌، وبدراسة‌ وتدريس‌ العلوم‌ الرسميّة‌، وبالاكتفاء بهذه‌ العدالة‌ والتقوي‌ الظاهريّتين‌، وكفي‌. مع‌ أنَّ الامر ليس‌ كذلك‌، والمطلب‌ لاينتهي‌ عند هذه‌ النقطة‌.

 الرجوع الي الفهرس

علّة‌ تحرّز الاعلام‌ عن‌ الولاية‌ عدم‌ الاطمئنان‌ إلی امتلاك‌ نفس‌ مطمئنّة‌

 ولذا نجد أنَّ الاجلاّء يمتنعون‌ كثيراً من‌ الوصول‌ إلی المرجعيّة‌ والرئاسة‌ خوفاً من‌ أن‌ تبدّل‌ الظروف‌، إذ يؤخذ الإنسان‌ من‌ جوّ إلی جوّ آخر، وبما أنـّه‌ لا يرون‌ أنفسهم‌ من‌ أصحاب‌ النفس‌ المطمئنّة‌، فهم‌ يجتنبون‌ من‌ ورود الهزاهز.

 وذلك‌ كما لو سافر الإنسان‌ من‌ طهران‌ إلی الحجّ في‌ فصل‌ الشتاء، فمع‌ أنَّ جوّ طهران‌ ملي‌ء بالثلوج‌، لكنّه‌ ما أن‌ يصل‌ إلی أرض‌ الحجاز حتّي‌ يضطرّ لخلع‌ الثياب‌ الشتويّة‌ وارتداء الثياب‌ المناسبة‌ للطقس‌ هناك‌، بسبب‌ اختلاف‌ الجوّ، في‌ الوقت‌ الذي‌ يظنّ فيه‌ سكّان‌ طهران‌ أنَّ الطقس‌ في‌ الحجاز هو مثل‌ طهران‌، وبالعكس‌.

 فالذين‌ يمارسون‌ الاعمال‌ العامّة‌ ويحملون‌ عنوان‌ ولاية‌ عامّة‌ مسؤوليّتهم‌ صعبة‌ ومعقّدة‌ جدّاً، ويجب‌ أن‌ يكونوا ممتلكين‌ لدرجة‌ عالية‌ من‌ التقوي‌ الإلهيّة‌، وأن‌ يكونوا مرتبطين‌ بالله‌ باستمرار، فعليهم‌ في‌ الوقت‌ الذي‌ يوجّهون‌ الاوامر إلی الناس‌ أن‌ يكونوا مؤتمرين‌ بأوامر الله‌ باستمرار، وفي‌ حالة‌ تضرّع‌ وسؤال‌ وخضوع‌ دائم‌ بين‌ يدي‌ الله‌، وأن‌ يكونوا في‌ حالة‌ تواضع‌ مستمرّة‌ تجاه‌ الناس‌، وحتّي‌ تجاه‌ خدمهم‌، فيذهبون‌ إلی مجالس‌ الفقراء، ويجلسون‌ علی الحصير، ولكي‌ يستأصلوا ذلك‌ الغرور والتكبّر ـالذي‌ هو لازم‌ الولاية‌ـ من‌ وجودهم‌ بواسطة‌ عمليّة‌ إذلال‌ هذه‌ النفس‌، وألاَّ يسمحوا لنطفة‌ الغرور النامية‌ في‌ رحم‌ وجودهم‌ واعتبارهم‌ أن‌ تكبر، لانَّ الاُمور النفسانيّة‌ لها منشأ في‌ وجود الإنسان‌، وتلك‌ الولاية‌ وذلك‌ الاعتبار أيضاً بمنزلة‌ الارضيّة‌ المهيّئة‌ لتنمية‌ وتوسعة‌ الاستكبار بالنسبة‌ إليه‌. هذا من‌ جهة‌.

 ومن‌ جهة‌ أُخري‌، فالإنسان‌ لا يصغي‌ لكلام‌ أحد ولا تأتيه‌ مؤاخذة‌ أو توجيه‌ أو أمر من‌ أحد، فالظروف‌ والملابسات‌ والجوّ وسائر اللوازم‌ والخواطر تقتضي‌ ارتفاع‌ الآمريّة‌ المتنامية‌ في‌ الإنسان‌ بشكل‌ متصاعد ومضاعف‌.

 لكنَّ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ لم‌ يكن‌ كذلك‌، قد كان‌ يأمر الآخرين‌ باستمرار، كما أنَّ طاعته‌ لامر الله‌ كانت‌ مستمرّة‌ أيضاً، وبذات‌ الوقت‌ كان‌ كثير البكاء والسجود؛ ويلبس‌ الثياب‌ البالية‌ دون‌ أن‌ يتخطّي‌ عن‌ زيِّه‌ ذلك‌، وإذا أقسم‌ فقسمه‌ حقيقيّاً. ولذلك‌ قال‌ أبو رافع‌: إنَّه‌ شعر بالخوف‌ من‌ كلام‌ الإمام علیه السلام‌، لانَّ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ جادٌّ فيما يقول‌ وفعّال‌ لما ذلك‌. ويوجد في‌ بعض‌ الموارد من‌ خطب‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ قوله‌ مثلاً: والله‌؛ لو فعل‌ الحسن‌ والحسين‌ العمل‌ الفلاني‌ّ لادّبتهما! [3] وكان‌ ينفّذ ذلك‌، لانـّه‌ لا يمزح‌ في‌ قسمه‌. فأميرالمؤمنين‌، أميرالمؤمنين‌ لانـّه‌ هكذا. وعلينا باعتبارنا شيعة‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ أن‌ نكون‌ كذلك‌ أيضاً، وإلاّ كانت‌ جميع‌ تبعات‌ ذلك‌ علی نا. فلو كان‌ ذلك‌ بصفة‌ الوكالة‌ أو الإذن‌ أو الإجازة‌ أو أي‌ّ عنوان‌ آخر، فمجرّد معرفة‌ أمر لا ينتج‌ شيئاً، وإنَّما الحقيقة‌ الخارجيّة‌ هي‌ المنتجة‌. فعلي‌ الإنسان‌ إذَن‌ أن‌ يصرف‌ الاموال‌ الموجودة‌ عنده‌ للمستحقّين‌ عن‌ تحقيق‌.

 وبناء علی هذا، فالوكالات‌ التي‌ تعطي‌ ( بصفة‌ عامّة‌ ) وليس‌من‌ الصحيح‌ أن‌ تدفع‌ الرواتب‌ الشهريّة‌ العامّة‌ دون‌ أن‌ يدري‌ الإنسان‌: هل‌ وصلت‌ إلی مستحقّيها أو لا؟ ويجب‌ التحرّي‌ بدقّة‌ حول‌ أحوال‌ وأخلاق‌ الطلاّب‌، والتمييز بين‌ الجيّد والسيّي‌منهم‌. ويجب‌ أن‌ يصرف‌ سهم‌ الإمام وبيت‌ المال‌ في‌ إعزاز الإسلام‌ والمسلمين‌، وأن‌ يكون‌ دافعاً لرفعة‌ وتقدّم‌ مذهب‌ التشيّع‌ بذات‌ القدر الذي‌ يؤدّيه‌ الاشخاص‌ لرفع‌ شأن‌ الدين‌ ورقيّه‌. ولاينبغي‌ التفريق‌ بين‌ الخواصّ وغيرهم‌، ويجب‌ النظر إلی الجميع‌ بعين‌ واحدة‌، لا أن‌ يعطي‌ الإنسان‌ خواصّه‌ وأقرباءه‌ أكثر من‌ الآخرين‌.

 الرجوع الي الفهرس

دخول‌ مقام‌ الولاية‌من‌غيرنفس‌مطمئنّة‌موجب‌للسقوط‌في‌الضلالة‌

 يجب‌ ملاحظة‌ هذه‌ المسائل‌ بدقّة‌، إذ لو فلت‌ زمام‌ الامر من‌ يد الإنسان‌ قليلاً فسوف‌ يهوي‌ إلی الحضيض‌ بشكل‌ متوالٍ وسريع‌، كالصخرة‌ التي‌ تهوي‌ من‌ قمّة‌ الجبل‌ إلی أسفله‌ في‌ سرعتها، فلو قدّرنا سرعة‌ انحدارها في‌ أوّل‌ متر بسرعة‌ عشركيلومترات‌، فسوف‌ تتضاعف‌ في‌ المتر الثاني‌، حتّي‌ تصل‌ إلی أسفل‌ الجبل‌ وهي‌ مفتّتة‌ بسبب‌ تضاعف‌ تلك‌ السرعة‌.

 وعلي‌ الإنسان‌ أن‌ يسلّم‌ أمره‌ دائماً إلی الله‌ ولا يمدَّ يده‌ إلی هذه‌ الاعمال‌ والاُمور العامّة‌ التي‌ هي‌ أُمور ولايتيّة‌، فلا يجب‌ علیهالدخول‌ فيها ما لم‌ يجد في‌ ذاته‌ نفساً مطمئنّة‌، ولا ينخدع‌ بإصرار الآخرين‌ ومواقفهم‌ فيفرّط‌ بنفسه‌، فإنَّ خطر ذلك‌ كبير. وفيما لو كلّفه‌ الله‌ تعالي‌ أحياناً بمهمّة‌ ما، فعليه‌ أن‌ يكون‌ عبداً ذليلاً خاضعاً للّه‌ كما كان‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌.

 اللَهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد

 الرجوع الي الفهرس

 

الدرس‌ العشرون‌:

 دلالة‌ آية‌: يَـ'´أَبَتِ إِنِّي‌ قَدْ جَآءَنِي‌ مِنَ الْعِلْمِ...

 

أعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ

بِسْـمِ اللَهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِـيـمِ

وصلَّي‌ اللَهُ عَلَی سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ

ولَعْنَةُ اللَهِ عَلَی أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَی قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ

 ولاَ حَولَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العَلِي‌ِّ العَظِيمِ

يَـ'´أَبَتِ إِنِّي‌ قَدْ جَآءَنِي‌ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي‌´ أَهْدِكَ صِرَ ' طًا سَوِيًّا. [4]

 وتقريب‌ الاستدلال‌ بهذه‌ الآية‌ الشريفة‌ بهذا النحو: تتحدّث‌ الآية‌ عن‌ كلام‌ واحتجاج‌ إبراهيم‌ علیه السلام‌ علی ولي‌ّ أمره‌ آزر، الذي‌ كان‌ عابداً للصنم‌ ومشركاً بالله‌ تعالي‌. وبما أنـّه‌ قد جعل‌ وجوب‌ الاتّباع‌ في‌ هذه‌ الآية‌ منوطاً بعلم‌ إبراهيم‌ وعدم‌ وجود ذلك‌ العلم‌ عند آزر، فيستفاد منها أنَّ علی كلّ جاهل‌ أن‌ يتّبع‌ العالِم‌، أي‌ أن‌ يجعل‌ إرادة‌ العالم‌ واختياره‌ مكان‌ إرادة‌ نفسه‌ واختيارها، وأن‌ يقدّمهما علی إرادته‌ واختياره‌، ويجعلهما مكان‌ طلباته‌ ورغباته‌.

 وعندها سوف‌ ينال‌ ذلك‌ الجاهل‌ مقصوده‌ إثر اتّباعه‌ للعالم‌، وسوف‌ يتمتّع‌ بالمواهب‌ الإلهيّة‌ التي‌ جُعلت‌ للإنسان‌ في‌ الصراط‌ المستقيم‌.

 وقد بُيّن‌ في‌ هذه‌ الآية‌ أيضاً تعليل‌ الحكم‌، أي‌ أنـّه‌ ليس‌ في‌ الآية‌ إشعار بعلّة‌ الحكم‌ فحسب‌، كما يقال‌ في‌ المباحث‌ الاُصوليّة‌ من‌ أنَّ: تَعْليقُ الحُكْمِ عَلَی الوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالعِلِّيَّة‌. كأن‌ يقول‌ المولي‌: أكْرِمْ زَيْداً العادِل‌. فهنا تعليق‌ وجوب‌ إكرام‌ زيد علی عنوان‌ العدالة‌ مشعر بعلّيّة‌ وصف‌ العدالة‌ للإكرام‌. فهذا يسمّي‌ إشعاراً، وكلامنا في‌ الدلالة‌، إذ دلالة‌ هذه‌ الآية‌ في‌ الحقيقة‌ فيها تنصيص‌ وبيان‌ لملاك‌ ومناط‌ الحكم‌، مثل‌: لا تَشْرَبِ الخَمْرَ لاِنـَّهُ مُسْكِر، ذلك‌ لانـّنا بعد أن‌ نستفيد العلّيّة‌ هنا، ندرك‌ أنَّ سبب‌ حرمة‌ شرب‌ الخمر هو إسكاره‌.

 والامر هنا كذلك‌ أيضاً، فإبراهيم‌ يقول‌ لآزر: اتّبعني‌ لكي‌ أهديك‌ إلی الصراط‌ المستقيم‌ والطريق‌ السوي‌ّ والثابت‌. وذلك‌ لانـّي‌ أملك‌ العلم‌، بينما أنت‌ لا تملك‌ ذلك‌. فـ « الفاء » في‌ فَاتَّبِعْنِي‌´ إذَن‌ للتفريع‌ علی الحكم‌ السابق‌ والامر الذي‌ يوجّهه‌ إلی أبيه‌ ( عمّه‌ آزر )[5]، وهذا التفريع‌ يفيد العلّيّة‌.

 ومن‌ هنا يتحصّل‌ ـ كما أفاده‌ الاجلّة‌ من‌ أهل‌ العلم‌ـ أنـّه‌ قد صرّح‌ في‌ هذا الكلام‌ بالعلّة‌ والسبب‌ في‌ الاتّباع‌، لانَّ أمر إبراهيم‌ كان‌ مقروناً بالدليل‌ والبرهان‌، وهو أنـّي‌ أمتلك‌ العلم‌ وأنت‌ لا تمتلكه‌. وعلي‌ هذا، فيجب‌ علی ك‌ اتّباعي‌ لكي‌ أهديك‌ إلی طريق‌ السعادة‌ والكمال‌ الإنساني‌ّ وإظهار الاستعدادات‌ المنطوية‌ في‌ وجودك‌.

 وهذا الامر يستند إلی الغريزة‌ الفطريّة‌ وحكم‌ العقل‌ بوجوب‌ رجوع‌ الجاهل‌ إلی العالم‌، وبالطبع‌ فإنَّ الحكم‌ الشرعي‌ّ ـأمر إبراهيم‌ لعمّه‌ آزرـ يترتّب‌ علیه‌.

 الرجوع الي الفهرس

الحكم‌ برجوع‌ الجاهل‌ إلي‌العالم‌في‌مراحل‌:الفطرة‌والعقل‌والشرع‌

 هناك‌ ثلاث‌ مراحل‌ في‌ لزوم‌ رجوع‌ الجاهل‌ إلی العالم‌، أي‌ عندنا في‌ بحث‌ الاجتهاد والتقليد، وبيان‌ أدلّة‌ لزوم‌ التقليد ثلاث‌ مراحل‌ متفاوتة‌ وثلاثة‌ منازل‌ مختلفة‌ وثلاثة‌ أحكام‌ مختلفة‌:

 الاوّل‌: الحكم‌ الوجداني‌ّ والفطري‌ّ؛ وهو أنَّ فطرة‌ الإنسان‌ تقول‌ إنَّ علی كلّ جاهل‌ الرجوع‌ إلی العالم‌. وفي‌ هذه‌ المرحلة‌، لا حاجة‌ إلی المسألة‌ الشرعيّة‌ والحكم‌ الشرعي‌ّ أو الحكم‌ العقلي‌ّ. بل‌ هذه‌ المسألة‌ مغروسة‌ في‌ سرّ ووجدان‌ كلّ شخص‌ من‌ أنَّ الجاهل‌ علیهأن‌ يرجع‌ إلی العالم‌؛ كإقدام‌ كلّ من‌ يصيبه‌ العطش‌ علی شرب‌ الماء من‌ دون‌ اختيار ودون‌ أن‌ يأمره‌ أحد شربه‌ ودون‌ أن‌ يجعل‌ عقله‌ حكماً ويسترشده‌ في‌ ذلك‌، فعندما يصل‌ الظمآن‌ إلی نبع‌ ماء في‌ الصحراء فسوف‌ يلقي‌ نفسه‌ علی ه‌.

 وكذلك‌ الإنسان‌ الفارّ من‌ الاسد والذئب‌ والسبع‌، فإنَّه‌ لا يحتاج‌ إلی سؤال‌ أحد أو الرجوع‌ إلی حكم‌ العقل‌، بل‌ إنَّ هذا الحكم‌ أوّلي‌ّ ووجداني‌ّ، ومجعول‌ في‌ فطرة‌ الإنسان‌، وهو ما يُسمّي‌ بالحكم‌ الفطري‌ّ.

 والحكم‌ الفطري‌ّ موجود أيضاً في‌ كثير من‌ الحيوانات‌، فنري‌ مثلاً أنَّ الكثير من‌ الحيوانات‌ تقلّد الحيوان‌ الارقي‌ منها. ففي‌ قطيع‌ الغنم‌ مثلاً يمشي‌ الكَبْش‌ ـ الذي‌ يكون‌ أكبر من‌ الجميع‌ وله‌ قرنان‌ كبيران‌ـ أمامها دوماً، فيتحرّك‌ الباقون‌ تبعاً لحركته‌.

 وقد ورد في‌ الروايات‌ أيضاً تعبير «كبش‌ الكتيبة‌»، ويُطلق‌ علی ذلك‌ البطل‌ الذي‌ يكون‌ الجيش‌ قائماً به‌، وله‌ حكم‌ الكبش‌ في‌ مقابل‌ العدوّ.

 ولعلّكم‌ قد شاهدتم‌ في‌ بعض‌ الاحيان‌ سرباً من‌ الطيور أو الحمام‌، حيث‌ ترونهم‌ يسيرون‌ جميعاً مع‌ بعضهم‌ في‌ اتّجاه‌ واحد، لكن‌ ما أن‌ ينحرف‌ القائد إلی جهة‌ أُخري‌ حتّي‌ يغيّر الجميع‌ جهة‌ طيرانه‌ إلی ذلك‌ الاتّجاه‌. أي‌ أنـّهم‌ جميعاً يتبعون‌ في‌ حركتهم‌ ذلك‌ المتقدّم‌، وهذا هو معني‌ التقليد.

 يقال‌: لو وضعت‌ قطعة‌ خشب‌ علی ارتفاع‌ متر عن‌ الارض‌ مثلاً، وأُريد تمرير قطيع‌ من‌ الغنم‌ من‌ خلالها، فما أن‌ تصل‌ العنزة‌ الاُولي‌ إلی تلك‌ الخشبة‌ حتّي‌ تقفز، لانـّها تراها حاجزاً ومانعاً؛ وكذلك‌ العنزة‌ الثانية‌ والثالثة‌ والرابعة‌، فكلّهن‌ يقفزن‌ بنفس‌ الطريقة‌ ويعبرن‌ من‌ تلك‌ الخشبة‌، حتّي‌ يصل‌ الامر إلی أنـّه‌ لو أزالوا تلك‌ الخشبة‌ فإنَّ بقيّة‌ الماعز ستؤدّي‌ نفس‌ حركة‌ من‌ سبقها في‌ حال‌ وصولها لمكان‌ تلك‌ الخشبة‌، علی الرغم‌ من‌ عدم‌وجود الخشبة‌. وهذا هو التقليد بعينه‌ وحقيقته‌. فالتقليد إذَن‌ موجود في‌ الحيوانات‌، وهو حكم‌ فطري‌ّ.

 الثاني‌: الحكم‌ العقلي‌ّ؛ أي‌ أنَّ الشخص‌ حينما يرجع‌ إلی عقل‌ يري‌ بوضوح‌ أن‌ عقله‌ حاكم‌ بعدم‌ اقتحام‌ المسائل‌ التي‌ يجهلها، لانَّ في‌ ذلك‌ خطراً، وأنـّه‌ علی كلّ شخص‌ أن‌ يرجع‌ إلی العالم‌ لاجل‌ جلب‌ المنفعة‌ ودفع‌ الضرر، ومعالجة‌ جهله‌ بعلم‌ العالم‌، وإذا لم‌ يكن‌ للإنسان‌ علم‌ فعليه‌ أن‌ يعالج‌ نقاط‌ ضعفه‌ بعلمه‌ المنفصل‌، أي‌ العالم‌ الذي‌ يحلّ محلّ علمه‌ المتّصل‌.

 الثالث‌: الحكم‌ الشرعي‌ّ؛ وهو الذي‌ يقع‌ في‌ مرحلة‌ متأخّرة‌ عن‌ سابقيه‌، فكما أنَّ الوجدان‌ والعقل‌ يحكمان‌ بوجوب‌ رجوع‌ الجاهل‌ إلی العالم‌، فالشرع‌ أيضاً يقول‌: إنَّ علی الإنسان‌ الرجوع‌ إلی العالم‌ في‌ المسائل‌ التي‌ يجهلها، والآية‌ الشريفة‌: فَسْئَلُو´ا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن‌ كُنتُمْ لاَتَعْلَمُونَ [6]، وسائر الادلّة‌ المنقولة‌ في‌ أدلّة‌ الاجتهاد والتقليد تقع‌ جميعاً بعد مرحلتي‌ الحكمين‌ الفطري‌ّ والعقلي‌ّ.

 إنَّ رجوع‌ العامّي‌ إلی العالم‌ في‌ جميع‌ الاُمور ( سواء الاُمور الولايتيّة‌ أم‌ القضائيّة‌ أم‌ الإفتائيّة‌ ) هو من‌ الاحكام‌ المستقلّة‌ العقليّة‌، بل‌ الفطريّة‌، بل‌ لو تجاوزنا هذا كلّه‌ فهو من‌ الاحكام‌ الشرعيّة‌ أيضاً.

 الرجوع الي الفهرس

استفادة‌رجوع‌ الجاهل‌ إلی العالم‌، وإلي‌ الاعلم‌من‌الآية‌الكريمة‌

 ويمكننا استفادة‌ أمرين‌ من‌ عموم‌ آية‌: يَـ'´أَبَتِ إِنِّي‌ قَدْ جَآءَنِي‌ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي‌´ أَهْدِكَ صِرَ ' طًا سَوِيًّا، التي‌ أتينا بها هنا بعنوان‌ الاستدلال‌:

 الاوّل‌: وجوب‌ رجوب‌ العامّي‌ إلی العالم‌، ووجوب‌ تقليده‌ في‌: المسائل‌ الشرعيّة‌ الفرعيّة‌، ورفع‌ المنازعات‌ والخصومات‌، والاُمور الولايتيّة‌ التي‌ يحتاج‌ المجتمع‌ فيها إلی ولي‌ّ ومدير ورئيس‌ ( أي‌ في‌ المراحل‌ الثلاث‌: الفتوي‌، والقضاء، والحكومة‌ ).

 الثاني‌: لزوم‌ رجوع‌ العامّي‌ إلی الاعلم‌ ( وإن‌ كنتُ لحدّ الآن‌ لم‌أجد أحداً من‌ العلماء استدلّ بهذه‌ الآية‌ في‌ باب‌ الاجتهاد والتقليد في‌ الكتب‌ الاُصوليّة‌، أو في‌ مسائل‌ ولاية‌ الفقيه‌ في‌ الكتب‌ الفقهيّة‌ ).

 وأمّا رجوع‌ العامّي‌ إلی العالم‌، فلانَّ العامّي‌ لا يعلم‌ والعالم‌ يعلم‌، والنبي‌ّ إبراهيم‌ علیه السلام‌ أيضاً قد ألزم‌ عمّه‌ آزر بوجوب‌ اتّباعه‌ بهذا المناط‌ والملاك‌.

 وأمّا رجوع‌ العامّي‌ إلی الاعلم‌ فهو بسبب‌ وجود نفس‌ المناط‌ والملاك‌ فيه‌ ( أي‌ ملاك‌ أنَّ الجاهل‌ لا يعلم‌ والعالم‌ يعلم‌ ) وذلك‌ بمعني‌ أن‌ اطّلاع‌ وتبحّر وسعة‌ علم‌ وقدرة‌ استنباط‌ الاعلم‌ أكثر، بينما اطّلاع‌ العالم‌ بالنسبة‌ إلی الاعلم‌ وقدرته‌ العلميّة‌ أقلّ وأضعف‌.

 وعلي‌ هذا، توجد في‌ جميع‌ المسائل‌ أُمور قد توصّل‌ إليها الاعلم‌ وأدركها بينما لم‌ يتوصّل‌ إليها العالم‌ ولم‌ يتعرّف‌ إلی دقائقها، وإذا رجع‌ العامّي‌ إلی العالم‌ ولم‌ يرجع‌ إلی الاعلم‌ فإنَّه‌ قد رجع‌ في‌ هذه‌ الاُمور والدقائق‌ إلی غير العالم‌، بينما لو رجع‌ في‌ خصوص‌ هذه‌ المزايا إلی الاعلم‌ فإنَّه‌ قد اتّبع‌ في‌ الواقع‌ العالم‌ الذي‌ هو الاعلم‌، وبالنتيجة‌ قد رجع‌ في‌ جميع‌ الاُمور والخصوصيّات‌ التي‌ يجهلها إلی العالم‌، سواء تلك‌ الخصوصيّات‌ التي‌ يطّلع‌ علی ها كلّ من‌ العالم‌ والاعلم‌، أو الخصوصيّات‌ التي‌ يعرفها الاعلم‌ فحسب‌.

 عدّ النبي‌ّ إبراهيم‌ علیه السلام‌ اتّباع‌ آزر له‌ واجباً بنحو مطلق‌ في‌ جميع‌ الاُمور والخصوصيّات‌ والمزايا التي‌ لا يعرفها آزر، وذلك‌ لانـّه‌ عالم‌.

 كان‌ هذا محصّل‌ الاستدلال‌ الذي‌ قمتُ به‌ في‌ الجزء الثالث‌ من‌ كتاب‌ « معرفة‌ الإمام‌ » الدرس‌ الحادي‌ والثلاثون‌، حول‌ لزوم‌ الرجوع‌ إلی الاعلم‌، من‌ هذه‌ الآية‌ المباركة‌.

 الرجوع الي الفهرس

إيراد الاُستاذ العلاّمة‌الطباطبائي‌ّعلي‌استفادة‌الرجوع‌إلي‌الاعلم‌من‌ الآية‌

 وحيث‌ إنَّ الاجزاء الاربعة‌ من‌ كتاب‌ « معرفة‌ الإمام‌ » كانت‌ جاهزة‌ في‌ حياة‌ أُستاذنا سيّد الفقهاء والمجتهدين‌ آية‌ الله‌ العظمي‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ قَدَّسَ اللهُ سِرَّهُ الشريف‌، فقد قدّمتها له‌ لكي‌ يطالعها.

 وقد اكتفي‌ رحمه‌ الله‌ بالتعليق‌ في‌ حاشية‌ تلك‌ الدفاتر التي‌ قدّمتها له‌ حول‌ هذه‌ المسألة‌ فقط‌، وخطّه‌ المبارك‌ موجود الآن‌ في‌ تلك‌ الصفحة‌ ( في‌ الطبعة‌ الفارسيّة‌ ) وقد أوردت‌ نفس‌ تلك‌ التعليقة‌ في‌ هوامش‌ الكتاب‌، حين‌ طبعه‌، من‌ دون‌ تدخّل‌ وتصرّف‌ وإظهار نظر.

 قال‌ في‌ تلك‌ التعليقة‌: « طبقاً لهذا الفرض‌ والبيان‌ يحصل‌ الترديد ما بين‌ المجتهد المطلق‌ والمجتهد المتجزي‌، لا ما بين‌ الاعلم‌ والعالم‌ الذي‌ قامت‌ الحجّة‌ الشرعيّة‌ في‌ عامّة‌ الاحكام‌ علیه، وكانت‌ واجبة‌ العمل‌، وإلاّ كان‌ واجباً علی نفس‌ المجتهد العالم‌ الرجوع‌ إلی المجتهد الاعلم‌، وهذا الامر مخالف‌ للبناء القطعي‌ّ للعقلاء.

 فعلي‌ سبيل‌ المثال‌، لا ينحصر رجوع‌ المرضي‌، وحتّي‌ نفس‌ الاطبّاء في‌ أي‌ّ بلد من‌ البلدان‌ إلی أعلم‌ أطبّاء البلد من‌ أجل‌ المعالجة‌، وكذلك‌ في‌ سائر الصناعات‌ والحرف‌، فلا يرجعون‌ إلی أرقي‌ أُستاذ لذلك‌ الفنّ فقط‌، وإذا رجعوا إليه‌ يكون‌ ذلك‌ بعنوان‌ الارجحيّة‌ لا علی نحو التعيّن‌ واللزوم‌. وقد جعل‌ المناط‌ في‌ الآية‌ الكريمة‌ العلم‌ والجهل‌، لا الاعلميّة‌ والعالميّة‌، أو الاعلميّة‌ والجاهليّة‌ ».[7]

 وقد كتبتُ بعد أن‌ نقلتُ تعليقته‌ بعينها: « هذه‌ التعليقة‌ من‌ أُستاذنا العزيز آية‌ الله‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ مدّ ظلّه‌ العالي‌ ».

 ويستفاد من‌ مجموع‌ كلامه‌ أنَّ استدلالنا بهذه‌ الآية‌ الشريفة‌ علی لزوم‌ رجوع‌ العامّي‌ إلی العالم‌ مقبول‌، لكنّه‌ لم‌ يقبل‌ ذلك‌ في‌ لزوم‌ رجوع‌ العامّي‌ إلی الاعلم‌، وبالجملة‌ فهو يريد أن‌ يوضّح‌: أنـّه‌ يستفاد من‌ هذه‌ الآية‌ لزوم‌ رجوع‌ الشخص‌ الجاهل‌ إلی الاعلم‌، وإنَّما يُستفاد منها لزوم‌ الرجوع‌ إلی المجتهد المطلق‌ لا المجتهد المتجزي‌. أمّا كون‌ الرجوع‌ إلی الاعلم‌ لاإلي‌ المجتهد العالم‌ فلا يستفاد من‌ هذه‌ الآية‌.

 المجتهد المتجزي‌ هو الذي‌ اجتهد في‌ بعض‌ المسائل‌ وكان‌ له‌ فتوي‌ فيها، بينما لم‌ يكن‌ صاحب‌ نظر وفتوي‌ في‌ بعضها الآخر. ولانـّه‌ كذلك‌، فهو جاهل‌، ولا يمكن‌ للعامّي‌ أن‌ يرجع‌ إليه‌ في‌ تلك‌ المسائل‌، إذ إنَّ ذلك‌ بمثابة‌ رجوع‌ جاهل‌ إلی جاهل‌، لا رجوع‌ جاهل‌ إلی عالم‌.

 أمَّا العامّي‌ فيمكنه‌ الرجوع‌ إلی المجتهد المطلق‌، لانـّه‌ عالم‌ وصاحب‌ فتوي‌ في‌ جميع‌ المسائل‌، ويستفاد هذا المعني‌ من‌ الآية‌ أيضاً دون‌ رجوع‌ الجاهل‌ إلی الاعلم‌، إذ وكما يمتلك‌ الاعلم‌ اطّلاعاً علی جميع‌ المسائل‌ فالعالم‌ كذلك‌ أيضاً، فمن‌ أين‌ يستفاد من‌ الآية‌ إذَن‌ أنَّ علی الجاهل‌ الرجوع‌ إلی الاعلم‌، ولا يمكنه‌ الرجوع‌ إلی العالم‌؟!

 وبالإضافة‌ إلی ذلك‌، فسيرة‌ العقلاء أيضاً علی هذا النحو، إذ هم‌ لايرجعون‌ إلی الاعلم‌. فالسيرة‌ في‌ المستشفيات‌ مثلاً بهذا النحو علی الرغم‌ من‌ وجود مختلف‌ الاطبّاء، حيث‌ إنَّ المرضي‌ يراجعونهم‌ جميعاً، ولاتنحصر مراجعتهم‌ بالطبيب‌ الاعلم‌ الذي‌ يمتلك‌ تخصّصاً أكثر في‌ الفنون‌ الطبيّة‌ والجراحيّة‌ وسائر الشؤون‌ المختلفة‌؛ وكذلك‌ في‌ سائر الصفات‌ والحرف‌. فمن‌ يريد بناء بيت‌ مثلاً لا يرجع‌ إلی البنّاء الاعلم‌، ومن‌ يريد خياطة‌ ثوب‌ فلا ينحصر رجوعه‌ إلی أمهر الموجودين‌ في‌ هذه‌ الحرفة‌. كلّ ذلك‌ بحسب‌ السيرة‌ العقلائيّة‌ المتمثّلة‌ برجوع‌ الجاهل‌ إلی العالم‌، علی الرغم‌ من‌ البون‌ الشاسع‌ فيما بين‌ أصحاب‌ هذه‌ الحرف‌ من‌ حيث‌ المهارة‌.

 ولو تجاوزنا هذا كلّه‌، فالموجود في‌ الآية‌ الشريفة‌ هو الفرق‌ بين‌ العالم‌ والجاهل‌. إِنِّي‌ قَدْ جَآءَنِي‌ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ، أي‌ أنا عالم‌ وأنت‌ جاهل‌؛ فليس‌ الآية‌ في‌ معرض‌ بيان‌ الفرق‌ فيما بين‌ الاعلميّة‌ والعالميّة‌، أو الاعلميّة‌ والجاهليّة‌. وعليه‌، فلا يستفاد من‌ الآية‌ الشريفة‌: وجوب‌ الرجوع‌ إلی الاعلم‌ فقط‌ وترك‌ سائر العلماء الآخرين‌. وكان‌ هذا هو محصّل‌ إشكاله‌.

 الرجوع الي الفهرس

الرجوع‌ إلی الاعلم‌ في‌ المسائل‌ الخطيرة‌ والاُمور المهمّة‌ سيرة‌ عقلائيّة‌

 وأمّا ما أفاده‌ من‌ أنَّ السيرة‌ العقلائيّة‌ قائمة‌ علی وجوب‌ رجوع‌ الجاهل‌ إلی العالم‌، وأنَّ الرجوع‌ إلی الاعلم‌ غير ثابت‌، فيجب‌ أن‌ نري‌ هل‌ الامر كذلك‌ حقيقة‌؟ وهل‌ هذه‌ السيرة‌ ثابتة‌ ومطّردة‌ ومسلّمة‌، بحيث‌ لايرجع‌ عقلاء العالم‌ إلی الاعلم‌ ويرجعون‌ إلی العالم‌؟ والجواب‌ هو النفي‌؛ وللاسباب‌ التاليّة‌:

 أوّلاً: لانـّنا نري‌ أنَّ أنظار العقلاء تختلف‌ في‌ المسائل‌ التي‌ يجب‌ الرجوع‌ فيها إلی العالم‌ من‌ حيث‌ الاهمّيّة‌ وعدمها. وذلك‌ أنَّ بعض‌ المسائل‌ لاتمتلك‌ أهمّيّة‌ كبري‌، ولذا لا يدقّقون‌ فيها كثيراً بنحو يلتزمون‌ بالرجوع‌ فيها إلی الاعلم‌ حتماً.

 فمن‌ يبتلي‌ مثلاً بوجع‌ الرأس‌ أو الزكام‌ الخفيف‌، فإنَّه‌ يذهب‌ إلی نفس‌ طبيب‌ المحلّة‌ ويعمل‌ بتوجيهاته‌، ويحلّ المشكلة‌ بهذه‌ الطريقة‌، دون‌ مراجعة‌ الطبيب‌ الاعلم‌، لانَّ المسألة‌ ليست‌ بتلك‌ الدرجة‌ من‌ الاهمّيّة‌. وفي‌ الحقيقة‌ فإنَّ هذا الطبيب‌ متساوٍ مع‌ ذلك‌ الطبيب‌ الاعلم‌ في‌ تشخيص‌ الزكام‌ الخفيف‌، ولو رجع‌ إليه‌ الإنسان‌ أيضاً فسوف‌ يكون‌ في‌ تشخيصه‌ للمرض‌ والدواء الذي‌ يعطيه‌ والحمية‌ عن‌ الاطعمة‌ التي‌ يطلبها علی حدٍّ واحد مع‌ غيره‌. ولذا لا يري‌ الإنسان‌ ضرورة‌ في‌ الرجوع‌ إلی الطبيب‌ الاعلم‌.

 الرجوع الي الفهرس

الرجوع‌ إلی العالم‌ دون‌ الاعلم‌ في‌ الاُمور الخطيرة‌ خلاف‌السيرة‌

 وأمّا اذا كانت‌ المسألة‌ مهمّة‌ وخطيرة‌، وكان‌ المريض‌ مبتلي‌ بمرض‌ قد اختلف‌ الاطبّاء في‌ تشخيصه‌ وفي‌ كيفيّة‌ العلاج‌، وكان‌ في‌ هذه‌ الحالة‌ ثمّة‌ احتمال‌ للهلاك‌، إذ قد شخّص‌ أحد الاطبّاء مثلاً أنَّ المرض‌ هو الزائدة‌ الدوديّة‌، بينما قال‌ الطبيب‌ الآخر هو الصفراء، وهذان‌ المرضان‌ مختلفان‌، ومن‌ الممكن‌ أن‌ يتلف‌ المريض‌ بسبب‌ إجراء عمليّة‌ جراحيّة‌ ويموت‌؛ فهل‌ يتركون‌ الرجوع‌ إلی الاعلم‌ في‌ هذه‌ الحال‌؟ والجواب‌ طبعاً بالنفي‌.

 لانَّ الملاحظ‌ هو: رجوع‌ الجميع‌ في‌ مثل‌ هذه‌ الحالة‌ إلی الاعلم‌، بل‌ إنَّهم‌ يتحمّلون‌ أحياناً مشقّات‌ كثيرة‌ ومجهدة‌ لكي‌ يتوصّلوا إليه‌، ولايرجعون‌ إلی الاعلم‌ في‌ مدينتهم‌ فحسب‌، بل‌ إلی الاعلم‌ في‌ سائر المدن‌ والبلاد والقارّات‌، لاجل‌ الحصول‌ علی الطبيب‌ الافضل‌ والاخصّائي‌ّ الامهر لعلاج‌ المرض‌.

 وعلي‌ هذا، فليس‌ هناك‌ سيرة‌ عقلائيّة‌ قائمة‌ علی الاكتفاء بالرجوع‌ في‌ جميع‌ الحالات‌ إلی العالم‌ فقط‌، وإنَّما المسائل‌ والدواعي‌ تختلف‌ من‌ حيث‌ الاهمّيّة‌ وعدم‌ الاهمّيّة‌، وفي‌ الحالات‌ التي‌ تكون‌ المسائل‌ فيها ذات‌ أهمّيّة‌، فالسيرة‌ العقلائيّة‌ علی الرجوع‌ إلی الاعلم‌.

 ثانياً: بأنَّ عدم‌ رجوع‌ الناس‌ في‌ جميع‌ المسائل‌ إلی الاعلم‌ هو عدم‌إمكان‌ وصول‌ جميع‌ الناس‌ إليه‌، لانَّ الاعلم‌ دائماً شخص‌ واحد، ولايمكن‌ أن‌ يكونا اثنين‌، الناس‌ جميعهم‌ يمتلكون‌ العلم‌ في‌ المستويات‌ المختلفة‌، إذَن‌ فهم‌ يشتركون‌ مع‌ بعضهم‌ في‌ ذلك‌ العلم‌؛ وكذلك‌ أشخاصهم‌ كثيرون‌. وكلّما تضيّقت‌ دائرة‌ التخصّص‌ صار عدد الاشخاص‌ أقلّ، وهكذا تتصاعد المسألة‌ علی هيئة‌ هرم‌ حتّي‌ تصل‌ إلی آخر نقطة‌ في‌ الهرم‌، حيث‌ يوجد هناك‌ شخص‌ واحد فقط‌ يكون‌ أعلم‌ من‌ الجميع‌. وبما أنَّ الاعلم‌ ينحصر بشخص‌ واحد، فالوصول‌ إليه‌ أصعب‌ من‌ الوصول‌ إلی الجميع‌، لانـّه‌ شخص‌ واحد والجميع‌ يريدون‌ الرجوع‌ إليه‌. ولذا، لايمكن‌ للجميع‌ أن‌ يتوصّلوا إليه‌ ولا أن‌ يرجعوا إليه‌، لانـّه‌ عزيز الوجود.

 ومن‌ هنا، يقال‌: ما دمنا لا نستطيع‌ الوصول‌ إلی الاعلم‌، فإنّنا نكتفي‌ بـ الاَعْلَمُ فَالاَعْلَم‌؛ ولو كانت‌ الإمكانيّات‌ متساوية‌ من‌ جميع‌ النواحي‌ لما تركوا الاعلم‌ ورجعوا إلی العالم‌ مطلقاً.

 ومثال‌ ذلك‌: لو وُجِد في‌ إحدي‌ القوافل‌ الذاهبة‌ إلی الحجّ طبيب‌ أخصّائي‌ّ أعلم‌ وأجلّ قدراً إلی جانب‌ طبيب‌ عادي‌ّ، وكان‌ كلاهما عالمين‌ من‌ ذوي‌ حملة‌ الشهادات‌ في‌ الطبّ، وكانا من‌ ضمن‌ أفراد القافلة‌، ومن‌ دون‌ أي‌ّ فرق‌. فمن‌ المعلوم‌ في‌ هذه‌ الحالة‌ أنـّهم‌ لا يرجعون‌ إلی ذلك‌ الطبيب‌ العادي‌ّ، وإنَّما يرجعون‌ إلی الطبيب‌ الاعلم‌.

 نعم‌؛ الرجوع‌ إلی الاعلم‌ سببه‌ عدم‌ إمكانيّات‌ الناس‌ وعدم‌ تمكّنهم‌، ولو كانوا يمتلكون‌ القدرة‌ لرجعوا إليه‌. وعليه‌ فسيرة‌ كهذه‌ ( رجوع‌ الجاهل‌ إلی العالم‌ لا إلی الاعلم‌ ) غير ثابتة‌ في‌ جميع‌ الحالات‌.

 وأمّا ما قاله‌ من‌ أنَّ: لازم‌ هذه‌ المسألة‌ أن‌ يرجع‌ نفس‌ المجتهد إلی الاعلم‌ منهم‌، وكذلك‌ رجوع‌ بعض‌ الاطبّاء إلی الطبيب‌ الاعلم‌، فهذا غيرمسلّم‌.

 إذ إنَّ المسألة‌ محلّ إشكال‌ وتأمّل‌ أيضاً، لانـّه‌ عندما يصير المجتهد عالماً في‌ مسألة‌ ما فهنا يُتَصوَّر فرضان‌: فإمَّا أن‌ يكون‌ جازماً وقاطعاً في‌ هذه‌ المسألة‌، وإمَّا أن‌ لا يكون‌ كذلك‌، بل‌ يكون‌ عالماً بالعلم‌ العادي‌ّ والظنّي‌ّ الذي‌ يكون‌ قابلاً للزوال‌ والتشكيك‌.

 فيكون‌ علمه‌ في‌ الصورة‌ الاُولي‌ غير قابل‌ للتغيير، لانـّه‌ يري‌ نفسه‌ مساوياً للاعلم‌، وهو لا يحتمل‌ في‌ تلك‌ المسألة‌ بالخصوص‌ التي‌ يكون‌ عالماً وجازماً وقاطعاً بها خلاف‌ هذا المبني‌ لكي‌ يحتاج‌ إلی رفع‌ الإشکال والشبهة‌، وذلك‌ لانـّه‌ يمتلك‌ العلم‌ واليقين‌ الذي‌ هو عبارة‌ عن‌ القطع‌. وقد ثبت‌ في‌ محلّه‌ أن‌ حجّيّة‌ القطع‌ ذاتيّة‌ ولا تحتاج‌ إلی جعل‌ وإن‌ كان‌ علی فرض‌ كون‌ نظريّة‌ الاعلم‌ مخالفة‌ لنظره‌ أيضاً، فهو يري‌ نفسه‌ في‌ هذه‌ المسألة‌ أعلم‌، وإلاّ فلو كان‌ يري‌ غيره‌ أعلم‌ منه‌ فيها لكان‌ يحتمل‌ الخلاف‌ في‌ علمه‌. ومع‌ احتمال‌ الخلاف‌ يخرج‌ موضوعنا ( العلم‌ المقترن‌ مع‌ القطع‌ والجزم‌ ) عن‌ القطع‌ والجزم‌، ولا يكون‌ علمه‌ بعد ذلك‌ علماً قطعيّاً وجزميّاً. فحيثما وجد العلم‌ الجزمي‌ّ لا يكون‌ ثمّة‌ احتمال‌ الخلاف‌.

 فطريق‌ الوصول‌ إلی الاعلم‌ إذَن‌ مسدود لكلّ عالم‌ قاطع‌ بعلمه‌، وذلك‌ لانـّه‌ يري‌ نفسه‌ في‌ تلك‌ المسألة‌ بنفس‌ المستوي‌ أو أرقي‌ من‌ الاعلم‌.

 ولا إشكال‌ في‌ أن‌ يري‌ الإنسان‌ نفسه‌ أدني‌ من‌ الاعلم‌، لكنّه‌ يري‌ نفسه‌ أرقي‌ منه‌ في‌ خصوص‌ بعض‌ المسائل‌ التي‌ هو جازم‌ وقاطع‌ فيها.

 وحالة‌ الكثير من‌ الاطبّاء الذين‌ نراهم‌ لا يرجعون‌ إلی الاعلم‌ من‌ هذا الباب‌، لانـّهم‌ يقطعون‌ أن‌ تشخيصهم‌ صحيح‌، وعليه‌ فيكون‌ قطعهم‌ مانعاً من‌ رجوعهم‌ إلی ذلك‌ الطبيب‌ الاعلم‌. هذا في‌ صورة‌ قطع‌ الإنسان‌ بعلمه‌.

 أمّا في‌ الصورة‌ التي‌ لم‌ يكن‌ لديه‌ فيها قطع‌، بل‌ كان‌ لديه‌ علم‌ عادي‌ّ وكان‌ يحتمل‌ فيه‌ الخلاف‌، فالسيرة‌ العقلائيّة‌ قائمة‌ ـ هنا أيضاًـ علی الرجوع‌ إلی الاعلم‌.

 الرجوع الي الفهرس

العلّة‌ في‌عدم‌رجوع‌الرواة‌للائمّة‌في‌المسائل‌الجزئيّة‌هي‌جزمهم‌فيها

 فالاطبّاء يرجعون‌ في‌ معالجة‌ أنفسهم‌ وعوائلهم‌ إلی طبيب‌ آخر مع‌ كونهم‌ أطبّاء أخصّائيّون‌، لكن‌ بما أنَّ مرض‌ أقربائهم‌ يمتلك‌ قدراً أكبر من‌ الاهمّيّة‌، لذا فهم‌ يرجعون‌ إلی طبيب‌ آخر، أو يرجعون‌ في‌ مرضهم‌ إلی طبيب‌ آخر، بسبب‌ عدم‌ قطعهم‌ في‌ تشخيصهم‌ لمرضهم‌ أو مرض‌ أبنائهم‌، ولانَّ علمهم‌ في‌ ذلك‌ قابل‌ للتشكيك‌. ولا يراجعون‌ طبيباً آخر في‌ صورة‌ القطع‌.

 ولهذا السبب‌ جعل‌ الائمّة‌ علیهم السلام‌ أشخاصاً في‌ زمانهم‌ بصفة‌ رواة‌ وفقهاء بين‌ الناس‌، ليتمكّن‌ الناس‌ من‌ الرجوع‌ إليهم‌ في‌ مسائلهم‌.

 لانَّ الفقهاء والرواة‌ الذين‌ كانوا يبدون‌ آراءهم‌ للناس‌، كانوا قاطعين‌ وجازمين‌ بعلمهم‌، ولم‌ يكونوا يرون‌ حاجة‌ الرجوع‌ إلی الإمام‌ في‌ تلك‌ المسائل‌ التي‌ يعملون‌ بها طبق‌ علمهم‌ الجزمي‌ّ والقطعي‌ّ ويسيرون‌ بالناس‌ بما ينبغي‌.

 فالفقيه‌ الذي‌ يأتي‌ إلی الإمام‌ علیه السلام‌ ويسأله‌ عن‌ مسائل‌ الوضوء ويبيّن‌ له‌ الإمام‌ جميع‌ خصوصيّات‌ الوضوء وكيفيّة‌ غسل‌ الوجه‌ واليدين‌ والمسح‌، فإنَّه‌ بعد مشاهدة‌ فعل‌ الإمام‌ يحصل‌ له‌ القطع‌ فلا يرجع‌ مرّة‌ ثانية‌ إلی الإمام‌ ليسأله‌ عن‌ هذه‌ المسائل‌، فيمتلك‌ قطعاً بالحكم‌، ولايري‌ علمه‌ في‌ هذه‌ المسائل‌ أقلّ من‌ علم‌ الإمام‌.

 ولذا، يكون‌ الطريق‌ لرجوعه‌ إلی الإمام‌ مسدوداً. وأمّا في‌ المسائل‌ التي‌ تواجهه‌ أحياناً ويحتمل‌ فيها التشكيك‌، ومع‌ أنـّه‌ يمتلك‌ العلم‌ تجاهها لكنّه‌ يحتمل‌ الخلاف‌ أيضاً، فنجده‌ في‌ هذه‌ الحالة‌ يرجع‌ إلی الإمام‌.

 ولذا، فالإمام‌ المعصوم‌ في‌ كلّ زمان‌ هو واحد، لكنَّ الفقهاء علی اختلاف‌ درجاتهم‌ ومراتبهم‌ كثيرون‌، وجميعهم‌ يحتاجون‌ إلی الإمام‌ المعصوم‌. وذلك‌ من‌ جهة‌ أنَّ العلوم‌ التي‌ يمتلكونها ليست‌ جزميّة‌ وقطعيّة‌ ووجدانيّة‌ وحضوريّة‌ مائة‌ بالمائة‌؛ وأنَّ علم‌ الإمام‌ أعلي‌، ولذا يكون‌ الإمام‌ في‌ الرأس‌ والبقيّة‌ تحت‌ لوائه‌ ورايته‌، ويسيرون‌ في‌ مسار واحد وصراط‌ مستقيم‌ نحو حضرة‌ الحقّ. ويجب‌ علی هم‌ الرجوع‌ إلی الإمام‌ في‌ كلّ مسألة‌ من‌ المسائل‌ التي‌ يحتاجون‌ فيها إلی علم‌ الإمام‌.

 فعليهم‌ في‌ زمان‌ الولاية‌ الظاهريّة‌ أن‌ يستفيدوا من‌ الإمام‌ الظاهر، وفي‌ زمان‌ إمامة‌ الإمام‌ الغائب‌ علی هم‌ أن‌ يستفيدوا من‌ حقيقة‌ الولاية‌ والانتهال‌ من‌ تلك‌ الشريعة‌ في‌ علاج‌ نقصهم‌ وتبديل‌ نقاطهم‌ المظلمة‌ بالنور.

 وبالجملة‌، ما نستفيده‌ من‌ الآية‌ الشريفة‌ في‌ جميع‌ الحالات‌ التي‌ بيّنّاها هو الرجوع‌ إلی الاعلم‌، فالآية‌ تريد أن‌ تقول‌: إنَّ العلم‌ حقّ وحقيقة‌ ونور. وإذا كان‌ العلم‌ حقيقة‌، فلا تبقي‌ نقاط‌ ضعف‌ فيه‌، لكون‌ العلم‌ نوراً وحقيقة‌، فهو وجود وليس‌ بعدم‌، نور وليس‌ بظلمة‌، حقّ وليس‌ بباطل‌.

 فهذا هو معني‌ العلم‌، وحيث‌ يكون‌ العلم‌ ضعيفاً فثمّة‌ نور مضاف‌ إلی الظلمة‌، فلا يكون‌ إذَن‌ نوراً مطلقاً. وإنَّ تفاوت‌ المصباح‌ ذي‌ قوّة‌ ألف‌ شمعة‌ مع‌ مصباح‌ ذي‌ مائة‌ شمعة‌ إنَّما هو في‌ امتلاك‌ الاوّل‌ ألف‌ درجة‌ من‌ النور، بينما يمتلك‌ الثاني‌ مائة‌ درجة‌ منه‌، بالإضافة‌ إلی تسعمائة‌ درجة‌ من‌ الظلمة‌. فالنور الضعيف‌ إذَن‌ نور ممزوج‌ ومخلوط‌ مع‌ الظلمة‌، ووجود مخلوط‌ بالعدم‌، فكلّ علم‌ ضعيف‌ يكون‌ مخلوطاً بالجهل‌. والعلم‌ الذي‌ لايكون‌ بدون‌ جهل‌ هو علم‌ الدرجة‌ العليا. وكلّما تنزّلنا عن‌ تلك‌ الدرجة‌ كان‌ ذلك‌ العلم‌ مقترناً بالجهل‌. وعلي‌ هذا الاساس‌، فمفاد قول‌ النبي‌ّ إبراهيم‌ علیه السلام‌ لابيه‌: فَاتَّبِعْنِي‌´ أَهْدِكَ صِرَ ' طًا سَوِيًّا، أنـّه‌: قد وصلني‌ علم‌ لم‌يصلك‌، ففي‌ أي‌ّ درجة‌ من‌ العلم‌ كنتَ فعلمك‌ مقترن‌ بالجهل‌، لانـّه‌ ليس‌في‌ درجة‌ علمي‌. وعلي‌ الجاهل‌ أن‌ يرجع‌ إلی العالم‌.

 وعلي‌ الرغم‌ من‌ كون‌ جميع‌ مراتب‌ النور مشتركة‌ مع‌ بعضها في‌ حقيقة‌ نوريّتها، ويكون‌ عنوان‌ النور ومفهومه‌ صادقاً علی الجميع‌ بالحمل‌ الاوّلي‌ّ والذاتي‌ّ، إلاّ أنـّه‌ يكون‌ كلّ واحد من‌ مراتب‌ النور في‌ مقام‌ ودرجة‌ خاصّة‌ في‌ الحمل‌ الشائع‌ الصناعي‌ّ.

 والنور العالي‌ والاعلي‌ هو النور الاكمل‌ من‌ جميع‌ أفراد ومراتب‌ النور. وبقيّة‌ أنواع‌ النور ( في‌ الدرجات‌ والمراتب‌ المختلفة‌ ) مشترك‌ مع‌ العدم‌، أي‌ جميع‌ ذلك‌ النور مشوب‌ بالظلمة‌.

 وعلي‌ هذا، فيكون‌ علم‌ العالم‌ الذي‌ لم‌ يصل‌ إلی الدرجة‌ العليا من‌ العلم‌ مقترناً بالجهل‌، خلافاً للاعلم‌ الذي‌ لا توجد في‌ علمه‌ أيّة‌ شائبة‌ جهل‌ وضلال‌. ولذا، يجب‌ أن‌ يرجع‌ الجاهل‌ إلی الاعلم‌.

 وكمثال‌ علی ذلك‌: افرضوا أنـّه‌ يوجد في‌ غرفة‌ مصباح‌ بقوّة‌ شمعة‌ واحدة‌، وآخر بقوّة‌ مائة‌ شمعة‌، وثالث‌ بقوّة‌ ألف‌ شمعة‌. فيكون‌ النور الذي‌ هو بقوّة‌ شمعة‌ واحدة‌ بالنسبة‌ لنور الالف‌ شمعة‌ درجة‌ من‌ النور وتسعمائة‌ وتسع‌ وتسعين‌ درجة‌ من‌ الظلمة‌، بينما يكون‌ المصباح‌ الثاني‌، مائة‌ درجة‌ من‌ النور وتسعمائة‌ درجة‌ من‌ الظلمة‌، وأمّا ذلك‌ النور ذو الالف‌ درجة‌ فكلّه‌ نور ولا يكون‌ مشوباً بالظلمة‌.

 فهذا النور ذو قوّة‌ الشمعة‌ الواحدة‌ يحتاج‌ في‌ إكمال‌ نفسه‌ وتتميمها إلی النور ذي‌ المائة‌ شمعة‌. وذو المائة‌ يحتاج‌ أيضاً إلی النور ذي‌ الالف‌ شمعة‌؛ ولذا عندما يضاء مصباح‌ الالف‌ شمعة‌ فإنَّه‌ ينوّر جميع‌ فضاء الغرفة‌، وتزول‌ جميع‌ الظلمات‌.

 ولو كانت‌ سيّارة‌ المسافر ليلاً علی إحدي‌ الطرق‌ الخارجيّة‌ مجهّزة‌ بمصابيح‌ قويّة‌ ومضاءة‌، فستكون‌ جميع‌ الصحراء مضاءة‌ له‌، ممّا يمكنه‌ من‌ معرفة‌ جميع‌ خصوصيّات‌ المنطقة‌، فسواء عدوّه‌ الذي‌ يكون‌ في‌ ناحية‌ من‌ الطريق‌ أو الحيوانات‌ المفترسة‌ أو المطبّات‌ والحفر المغطّاة‌، فبإمكانه‌ تشخيص‌ كلّ ذلك‌. أمّا إذا كان‌ ضوء مصباحه‌ ضعيفاً، فإنَّه‌ لايستطيع‌ متابعة‌ سيره‌ بدون‌ متاعب‌ وأخطار كثيرة‌. فالذي‌ يمنع‌ تلك‌ الاخطار إذَن‌ هو ذلك‌ النور القوي‌ّ.

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ جعل‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌، الحاجّ الميرزا محمّد حسين‌ النائيني‌ّ قدّس‌ الله‌ سرّه‌ في‌ كتاب‌ «تنبيه‌ الاُمّة‌ وتنزيه‌ الملّة‌» ص‌ 83 إلي‌ 94، من‌ الطبعة‌ الحجريّة‌ في‌ طهران‌ سنة‌ 1328 ه.ق‌. إشارة‌ إجماليّة‌ إلي‌ علاج‌ قوي‌ الاستبداد الملعونة‌، وأورد حولها بياناً مبسوطاً ومطوّلاً. ونورد هنا رؤوس‌ المطالب‌ وإجمالها واختصارها؛ يقول‌:

 المقصد الثاني‌ في‌ الاءشارة‌ الاءجماليّة‌ إلي‌ علاج‌ القوي‌ الملعونة‌: الاوّل‌، والاهمّ من‌ الجميع‌: علاج‌ جهل‌ طبقات‌ الناس‌ (ويقول‌ هنا بعد شرح‌ مُشبع‌:) الثاني‌، والذي‌ هو أصعب‌ وأشكل‌ من‌ الجميع‌ في‌ درجة‌ الامتناع‌: علاج‌ شعبة‌ الاستبداد الديني‌ّ، إذ إنَّ الرادع‌ والمانع‌ من‌ الاستبدادات‌ وإظهار المرادات‌ الشهوانيّة‌ باسم‌ الدين‌ منحصر بالضرورة‌ بملكة‌ التقوي‌ والعدالة‌، ولا يتصوّر عاصم‌ آخر سوي‌ اجتماع‌ الاوصاف‌ التي‌ عَمَّ تعدادها في‌ رواية‌ «الاحتجاج‌»: «صَائِناً لِدِينِهِ، حَافِظاً لِنَفْسِهِ، مُطِيعاً لاِمْرِ مَوْلاَهُ، مُخَالِفاً لِهوَاهُ»  * والذي‌ قداعتبر الائمّة‌ عليهم‌ السلام‌ في‌ المرجعيّة‌ الشرعيّة‌، ومع‌ الاتّصاف‌ بأضداد المذكورات‌، واجتماع‌ الاوصاف‌ التي‌ ذكرت‌ في‌ نفس‌ رواية‌ «الاحتجاج‌» الشريفة‌ هذه‌ لعلماء السوء وقطّاع‌ طريق‌ الدين‌ المبين‌، ومُضلِّي‌ ضعفاء المسلمين‌، والتي‌ قال‌ عليه‌ السلام‌ في‌ آخرها: «أُولَئِكَ أَضَرُّ عَلَي‌ ضُعَفَاء شِيعَتِنَا مِنْ جَيْشِ يَزِيدَ لَعَنَهُ اللَهُ عَلَي‌ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلامُ» مع‌ ذلك‌ لايتصوّر ما نع‌ من‌ أعمال‌ الاستبداد واستعباد الرقاب‌ وإظهار التحكّمات‌ المتعنّتة‌ باسم‌ الدين‌، ولاضعفاء وعوامّ الاُمّة‌ بقادرين‌ علي‌ التمييز فيما بين‌ الاصناف‌ والاوصاف‌ المتضادّة‌ المذكورة‌ في‌ الرواية‌ الشريفة‌، والحذر من‌ الوقوع‌ في‌ شبكة‌ الصيّادين‌ من‌ قطّاع‌ الطريق‌، ولاهم‌ يملكون‌ المفرّ بعد الوقوع‌ في‌ تلك‌ الشبكة‌ عن‌ تقصير أو قصور ـواستلزام‌ توهّم‌ كون‌ هذا الاتّباع‌ والتمكين‌ تديُّناً من‌ استحكام‌ مباني‌ الدين‌ـ عن‌ الجهل‌ المركّب‌ والشرك‌ بالذات‌ الاحديّة‌ عزَّ اسمه‌. (ويقول‌ هنا أيضاً بعد شرح‌ حول‌ هذا الموضوع‌:)

 الثالث‌: قلع‌ شجرة‌ العبوديّة‌ للشاه‌ الخبيثة‌، وترويج‌ العلم‌ والمعرفة‌، وجعل‌ مرجعيّة‌ الاُمور النوعيّة‌ تابعاً لِلِّياقة‌ والدراية‌، وقلع‌ جذور اللصوصيّة‌ والمتاجرة‌ بالوطن‌ من‌ قبل‌ عبيد الشاه‌، فما دامت‌ شجرة‌ الاستبداد الملعونة‌ قائمة‌، وما دام‌ بنيان‌ الاستعباد في‌ البلاد ثابتاً، فإنَّ سلب‌ هذه‌ القوّة‌ واستبدالها بالعلم‌ والمعرفة‌ هو بالضرورة‌ من‌ المحالات‌. وما دامت‌ حقيقة‌ السلطنة‌ والولاية‌ علي‌ الصيانة‌ والنظام‌، وكونها بمنزلة‌ الحراسة‌ الليليّة‌ أمراً مجهولاً لدي‌ شخص‌ السلطان‌ بسبب‌ شدّة‌ انهماكه‌ في‌ عبوديّة‌ الهوي‌، وكونه‌ بحسب‌ سلطنته‌ عبارة‌ عن‌ مشاركة‌ الذات‌ الاحديّة‌ عزّت‌ كبرياؤه‌ في‌ المالكيّة‌ والقاهريّة‌ وفاعليّة‌ ما يشاء وعدم‌سؤاله‌ عمّا يفعل‌، ويَعُدُّ عدم‌ السماح‌ باستمرار الاُمّة‌ في‌ هذه‌ المقهوريّة‌ والجدّ في‌ تخليص‌ رقابهم‌ من‌ هذه‌ العبوديّة‌ عصياناً والمساعدة‌ في‌ هذه‌ الفرعونيّة‌ إخلاصاً للدولة‌، فلا محالة‌ سيبذل‌ الجهد في‌ استئصال‌ الطائفة‌ الاُولي‌ التي‌ هي‌ في‌ ظنّه‌ متمرّدة‌ علي‌ السلطة‌، ومنح‌ النفوذ للطائفة‌ الثانية‌ التي‌ يحسبها مخلّصة‌ لدولته‌، وتنحصر أسباب‌ الترقي‌ّ والنفوذ ومناصب‌ الدولة‌ بإظهار العبوديّة‌ للشاه‌ فحسب‌، وتقع‌ النفرة‌ والاستيحاش‌ بين‌ السلطان‌ والرعيّة‌ بسبب‌ إفساد ولصوصيّة‌ عبيد الشاه‌، ويكون‌ ختم‌ السلطة‌ أُلعوبة‌ بِيَدِ هؤلاء اللصوص‌ الناهبين‌. وينزوي‌ شخص‌ السلطان‌ في‌ زاوية‌ الخفاء والخوف‌، ويصرف‌ همّه‌ إلي‌ إعدام‌ الشعب‌ وتخريب‌ البلاد، ويحرم‌ من‌ لذّة‌ السلطنة‌ وبسط‌ العدل‌ وإعمار البلاد والمحبوبيّة‌ في‌ قلوب‌ أبناء الشعب‌. ويفقد سمعته‌ الطيّبة‌ ولا يكون‌ نظيراً لبقيّة‌ سلاطين‌ العالم‌، ويكون‌ أداة‌ للصوصيّة‌ الناهبين‌ وأشرار العالم‌، بل‌ إنَّه‌ وبحسب‌ النصّ المجرّب‌: المُلْكُ يَبْقَي‌ مَعَ الكُفْرِ وَلاَيَبْقَي‌ مَعَ الظُّلْمِ  ** ـوبرهانه‌ ظاهر ومشاهد ومحسوس‌ عياناًـ سوف‌ يهيي‌بيده‌ أسباب‌ زوال‌ نعمته‌ وانقراض‌ سلطنته‌ بهذه‌ الممارسات‌ الظالمة‌، والمساعدة‌ لاهداف‌ عبيد الشاه‌ السبعيّة‌. ولن‌يحصل‌ من‌ هذه‌ الحال‌ السيّئة‌، التي‌ هي‌ أشدّ وطأة‌ من‌ الليلة‌ الاُولي‌ لقبر يزيد، غير التمتّع‌ بأيّام‌ قلائل‌. سُنَّةَ اللَهِ فِي‌ الَّذِينَ خَلَوْا مِن‌ قَبْلُ وَلَن‌تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَهِ تَبْدِيلاً. (وهنا، وبعد أن‌ يكثر في‌ تفصيل‌ هذا المورد؛ يقول‌:)

 الرابع‌: علاج‌ تفرقة‌ الكلمة‌ وتهيئة‌ أسباب‌ الاتّحاد. (ويقوم‌ آية‌ الله‌ النائيني‌ّ قدّس‌ سرّه‌ هنا ببحث‌ مطوّل‌، وبعد ذكر بعض‌ الحالات‌ الاُخري‌ يقوم‌ بإنهاء الكتاب‌).

 وقام‌ المبارز الفقيد السيّد محمود الطالقاني‌ّ رحمة‌ الله‌ عليه‌ بطبع‌ هذا الكتاب‌ تحت‌ عنوان‌ ] ترجمته‌ [: «تنبيه‌ الاُمّة‌ وتنزيه‌ الملّة‌ در اساس‌ و اصول‌ مشروطيت‌» (= تنبيه‌ الاُمّة‌ وتنزيه‌ الملّة‌ في‌ أساس‌ وأُصول‌ الدستوريّة‌) أو «حكومت‌ از نظر اسلام‌» (= الحكومة‌ في‌ نظر الاءسلام‌) بالاءضافة‌ إلي‌ مقدّمة‌ وهوامش‌ وتوضيحات‌ من‌ عنده‌. وتقع‌ مطالب‌ المقصد الثاني‌ من‌ ص‌ 120 إلي‌ 137. ويقول‌ في‌ التعليقة‌ في‌ الصفحتين‌ 141 و 142 في‌ شرح‌ وتفسير وتبيين‌ المطلب‌ الثالث‌ لآية‌ الله‌ النائيني‌ّ ـوالذي‌ كان‌ حول‌ قطع‌ شجرة‌ العبوديّة‌ الخبيثة‌ للشاه‌ وترويج‌ العلم‌ والمعرفة‌ـ: الحلّ هو قطع‌ أساس‌ العبوديّة‌ النجس‌ للشاه‌. فما دام‌ هذا الاساس‌ موجوداً في‌ المجتمع‌ فلا يمكن‌ تحقيق‌ التقدّم‌ العملي‌ّ والاخلاقي‌ّ، لانَّ التقدّم‌ وتحصيل‌ المراكز في‌ مثل‌ هذا المجتمع‌ يكون‌ متفرّعاً علي‌ هذا الاساس‌، ولا يكون‌ ثمّة‌ قيمة‌ للقابليّة‌ واللياقة‌ والصدق‌ في‌ ذلك‌، حيث‌ يسمّي‌ أصحاب‌ الرأي‌ والهمّة‌ العالية‌ والرجال‌ الاحرار عصاةً ومتمرّدين‌! بينما يظهر المنحطّون‌ والمتملّقون‌ أنفسهم‌ فيه‌ علي‌ أنـّهم‌ مصلحون‌ ومحبّون‌ للخير! وتكون‌ جميع‌ قوي‌ البلاد تابعة‌ لاءرادة‌ شخص‌ واحد، وكأنَّ السلطة‌ أُلعوبة‌ بيد حفنة‌ من‌ المفسدين‌ ممّن‌ يلهثون‌ وراء الشهوات‌. يضعون‌ الشاه‌ كصنم‌ خلف‌ الحجاب‌ ويحرمونه‌ من‌ لذّة‌ العدالة‌ والتفاهم‌ مع‌ الشعب‌، ويلجئونه‌ شيئاً فشيئاً إلي‌ الاءجرام‌ والقتل‌ والقضاء علي‌ الناس‌ الابرياء باسم‌ الطاعة‌ للشاه‌ والاءخلاص‌ للسلطنة‌. يخيفونه‌ من‌ الناس‌ وينفّرون‌ الناس‌ منه‌ إلي‌ أن‌ يصل‌ الامر بالشاه‌ المستبدّ أن‌ يعيش‌ حالة‌ الخوف‌ والهلع‌ المستمرّة‌، ويكون‌ المسكين‌ سجيناً قد شُغِلَ بالاُبَّهة‌ والجلال‌ الكاذبين‌، والانغماس‌ في‌ أجواء اللهو والشهوة‌. فيتحوّل‌ إلي‌ آلة‌ بلا إرادة‌، قد رفعوه‌ إلي‌ مقام‌ المعبوديّة‌ والاُلوهيّة‌! وخائفاً يرتجف‌ هلعاً من‌ كلّ ما يدور حوله‌. يعيش‌ بين‌ الجنائن‌ والبساتين‌ والقصور الشامخة‌ وفي‌ جنّة‌ الطبيعة‌، ولكن‌ في‌ جهنّم‌ أفكاره‌ وجرائمه‌. فعبيد الشاه‌ الخاضع‌ للشهوة‌ هؤلاء يحفرون‌ قبر معبودهم‌ بمخالب‌ جرائمهم‌، ويطمئنون‌ باله‌ المبارك‌ إلي‌ أن‌ يدفنوه‌ سوء العاقبة‌ وجنون‌ سفك‌ الدماء واللعنة‌ الابديّة‌ والتأريخ‌ المشين‌، إذ إنَّ التأريخ‌ يبرز بشكل‌ جيّد هذه‌ العاقبة‌ المشينة‌ والوجوه‌ المظلمة‌ للمستبدّين‌، فهذه‌ هي‌ سنّة‌ الله‌ التي‌ لا تقبل‌ التغيير.

 ما هو الحل‌؟ لقد وقع‌ الكثير من‌ الناس‌ في‌ هذا الاشتباه‌ ولا يزالون‌ من‌ أنـّه‌ إذا تولّي‌ الامر الاشخاص‌ الصالحون‌ فإنَّ الوضع‌ سيصلح‌، أو أنـّه‌ يمكن‌ إصلاح‌ المتولّين‌ للاُمور من‌ خلال‌ الموعظة‌ والنصيحة‌. ويرجع‌ اشتباههم‌ إلي‌ عدم‌ التفاتهم‌ إلي‌ مدي‌ تأثّر نفس‌ الاءنسان‌ بالبيئة‌ والمحيط‌ الاجتماعي‌ّ. فكثيراً ما يكون‌ الشخص‌ الحاكم‌ والملك‌ صاحب‌ نيّة‌ طاهرة‌ وعواطف‌ جيّدة‌، لكنَّ ظروفه‌ الخارجيّة‌ العامّة‌ أو الخاصّة‌ تلجئه‌ إلي‌ الجناية‌، ومع‌ ذلك‌ يري‌ نفسه‌ أنـّه‌ ذلك‌ الاءنسان‌ العادل‌ الخدوم‌! ففي‌ تلك‌ الظروف‌ التي‌ لا يكون‌ مطّلعاً فيها علي‌ آلام‌ الناس‌ وضيقهم‌، تصوِّر له‌ حاشيته‌ والمرتبطون‌ به‌ كلّ ظلم‌ وجناية‌ علي‌ أنـّه‌ عين‌ العدل‌. ويجعل‌ له‌ المعتاشون‌ علي‌ مائدته‌ كلّ عمل‌ مخالف‌ للدين‌ عملاً مطابقاً للدين‌.

 ولم‌ يكن‌ عمل‌ الانبياء العظام‌ الذين‌ هدموا قصور الاستبداد وحقّقوا نموذجاً للعدالة‌ الاجتماعيّة‌ فترة‌ من‌ الزمن‌ بواسطة‌ الموعظة‌ والنصيحة‌ فحسب‌، فقد قاموا بتربية‌ أُناس‌ ووضعوا القوّة‌ بأيديهم‌ حتّي‌ أزالوا قوي‌ الاستبداد وعبوديّة‌ الملكيّة‌ بقوّة‌ سيف‌ العدالة‌ وعبوديّة‌ الله‌، وتبدّلت‌ تلك‌ المقاومة‌ وبذل‌ الدماء هذه‌ الايّام‌ بالقانون‌ والرأي‌ العامّ، وهذا هو الحقّ الذي‌ يمكنه‌ أن‌ يضع‌ حدّاً للمستبدّين‌ لكي‌ يفتحوا عيونهم‌ ويدركوا مصالح‌ ومضارّ أنفسهم‌ والشعب‌. فأوراق‌ الانتخابات‌ اليوم‌ حلّت‌ محلّ سيف‌ وسهم‌ ورمح‌ ثورة‌ الامس‌. هذا هو الحلّ الوحيد لقلع‌ جذور العبوديّة‌ للشاه‌ وللانا، وهو من‌ المصاديق‌ البارزة‌ للامر بالمعروف‌ والنهي‌ عن‌ المنكر الذي‌ هو من‌ أعمدة‌ الاءسلام‌ وأركانه‌! ـ انتهي‌.

 ما أفاده‌ هنا من‌ أنَّ الرجوع‌ إلي‌ الرأي‌ العامّ وأكثريّة‌ الآراء قانون‌ حقّ يحلّ محلّ سيف‌ وسهم‌ الامس‌ كلام‌ غير صائب‌. فالرجوع‌ إلي‌ الافكار العامّة‌ رجوعٌ إلي‌ أكثريّة‌ الجاهليّة‌ وغيرالمطّلعين‌. والواجب‌ هو الرجوع‌ إلي‌ أهل‌ الخبرة‌ والمتضلّعين‌ وخبراء أهل‌ اليقين‌ والدراية‌. ولقد قمنا في‌ الدرس‌ التاسع‌ عشر من‌ الجزء الثاني‌ من‌ «معرفة‌ الاءمام‌» من‌ دورة‌ العلوم‌ والمعارف‌ الاءسلاميّة‌ بأداء الشرح‌ والتفصيل‌ اللازم‌ في‌ هذا المجال‌. ولقد صار ï ïالمطلب‌واضحاً بيِّناً بحمد الله‌ ومنّته‌.

  * الوارد في‌ «الاحتجاج‌» هو قوله‌: صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً عَلَي‌ هَوَاهُ، مُطِيعاً لاِمْرِ مَوْلاَهُ.

  ** قمنا ببحث‌ مفصّل‌ حول‌ هذا الحديث‌ في‌ تعليقة‌ الدرس‌ الثاني‌ والعشرين‌ من‌ هذا الكتاب‌.

 [2] ـ «مستمسك‌ العروة‌ الوثقي‌» ج‌ 1، ص‌ 43.

[3] ـ فَاتَّقِ اللَهَ وَارْدُدْ إلَي‌ هَؤُلاَءِ القَوْمِ أَمْوَالَهُمْ فَإنَّكَ إنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي‌َ اللَهُ مِنْكَ لاَعْذِرَنَّ إلَي‌ اللَهِ فِيكَ، وَلاَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي‌ الَّذِي‌ مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إلاَّ دَخَلَ النَّارَ.

 وَوَاللَهِ لَوْ أَنَّ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ فَعَلاَ مِثْلَ الَّذِي‌ فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي‌ هَوَادَةٌ وَلاَظَفِرَا مِنِّي‌ بِإرَادَةٍ حَتَّي‌ آخُذَ الحَقَّ مِنْهُمَا وَأُزِيحَ البَاطِلَ مِنْ مَظْلَمَتِهِمَا.

 «نهج‌ البلاغة‌» باب‌ الكتب‌ و الرسائل‌، الرسالة‌ 41، ضمن‌ رسالة‌ كتبها عليه‌ السلام‌ إلي‌ بعض‌ عمّاله‌؛ ومن‌ طبعة‌ مصر بتعليقة‌ الشيخ‌ محمّد عبده‌، ج‌ 2، ص‌ 66 و 67.

[4] ـ الآية‌ 43، من‌ السورة‌ 19: مريم‌.

[5] ـذكرتُ في‌ بعض‌ الابحاث‌ أنَّ آزر كان‌ عمّ إبراهيم‌ عليه‌ السلام‌ لا أبيه‌ في‌ كتاب‌ «مهرتابان‌» (= الشمس‌ الساطعة‌) من‌ دورة‌ العلوم‌ والمعارف‌ الإسلاميّة‌، قسم‌ الابحاث‌ القرآنيّة‌.

[6] ـ ذيل‌ الآية‌ 43، من‌ السورة‌ 16: النحل‌؛ وذيل‌ الآية‌ 7، من‌ السورة‌ 21: الانبياء.

[7] ـ «إمام‌ شناسي‌» (= معرفة‌ الاءمام‌) ج‌ 3، ص‌ 10.

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com