بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الروح المجرد/ القسم الخامس: مواعظ و ارشادات السید هاشم، لقاء مع آیة الله السید إبراهیم خسروشاهی، الرمی بالتصوف حربة ف...

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

القسم‌ الرابع‌:

 السفر الثالث‌ للحقير إلي‌ العتبات‌ المقدّسة‌ سنة‌ 1385 هجريّة‌ قمريّة‌

 

لقد كان‌ محلّ نوم‌ واستراحة‌ عائلة‌ السيّد الحدّاد وزوجات‌ أبنائه‌ في‌ المنزل‌ المستأجر الاخير خلال‌ فصل‌ الصيف‌ منحصراً في‌ سطح‌ المنزل‌، فمن‌ المعهود عند عرب‌ النجف‌ الاشرف‌ وكربلاء المقدّسة‌ أن‌ يصعدوا في‌ الليالي‌ إلي‌ سطوح‌ منازلهم‌ المسيّجة‌ في‌ فصل‌ الصيف‌، ذلك‌ لانّ شدّة‌ الحرّ تجبرهم‌ علي‌ النوم‌ في‌ الاماكن‌ المرتفعة‌ المكشوفة‌ وتجعل‌ الغرف‌ غير صالحة‌ كأماكن‌ للنوم‌ والاستراحة‌. وكنت‌ مجبراً في‌ سفري‌ وحلولي‌ علي‌ سماحة‌ السيّد الحدّاد في‌ منزله‌ المستأجر هذا خلال‌ فصل‌ الربيع‌ وأشهره‌ الاخيرة‌ علي‌ النوم‌ مع‌ سماحته‌ علي‌ السطح‌ ليلاً، فكانت‌ النساء يرقدن‌ في‌ الغرف‌، وكنّ بالطبع‌ يتحمّلن‌ الاذي‌ في‌ ذلك‌، وكان‌ السطح‌ مكشوفاً لا يمكن‌ تجزئته‌؛ لذا فقد قرّر الحقير أ نّه‌ من‌ الافضل‌ أن‌ تكون‌ سفراتي‌ الآتية‌ للتشرّف‌ بزيارة‌ العتبات‌ المقدّسة‌ في‌ فصل‌ غير فصل‌ الحرّ، كي‌ لا يسبّب‌ ذلك‌ الاذي‌ لاهل‌ بيت‌ السيّد وعائلته‌، وقد فاتحته‌ بهذا الامر فأيّد ذلك‌ وأقرّه‌.

 هذا من‌ جهة‌، ومن‌ جهة‌ أُخري‌ فقد سمعتُ بنيّة‌ السيّد علي‌ الذهاب‌ لحجّ بيت‌ الله‌ الحرام‌ هذه‌ السنة‌، حيث‌ يستوعب‌ سفره‌ شهرَي‌ ذي‌ القعدة‌ وذي‌ الحجّة‌. ومن‌ ثمّ فقد اخترت‌ وقوع‌ السفر التالي‌ في‌ فصل‌ الشتاء وذلك‌ للقيام‌ بالزيـارة‌ الرجبيّة‌ و الشعبانيّة‌، وهكذا تحـرّكت‌ نحو الكاظـميّة‌ قبل‌ حلول‌ شهر جمادي‌ الآخرة‌ لسنة‌ 1385 هجريّة‌ قمريّة‌ بأيّام‌، حيث‌ توقّفت‌ فيها عدّة‌ أيّام‌ لزيارة‌ ذينك‌ الإمامين‌ الهمامين‌. ثمّ توجّهت‌ صوب‌ كربلاء وحللتُ في‌ منزل‌ سماحة‌ السيّد الحدّاد فقضيت‌ ليالي‌ وأيّاماً في‌ محضره‌ المبارك‌.

الرجوع الي الفهرس

سفر آية‌ الله‌ السيّد إبراهيم‌ خسروشاهي‌ ولقاؤه‌ بالحدّاد قدّس‌ الله‌ نفسه‌

 وقد شرَّفنا بالمجي‌ صباح‌ أحد أيّام‌ الزيارة‌ الرجبيّة‌ تلك‌، صديق‌ الحقير الحميم‌ ورفيقه‌ الشفيق‌، النزيه‌ الفاضل‌ من‌ أهل‌ الفضل‌: سماحة‌ آية‌ الله‌ السيّد إبراهيم‌ خسروشاهي‌ الكرمانشاهي‌ّ أدام‌ الله‌ أيّام‌ بركاته‌ حيث‌ قَدِمَ للالتقاء بالحقير وكذلك‌ لزيارة‌ سماحة‌ الحاجّ السيّد الحدّاد ضمناً. وكنتُ جالساً في‌ زاوية‌ الغرفة‌ والسيّد الحدّاد نائماً في‌ الجانب‌ الآخر من‌ الغرفة‌ يتردّد صوت‌ أنفاسه‌ في‌ النوم‌ بشكل‌ واضح‌.

 وكان‌ الحقير قد بحث‌ سابقاً بشكل‌ مفصّل‌ مع‌ هذا الصديق‌ الذي‌ يفوق‌ الاخ‌ في‌ عطفه‌، والاكثر إخلاصاً من‌ كلّ صاحب‌ وصديق‌، والاكثر خلوصاً وتنزّهاً عن‌ أي‌ّ نوع‌ من‌ الشوائب‌ والاوهام‌ بشأن‌ عظمة‌ سماحة‌ السيّد الحدّاد وقدرته‌ العلميّة‌ والتوحيديّة‌ وسعة‌ علومه‌ الملكوتيّة‌ ووارداته‌ القلبيّة‌، والإجلال‌ والإكرام‌ اللذين‌ كانا يبديهما له‌ الاُستاذ الاعظم‌ آية‌ الله‌ الحاجّ الميرزا علي‌ آقا القاضي‌ قدّس‌ الله‌ تربته‌.

 ومن‌ ثمّ فقد دعوتُه‌ بشكل‌ جادّ إلي‌ التبعيّة‌ والتسليم‌ مقابل‌ ولاية‌ السيّد الحدّاد، وقلت‌ له‌: لقد طفتم‌ عمراً باحثين‌ عن‌ المعارف‌ الإلهيّة‌، ولم‌ تتورّعوا عن‌ بذل‌ كلّ مسعي‌ لكشف‌ الحجب‌ وللشهود العياني‌ّ، بل‌ إنّ السيّد الحدّاد يمثّل‌ أُمنيتكم‌ الكامنة‌ في‌ صدركم‌ الشريف‌، فلقد بحثتم‌ عن‌ إنسان‌ كامل‌ تسلّمون‌ أنفسكم‌ إليه‌ علي‌ يقين‌ وبيّنة‌! فها هو ذا أمامكم‌ نائماً في‌ تلك‌ الزاوية‌ من‌ الغرفة‌. ولقد تشرّفتم‌ بالمجي‌ء إلي‌ كربلاء عدّة‌ أيّام‌، فتعالوا هنا وأنا معكم‌، والامل‌ كبير إن‌ شاء الله‌ تعالي‌ في‌ أن‌ تُقضي‌ حوائجكم‌ وتُحلّ مشاكلكم‌.

 فقال‌: أخاف‌ ألاّ يكون‌ هو من‌ أبغي‌، وحينذاك‌ سأتورّط‌ في‌ الامر ولن‌ يكون‌ لي‌ من‌ طريق‌ للنجاة‌ والخلاص‌.

 قلتُ: لسـتم‌ طفلاً قاصـراً أو سـفيهاً لتُخدعـوا أو تضـلّلوا، فأنتـم‌ بحمد الله‌ ومنّه‌ من‌ العلماء الذين‌ لهم‌ سابقتهم‌ وفضلهم‌ ولهم‌ معرفتهم‌ بالقرآن‌ وبأخبار المعصومين‌ عليهم‌ السلام‌، ولقد درستم‌ دروس‌ الحكمة‌ عند أُستاذنا العلاّمة‌ آية‌ الله‌ السيّد محمّد حسين‌ الطباطبائي‌ّ قدّس‌ الله‌ نفسه‌ الشريفة‌، وفهمتم‌ جيّداً « شرح‌ منازل‌ السائرين‌ » و « شرح‌ القيصري‌ » و « الفتوحات‌ المكّيّة‌ » لمحيي‌ الدين‌ بن‌ عربي‌، فليس‌ مقبولاً مع‌ كلّ هذه‌ الاُمور أن‌ تقولوا: إنّني‌ أُخدع‌، أو إنّني‌ أتورّط‌ في‌ ورطة‌ لا أمل‌ في‌ النجاة‌ منها! إنّ أحداً لا يُجبركم‌، كما أنّ أحداً لا يدعوكم‌ للتسليم‌ لمحضره‌؛ بل‌ تعالوا بأنفسكم‌ كشخص‌ عادي‌ وسلوا عن‌ مشكلاتكم‌ بكلّ حرّيّة‌، ثمّ انظروا هل‌ سيمكنه‌ حلّها أم‌ لا؟! اختبروه‌ في‌ قدرة‌ التوحيد والوصول‌ إلي‌ أعلي‌ درجة‌ اليقين‌، وانظروا هل‌ تجدون‌ فيه‌ ـ وهو الرجل‌ العادي‌ الحدّاد صانع‌ النعل‌ ما قرأتموه‌ وسمعتموه‌ أم‌ لا؟

 فإن‌ لم‌ تجدوا ذلك‌، فإنّ شيئاً لن‌ يضيركم‌ وستستمرّون‌ علي‌ انتهاج‌ طريقكم‌ السابق‌، وإذا ما وجدتموه‌ حائزاً للشرائط‌ التي‌ تتطلبونها بأنفسكم‌ فالتزموا بتعاليمه‌. علي‌ أ نّه‌ ليـس‌ بالشـخص‌ الذي‌ يفتح‌ بابه‌ لكلّ وارد، وأنتم‌ ترون‌ انزواءه‌ وعزلته‌ وأنّ أحداً لا يطرق‌ باب‌ بيته‌، وأ نّه‌ غير متفرِّغ‌ لمثل‌ هذه‌ الاُمور؛ ولكن‌ بناءً علي‌ العطف‌ والمحبّة‌ اللذان‌ أبداهما للحقير بكرمه‌ ولطفه‌، فسأتوسّط‌ في‌ الامر وأطلب‌ منه‌ ذلك‌، وإذا ما وافق‌ فلربّما ستجدون‌ ضالّتكم‌ المنشودة‌ هنا!

 إن‌ هذا الرجل‌ أُستاذ كامل‌ خبير في‌ العلوم‌ العرفانيّة‌ والمشاهدات‌ الربّانيّة‌، فهو يرفض‌ الكثير من‌ كلمات‌ محيي‌ الدين‌ بن‌ عربي‌ وينقد أُصولها ويُبَيِّن‌ جانب‌ الخطأ لديه‌، فسلوه‌ عن‌ أعقد مطالب‌ « منظومة‌ » الحاجّ السبزواري‌ّ و « أسفار » الآخوند وأقوال‌ « شرح‌ فصوص‌ الحكم‌ » و « مصباح‌ الاُنس‌ » و « شرح‌ النصوص‌ » الاشدّ إبهاماً وغموضاً، وانظروا من‌ أي‌ّ أُفق‌ سيطلع‌، وكيف‌ سيجيب‌ ويعدّد مطالبها الصحيحة‌ والسقيمة‌! هذا الرجل‌ لا ينام‌، بل‌ هو يقظ‌ علي‌ الدوام‌، يقظ‌ في‌ النوم‌ والصحو؛ نومه‌ واستيقاظه‌ علي‌ حدّ سواء، فهو يغمض‌ عينيه‌ لكنّ قلبه‌ صاحٍ متيقِّظ‌، فما الذي‌ تريدونه‌ أكثر من‌ هذا؟!

 قال‌: لو كان‌ كما تقول‌، فها هو الآن‌ نائم‌، فسله‌ عن‌ أمرٍ ما لنري‌ كيف‌ يفهم‌ في‌ نومه‌ ويجيب‌!

 قلتُ: لا مانع‌ عندي‌ من‌ السؤال‌، ولكن‌ أيليق‌ برجل‌ عظيم‌ كهذا أن‌ نُهبطه‌ من‌ ذلك‌ العلو الملكوتي‌ّ الروحي‌ّ والمحو في‌ جمال‌ الحقّ، فنسأل‌ منه‌ مطلباً للامتحان‌ فقط‌؟! إنّني‌ لم‌ يسبق‌ لي‌ أن‌ قمت‌ بمثل‌ هذه‌ الاختبارات‌؛ وما هو مشهود لدي‌ّ قد تحقّق‌ بنفسه‌ تلقائيّاً.

 وأخيراً استيقظ‌ السيّد وذهب‌ لتجديد وضوئه‌، ثمّ عاد بعد أن‌ توضّأ وجلسنا لتناول‌ طعام‌ الفطور. فقال‌ لي‌ السيّد إبراهيم‌: لا مجال‌ لدي‌ّ الآن‌، فأنا في‌ زيارة‌ لكربلاء لعدّة‌ أيّام‌ ـ ربّما لا نّه‌ كان‌ يرافق‌ جماعة‌ في‌ سفره‌ وسيبقي‌ ذلك‌ إلي‌ وقتٍ آخر إن‌ شاء الله‌، عسي‌ الله‌ أن‌ يوفّقني‌ له‌.

 وهكذا فقد انقضي‌ ما حصل‌ اليوم‌. فلمّا كان‌ اليوم‌ التالي‌ استيقظ‌ السيّد من‌ النوم‌، فكان‌ يتكلّم‌ مع‌ نفسه‌ في‌ الفراش‌: «يقال‌ عنه‌: إنّه‌ لا ينام‌. يقول‌: لا أذكرُ في‌ جميع‌ عمري‌ أ نّني‌ بقيتُ ليلةً لم‌ أنم‌ فيها؛ فما الذي‌ سيعود علينا لطفه‌؟ فهو ليس‌ لنا!».

الرجوع الي الفهرس

دعوة‌ الحقير لآية‌ الله‌ السيّد إبراهيم‌ لضرورة‌ درك‌ محضر آية‌ الله‌ الانصاري‌ّ

 وكان‌ الحقير قد دعي‌ هذا الصديق‌ المكرّم‌ ـ قبل‌ دعوتي‌ له‌ للسيّد هاشم‌ إلي‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌ الشيخ‌ محمّد جواد الانصاري‌ّ قدّس‌ الله‌ تربته‌ زمن‌ حياته‌، وألححتُ عليه‌ بإصرار وقلت‌ له‌: إنّ ضالّتك‌ عند هذا الرجل‌، فهو رجل‌ إلهي‌ّ ذو صفات‌ إلهيّة‌، رجلٌ تخطّي‌ نفسه‌ وتجاوزها وفاز بدرجة‌ المخلَصين‌.

 وكان‌ قد قبل‌ دعوة‌ الحقير يوماً وشرّفني‌ بتناول‌ طعام‌ الغداء وكنت‌ آنذاك‌ في‌ النجف‌ الاشرف‌ للتحصيل‌ والدرس‌. فجلسنا في‌ السرداب‌ المتعارف‌ للمنزل‌ الذي‌ ابتـاعه‌ الحقير في‌ محلّة‌ العمارة‌ جنب‌ السـور نتحدّث‌ حول‌ مقامات‌ وكمالات‌ المرحوم‌ الانصاري‌ّ من‌ وقت‌ الغداء، أي‌ بعد الفريضة‌ لساعتين‌ تقريباً. وكنتُ أعلم‌ أن‌ الحاجّ السيّد إبراهيم‌ ـ شأنه‌ شأن‌ الحقير والهٌ قد أضناه‌ التمزّق‌، فهو يبحث‌ عن‌ ضالّته‌ المنشودة‌ من‌ سالف‌ الايّام‌، لذا فقد أحببتُ كثيراً أن‌ أدعوه‌ هو الآخر إلي‌ انتهاج‌ السلوك‌ العملي‌ّ والعرفاني‌ّ للمرحوم‌ آية‌ الله‌ الانصاري‌ّ ومشيه‌ ومنهجه‌.

 فقال‌: أجل‌، لقد كتبتُ قبل‌ عدّة‌ سنوات‌ من‌ مدينة‌ قم‌ (محلّ سكناه‌ وتحصيله‌) رسالةً إلي‌ آية‌ الله‌ الانصاري‌ّ سألته‌ فيها عن‌ أُمور أردت‌ معرفتها، فأجاب‌ المرحوم‌ الانصاري‌ّ علي‌ رسالتي‌ بمحبّته‌ ولطفه‌ الوافر، وأشار فيها إلي‌ أنّ الطريق‌ مفتوح‌؛ لكنّي‌ تعلّلت‌ بعد ذلك‌ بعلل‌ ولم‌ أُتابع‌ الامر لجهات‌ عديدة‌.

 منها: أ نّه‌ معروف‌ في‌ همدان‌ بالتصوّف‌، وواضح‌ أنّ نهجنا وطريقتنا غير طريقة‌ الصوفيّة‌ ونهجهم‌.

 ومنها: أنّ بعض‌ علماء همدان‌ وأئمّة‌ الجماعة‌ فيها ينتقده‌ ولا يذكره‌ بخير.

 ومنها: أنّ السيّد... نقل‌ أنّ أحد أصحاب‌ الانصاري‌ّ انتابته‌ في‌ جلسته‌ حالة‌ من‌ التغيير وانقلاب‌ الحال‌، فادّعي‌ الوصل‌ ومشاهدات‌ العالم‌ الربوبي‌ّ، ثمّ عرضت‌ له‌ حالة‌ تقيّؤ، فاستبان‌ أنّ انقلاب‌ حاله‌ وادّعاءه‌ الوصل‌ والمشاهدة‌ كانا من‌ الإفراط‌ في‌ الاكل‌ وامتلاء معدته‌ وأمعائه‌.

 فقال‌ الحقير: لقد رافقتُ المرحوم‌ الانصاري‌ّ في‌ النجف‌ الاشرف‌ شهرين‌ كاملين‌، وصحبتُه‌ في‌ سفره‌ إلي‌ همدان‌ لاُسبوعين‌ كاملين‌ شهدت‌ فيها عن‌ قرب‌ حالاته‌ ومقاماته‌ وكمالاته‌ وشدّة‌ عبوديّته‌ وعاينت‌ حرصه‌ المفرط‌ علي‌ احترام‌ الشريعة‌، والذي‌ كان‌ بدرجة‌ شديدة‌ ربّما بدت‌ أحياناً في‌ نظر الحقير إفراطاً. ثمّ قصصتُ عليه‌ عدّة‌ قضايا ووقائع‌ بالتفصيل‌.

 ومن‌ ثمّ فإنّ جميع‌ هذه‌ الاُمور المنقولة‌ عنه‌ كذب‌ محض‌ وافتراء، فأوّلاً: أنّ المرحوم‌ الانصاري‌ّ يخالف‌ بشدّة‌ طريقة‌ الصوفيّين‌، فقد كان‌ يعدّ ذلك‌ الطريق‌ طريقاً لترقّي‌ النفس‌ وتقويتها لا طريقاً لفَناء النفس‌. وكان‌ قد صرّح‌: أنّ طريق‌ التكامل‌ يكمن‌ في‌ الإتيان‌ بأعمال‌ التقرّب‌ سواءً كان‌ لها ظهور أم‌ لم‌ يكن‌.

الرجوع الي الفهرس

الرمي‌ بالتصوّف‌ هو حربة‌ الوعّاظ‌ غير المتّعظين‌ في‌ تحطيم‌ العرفاء والعرفان‌

 نعم‌، إنّ في‌ عرف‌ العوامّ والمحصّلين‌ الجهلة‌ عندنا أ نّهم‌ يلقّبون‌ بالصوفي‌ّ كلّ من‌ يصلّي‌ صلوات‌ النافلة‌ الليليّة‌ والنهاريّة‌ ويقوم‌ بالإتيان‌ بالسجدات‌ الطويلة‌ ويسعي‌ وراء الحلال‌، ويجتنب‌ مجالس‌ اللهو والغِيبة‌ والكذب‌ وأمثالها بشكل‌ جادّ وحازم‌ ويبتعد قدراً ـ لإصلاح‌ نفسه‌ عن‌ عامّة‌ الناس‌ من‌ عبدة‌ الدنيا. و ليس‌ هذا إلاّ من‌ تعاسة‌ وشقاء الوعّاظ‌ غير المتّعظين‌، فكيف‌ بالعوامّ من‌ الناس‌!

 ألم‌ يدعوا المرحوم‌ الآخوند الملاّ حسين‌ قُلي‌ الهمداني‌ّ في‌ النجف‌ صوفيّاً؟! ألم‌ يدعوا المرحوم‌ الحاجّ الميرزا علي‌ آقا القاضي‌ صوفيّاً؟! ألم‌ يسمّوا المرحوم‌ الحاجّ الشيخ‌ محمّد حسين‌ الإصفهاني‌ّ الكمباني‌ّ صوفيّاً، وقاموا بإحراق‌ رسالته‌ المطبوعة‌ في‌ المطبعة‌ بهذه‌ التهمة‌؟! ألم‌ يعدّوا المرحوم‌ الحاجّ الميرزا جواد آقا التبريزي‌ّ الملكي‌ّ صوفيّاً؟!

 فيا أيّها العزيز! ينبغي‌ عدم‌ الإصغاء لكلام‌ المغرضين‌ والمعاندين‌ واللاهثين‌ وراء الدنيا وعَبدتها ولو تلبّسوا بلباس‌ أهل‌ العلم‌، وإلاّ فاتتك‌ القافلة‌ إلي‌ يوم‌ القيامة‌!

 وثانياً: أنّ الاعاظم‌ من‌ علماء همدان‌، كالحاجّ الشيخ‌ هادي‌ التألّهي‌ّ، والآقا الآخوند ملاّ علي‌ المعصومي‌ّ الهمداني‌ّ وأمثالهما يمتدحونه‌ بالقدسيّة‌ والورع‌ المفرط‌. فلماذا لا تسألون‌ هؤلاء عن‌ أحوال‌ الانصاري‌ّ ليصفونه‌ لكم‌ بمرتبة‌ تفوق‌ مرتبة‌ العدالة‌ ولتتّضح‌ لكم‌ ـ بإقرارهم‌ وعجزهم‌ عن‌ إدراك‌ معلومات‌ الانصاري‌ّ لقصور معلوماتهم‌ كمالاتُه‌ بشكل‌ مشهود؟!

 وثالثاً: أنّ تلامذة‌ ومريدي‌ المرحوم‌ الانصاري‌ّ في‌ همدان‌ لا يتعدّون‌ عدّة‌ أشخاص‌ وهذه‌ هي‌ أسماؤهم‌: الحاجّ محمّد البيك‌ زاده‌، الحاجّ السيّد أحمد الحسيني‌ّ، الحاجّ غلام‌ حسين‌ السبزواري‌ّ، غلام‌ حسين‌ الهمايوني‌ّ، محمّد حسن‌ البياتي‌ّ، إبراهيم‌ إسلاميّة‌، ومحسن‌ بينا؛ أمّا بيان‌ أحوالهم‌ وترجمتهم‌ فهو أشهر من‌ الشمس‌ في‌ سطوعها، فلاي‌ّ شخص‌ منهم‌ حيكت‌ هذه‌ القصّة‌ المختلقة‌ فوصلت‌ إلي‌ قم‌؛ حتّي‌ ينتقد السيّد... علي‌ المنبر المرحومَ الانصاري‌ّ تلويحاً وكناية‌ بما هو أبلغ‌ من‌ التصريح‌؟!

 فلا تتصوّروا أنّ اتّهام‌ أشخاص‌ كهؤلاء أمر يسير! وسيكون‌ لكلّ منهم‌ موقف‌ يوم‌ القيامة‌ يعترضون‌ فيه‌ سبيل‌ من‌ اتّهمهم‌ ويستوقفونه‌ فلا يدعونه‌ يتقدّم‌ خطوةً واحدة‌ ما لم‌ يُجِب‌ علي‌ ما فعل‌، وليست‌ تلك‌ المواقف‌ إلاّ مواقف‌ جزئيّة‌ قبل‌ الوصول‌ إلي‌ المواقف‌ الكلّيّة‌ والعظيمة‌.

 فقال‌ الحاجّ السيّد إبراهيم‌: أخشي‌ أن‌ أذهب‌ إلي‌ بيته‌ في‌ همدان‌ فيصبح‌ نفس‌ ذهابي‌ ـ ولو كان‌ للتحقيق‌ واستجلاء الامر والحقيقة‌ في‌ حال‌ تبيّن‌ خلاف‌ الامر، تأييداً للباطل‌؛ لانّ ذهابي‌ وأنا في‌ لباس‌ أهل‌ العلم‌ وزيّهم‌ ليس‌ كذهاب‌ شخص‌ عادي‌ّ ولربّما صار لا سمح‌ الله‌ إمضاءً وتأييداً للباطل‌ ونشراً له‌.

 فقلت‌: فاذهبوا ليلاً! اذهبوا سرّاً! ضعوا عباءتكم‌ فوق‌ رأسكم‌ واذهبوا! ولا تذهبوا إلي‌ منزله‌ بل‌ إلي‌ منزل‌ رفقائه‌ الذين‌ يذهب‌ إليهم‌! فلقد وضع‌ الله‌ سبحانه‌ طرقاً متعدّدة‌. مَنْ طَلَبَ شَيْئاً وَجَدَّ وَجَدَ، وَمَنْ قَرَعَ باباً وَلَجَّ وَلَجَ[37].

الرجوع الي الفهرس

استخارة‌ آية‌ الله‌ السيّد إبراهيم‌ في‌ الرجوع‌ لمحضر آية‌ الله‌ الانصاري‌ّ

 وبعد اللتيّا واللتي‌ قال‌ لي‌: اسـتخيروا لي‌! فاسـتخرت‌ الله‌ فطـالعتنا هذه‌ الآية‌:

 بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَـ'نِ الرَّحِيمِ ـ يَـ'´أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَي‌ النَّاسَ سُكَـ'رَي‌' وَمَا هُم‌ بِسُكَـ'رَي‌' وَلَـ'كِنَّ عَذَابَ اللَهِ شَدِيدٌ. [38]

 ولم‌ يقل‌ لي‌ لاي‌ّ شي‌ء كانت‌ الاستخارة‌ لكنّها كانت‌ بعد تلك‌ المذاكرة‌، فحدستُ أ نّها كانت‌ للذهاب‌ إلي‌ همدان‌ والحضور عند المرحوم‌ الانصاري‌ّ قدّس‌ الله‌ نفسه‌. ثمّ قرأت‌ عليه‌ الآية‌ فقال‌: من‌ الواضح‌ أ نّها سيّئة‌. وانقطع‌ الحديث‌ بيننا بشأن‌ آية‌ الله‌ الانصاري‌ّ إلي‌ اليوم‌.

 وقد ذكرتُ ذلك‌ الامر بعد مرور سنة‌ إلي‌ أحد السالكين[39]‌ فقال‌: لقد أخطأ في‌ ذلك‌، فهذه‌ الآية‌ لهذا القصد جيّدة‌ جدّاً؛ فهي‌ تدلّ علي‌ أ نّه‌ لو ذهب‌ إلي‌ همدان‌ وحضر عند آية‌ الله‌ الانصاري‌ّ لقامت‌ قيامته‌ ولزلزلت‌ الزلزلة‌ الملكوتيّة‌ والجذبات‌ الجلاليّة‌ أركان‌ وجوده‌، ولافنت‌ كلّ أثر من‌ شوائب‌ الوجود والوجود المجازي‌ّ المُعار فيه‌، ولوصل‌ إلي‌ مقام‌ الفناء المطلق‌، فهذا هو تعبير هذه‌ الآية‌ وتفسيرها لهذا الغرض‌ والهدف‌.

الرجوع الي الفهرس

زهد وورع‌ آية‌ الله‌ الحاجّ الشيخ‌ عبّاس‌ الطهراني‌ّ محمّد زاده‌ قدّس‌ الله‌ نفسه‌

 ومن‌ الجدير بالذكر أنّ الصديق‌ العزيز آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد إبراهيم‌ كان‌ سابقاً في‌ قم‌ من‌ التلامذة‌ والمريدين‌ المخلصين‌ لآية‌ الله‌ المرحوم‌ الحاجّ الشيخ‌ عبّاس‌ الطهراني‌ّ محمّد زادة‌ قدّس‌ الله‌ نفسه‌، والمجدّين‌ في‌ دروسه‌ الاخلاقيّة‌ ونهجه‌ وطريقته‌، وكان‌ ذلك‌ المرحوم‌ عالماً جليلاً متخلّقاً ومؤدّباً بالآداب‌ الشرعيّة‌. وكان‌ قد اختار الابتعاد في‌قم‌ عن‌ أبناء الدنيا في‌ فترة‌ اشتداد الانحراف‌ والعمي‌ في‌ عهد البهلوي‌ّ الكبير، فذهب‌ إلي‌ آخر المدينة‌ وبني‌ بيتاً قرب‌ مزارع‌ الرمّان‌. وكانت‌ له‌ حكايات‌ شيّقة‌ في‌ التوسّل‌ بإمام‌ الزمان‌ عجّل‌ الله‌ تعالي‌ فرجه‌، ودعوة‌ طلاّب‌ قم‌ ومعاشريه‌ إلي‌ تجنّب‌ آداب‌ الكفر، والابتعاد عن‌ الحضارة‌ الغربيّة‌ الضالّة‌ والمضلّة‌. وكان‌ رجلاً مجاهداً صريح‌ اللهجة‌، وله‌ علاقة‌ صداقة‌ حميمة‌ وقرابة‌ صميميّة‌ وكمال‌ المراودة‌ والمعرفة‌ مع‌ الفقيد السعيد القائد الكبير للثورة‌ الإسلاميّة‌ آية‌ الله‌ الخميني‌ّ قدّس‌ الله‌ نفسه‌.[40]

  وقد استفاد الحقير من‌ المحضر الشريف‌ لآية‌ الله‌ الطهراني‌ّ، وكنتُ أذهب‌ في‌ بعض‌ أيّام‌ الجمعة‌ حين‌ تشرّفت‌ بالتحصيل‌ والدرس‌ في‌ الحوزة‌ المباركة‌ في‌ قم‌، بمعيّة‌ السيّد إبراهيم‌ فنستفيد من‌ محضره‌ المنوّر، ويفيض‌ علينا من‌ مواعظه‌ ونصائحه‌. وكان‌ له‌ بعض‌ الحالات‌ الروحيّة‌ التي‌ تكشف‌ عن‌ نوع‌ من‌ الاتّصال‌، لكنّ الآلام‌ الشديدة‌ التي‌ كان‌ يعاني‌ منها في‌ بطنه‌ وقرحة‌ المعدة‌ التي‌ أقعدته‌ لسنين‌ متمادية‌ من‌ جهة‌، والمحافظة‌ علي‌ الاسرار من‌ جهة‌ أُخري‌، لم‌ تكونا لتسمحان‌ له‌ أن‌ يكشف‌ الستار عن‌ الطلعة‌ التي‌ تختفي‌ وراءه‌ ويبيِّن‌ الحقائق‌ كما فعل‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ وآية‌ الله‌ الانصاري‌ّ.

 وكان‌ يقول‌: لقد وجـدتُ جوهرة‌ في‌ خَرِبَة‌، فلسـتُ أعلم‌ طـريق‌ العثور عليها. ولقد سأله‌ الحقير يوماً عن‌ التوحيد الافعالي‌ّ فقال‌: صَهْ! هذا من‌ الاسرار! واعلمْ إجمالاً أنّ جميع‌ الاُمور من‌ الله‌ تعالي‌!

 وهكذا فلم‌ تتوثّق‌ بيننا علاقة‌ الاُستاذ والتلميذ، لكنّني‌ كنت‌ أتشرّف‌ بالحضور عنده‌ بوصفه‌ عالماً جليلاً مخلصاً ذا فؤاد كليل‌، وله‌ حُرقة‌ ولوعة‌ خاصّة‌ عند قراءة‌ دعاء الندبة‌. وحقّاً فلم‌ يكن‌ ليمنع‌ شيئاً أو يبخل‌ بشي‌ء، ولقد صار الكثير من‌ مواعظه‌ يتصدّر برنامج‌ حياة‌ الحقير حتّي‌ اليوم‌. رحمة‌ الله‌ عليه‌ رحمة‌ واسعة‌.

 لقد كان‌ سماحة‌ آية‌ الله‌ العلاّمة‌ فقط‌ هو أُستاذ الحقير في‌ السلوك‌ حين‌ كنت‌ مشغولاً بالتحصيل‌ في‌ الحوزة‌ الطيّبة‌ في‌ قم‌، وكان‌ يعطي‌ تعليمات‌ خاصّة‌ ويشكّل‌ جلسات‌ تضمّ عدّة‌ أفراد. لكنّ السيّد إبراهيم‌ كان‌ له‌ علاقة‌ قلبيّة‌ والتفات‌ أكثر إلي‌ آية‌ الله‌ الحاجّ الشيخ‌ عبّاس‌ الطهراني‌ّ، فكان‌ يطيعه‌ في‌ جميع‌ الاُمور طاعة‌ محضة‌، وكان‌ منزله‌ آنذاك‌ مع‌ المرحومة‌ والدته‌ المكرّمة‌ فقط‌، وكان‌ قرب‌ منزل‌ الحاجّ الشيخ‌ عبّاس‌، وكان‌ يتردّد علي‌ محضره‌ في‌ أوقات‌ الصلاة‌ وفي‌ لقاءات‌ خاصّة‌.

 وعلي‌ هذا الاساس‌ وعلي‌ أثر شدّة‌ علاقته‌ به‌، فقد صار أخيراً صهراً له‌؛ بَيدَ أنّ الحقير لم‌ يكن‌ قد أوكل‌ نفسه‌ إلي‌ ذلك‌ المرحوم‌، فكنت‌ أمتلك‌ الحرّيّة‌ أكثر في‌ البحث‌ عن‌ الحقيقة‌، لذا فقد دعوتُه‌ في‌ النجف‌ وكربلاء زمن‌ حياة‌ المرحوم‌ الشيخ‌ عبّاس‌ لمتابعة‌ المرحوم‌ الانصاري‌ّ، لكنّ دعوتي‌ له‌ لمتابعة‌ سماحة‌ السيّد هاشم‌ كانت‌ بعد ارتحال‌ ذلك‌ المرحوم‌.

 ولقد كان‌ آية‌ الله‌ الحاجّ الشيخ‌ عبّاس‌ الطهراني‌ّ يحبّ الحقير كما يحبّ ولده‌، كما هو الظاهر من‌ رسالته‌ التي‌ أرسلها إلي‌ النجف‌ الاشرف‌ جواباً لرسالة‌ الحقير.[41]

ولقد كان‌ باب‌ المكاتبة‌ والمراودة‌ بيننا وبينه‌ مفتوحاً بحمد الله‌ ومنّه‌ حتّي‌ آخر عمره‌ الشريف‌، وكان‌ الحقير، حتّي‌ بعد العودة‌ من‌ النجف‌ إلي‌ طهران‌، يتشرّف‌ أحياناً بالحضور والاستفادة‌ من‌ محضره‌ في‌ قم‌ أو في‌ طهران‌ في‌ منزل‌ المرحوم‌ الحاجّ الميرزا أبي‌ القاسم‌ العطّار؛ لكن‌ علاقة‌ الاُستاذ والتلميذ التي‌ كانت‌ تربط‌ بين‌ الحقير وبين‌ سماحة‌ العلاّمة‌ وسماحة‌ الانصاري‌ّ وسماحة‌ الحدّاد كانت‌ شيئاً آخراً. وكان‌ الحقير يحرص‌ علي‌ دعوة‌ الحاجّ السيّد إبراهيم‌ إلي‌ هذه‌ المائدة‌، فقد كانت‌ روابط‌ الخلوص‌ والإخلاص‌ عند الحقير تستوجب‌ أن‌ لا يجلس‌ الحقير لوحده‌ إلي‌ هذه‌ المائدة‌.

 نعم‌، لقد عاد الصديق‌ آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد إبراهيم‌ أدام‌ الله‌ أيّام‌ سعادته‌ بعد رحيل‌ المرحوم‌ الحاجّ الشيخ‌ عبّاس‌ الطهراني‌ّ رضوان‌ الله‌ عليه‌، إلي‌ موطنه‌ « باختران‌ » مدّة‌ فاشتغل‌ في‌ مسجد « الصاحب‌ » هناك‌ بإقامة‌ صلوات‌ الجماعة‌ والتدريس‌ وترويج‌ الدين‌، ثمّ ذهب‌ إلي‌ طهران‌ فانصرف‌ إلي‌ وظائف‌ إرشاد الناس‌ وهدايتهم‌ في‌ مسجد بمنطقة‌ « قلهك‌ » ثمّ في‌ « دزاشيب‌ نياوران‌ » في‌ مسجد « المهدي‌ »، حيث‌ يمرّ عليه‌ حتّي‌ الآن‌ ما يقرب‌ من‌ خمسة‌ عشر عاماً اشتغل‌ فيها بإقامة‌ صلوات‌ الجماعة‌ والإرشاد والتبليغ‌ والتدريس‌ والترويج‌ للدين‌. وحقّاً فإنّه‌ عالم‌ حرّ وذو فهم‌ عال‌ ودقّة‌ نظر، كما أ نّه‌ حاضر البديهة‌، حميم‌ في‌ علاقته‌ بالدين‌ والشريعة‌ محزون‌ لاجلها؛ لذا فقد ابتلي‌ بأمراض‌ مختلفة‌ كضعف‌ الاعصاب‌ وقرحة‌ المعدة‌ ولا يزال‌ يعاني‌ منها السنين‌ الطويلة‌. حفظه‌ الله‌ إن‌ شاء الله‌ وعافاه‌ من‌ جميع‌ الآفات‌ والعاهات‌ وأبقاه‌ الله‌ ذخراً للإسلام‌ والمسلمين‌ بمحمّدٍ وآله‌ الطيّبين‌ الطاهرين‌.

الرجوع الي الفهرس

كان‌ الحاجّ السيّد هاشم‌ ما فوق‌ الاُفق‌، وكان‌ قد تخطّي‌ الجزئيّة‌ إلي‌ الكلّيّة‌

 لقد كان‌ سماحة‌ الحاجّ السيّد هاشم‌ يعيش‌ في‌ أُفق‌ آخر، وإذا ما أوفينا التعبير حقّه‌ فقد كان‌ يعيش‌ في‌ اللا أُفق‌، حيث‌ تخطّي‌ التعيّن‌، واجتاز الاسم‌ والصفة‌، وصار جامعاً لجميع‌ أسماء الحقّ المتعالي‌ وصفاته‌ بنحو أتمّ وأكمل‌، وصار مورداً للتجلّيات‌ الذاتيّة‌ الوحدانيّة‌ القهّاريّة‌، ولقد طوي‌ الاسفار الاربعة‌ تماماً ووصل‌ إلي‌ مقام‌ الإنسان‌ الكامل‌.[42]

 ولم‌ يكن‌ أيّاً من‌ القوي‌ والاستعدادات‌ في‌ جميع‌ المنازل‌ والمراحل‌ السلوكيّة‌ من‌ الملكوت‌ الاسفل‌ والملكوت‌ الاعلي‌ وطي‌ّ أدوار عالم‌ اللاهوت‌ والتجوال‌ فيها، إلاّ وكان‌ قد تحقّق‌ في‌ وجوده‌ القيّم‌ ووصل‌ إلي‌ الفعليّة‌.

 ولقد كان‌ السيّد هاشم‌ إنساناً له‌ الفعليّة‌ التامّة‌ في‌ جميع‌ زوايا الحياة‌ المعنويّة‌ ونواحيها.

 ولقد كان‌ الموت‌ والحياة‌، الصحّة‌ والسقم‌، الفقر والغناء، مشاهدة‌ الصور المعنويّة‌ وعدمها، والجنّة‌ والجحيم‌، بالنسبة‌ له‌ علي‌ حدّ سواء؛ فقد كان‌ رجلاً إلهيّاً انقطعت‌ عنه‌ جميع‌ العلائق‌ والنسب‌ في‌ جميع‌ العوالم‌ إلاّ نسبة‌ الله‌ تعالي‌.

 ولقد كنّا معه‌ طيلة‌ ثمان‌ وعشرين‌ سنة‌ من‌ اللقاءات‌ ووصل‌ الليل‌ بالنهار والاسفار، حيث‌ حسبتُ مجموع‌ الاوقات‌ المتفرّقة‌ التي‌ كنت‌ فيها معه‌ ليلاً ونهاراً بشكل‌ دقيق‌، فكانت‌ لو ضممناها إلي‌ بعضها سنتين‌ كاملتين‌؛ لم‌ أُشاهده‌ طيلتها يرجو أحداً أبداً، لم‌ أره‌ يسأل‌ أحداً أن‌ يدعو له‌، ولم‌ يسأل‌ غيره‌ شيئاً أبداً، كأن‌ يقول‌ له‌: ادعُ لي‌ أن‌ تكون‌ عاقبة‌ أمري‌ خيراً، أو أن‌ تُغفر ذنوبي‌، أو أن‌ يوصلني‌ الله‌ إلي‌ هدفي‌، كلاّ لم‌ أرَ منه‌ شيئاً من‌ ذلك‌ أبداً ومطلقاً، لا تلك‌ الاُمور ولا أمثالها. إذ كيف‌ يسأل‌ هذه‌ المعاني‌ امرؤ هو نفسه‌ في‌ مُنتهي‌ الدرجة‌ من‌ الفقر والعبوديّة‌، وليس‌ له‌ مقابل‌ الحقّ الجليل‌ إلا العبوديّة‌ والتخلّي‌ عن‌ الإرادة‌ والاختيار وفقدان‌ الآمال‌ والاماني‌؟!

 ومن‌ البيِّن‌ أنّ التجلّيات‌ الربوبيّة‌ والمظهريّة‌ التامّة‌ للاسماء الجماليّة‌ والجلاليّة‌ للحق‌ تعالي‌ هي‌ من‌ لوازم‌ هذه‌ العبوديّة‌ التي‌ لا تنفكّ عنها.

 لقد كان‌ الحاجّ السـيّد هاشـم‌ رجلاً وصـل‌ من‌ الجزئيّة‌ إلي‌ الكلّيّة‌، فلم‌ يكن‌ لينظر بعدُ إلي‌ الكثرات‌، بل‌ كان‌ محيطاً ومهيمناً ومسيطراً علي‌ الكثرات‌. ولم‌ يكن‌ له‌ في‌ جميع‌ عمره‌ كلام‌ ينبع‌ من‌ مجاملة‌ من‌ المجاملات‌ المعهودة‌ المتداولة‌، أو وفق‌ مصلحة‌، كما لن‌ يكن‌ يُظهِر في‌ إجابته‌ لاحد التواضع‌ والانكسار المتعارف‌ الذي‌ لا ينطبق‌ مع‌ الواقع‌ أبداً، فلم‌ يكن‌ لينبس‌ بجملة‌ أو كلمة‌ من‌ باب‌ التواضع‌ والتذلّل‌ والانكسار، وذلك‌ لا نّها كانت‌ بأجمعها ـ طبقاً لحاله‌ ومقامه‌ مجازاً وخلافاً للواقع‌. إذ كان‌ قد وصل‌ إلي‌ مقام‌ لا يحتاج‌ إلي‌ التلفّظ‌ بهذه‌ الجُمل‌ صدقاً أو حسب‌ المصالح‌ العامّة‌.

الرجوع الي الفهرس

كان‌ الحاجّ السيّد هاشم‌ عبداً للّه‌ بما في‌ الكلمة‌ من‌ معني‌

 ولقد كان‌ عبداً للّه‌ بما في‌ الكلمة‌ من‌ معني‌. لذا فقد كان‌ من‌ الخطأ أن‌ يبحث‌ عن‌ شي‌ء في‌ هذا المجال‌ أو يريده‌ أو يطلبه‌، ذلك‌ لانّ نفسه‌ قد استقرّت‌ في‌ مقام‌ أرفع‌ وفي‌ أُفق‌ أرحب‌ وفي‌ ذروة‌ أمنع‌ ينظر منها إلي‌ جميع‌ كائنات‌ ومخلوقات‌ الحقّ المتعالي‌، ولقد كان‌ ناظراً من‌ ذلك‌ المقام‌ المنيع‌ وشاهداً علي‌ نفسه‌ وعلي‌ غيره‌، فهو مظهر التوحيد، مظهر لا إله‌ إلاّ الله‌، مظهر لا هو إلاّ هو.[43]

 وقد ذكرنا أ نّه‌ كان‌ يقول‌: ما أشبهني‌ بقشّة‌ تبن‌ تدور في‌ فضاءٍ لا يتناهي‌، بلا اختيار منّي‌ أو إرادة‌، وإنّني‌ أخرج‌ أحياناً من‌ نفسي‌ كالحيّة‌ التي‌ تلقي‌ بجلدها، فليس‌ فِي‌َّ إلاّ هذا الجِلد.

 أتعلمون‌ ما الذي‌ كان‌ يريد قوله‌ في‌ هذه‌ الجملة‌ القصيرة‌؟!

 إنّ الحيّات‌ تبدّل‌ جلودها كلّ سنة‌ بشكل‌ طبيعي‌ّ، أي‌ أ نّها تخرج‌ من‌ جِلدها السابق‌، وإذا ما نظرتم‌ إلي‌ ذلك‌ الجلد لرأيتم‌ حيّة‌ كاملة‌ لها رأس‌ وبدن‌ وذيل‌، كما أنّ لون‌ جسمها ونقوشه‌ وتعرّجاته‌ يماثل‌ ما كان‌ للحيّة‌ السابقة‌، ولربّما يتصوّر الإنسان‌ في‌ البدء أنّ هذا الجلد حيّة‌ حقيقيّة‌، لكنّه‌ حين‌ يخطو إلي‌ الامام‌ ويضع‌ يده‌ عليه‌ يتّضح‌ أ نّه‌ لم‌ يكن‌ إلاّ جلداً وأنّ الحيّة‌ قد خرجت‌ منه‌.

 لقد كان‌ سماحة‌ الحدّاد يقول‌: إنّ مثَلي‌ كذلك‌، فلقد كنت‌ أتخطّي‌ نفسي‌ وأخرج‌ منها فأذهب‌ إلي‌ مكان‌ آخر.

 أي‌: أ نّني‌ ـ أنا الذي‌ خرجت‌ منها ـ الحدّاد بجميع‌ شؤونه‌ من‌ البدن‌ والافعال‌ والاعمال‌ والذهن‌ والفعل‌ وكلّ الآثار ولوازمها، مع‌ أ نّها موجودة‌ وتقوم‌ بأعمالها الطبيعيّة‌ كالعبادات‌ والمعاملات‌ والاتّصالات‌ والنوم‌ والاكل‌ والعلوم‌ الذهنيّة‌ التفكيريّة‌ والعلوم‌ العقليّة‌ الكلّيّة‌ والعلوم‌ القلبيّة‌ المشاهديّة‌، وبدون‌ أيّة‌ ذرّة‌ من‌ التغيّر، فهي‌ بأجمعها موجودة‌ في‌ مكانها، لكنّني‌ لم‌ أعد موجوداً فيها؛ لقد خرجت‌ منها. أي‌ إنّ جميع‌ هذا البدن‌ وآثاره‌ وجميع‌ علومه‌ الذهنيّة‌ والعقليّة‌ والقلبيّة‌ وآثارها وجميع‌ قدراته‌ وجميع‌ أنحاء حياته‌ تصبح‌ كجلد الحيّة‌، وليست‌ بأجمعها مقابل‌ حقيقتي‌ إلا جلداً فقط‌، في‌ حين‌ أنّ حقيقتي‌ التي‌ يُقال‌ لها « أنا » في‌ مكانٍ آخر.

 فأين‌ ذلك‌ المكان‌ الآخر يا تُري‌؟! من‌ المسلّم‌ أن‌ يكون‌ مكاناً أفضل‌ وأعلي‌ وأرقي‌ من‌ الجزئيّة‌ والكلّيّة‌ التي‌ هي‌ موطن‌ البدن‌ والمثال‌ والعقل‌، هناك‌ كلّيّة‌ تفوق‌ جميع‌ الكلّيّات‌، وتجرّد يفوق‌ التجرّدات‌، وبساطة‌ أفضل‌ من‌ جميع‌ البساطات‌؛ مكان‌ لا يتناهي‌ مدّةً وشدّة‌ وعدّة‌ بما لا يتناهي‌.

الرجوع الي الفهرس

كان‌ الحاجّ السيّد هاشم‌ ظهورَ ومظهرَ كلمة‌ «لا هو إلاّ هو»

 هناك‌ عالم‌ الفناء المطلق‌ والاندكاك‌ في‌ ذات‌ الحقّ المتعالي‌ جلّت‌ عظمته‌، هناك‌ مقام‌ العبوديّة‌ المطلقة‌، العبوديّة‌ التي‌ قُدّمت‌ علي‌ الرسالة‌ في‌ التشهّد فورد: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. هناك‌ الإحاطة‌ بجميع‌ النشآت‌ وعوالم‌ الملك‌ والملكوت‌، لا أن‌ يكون‌ العبد هناك‌ مثل‌ الله‌، فهذا التعبير تعبير خاطي‌، إذ ليس‌ ـ مع‌ وجود ذات‌ القهّار الاحد من‌ معني‌ لِمِثل‌ و شبه‌ و نظير، ليس‌ هناك‌ إلاّ الله‌ تعالي‌ ولا شي‌ء سواه‌. وهذا هو التعبير الصحيح‌؛ هناك‌: الله‌ «موجود» وحسب‌، والعبد «فناء» وحسب‌، هناك‌ ظهور ومظهر لا هو إلاّ هو.

الرجوع الي الفهرس

مواعظ‌ وإرشادات‌ الحاجّ السيّد هاشم‌ التي‌ صدرت‌ من‌ الاُفق‌ الرفيع‌

 ولقد كانت‌ إشارات‌ السيّد الحدّاد ودلالاته‌ كلّها من‌ هذا القبيل‌، أي‌ أ نّه‌ كان‌ يستعين‌ ويستهدي‌ بأُفق‌ الوحدانيّة‌ لا من‌ غطاء وجوده‌ هو.

 قال‌ يوماً للحقير: أيّها السيّد محمّد الحسين‌! أنت‌ مشغول‌ جداً! أي‌ أنّ لك‌ الخواطر المتوالية‌ والمشوّشة‌!

 ولقد كان‌ كلاماً عجيباً! فقد كان‌ للحقير في‌ تلك‌ الساعة‌ كما ذكر، الخواطر النفسيّة‌ التي‌ تتعب‌ الذهن‌ وترهقه‌، ولم‌ يكن‌ لاحد إلاّ الله‌ اطّلاع‌ علي‌ أفكاري‌.

 وكان‌ يقول‌: تعامل‌ مع‌ الله‌ في‌ كلّ حال‌! أي‌: اجعل‌ معاملتك‌ لخلق‌ الله‌ معاملة‌ مع‌ الله‌. إذ إنّه‌ ينبغي‌ الالتفات‌ إلي‌ أنّ العيال‌ والاولاد والجار والشريك‌ ومأمومي‌ المسجد كلّهم‌ مظاهر الباري‌ تعالي‌.

 وكان‌ يقول‌: لو تخاصمتَ مع‌ الناس‌ أو مع‌ أولادك‌ فليكن‌ ذلك‌ بشكل‌ صوري‌ّ لا يلحقك‌ منه‌ أذي‌ ولا يحيق‌ بهم‌ الضرر، فلو خاصمتهم‌ بجدّ فإنّ ذلك‌ سيلحق‌ الاذي‌ بالطرفين‌؛ والعصبيّة‌ والجدّيّة‌ تضرّك‌ وتضرّ الطرف‌ المقابل‌.

 كان‌ يقول‌: أتفرّ من‌ الناس‌ كي‌ لا يصيبك‌ أذاهم‌، أو كي‌ لا يصيبهم‌ أذاك‌؟! إنّ الاحتمال‌ الثاني‌ هو الجيّد لا الاوّل‌، وأفضل‌ منهما أن‌ لا تراهم‌ ولا تري‌ نفسك‌!

 وكان‌ يوصي‌: عوّدْ أولادَك‌ وأهل‌ بيتك‌ أن‌ يبقوا مستيقظين‌ فيما بين‌ الطلوعَينِ.

 وكان‌ يقول‌: إنّ الخواطر علي‌ أربعة‌ أقسام‌:

 الاوّل‌: إلهيّة‌، وهي‌ الخواطر التي‌ تصرف‌ الإنسان‌ عن‌ نفسه‌ وتوجّهه‌ تجاه‌ ربّه‌ وتدعوه‌ إلي‌ قربه‌.

 الثاني‌: شيطانيّة‌، وهي‌ الخواطر التي‌ تجعل‌ الإنسان‌ غافلاً عن‌ الله‌، وتثير في‌ قلبه‌ الغضب‌ والحقد والجشع‌ والحسد.

 الثالث‌: ملكوتيّة‌، وهي‌ الخواطـر التي‌ تقـود الإنسـان‌ إلي‌ العبادة‌ والتقوي‌.

 والرابع‌: نفسانيّة‌، وهي‌ الخواطر التي‌ تدعو الإنسان‌ إلي‌ زينة‌ الدنيا وإلي‌ الشهوات‌.

 وللإنسان‌ قوّة‌ رفيعة‌ ومتعالية‌ يمكنها تبديل‌ جميع‌ الخواطر الشيطانيّة‌ والنفسانيّة‌ إلي‌ حسنات‌، واستخدامها جميعاً في‌ سبيل‌ الله‌؛ فيكون‌ جمع‌ المال‌ والشهوة‌ وجلب‌ الزينة‌ للّه‌ تعالي‌ لا للنفس‌.

 كما أنّ له‌ قوّة‌ أعلي‌ من‌ تلك‌ الاُولي‌، يمكنه‌ بها أن‌ يبدّل‌ جميع‌ تلك‌ الخواطر إلي‌ خواطر ملكوتيّة‌ وخواطر إلهيّة‌، فيعدّها جميعاً من‌ الله‌ ويراها منه‌، فلا يكون‌ له‌ أساساً معاملة‌ مع‌ غير الله‌ سبحانه‌.

 وكان‌ يقول‌: إنّ الادعية‌ والتوسّلات‌ أمر جيّد، لكن‌ علي‌ الإنسان‌ أن‌ يعتبر الاثر من‌ الله‌ تعالي‌ وأن‌ يطلب‌ منه‌ سبحانه‌.

 وقد حدث‌ أن‌ التفت‌ ذات‌ يوم‌ إلي‌ أحد تلامذته‌ من‌ ذوي‌ العلاقة‌ به‌ وكان‌ له‌ سابقته‌ إلاّ أ نّه‌ كان‌ يتمرّد أحياناً فيُظهر آراءه‌ الشخصيّة‌، وكان‌ يريد أن‌ يخفي‌ عن‌ السيّد أمراً ما قد وقع‌؛ فقال‌ له‌ بشدّة‌ وخشونة‌:

 ما الذي‌ تريد إخفاءه‌ عنّي‌؟! أتريد أن‌ أُنزل‌ الامر الفلاني‌ّ من‌ السماء الرابعة‌ فأضعه‌ الآن‌ نصب‌ عينيك‌؟!

 وعلي‌ كلّ حال‌، فقد تشرّفنا في‌ تلك‌ الاثناء لمدّة‌ عشرة‌ أيّام‌ بالذهاب‌ إلي‌ الكاظميّة‌ وسامرّاء في‌ سيّارة‌ بعض‌ الرفقاء من‌ أهالي‌ الكاظميّة‌، وذلك‌ في‌ معيّة‌ سماحة‌ الحاجّ السيّد هاشم‌ والحاجّ محمّد علي‌ خلف‌ زاده‌، حيث‌ عدنا إلي‌ الكاظميّة‌ بعد زيارة‌ البقعة‌ المباركة‌ لسامرّاء، فحللنا ضيوفاً في‌ منزل‌ ذلك‌ الرفيق‌ والصديق‌ صاحب‌ السيّارة‌: الحاجّ أبو أحمد عبد الجليل‌ محيي‌. وكان‌ الرفقاء من‌ بغداد والكاظميّة‌، ومن‌ بينهم‌ سماحة‌ آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد هادي‌ التبريزي‌ّ يأتون‌ في‌ الليالي‌ إلي‌ محضر السيّد ثمّ يعودون‌ إلي‌ منازلهم‌ بعد ساعة‌ من‌ الاستفادة‌ من‌ محضره‌ بعد تناول‌ طعام‌ العشاء.

 وكانت‌ الموائد في‌ هذه‌ الضيافات‌ تحوي‌ أنواع‌ الاطعمة‌ اللذيذة‌ من‌ الدجاج‌ والسمك‌ ومشهِّياتها، لكنّ السيّد كان‌ يكتفي‌ بلُقيمات‌ من‌ الخبز وورق‌ الفجل‌ ممّا هو أمامه‌ علي‌ المائدة‌، ولم‌ يجرؤ أحد ـ بعد أن‌ اطّلعوا علي‌ حاله‌ علي‌ مجاملته‌ ودعوته‌ لاكل‌ ما لذَّ وطاب‌؛ وكان‌ الرفقاء يتفرّقون‌ بعد العشاء مباشرة‌.

 وكان‌ السيّد يستيقظ‌ بعد نومه‌ بساعتين‌ أو ثلاث‌ فينشغل‌ بنفسه‌ إلي‌ طلوع‌ الفجر، ثمّ يتشرّف‌ بعد أداء الفريضة‌ إلي‌ الحرم‌ مشياً علي‌ الاقدام‌ مع‌ أنّ المسافة‌ لم‌ تكن‌ يسيرة‌، فقد كان‌ منزل‌ الحاجّ عبد الجليل‌ يقع‌ في‌ أوائل‌ شارع‌ مسجد براثا وهو من‌ النواحي‌ الجديدة‌ الملحقة‌ بالكاظميّة‌.

 ولم‌ تحوِ هذه‌ المجالس‌ شيئاً غير ذكر الله‌ والمطالب‌ التوحيديّة‌، ولم‌ يكن‌ الكلام‌ ليدور في‌ مجالس‌ السيّد عموماً عن‌ الدنيا وأوضاعها وعن‌ العمل‌ والكسب‌، فما كان‌ هناك‌ هو التوحيد لا شي‌ء سواه‌.

 ثمّ إنّنا عدنا بعد إتمام‌ فترة‌ السفر بسيّارة‌ المضيِّف‌ تلك‌ إلي‌ كربلاء المقدّسة‌ في‌ معيّة‌ السيّد الحدّاد.

 نعم‌، لقد كان‌ سفري‌ هذا بعد سفر السيّد إلي‌ بيت‌ الله‌ الحرام‌، فقد حجّ في‌ شهر ذي‌ الحجّة‌ الحرام‌ 1384 ه. ق‌، ثمّ تشرّف‌ الحقير في‌ شهرَي‌ رجب‌ وشعبان‌ بالذهاب‌ إلي‌ أعتابه‌ المباركة‌، لذا فقد كانت‌ معظم‌ أسئلة‌ الحقير للسيّد حول‌ سفره‌ إلي‌ الحجّ، كما أ نّه‌ كان‌ يتطوّع‌ بذكر بعض‌ الاُمور عن‌ سفره‌.

 وكان‌ من‌ جملة‌ الاسئلة‌: كيف‌ قُمتم‌ بأعمال‌ الحجّ؟ وكيف‌ طُفتم‌؟ وكيف‌ بدأتم‌ من‌ الحجر الاسود وعددتم‌ الاشواط‌ السبعة‌؟ وهكذا الامر في‌ باقي‌ الاعمال‌ مع‌ الحال‌ والوضع‌ الذي‌ تمتلكونه‌ بحيث‌ تنسون‌ معه‌ بعض‌ ضروريّات‌ الحياة‌ ويعسر عليكم‌ معه‌ الحساب‌ والعدد، ولا تميّزون‌ معه‌ اليد اليمني‌ عن‌ اليسري‌؟!

 أجاب‌: كان‌ ذلك‌ يتّضح‌ لي‌ تلقائيّاً فيكون‌ عملي‌ تبعاً له‌. فقد دخلتُ المسجد الحرام‌ مثلاً فعرفت‌ ركن‌ الحجر الاسود بدون‌ أن‌ يدلّني‌ عليه‌ أحد، وعلمت‌ أ نّه‌ ينبغي‌ أن‌ أبدأ الطواف‌ منه‌، فبدأتُ من‌ هناك‌، وبدون‌ أن‌ أعدّ الاشواط‌، فقد كان‌ كلّ شوط‌ مشخّصاً لي‌، ثمّ انتهي‌ الطواف‌ تلقائيّاً في‌ الشوط‌ الاخير فخرجتُ من‌ المطاف‌. وهكذا الامر في‌ محلّ الصلاة‌ خلف‌ مقام‌ النبي‌ّ إبراهيم‌ علي‌ نبيِّنا وآله‌ وعليه‌ السلام‌، وهكذا الامر في‌ السعي‌ والتقصير.

 وقال‌: لقد كنتُ وجميع‌ الرفقاء الذين‌ سافرتُ بمعيّتهم‌ نقضي‌ أغلب‌ أوقاتنا ليلاً ونهاراً في‌ المسجد الحرام‌، وكان‌ منظر الطواف‌ وبيت‌ الله‌ الحرام‌ قد شدّني‌ إليه‌ وأعجبني‌ كثيراً وقد بقيت‌ مشغوفاً به‌.

 وكان‌ مسجد الخَيف‌ في‌ أرض‌ مني‌ هو الآخر مثيراً للإعجاب‌، وكنّا نقضي‌ أغلب‌ أوقاتنا في‌ أيّام‌ التشريق‌ هناك‌، وكانت‌ قصّة‌ التوحيد تتجلّي‌ في‌ جميع‌ مظاهر الحجّ وأعماله‌، وخاصّة‌ في‌ المسجد الحرام‌ ومسجد الخيف‌.

الرجوع الي الفهرس

ورود آية‌ الله‌ الزنجاني‌ّ الفهري‌ّ في‌ مسجد الخيف‌ ولقاؤه‌ بالسيّد الحدّاد

 ثمّ قال‌: دخلتُ ليلة‌ مع‌ الرفقاء إلي‌ مسجد الخيف‌ فرأيت‌ الحاجّ السيّد أحمد الزنجاني‌ّ [44] مع‌ جميع‌ الرفقاء الطهرانيّين‌ والإيرانيّين‌ جالسين‌ حول‌ بعضهم‌، وكان‌ متأثّراً جدّاً من‌ وضع‌ طهارة‌ ونجاسة‌ الحجّاج‌ والمعابر ويبدو أ نّه‌ كان‌ قد نضح‌ علي‌ ملابسه‌ بعض‌ تلك‌ المياه‌ عند دخوله‌ إلي‌ مسجد الخيف‌، فكان‌ متأثّراً ومنقلب‌ الحال‌ إلي‌ حدّ كبير؛ وكان‌ يقول‌: يا الله‌، يا إلهي‌! نريد أن‌ نصلّي‌ ركعتين‌ في‌ مسجدك‌ علي‌ طهارة‌، فانظر هل‌ يدعنا هؤلاء الناس‌ وهؤلاء القوم‌ نفعل‌ ذلك‌ بهذا الوضع‌ وهذه‌ الكيفيّة‌؟!

 فنهرتُه‌ وقلتُ: لقد ذهب‌ أحد المريدين‌ من‌ عند أُستاذه‌ إلي‌ أحد الاجلاّء، فقال‌ له‌ ذلك‌ الرجل‌ الجليل‌: ما علّمكم‌ أُستاذكم‌؟!

 قال‌ المريد: علمنا أُستاذنا الالتزام‌ بالطاعات‌ وترك‌ الذنوب‌.

 فقال‌ ذلك‌ الرجل‌ الجليل‌: تلك‌ مجوسيّة‌ محضة‌؛ هلاّ أمركم‌ بالتبتّل‌ إلي‌ الله‌ والتوجّه‌ إليه‌ برفض‌ ما سواه‌؟!

 فيا سيّدي‌! لماذا تُغيِّرون‌ دين‌ الله‌؟ ولِمَ تُدخلون‌ الشريعة‌ في‌ المتاهات‌ والتعقيدات‌؟ لماذا تقطعون‌ الناس‌ عن‌ الله‌ حين‌ تسوقونهم‌ إلي‌ أعمالهم‌ دون‌ التوجّه‌ إليه‌ سبحانه‌؟

 أوَ لم‌ يكن‌ دين‌ رسول‌ الله‌ دين‌ السهولة‌ واليسر؟! أو لم‌ يقل‌: بُعِثْتُ عَلَي‌ شَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ سَهْلَةٍ؟!

 أوَ لم‌ يقل‌ رسول‌ الله‌ والائمّة‌ إنّ كلّ شي‌ء (بأي‌ّ شكل‌ وفي‌ أي‌ّ زمان‌ ومكان‌) لك‌ طاهر حتّي‌ تعلم‌ يقيناً أ نّه‌ نجس‌؟!

 فلِمَ تعكسون‌ الامر فتقولون‌: كلّ شي‌ء نجس‌ حتّي‌ تعلم‌ طهارته‌ يقيناً؟!

 لِمَ لا تَدَعون‌ الناس‌ وشأنهم‌؟ لماذا لا تَدَعون‌ الناس‌ مع‌ نبيّهم‌ ودينهم‌ السهل‌ السمح‌؟ ولِمَ تغلقون‌ عليهم‌ سبيل‌ التوجّه‌ والانقطاع‌ إلي‌ الله‌؟ ولِمَ تقفلون‌ هذا الباب‌ المُشرع‌؟

 إنّ علي‌ كلّ الناس‌ حين‌ يحجّون‌، منذ إحرامهم‌ في‌ الميقات‌ حتّي‌ تقصيرهم‌ وتقديمهم‌ الهَدْي‌ وإحلالهم‌ من‌ الإحرام‌، أن‌ يكون‌ توجّههم‌ والتفاتهم‌ إلي‌ الله‌ سبحانه‌، وعليهم‌ أن‌ لا يروا إلاّ الله‌ ولا يسمعوا غيره‌، وأن‌ لا يغفلوا عن‌ ذكر الله‌ لحظة‌ واحدة‌، وأن‌ لا ينظروا إلي‌ أعمالهم‌ وسلوكهم‌ نظراً استقلاليّاً، وأن‌ يكون‌ الله‌ تعالي‌ ـ لا العمل‌ نفسه‌ هو المقصود في‌ جميع‌ الواجبات‌ المنجزة‌ من‌ طواف‌ وصلاة‌ وغيرها. لابدّ أن‌ يكون‌ الفكر والنيّة‌ متّجهَينِ إلي‌ الله‌ سبحانه‌، لا إلي‌ صحّة‌ العمل‌ أو بطلانه‌؛ فهذه‌ هي‌ تلك‌ المجوسيّة‌ المحضة‌ التي‌ تخفي‌ الإله‌ الواحد وتبدّله‌ بإلهَينِ للعمل‌ الصالح‌ والعمل‌ السيّي‌.

 إنّكم‌ تفصلون‌ هؤلاء المساكين‌ عن‌ الله‌ من‌ الميقات‌ إلي‌ حين‌ خروجهم‌ من‌ الإحرام‌، وتثيرون‌ التشويشات‌ من‌ وقت‌ الإحرام‌ بتحذيراتكم‌ المتتالية‌: ينبغي‌ الحذر لئلاّ يرشح‌ شي‌ء إلي‌ بدني‌ وإلي‌ إحرامي‌، ولئلاّ ينحرف‌ كتفي‌ عن‌ البيت‌ ولئلاّ أخرج‌ من‌ المطاف‌ حال‌ الطواف‌، ولئلاّ تبطل‌ صلاتي‌ أو يبطل‌ طواف‌ النساء الذي‌ أطوفه‌ فتصبح‌ زوجتي‌ عَلَي‌ّ حراماً! إذ لم‌ يرد شي‌ء من‌ هذه‌ الاُمور في‌ الشريعة‌. هذه‌ الصلاة‌ العاديّة‌ التي‌ يصليها الناس‌ صحيحة‌ وطوافهم‌ صحيح‌، وها أنتم‌ تبطلونها وتدمغونها بختم‌ البطلان‌! وها أنتم‌ تعدّون‌ نضح‌ هذه‌ المياه‌ المشكوكة‌ نجساً!

 إنّ حجّ الناس‌ سيضيع‌ كلّيّاً في‌ هذه‌ الحال‌، أي‌ أنّ الحاجّ الذي‌ ينبغي‌ أن‌ يكون‌ علي‌ الدوام‌ مع‌ الله‌ سبحانه‌ ابتداءً من‌ الميقات‌ إلي‌ نهاية‌ حجّه‌ وعمله‌ ثمّ يخرج‌ بالتقصير والحَلْق‌ بالانقطاع‌ إلي‌ الله‌ والإحرام‌ مع‌ الله‌؛ هذا الحاجّ سينصرف‌ عن‌ الله‌ من‌ ابتداء الإحرام‌ وسيبقي‌ هذا الانصراف‌ والتشويش‌ والتزلزل‌ لديه‌ إلي‌ نهاية‌ العمل‌، وحين‌ سينتهي‌ من‌ عمله‌ سيتنفّس‌ الصعداء وسيجد الله‌ من‌ جديد.

 إنّ جميع‌ الاحتياطات‌ التي‌ تُجري‌ في‌ هذه‌ الموارد وتستدعي‌ التوجّه‌ إلي‌ نفس‌ العمل‌ والغفلة‌ عن‌ الله‌ سبحانه‌ خاطئة‌ بأجمعها، فأين‌ ورد أمثال‌ هذه‌ الاحتياطات‌ المسبِّبة‌ للعسر والحَرَج‌ في‌ شريعة‌ رسول‌ الله‌ وفي‌ زمنه‌؟ إنّ الاصل‌ والاساس‌ الاوّل‌ هو أصل‌ عدم‌ العسر وعدم‌ الحَرَج‌ وعدم‌ الضرر؛ أصلنا الاوّل‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً [45](أي‌ تنصّل‌ واقطع‌ علاقتك‌ تماماً مع‌ الجميع‌ واتّجه‌ إلي‌ الله‌).

الرجوع الي الفهرس

الالتزام‌ بالطاعات‌ واجتناب‌ المعاصي‌ دون‌ التوجّه‌ إلي‌ الله‌ مجوسيّةً

 إن‌ الاحتياط‌ الذي‌ كان‌ المرحوم‌ القاضي‌ قدّس‌ الله‌ سرّه‌ قد جعله‌ برنامج‌ عمل‌ لجميع‌ تلامذته‌، والوارد ضمن‌ حديث‌ عنوان‌ البصري‌ّ: وَخُذْ بِالاِحْتِيَاطِ فِي‌ جَمِيعِ مَا تَجِدُ إلَيْهِ سَبِيلاً[46]، قد قُصِدَ به‌ العمل‌ الذي‌ يفتح‌ الطريق‌ أمام‌ الإنسان‌ إلي‌ الله‌، لا أن‌ يُسبِّب‌ سدّ الطريق‌ ويسلبه‌ سبيل‌ التوجّه‌ والابتهال‌ وحضور القلب‌. المقصود هو العمل‌ الذي‌ يجلب‌ اليقين‌ للمؤمن‌ ويجعله‌ مستحكماً في‌ إيمانه‌، لا الذي‌ يزلزله‌ ويشوّشه‌ ويملؤه‌ اضطراباً، ويجسِّم‌ لديه‌ بيت‌ الله‌ الحرام‌ كبيتٍ للعقاب‌، ويصوِّر له‌ حجّ هذا البيت‌ كعمل‌ إجباري‌ّ اضطراري‌ّ يؤدّيه‌ خوفاً من‌ العقاب‌؛ فهذه‌ أُمور تصدر من‌ جهة‌ الشيطان‌ الخبيث‌، وهي‌ نفس‌ المجوسيّة‌ المحضة‌.

 إنّ جميع‌ أطعمة‌ وأشربة‌ المسافرين‌ والفنادق‌ حلال‌ وطاهرة‌، وجميع‌ المياه‌ الناضحة‌ والراشحة‌ من‌ الميازيب‌ وقنوات‌ المياه‌ طاهرة‌ إلاّ حين‌ تُعلم‌ نجاستها وتُحرز. فانهض‌ يا سيّدي‌ بهذه‌ المياه‌ التي‌ نضحت‌ عليك‌ وأدِّ صلاتك‌؛ فإنّ تصوّر النجاسة‌ وعدم‌ الطهارة‌ لديك‌ من‌ تسويلات‌ الشيطان‌ بلا شكّ، فهو يريد حرمان‌ الإنسان‌ من‌ فيض‌ الصلاة‌ العظيم‌ ومن‌ المبيت‌ والدعاء في‌ هذا المسجد الشريف‌.

الرجوع الي الفهرس

حقيقة‌ رمي‌ جمرة‌ العقبة‌، وتجلّي‌ عظمة‌ الزهراء عليها السلام‌ لسماحة‌ الحدّاد

 وقال‌ سماحة‌ السيّد الحدّاد: لقد كان‌ رمي‌ جمرةِ العَقَبة‌ أمراً شغفني‌ وأدهشـني‌، وذلك‌ لانّ الإنسـان‌ يقف‌ في‌ رمي‌ الجمـرة‌ الاُولي‌ والجمـرة‌ الوسطي‌ مستقبلاً القبلة‌ فيرميهما، أي‌ أنّ الإنسان‌ يرمي‌ الشيطان‌ ويطرده‌ باستقبال‌ الكعبة‌ والتوجّه‌ إليها؛ أمّا في‌ جمرة‌ العقبة‌ فيجب‌ علي‌ الإنسان‌ أن‌ يستدبر القبلة‌ ويرمي‌، فما معني‌ ذلك‌؟ معناه‌ عين‌ التوحيد. أي‌ أنّ تلك‌ الكعبة‌ التي‌ كنتُ حتّي‌ الآن‌ متوجّهاً إليها بهذه‌ النفس‌، قد جعلتُها الآن‌ خلف‌ ظهري‌ وأُريد رمي‌ الشيطان‌ بالتفاتي‌ إلي‌ أصل‌ التوحيد الذي‌ ليس‌ له‌ جهة‌ معيّنة‌، وبنفسٍ خرجت‌ عن‌ تلك‌ النفس‌ فلا تلتفت‌ إلي‌ تلك‌ الجهة‌.

 ومن‌ ثمّ فإنّ حقيقة‌ هذا الرمي‌ تتبدّل‌ أيضاً، فهذه‌ رمية‌ أنزه‌ من‌ تينك‌ الرميتينِ وأكثر صفاءً. ولربّما كان‌ سرّ تعدّد الرميات‌ هو تعدّد حقيقتها وواقعيّتها وليس‌ الامر التكراري‌ّ.

 وكان‌ السيّد يتحدّث‌ عن‌ مجمل‌ حالاته‌ في‌ المدينة‌ الطيّبة‌ فيقول‌: لقد غمرتني‌ عظمة‌ الزهراء سلام‌ الله‌ عليها في‌ منزلها وفي‌ مسجد النبي‌ّ، وخاصّةً في‌ مسجد الرسول‌؛ حيث‌ كانت‌ عظمتها متجلّية‌ بشكل‌ كأنّ جميع‌ مقام‌ النبوّة‌ بجميع‌ خصوصيّاته‌ وجميع‌ مدارجه‌ ومعارجه‌ وجميع‌ درجاته‌ ورُتبه‌ كان‌ متجلّياً فيها سلام‌ الله‌ عليها. ولقد كانت‌ بضعة‌ رسول‌ الله‌ تلك‌ سرَّ رسول‌ الله‌ وحقيقته‌ وجوهره‌، لم‌ يخلق‌ الله‌ تعالي‌ كمثلها موجوداً حاملاً وضامناً لهذا السرّ، هو في‌ مقام‌ الوحدة‌ عين‌ رسول‌ الله‌.

 وإجمالاً، فقد أدّي‌ الحقير بمعيّة‌ السيّد هاشم‌ زيارة‌ النصف‌ من‌ شعبان‌، ثمّ تحرّكت‌ صوب‌ طهران‌ فوردتها يوم‌ الثامن‌ عشر، حيث‌ توفّيت‌ الوالدة‌ رحمة‌ الله‌ عليها بعد ذلك‌ بعشرة‌ أيّام‌، أي‌ في‌ الثامن‌ والعشرين‌ من‌ شهر شعبان‌ المعظّم‌ لسنة‌ 1385 ه. ق‌ أثر مرض‌ القلب‌ والصدر الذي‌ ابتُلِيَتْ به‌ لمدّة‌ طويلة‌.

 وكان‌ الحقير قد دعا السيّد الحدّاد في‌ مناسبات‌ عديدة‌ للمجي‌ء إلي‌ إيران‌ وزيارة‌ ثامن‌ الحجج‌ عليه‌ السلام‌، وقد أكّدتُ علي‌ ذلك‌ في‌ هذا السفر أيضاً، لذا فقد عقد السيّد العزم‌ علي‌ السفر إلي‌ إيران‌.

الرجوع الي الفهرس

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[37] أورد في‌ «نهج‌ الفصاحة‌» لابي‌ القاسم‌ باينده‌، ص‌ 622، الحديث‌ 3062، طبعة‌ انتشارات‌ جاويدان‌، سنة‌ 1367 ه؛ وفي‌ «وهج‌ الفصاحة‌» لعلاء الدين‌ الاعلمي‌ّ، ص‌ 594، الحديث‌ 2977، الطبعة‌ الاُولي‌ من‌ منشورات‌ مؤسّسة‌ الاعلمي‌ّ، بيروت‌، 1408، من‌ كلمات‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌، قال‌: مَنْ طَلَبَ شَيْئاً وَجَدَّ وَجَدَ. وأورد في‌ «نهج‌ الفصاحة‌» ص‌ 622، الحديث‌ 3065؛ وفي‌ «وهج‌ الفصاحة‌» ص‌ 602، الحديث‌ 3080، أ نّه‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ قال‌: مَنْ يُدِمْ قَرْعَ البَابِ يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ.

[38] ـ الآيتان‌ 1 و 2، من‌ السورة‌ 22: الحجّ.

[39] ـ وهو سماحة‌ ثقة‌ الاءسلام‌ العالم‌ المعروف‌ وصديقنا العزيز المتوفّي‌: السيّد عبد الله‌ الفاطمي‌ّ الشيرازي‌ّ رضوان‌ الله‌ عليه‌.

[40] كان‌ عمر الحاجّ الشيخ‌ عبّاس‌ يزيد كثيراً علي‌ عمر آية‌ الله‌ الخميني‌ّ وآية‌ الله‌ الگلبايگاني‌، وكان‌ يقول‌: في‌ الوقت‌ الذي‌ كنت‌ أنا والحاجّ السيّد أحمد الخونساري‌ّ والحاجّ الشيخ‌ محمّد علي‌ الاراكي‌ّ نذهب‌ إلي‌ درس‌ الحاجّ الشيخ‌ عبد الكريم‌ الحائري‌ّ، كان‌ آية‌ الله‌ الگلبايگاني‌ّ وآية‌ الله‌ الخميني‌ّ يدرسان‌ «المطوّل‌». وكان‌ يقول‌: رأيتُ في‌ النوم‌ ذات‌ ليلة‌ أ نّي‌ ذهبت‌ إلي‌ وليمة‌، فلمّا أمسكت‌ بلقمة‌ رأيت‌ السيّد الگلبايگاني‌ّ قد أسرع‌ فأخذها وتناولها. ثمّ قال‌ بعد ذلك‌: وتأويل‌ ذلك‌ أ نّه‌ سيصبح‌ مرجعاً. وكان‌ اسم‌ والد آية‌ الله‌ الحاجّ الشيخ‌ عبّاس‌ الطهراني‌ّ: الحاجّ محمّد السيگاري‌ّ.

 ويلزم‌ هنا بيان‌ تفسير رؤياه‌ وتوضيحه‌ لئلاّ يتصوّر بعض‌ من‌ غير ذوي‌ المعرفة‌ أنّ هدف‌ مرجعيّة‌ الشيعة‌ التي‌ تمثّل‌ النيابة‌ الحقّة‌ عن‌ مقام‌ الاءمامة‌، هو الوصول‌ إلي‌ زخارف‌ الدنيا والتمتّع‌ باللذائذ الحيوانيّة‌، بل‌ إنّ الامر علي‌ العكس‌ من‌ ذلك‌ تماماً، وليس‌ للمراجع‌ الحقّة‌ الشيعيّة‌ إلاّ تحمّل‌ ثقل‌ المشكلات‌ والصعوبات‌ والاذي‌. كلّ ذلك‌ إبقاءً للشريعة‌ الحقّة‌ منزّهة‌ عن‌ تلاعب‌ أيدي‌ الاجانب‌ والمخالفين‌، ولتربية‌ تلامذة‌ حقيقيّين‌ وواقعيّين‌ للنهج‌ الجعفري‌ّ ولاءحياء علوم‌ التشيّع‌ وآدابه‌ عند الشيعة‌.

 ولقد كان‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌ الحاجّ الشيخ‌ عبّاس‌ الطهراني‌ّ سالكاً ومراقباً لنفسه‌، فهذه‌ النِّعَم‌ الدنيويّة‌ واللذائذ المادّيّة‌ والشهويّة‌ تتجسّم‌ للسالكين‌ في‌ طريق‌ الله‌ في‌ عالم‌ النوم‌ والرؤيا بشكل‌ آخر، وهكذا الامر بالنسبة‌ للنِّعَم‌ المعنويّة‌ والروحيّة‌ ونِعم‌ الجنّة‌ التي‌ تتجلّي‌ لهم‌ بصورة‌ أُخري‌ غير تلك‌ التي‌ يراها الناس‌ العاديّين‌ في‌ منامهم‌. وبعبارة‌ أُخري‌ فإنّ تعبير رؤيا السالكين‌ يختلف‌ عن‌ تعبير نفس‌ الرؤيا لغير السالكين‌. فالسالك‌ يطوي‌ الطريق‌ إلي‌ الله‌، وهذا الطريق‌ عبارة‌ عن‌ العبور من‌ النفس‌ الامّارة‌ وترك‌ المشتهيات‌ المادّيّة‌ واللذائذ الشهويّة‌ للّه‌ وفي‌ الله‌. وترك‌ هذه‌ الاُمور ـ الذي‌ عين‌ أعمال‌ التقرّب‌ إلي‌ الله‌ يتمثّل‌ للسالك‌ في‌ النوم‌ بصورة‌ طعام‌ لذيذ وفاكهة‌ حلوة‌ وبشكل‌ روضة‌ وبُستان‌ وحشائش‌ خضراء وماء صاف‌ زلال‌.

 أي‌ أنّ السالك‌ حين‌ يمتنع‌ اليوم‌ ـ مثلاً عن‌ تناول‌ تفّاحة‌ فيعطيها ليتيم‌، يري‌ في‌ رؤياه‌ أ نّه‌ منهمك‌ بتناول‌ تفّاحة‌ كبيرة‌ ذات‌ لون‌ ومذاق‌ لطيف‌، وإذا ما قدّم‌ السالك‌ أحياناً لذّة‌ نفسه‌ فإنّه‌ يري‌ تلك‌ الليلة‌ كأنّ عقرباً تلسعه‌. لذا فإنّ رؤيا المريدين‌ والسالكين‌ إلي‌ الله‌ هي‌ بأجمعها رؤيا جميلة‌ مفرحة‌ ومُبهجة‌، علي‌ الرغم‌ من‌ ابتلائهم‌ في‌ الدنيا بأشدّ أنواع‌ الفقر والمسكنة‌ وتحمّلهم‌ لاقسي‌ أذي‌ الناس‌.

 ويستبين‌ بهذا التوضيح‌ المختصر الذي‌ قُدّم‌ هنا أنّ مائدة‌ طعام‌ الوليمة‌ التي‌ حضرها الحاجّ الشيخ‌ عبّاس‌ والسيّد الگلبايگاني‌ّ كانت‌ مائدة‌ معنويّة‌ ومائدة‌ من‌ الجنّة‌، أي‌ أ نّها جزاء وثواب‌ المرارات‌ وتحمّل‌ المشاكل‌ في‌ الدنيا في‌ سبيل‌ الله‌، حيث‌ توفّي‌ الحاجّ الشيخ‌ عبّاس‌ قبل‌ ثلاثين‌ سنة‌ فلم‌ يصبح‌ مرجعاً، ويتفضّل‌ الله‌ علي‌ السيّد الگلبايگاني‌ّ بطول‌ العمر لينهض‌ بهذا العب‌ء. ولقد كانت‌ أتعاب‌ آية‌ الله‌ الگلبايگاني‌ّ لاءبقاء الحوزة‌ المقدّسة‌ العلميّة‌ في‌ قم‌ والحفاظ‌ عليها أتعاباً تستحقّ التقدير، ولقد بيّن‌ بنفسه‌ للحقير بعضها قبل‌ عصر الثورة‌ وبعده‌ في‌ مجلس‌ لم‌ يضمّ سوانا نحن‌ الاثنين‌.

 وقد قام‌ الحقير بتدوين‌ بعضها في‌ كتاباتي‌ الشخصيّة‌. إنّ نفس‌ آية‌ الله‌ الگلبايگاني‌ّ تمتاز بالصفاء والتأ لّق‌ إلي‌ حد كبير، فهو حين‌ يشخّص‌ الحقّ يبقي‌ عليه‌ فلا يتجاوزه‌ أو يتعدّاه‌. أبقاه‌ الله‌ وأيّده‌ ذخراً للاءسلام‌ والمسلمين‌ وعافاه‌ الله‌ من‌ مرضه‌ بمحمّد وآله‌ الطيّبين‌.

 (41)رسالة‌ الشيخ‌ عبّاس‌ الطهراني‌ّ للحقير واستعانته‌ بآية‌ الله‌ الگلبايگاني‌ّ

 ترجمة‌ الرسالة‌: باسمه‌ تعالي‌

 يا إنسان‌ العين‌ وعين‌ الاءنسان‌، ويا قرّة‌ عيني‌ وثمرة‌ فؤادي‌! عزيزي‌، إنّ عدم‌ استحقاق‌ الحقير الغارق‌ في‌ التقصير لما أظهرتموه‌ كتابةً وغياباً كان‌ ملاك‌ تأخير الرسالة‌، ولقد صار في‌ الحقيقة‌ حجاباً للحقير ومانعاً من‌ إبداء الجواب‌ وبيان‌ المودّة‌ والاءخلاص‌.

 فتأمّل‌ في‌ أطوار النفس‌ واستعذ بالله‌ تعالي‌ من‌ شرّها واقرأ إحدي‌ المناجاة‌ المسمّاة‌ بخمسة‌ عشر المبدوّة‌ بهذه‌ الكلمات‌: اللَهُمَّ إلَيْكَ أَشْكُو نَفْساً بِالسُّوءِ أَمَّارَةً إلي‌ آخرها، في‌ خلواتك‌ مع‌ كمال‌ الانكسار أعاذنا الله‌ من‌ مكائدها وأطوارها.

 وإجمالاً، بلِّغْ خالص‌ سلامي‌ إلي‌ المحضر المقدّس‌ لسماحة‌ آية‌ الله‌ الگلبايگاني‌ّ دامت‌ بركاته‌ وقل‌ له‌ علي‌ لسان‌ الحقير: لمْ أنسَ كلمة‌ تفضّلتم‌ بها أثناء تحرّككم‌ من‌ النجف‌ خارج‌ المدينة‌ وقت‌ التوديـع‌، قُلتم‌: أثملتَ من‌ كأسٍ واحـدة‌! فيا سـيّدي‌! ليتني‌ كنتُ رشفت‌ كأساً واحدة‌!

 مجلس‌ تمام‌ گشت‌ و به‌ آخر رسيد عمر ما همچنان‌ به‌ اول‌ وصلش‌ هم‌ نرسيده‌ايم‌

 حيران‌ شدم‌ حيران‌ شدم‌ مجنون‌ و سرگردان‌ شدم‌ از هر رهي‌ گويد بيا دنبال‌ من‌، دنبال‌ من‌

 چون‌ مي‌روم‌ دنبال‌ او، ني‌ زو خبر، ني‌ زو اثر از هر دري‌ گويد بيا كاينجا منم‌، كاينجا منم‌

 چون‌ سوي‌ آن‌ در مي‌روم‌، بينم‌ كه‌ گردد بسته‌ در

 يقول‌: «لقد انتهي‌ المجلس‌ وبلغ‌ العمر آخره‌، لكنّنا لم‌ نحظَ بعدُ بأول‌ وصاله‌.

 صرتُ حائراً، حائراً ومجنوناً والهاً، فهو يناديني‌ من‌ كلّ صوب‌: تعال‌ واتبعني‌ واتبعني‌.

 وحين‌ أتبعه‌ أجد أن‌ لا أثر منه‌ ولا خبر؛ يقول‌ من‌ كلّ باب‌: تعال‌ ها أناذا، ها أناذا.

 وحين‌ أخطو صوب‌ ذلك‌ الباب‌ أراه‌ قد أغلق‌».

 إنّ الله‌ خِلوٌ عن‌ خلقه‌ ـ إلي‌ آخره‌، بائن‌ عن‌ خلقه‌ ـ إلي‌ آخره‌.

 يا ربّ اين‌ ترك‌ پري‌ چهره‌ عجب‌ عيّاري‌ است‌ كه‌ كند تازه‌ ز وصلش‌ غم‌ هجران‌ مرا

 يقول‌: «فيا ربّ عجباً من‌ هذا التركي‌ّ ذي‌ القسمات‌ الملائكيّة‌، كم‌ هو حاذق‌ حين‌ يجعل‌ أوّلَ وصاله‌ الخوفَ من‌ هجرانه‌».

 تبدو وتخفي‌! إذن‌ فالوصل‌ محال‌، وهجرانه‌ خيال‌.

 قولوا له‌: سيّدي‌! أُقسم‌ عليك‌ بحقّ جدّتك‌ الزهراء المرضيّة‌ سلام‌ الله‌ عليها أن‌ تعينني‌!

 لم‌ يكن‌ المنزل‌ بعيداً في‌ السفر الروحاني‌ّ. بل‌ إنّ العمر بلغ‌ منتهاه‌، وها هي‌ شمسه‌ تودّع‌ شرفات‌ السطوح‌؛ يَا حَسْرَتَا عَلَي‌ مَا فَرَّطْتُ فِي‌ جَنْبِ اللَهِ.

 پهلوي‌ آب‌ و تشنه‌ لب‌ از روي‌ اختيار در جنب‌ يار و منصرف‌ از بوس‌ و از كنار

 يا ربّ مباد كس‌ چو من‌ خستة‌ فكار غرق‌ وصال‌، سوخته‌ جان‌ از فراق‌ يار

 يقول‌: «أجلسُ عند الماء بشفةٍ ظمأي‌ اختياراً، وأكونُ قرب‌ الحبيب‌ فأعرض‌ عن‌ التقبيل‌ والخلوة‌.

 فعسي‌ أن‌ لا يكون‌ هناك‌ ـ يا ربّ ـ أحدٌ مثلي‌ هدّه‌ الفكر، غارقاً في‌ الوصال‌ محترقَ الروح‌ من‌ فراق‌ الحبيب‌».

 ومع‌ خوفي‌ من‌ أن‌ لا يكون‌ لذلك‌ السيّد الجليل‌ تلك‌ العنايات‌ السابقة‌ لغلبة‌ الاحكام‌ الظاهريّة‌، وأن‌ يكون‌ قد انشغل‌ بمقام‌ الاحوط‌ فالاحوط‌، وأن‌ يكون‌ أولاده‌ المحترمون‌ قد شغلوه‌؛ علي‌ أنّ مقام‌ «جمع‌ الجمع‌» يزيل‌ التنافي‌. فجميع‌ الوجود أَمْرٌ بَيْنَ الاَمْرَيْنِ.

 وعلي‌ أيّة‌ حال‌ أرجو الدعاء وأطلب‌ المعونة‌ والمدد، وأنتظر آثارها الغيبيّة‌ التلغرافيّة‌، وسأخبركم‌ بالنتيجة‌ إن‌ شاء الله‌ تعالي‌ (... إلي‌ آخر رسالته‌). الاحقر عبّاس‌ الطهراني‌ّ.

 وكذلك‌ فقد كتب‌ صهره‌ السيّد إبراهيم‌ ضمن‌ رسالته‌ للحقير في‌ النجف‌ الاشرف‌:

 گر چراغي‌ نور شمعي‌ را كشيد هر كه‌ ديد آن‌ نور را پس‌ شمع‌ ديد

 يقول‌: «لو رشف‌ المصباحُ نورَ الشمعة‌، فإنّ من‌ يري‌ ذلك‌ النور فقد رأي‌ الشمعة‌».

 وكتب‌ كذلك‌:

 دردا كه‌ در ديار دلم‌ درد يار نيست‌ و آن‌ دل‌ كه‌ درد يار ندارد ديار نيست‌

 يقول‌: «الغُصّة‌ في‌ أنّ ديار قلبي‌ خالية‌ من‌ ألم‌ الحبيب‌، فذاك‌ القلب‌ الذي‌ لا ألم‌ للحبيب‌ فيه‌ ليس‌ دياراً».

[42] نقل‌ في‌ «تفسير روح‌ البيان‌» في‌ تفسير آية‌ الكرسي‌، ج‌ 1، ص‌ 399، الطبعة‌ العثمانيّة‌، عدّة‌ أبيات‌ في‌ هذا المجال‌ عن‌ الملاّ الجامي‌ّ:

 گرچه‌ لا داشت‌ تيرگيّ عدم‌                 دارد إلاّ فروغ‌ نور قدم‌

 گر چه‌ لا داشت‌ كان‌ كفر و جحود                          هست‌ إلاّ كليد گنج‌ شهود

 چون‌ كند لا بساط‌ كثرت‌ طي                                ‌ دهد إلاّ ز جام‌ وحدت‌ مِيْ

 آن‌ رهاند زنقش‌ بيش‌ و كمت                               ‌ وين‌ رساند به‌ وحدت‌ قدمت‌

 تا نسازي‌ حجاب‌ كثرت‌ دور                   ندهد آفتاب‌ وحدت‌ نور

 دائم‌ آن‌ آفتاب‌ تابان‌ است                     ‌ از حجاب‌ تو از تو پنهان‌ است‌

 گر برون‌ آئي‌ از حجاب‌ توئي                  ‌ مرتفع‌ گردد از ميانه‌ دوئي‌

 در زمين‌ و زمان‌ و كون‌ و مكان‌                               همه‌ او بيني‌ آشكار و نهان‌

 يقول‌: «مع‌ أنّ «لا» كان‌ فيها ظلمة‌ العدم‌، لكنّ «إلاّ» لها سطوع‌ نور القِدَم‌.

 ومع‌ أنّ «لا» كانت‌ معدن‌ الكفر والجحود، فإنّ «إلاّ» مفتاح‌ كنز الشهود.

 وبينما تطوي‌ «لا» بساط‌ الكثرة‌، تسقي‌ «إلاّ» كأس‌ شراب‌ الوحدة‌.

 تلك‌ تُحرّرك‌ من‌ دور الزيادة‌ والنقصان‌، وهذه‌ تُوصلك‌ إلي‌ وحدة‌ القِدَم‌.

 فإن‌ لم‌ تُزحْ عنك‌ حجاب‌ الكثرة‌، فلن‌ تمنحك‌ شمس‌ الوحدة‌ نورها.

 فتلك‌ الشمس‌ ساطعة‌ علي‌ الدوام‌، ولكنّها مستورة‌ عنك‌ بحجابك‌.

 ولو خطوت‌ خارج‌ حجاب‌ أنانيّتك‌، لارتفعت‌ الثنويّة‌ من‌ البين‌.

 وستراه‌ حينئذٍ في‌ الارض‌ والزمان‌ والكون‌ والمكان‌، ظاهراً ومستتراً».

[43] ما أجمل‌ وأبلغ‌ ما أوفي‌ العارف‌ الجليل‌ الشيخ‌ محمود الشبستري‌ّ هذه‌ الحقيقة‌ حقّها حين‌ قال‌:

 سؤال‌:

 چـرا مـخـلـوق‌ را گـويـنـد واصـل‌؟                         سلوك‌ و سير او چون‌ گشت‌ حاصل‌؟

 جواب‌:

 وصال‌ حقّ ز خلقيّت‌ جدائيست                            ‌ زخود بيگانه‌ گشتن‌ آشنائي‌ است‌

 چو ممكن‌ گرد إمكان‌ برفشاند                                              بجز واجب‌ دگر چيزي‌ نماند

 وجود هر دو عالم‌ چون‌ خيال‌ است‌                       كه‌ در وقت‌ بقا عين‌ زوال‌ است‌

 نه‌ مخلوق‌ است‌ آن‌ كو گشت‌ واصل                     ‌ نگويد اين‌ سخن‌ را مرد كامل‌

 عدم‌ كي‌ راه‌ يابد اندرين‌ باب‌                                 چه‌ نسبت‌ خاك‌ را با ربّ ارباب‌؟

 عدم‌ چبود كه‌ با حقّ واصل‌ آيد                                             وزو سير و سلوكي‌ حاصل‌ آيد

 تو معدوم‌ و عدم‌ پيوسته‌ ساكن‌                           به‌ واجب‌ كي‌ رسد معدوم‌ ممكن‌؟

 اگر جانت‌ شود زين‌ معني‌ آگاه‌ ب                         گوئي‌ در زمان‌: أستغفرالله‌

 ندارد هيچ‌ جوهر بي‌ عرض‌ عين‌                          عرض‌ چبود و لايبقي‌ زمانَيْن‌

 حكيمي‌ كاندرين‌ فنّ كرد تصنيف‌                           به‌ طول‌ و عرض‌ و عمقش‌ كرد تعريف‌

 هيولا چيست‌ جز معدوم‌ مطلق                          ‌ كه‌ مي‌گردد بدو صورت‌ محقّق‌

 چه‌ صورت‌ بي‌هيولا در قدم‌ نيست                       ‌ هيولا نيز بي‌ او جز عدم‌ نيست‌

 شده‌ اجسام‌ عالم‌ زين‌ دو معدوم‌                        كه‌ جز معدوم‌ از ايشان‌ نيست‌ معلوم‌

 ببين‌ ماهيّتش‌ را بي‌كم‌ و بيش                            ‌ نه‌ موجود و نه‌ معدوم‌ است‌ در خويش‌

 نظر كن‌ در حقيقت‌ سوي‌ إمكان                           ‌ كه‌ او بي‌هستي‌ آمد عين‌ نقصان‌

 وجود اندر كمال‌ خويش‌ ساري‌ است‌                     تعيّن‌ها أُمور اعتباري‌ است‌

 أُمور اعتباري‌ نيست‌ موجود                                 عدد بسيار يك‌ چيز است‌ معدود

 جهان‌ را نيست‌ هستي‌ جز مجازي                      ‌ سراسر كار او لهو است‌ و بازي‌

 («گلشن‌ راز» خط‌ عماد أردبيلي‌، سنة‌ 1333، ص‌ 43 إلي‌ 45).

 سؤال‌:

 يقول‌: «لماذا يقال‌ للمخلوق‌ واصلاً؟ كيف‌ حصل‌ له‌ السير والسلوك‌؟ ».

 الجواب‌:

 يقول‌: «ذلك‌ لانّ وصال‌ الحقّ انفكاك‌ عن‌ الخلقة‌، والوصول‌ إلي‌ إنكار الذات‌ هو المعرفة‌.

 ولو نفض‌ الممكن‌ ذرّات‌ الاءمكان‌ وغباره‌، فلن‌ يبقي‌ شي‌ء إلاّ الواجب‌.

 إنّ وجود كلا العالمَينِ خيال‌، فهما في‌ بقائهما ليسا إلاّ محض‌ الزوال‌.

 وليس‌ مخلوقاً ذلك‌ الذي‌ تمكّن‌ من‌ الوصول‌، فهذا الكلام‌ لا يدّعيه‌ الرجل‌ الكامل‌.

 وأ نّي‌ للعدم‌ أن‌ يجد سبيلاً إلي‌ داخل‌ هذا الباب‌، وما نسبة‌ التراب‌ إلي‌ ربّ الارباب‌؟!

 وما هو العدم‌ حتّي‌ يصل‌ إلي‌ الحقّ، وليحصل‌ منه‌ السير والسلوك‌؟

 أنت‌ معدوم‌، والعدم‌ ساكن‌ علي‌ الدوام‌، فمتي‌ يصل‌ المعدوم‌ الممكن‌ إلي‌ الواجب‌؟!

 وإذا ما أيقنَتْ روحك‌ هذا المعني‌، فقل‌ علي‌ الفور: أستغفر الله‌!

 ليس‌ للجوهر الذي‌ لا عَرَض‌ له‌ عينيّة‌؛ وما العرض‌ حين‌ لا يبقي‌ زمانَينِ؟

 لقد عرّفه‌ الحكيم‌ الذي‌ صنّف‌ في‌ هذا الفنّ، بالطول‌ والعرض‌ والعمق‌.

 وليست‌ الهيولي‌ إلاّ المعدوم‌ المطلق‌، الذي‌ تتحقّق‌ الصورة‌ ببساطته‌.

 ذلك‌ لانّ الصورة‌ لا قِدَم‌ لها بلا هيولي‌، وكذا الهيولي‌ بدون‌ الصورة‌ ليست‌ إلاّ عدماً.

 صـارت‌ أجسـام‌ العالمين‌ معدومة‌ بسـبب‌ هـذين‌ الاثنين‌، وصـار لا يُعلم‌ منها إلاّ عدمها.

 فانظر ماهيّتها بلا زيادة‌ ولا نقصان‌، فهي‌ في‌ حدّ ذاتها لا موجودة‌ ولا معدومة‌.

 وانظر إلي‌ حقيقة‌ الاءمكان‌، فهو بلا وجود محض‌ النقصان‌.

 إنّ الوجود سارٍ في‌ ذات‌ كماله‌، أمّا التعيّنات‌ فهي‌ أُمور اعتباريّة‌.

 والاُمور الاعتباريّة‌ ليست‌ موجودة‌، كما أنّ الاعداد كثيرة‌ لكنّ المعدود واحد.

 وليس‌ للعالم‌ وجود إلاّ مجازاً، وليس‌ كلّ ما يدور فيه‌ إلاّ لهواً ولعباً».

[44] يقصد سماحة‌ آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد أحمد الفهري‌ّ الزنجاني‌ّ دامت‌ بركاته‌، وهو من‌ التلامذة‌ الاخيرين‌ للمرحوم‌ القاضي‌ ومن‌ مريدي‌ المرحوم‌ الشيخ‌ محمّد جواد الانصاري‌ّ، وهو رجل‌ فاضل‌ وعالم‌ فاهم‌ من‌ الساعين‌ في‌ ترويج‌ الدين‌. وقد انشـغل‌ بعد رجـوعه‌ من‌ النجف‌ مدّة‌ في‌ التدريس‌ وإقامة‌ الجماعة‌ وتبليغ‌ الاحكام‌ في‌ المسجد الجامع‌ لباختران‌، ثمّ في‌ طهران‌، ثمّ توجّه‌ في‌ زمن‌ الثورة‌ الاءسلاميّة‌ في‌ إيران‌ بطلب‌ من‌ القائد الكبير الفقيد إلي‌ دمشق‌ فاشتغل‌ بإقامة‌ الشعائر الدينيّة‌. وللحقير معه‌ علاقة‌ ومعرفة‌ وصداقة‌ قديمة‌، وقد التقي‌ الحقير معه‌ في‌ مني‌ خلال‌ سفره‌ الاخير إلي‌ بيت‌ الله‌ الحرام‌، ثمّ التقيت‌ به‌ مرّة‌ في‌ الحرم‌ المطهّر لمشهد المقدّسة‌، فدعا الحقير في‌ كلتا المرّتين‌ إلي‌ الشام‌ للزيارة‌ وتكفّل‌ بإزالة‌ موانع‌ السفر بنفسه‌، وللاسف‌ لم‌ يحالفني‌ التوفيق‌ للتشرّف‌ لاءجابة‌ دعوة‌ سماحته‌.

[45] ـ الآية‌ 8، من‌ السورة‌ 73: المزّمّل‌: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً.

[46] ـ كان‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد علي‌ آقا القاضي‌ قدّس‌ الله‌ سرّه‌ قد أمر جميع‌ تلامذته‌ بكتابة‌ رواية‌ عنوان‌ البصري‌ّ وحملها معهم‌ في‌ جيوبهم‌ وبقراءتها مرّة‌ أو مرّتين‌ أُسبوعيّاً.

 وقد نقل‌ المجلسي‌ّ رضوان‌ الله‌ عليه‌ هذه‌ الرواية‌ في‌ «بحار الانوار» ج‌ 1، ص‌ 224 إلي‌ 226، الطبعة‌ الحروفيّة‌، كتاب‌ العلم‌، الباب‌ 7: باب‌ آداب‌ طلب‌ العلم‌ وأحكامه‌. وهي‌ حقّاً رواية‌ جامعة‌ وكافية‌ وشافية‌ للمريدين‌ والطالبين‌ السالكين‌ إلي‌ الله‌.

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com