بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب نور ملکوت القرآن / المجلد الرابع / القسم الثانی عشر: الخلق العظیم للنبی الاکرم صلی الله علیه و آله، معنی الضلال و الح...

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

النبی یبلغ دعوته فی الطائف بقاطعیة و حزم مع کونه وحیدا فریدا

 و ثانياً: كيف‌ سار هذا النبي‌ّ الرحيم‌ الرؤوف‌ العطوف‌، وهو في‌ سنّ الخمسين‌،[1] علی قدميه‌ من‌ مكّة‌ إلی‌ الطائف‌؟ وكيف‌ طوي‌ ذلك‌ الطريق‌ الجبليّ الوعر الذي‌ يعدّ في‌ العصر الحاضر من‌ الطرق‌ الشاقّة‌، فضلاً عن‌ ذلك‌ الزمان‌. وكان‌ في‌ سفره‌ هذا وحيداً فريداً لا يتحرّك‌ إلاّ حبّاً للّه‌، وحبّاً لتنفيذ ما أُمر به‌، ودعوة‌ المشركين‌ للإسلام‌. وكان‌ خلال‌ حركته‌ مهدّداً بالموت‌ في‌ كلّ لحظة‌، لكن‌ بأيّة‌ قاطعيّة‌ وحزم‌ كان‌ يتحرّك‌؟!

 الرجوع الي الفهرس

الخلق العظیم للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم

 ثالثاً: الضجّة‌ والصخب‌ الذي‌ افتعلوه‌ أمامه‌، فقد كانوا أشبه‌ بأُناسٍ يُلاحقون‌ مجنوناً، وكانوا يصرخون‌ خلفه‌ حتّي‌ ألجأوه‌ إلی‌ باب‌ البستان‌. ثمّ إنّ رؤساءهم‌ وأشرافهم‌ ردّوا عليه‌ أقبح‌ ردّ، ثمّ لم‌ يكتموا سرّه‌، فأثاروا ذلك‌ الصخب‌ والضجيج‌، وأوقعوا به‌ ما أوقعوا من‌ البلاء والاذي‌.

 رابعاً: لكنّه‌ إذ يجلس‌ تحت‌ كرمة‌ العنب‌ ويستظلّ بظلّها، نراه‌ يُناجي‌ ربّه‌ بجملات‌ تنبع‌ من‌ حاقّ العبوديّة‌، وتحكي‌ عن‌ عالمٍ من‌ التواضع‌ والخشوع‌ لديه‌ أمام‌ ربّه‌: إلهي‌ وربّي‌ وخالقي‌! أعوذ بك‌ من‌ أن‌ تكون‌ غاضباً عَلَی، ومن‌ أن‌ تُجازني‌ بأعمإلی‌ أو قلّة‌ حزمي‌ في‌ تنفيذ ما أمرتني‌ به‌، فتكلني‌ إلی‌ عدوّي‌، وتجعلني‌ مورد سخرية‌ الجهّال‌ والسفهاء. إلهي‌! لا أخشي‌ إلاّ سخطك‌، ولا أخاف‌ إلاّ أن‌ يكون‌ قد حلّ بي‌ ما حلّ عن‌ غضبٍ منك‌. ولو علمتُ أ نّك‌ عنّي‌ راضٍ، فلست‌ أخشي‌ شيئاً. سأضرع‌ إلیك‌ باكياً، وأُمرّغ‌ جبيني‌ في‌ فِنائك‌ فقيراً، حتّي‌ ترضي‌ عنّي‌، لا نّك‌ أملي‌ ومُرادي‌. ولانّ دأبي‌ وسُنّتي‌ تحصيل‌ رضاك‌.

 إلهي‌! بنور وجهك‌ الذي‌ أشرقت‌ له‌ الظلمات‌، وأضاءت‌ له‌ السماوات‌ والارض‌، وانتظمت‌ به‌ أُمور الدنيا والآخرة‌ ظاهرها وباطنها، أسألك‌ عاجزاً فقيراً مملوكاً أن‌ ترضي‌ عنّي‌، ولا تؤاخذني‌ بقصوري‌ وتقصيري‌! فلا حول‌ ولا قوّة‌ إلاّ بك‌!

 ولقد كان‌ الحقير يفكّر كثيراً منذ قديم‌ الايّام‌ في‌ سفر رسول‌ الله‌ إلی‌ الطائف‌، وكيف‌ أ نّه‌ سار الليل‌ والنهار راجلاً عبر الجبال‌ المخوفة‌ ثمّ عاد بتلك‌ الكيفيّة‌، وكيف‌ أ نّه‌ كان‌ يخشي‌ العودة‌ إلی‌ وطنه‌ ومدينته‌ ومسقط‌ رأسه‌ مكّة‌، ويخاف‌ أن‌ يُقتل‌ قبل‌ أن‌ ينفِّذ ما أمره‌ الربّ ذو الجلال‌، وبذهاب‌ الرجل‌ الذي‌ أرسله‌ إلی‌ مكّة‌ وعودته‌ ثلاث‌ مرّات‌، حيث‌ ينبغي‌ أن‌ يكون‌ قد تأخّر في‌ ذلك‌ مدّةً ما؛ ولقد كانت‌ عظمة‌ رسول‌ الله‌ مشهودة‌ في‌ هذه‌ الاُمور بحيث‌ إنّها أثّرت‌ عَلَيَّ ربّما أكثر من‌ هجرته‌ إلی‌ المدينة‌ واختفائه‌ في‌ غار ثور والمصائب‌ التي‌ واجهها عند خروجه‌ من‌ مكّة‌ وخلال‌ الطريق‌ إلی‌ المدينة‌ التي‌ تبعد ما يقرب‌ من‌ تسعين‌ فرسخاً.

 أجل‌، إنّ هذا النبي‌ّ الذي‌ تحمّل‌ هذه‌ الاُمور بمثل‌ هذا الحزم‌ إثر نزول‌ الآية‌ القرآنيّة‌ القاطعة‌: فَاسْتَقِمْ كَمَا´ أُمِرْتَ وَمَن‌ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا [2]، والذي‌ له‌ مِثل‌ هذه‌ السعة‌ والقابليّة‌، هو خاتم‌ النبيّين‌ والحلقة‌ الاخيرة‌ في‌ سلسلة‌ المُرسلين‌.

 خامساً: أ نّه‌ لم‌ يفه‌ بكلمة‌ واحدة‌ خشنة‌ في‌ مقابل‌ الإهانات‌ والصرخات‌ والسباب‌ والشتائم‌، طوال‌ هذا السفر، في‌ ذهابه‌ وإيابه‌ وخلال‌ وجوده‌ في‌ الطائف‌، بل‌ كان‌ يتحمّل‌ بصبر وحلم‌ كلّ ما يبدر عنهم‌ من‌ تصرّفات‌.

 ثمّ إنّه‌ يجلس‌ تحت‌ كرمة‌ العنب‌علی التراب‌، فيوضع‌ عنقود العنب‌ أمامه‌ فيأكل‌ بكلّ تواضع‌، حتّي‌ أ نّه‌ لا يردّ هذا الإحسان‌ البسيط‌، ويقول‌: بِسم‌ الله‌، فيربط‌ في‌ هذه‌ الفرصة‌ القصيرة‌ قلب‌ شابٍّ مسيحيّ بالله‌ تعالی‌. فمرحي‌ لهذا الخُلُق‌ الكريم‌، ومرحباً بهذه‌ الشيمة‌ العظيمة‌!

 ثمّ إنّه‌ يصل‌ إلی‌ مكّة‌، فيأتي‌ إلی‌ المسجد الحرام‌، ويواجه‌ إهانة‌ أبي‌ جهل‌ واستخفافه‌، فيردّ أوّلاًعلی عتبة‌ بأنّ ما قاله‌ لم‌ يكن‌ للّه‌، بل‌ كان‌ منبعثاً عن‌ غرور النفس‌ والحميّة‌، وذلك‌ ممّا لا قيمة‌ له‌.

 ثمّ إنّه‌ ثانياً يُخبر أبا جهل‌ بقاطعيّة‌ وإعجاز: سينقضي‌ عليك‌ أيّام‌ قلائل‌ تضحك‌ فيها، ثمّ إنّ المسلمين‌ سيقتلونك‌ في‌ غزوة‌ بدر بعد خمس‌ سنوات‌. وإنّ هؤلاء المؤمنين‌ والمستضعفين‌ الذين‌ تستخفّ بهم‌ من‌ أمثال‌ عبد الله‌ بن‌ مسعود سيقطعون‌ رأسك‌. ثمّ إنّك‌ ستبكي‌ طويلاً ابتداءً من‌ عالم‌ البرزخ‌ وسكرات‌ الموت‌، وعالم‌ القيامة‌ والوقوف‌، والحساب‌ وصحائف‌ الاعمال‌، والميزان‌ والصراط‌، والعرض‌ وتطاير الكتب‌، والجحيم‌!

 يا أبا جهل‌! إنّ بكاءك‌ الابديّ ذلك‌ هو عاقبة‌ سوء نيّتك‌ واعتداءاتك‌! ونتيجة‌ خياناتك‌ وجناياتك‌! وثمرة‌ تربيتك‌ السيّئة‌ لنفسك‌ وتحصيلك‌ لمَلَكة‌ الشقاوة‌! فلا قيمة‌ لضحك‌ أ يـّام‌ قلائل‌ اخترته‌ بإرادتك‌ واختيارك‌ يَعقبه‌ بكاء دهور متمادية‌!

 وثالثاً، يا رجال‌ قريش‌ الكبار! ويا قومي‌ وعشيرتي‌ اعلموا تحقيقاً أنّ مكّة‌ ستُفتح‌، وأ نّكم‌ ستدخلون‌ طوعاً أو كرهاً في‌ الإسلام‌ الذي‌ أنكرتموه‌، وتصدّقون‌ بنبوّتي‌!

 وهي‌ بأجمعها أخبار قاطعة‌ تعدّ من‌ معجزات‌ رسول‌ الله‌، كأنّ القرآن‌ عُجن‌ به‌، وكأ نّه‌ عُجن‌ بالقرآن‌، فأضحت‌ إخباراته‌ القاطعة‌ بالغيب‌ عين‌ إخبار القرآن‌ القاطع‌.

 الرجوع الي الفهرس

أبیات البوصیری فی عظمة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله

 محَمَّدٌ سَيِّدُ الكَوْنَيْنِ وَالثَّقَلَيْنِ                              وَالفَريقَيْنِ مِنْ عَرَبٍ وَمِنْ عَجَمٍ

 دَعا إلَی اللَهِ فَالْمُسْتَمْسِكُونَ بِه                         ِ مُسْتَمْسِكُونَ بِحَبْلِ غَيْرِ مُنْفَصِمِ

 فَاقَ النَّبِيّينَ في‌ خَلْقٍ وَفي‌ خُلُقٍ                                   وَلَمْ يُدانوهُ في‌ عِلْمٍ وَلاَ كَرَمِ

 وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسولِ اللَهِ مُلْتَمِسٌ                           غَرْفاً مِنَ البَحْرِ أوْ رَشْفاً مِنَ الدّيَمِ

 وَواقِفونَ لَدَيْهِ عِنْدَ حَدِّهِمِ                                   مِنْ نُقْطَةِ العِلْمِ أوْ مِنْ شَكْلَةِ الحِكَمِ

 فَهْوَ الَّذي‌ تَمَّ مَعْناهُ وَصورَتُهُ                                ثُمَّ اصْطَفاهُ حَبِيباً بارِي‌ُ النَّسَمِ

 مُنَزَّهٌ عَنْ شَرِيكٍ في‌ مَحاسِنِهِ                            فَجَوْهَرُ الحُسْنِ فيهِ غَيْرُ مُنْقَسِمِ

 دَعْ ما ادَّعَتْهُ النَّصارَي‌ في‌ نَبِيِّهِمِ                         وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحاً فيهِ وَاحْتَكِمِ

 فَانْسِبْ إلَی ذاتِهِ ما شِئْتَ مِنْ شَرَف‌                               وَانْسِبْ إلَی قَدْرِهِ ما شِئْتِ مِنْ عِظَمِ

 فَإنَّ فَضْلَ رَسولِ اللَهِ لَيْسَ لَهُ                            حَدٌّ فَيُعْرِبَ عَنْهُ ناطِقٌ بِفَمِ

 لَوْ ناسَبَتْ قَدْرَهُ آيَاتُهُ عِظَماً                                 أحْيَا اسْمُهُ حينَ يُدْعَي‌ دارِسَ الرَّمَمِ

 لَمْ يَمْتَحِنّا بِما تَعيا العُقُولُ بِهِ                               حِرْصاً عَلَيْنَا وَلَمْ نَرْتَبْ وَلَمْ نَهِمِ

 أعْمَي‌ الوَرَي‌ فَهْمُ مَعْناهُ فَلَيْسَ يُرَي                               ‌ في‌ القُرْبِ وَالبُعْدِ مِنْهُمْ غَيْرُ مُنفَحِمِ

 كَالشَّمْسِ تَظْهَرُ لِلْعَيْنَيْنِ مِنْ بُعْدٍ                                     صَغِيرَةً وَتَكِلُّ الطَّرْفُ مِنْ أُمَمِ

 وَكَيْفَ يُدْرِكُ فِي‌ الدُّنْيَا حَقيقَتَهُ                             قَوْمٌ نيامٌ تَسَلُّوا عَنْهُ بِالحُلُمِ

 فَمَبْلَغُ العِلْمِ فيهِ أَ نَّهُ بَشَرٌ                                  وَأَ نَّهُ خَيْرُ خَلْقِ اللَهِ كُلِّهِمِ

 دَعْنِي‌ وَوَصْفِي‌َ آياتٍ لَهُ ظَهَرَتْ                           ظُهورَ نَارِ القِرَي‌ لَيْلاً عَلَی عَلَمِ

 لَمْ تَقْتَرِنْ بِزَمانٍ وَهْيَ تُخْبِرُنا                               عَنِ المَعَادِ وَعَنْ عادٍ وَعَن‌ إرَمِ

 دامَتْ لَدَيْنا فَفاقَتْ كُلَّ مُعْجِزَةٍ                             مِنَ النَّبِيِّينَ إذْ جاءَتْ وَلَمْ تَدُمِ

 لاَ تَعْجَبَنْ لِحَسُودٍ رَاحَ يُنكِرُها                              تَجاهُلاً وَهُوَ عَيْنُ الحاذِقِ الفَهِمِ

 قَدْ يُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ                               وَيُنكِرُ الفَمُّ طَعْمَ المَاءِ مِنْ سَقَمِ [3]

 الرجوع الي الفهرس

معنی الحق و مشتقاته فی القرآن الکریم

 وهناك‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌ كلمات‌ واصطلاحات‌ بديعة‌ لم‌ يسبق‌ لها نظير في‌ الكتب‌ السماويّة‌ الاُخري‌ ولا في‌ اللغة‌ العربيّة‌ وأشعارها وآدابها.

 فكلمة‌ الحقّ مثلاً التي‌ استعملها القرآن‌ الكريم‌ للتعبير عن‌ الباري‌ تعالی‌ شأنه‌ وعلي‌ الموجودات‌ والاُمور الواقعيّة‌ من‌ الاعتقادات‌ والافعال‌ والاقوال‌، بهذا التعبير عن‌ لطافة‌ المعني‌ وظرافته‌ في‌ جميع‌ الموارد، وذلك‌ من‌ مختصّات‌ القرآن‌.

 ونذكر هنا موارد استعمال‌ كلمة‌ الحقّ من‌ كتاب‌ الراغب‌ الإصفهانيّ القيّم‌ « المفردات‌ في‌ غريب‌ القرآن‌ »، يقول‌:

 حقّ: أَصْلُ الحَقِّ المُطَابَقَةُ والمُوَافَقَةُ كَمُطَابَقَةِ رِجْلِ البَابِ فِي‌ حَقِّهِ لِدَوَرَانِهِ عَلَی اسْتِقَامَةٍ.

 والحقّ يقال‌علی أوجه‌:

 الاوّل‌: يقال‌ للموجِد الشي‌ء بسبب‌ ما تقتضيه‌ الحكمة‌، ولهذا قيل‌ في‌ الله‌ تعالی‌: هو الحقّ.

 قال‌ الله‌ تعالی‌: وَرُدُّو´ا إلَی اللَهِ مَوْلَـب'هُمُ الْحَقِّ. وقيل‌ بُعَيدَ ذلك‌: فَذَ لِكُمُ اللَهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلَـ'لُ فَأَنَّي‌' تُصْرَفُونَ.[4]

 الثاني‌: يقال‌ للموجِد بحسب‌ مقتضي‌ الحكمة‌، ولهذا يقال‌: فِعْلُ الله‌ تعالی‌ كلُّه‌ حقٌّ. وقال‌ تعالی‌: هُوَ الَّذِي‌ جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا، إلی‌ قوله‌ تعالی‌: مَا خَلَقَ اللَهُ ذَ لِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ. [5]

 وقال‌ في‌ القيامة‌: وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي‌ وَرَبِّي‌´ إِنَّهُ و لَحَقٌّ[6] ـ لَيَكْتُمُـونَ الْحَقَّ[7]. وقوله‌ عزّ وجلّ: الْحَقُّ مِـن‌ رَّبِّكَ[8] ـ وَإِنَّهُ و لَلْحَقُّ مِن‌ رَّبِّكَ. [9]

 والثالث‌: في‌ الاعتقاد للشي‌ء المطابق‌ لما عليه‌ ذلك‌ الشي‌ء في‌ نفسه‌، كقولنا: اعتقاد فلان‌ في‌ البعث‌ والثواب‌ والعقاب‌ والجنّة‌ والنار حقّ.

 قال‌ الله‌ تعالی‌: فَهَدَي‌ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ.[10]

 والرابع‌: للفعل‌ والقول‌ الواقع‌ بحسب‌ ما يجب‌، وبقدر ما يجب‌، وفي‌ الوقت‌ الذي‌ يجب‌، كقولنا: فِعْلُكَ حَقٌّ وَقَوْلُكَ حَقٌّ.

 قال‌ الله‌ تعالی‌: كَذَ لِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ؛ [11] حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي‌ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ [12].

 وقوله‌ تعالی‌: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ [13] يصحّ أن‌ يكون‌ المراد به‌ اللهُ تعالی‌، ويصحّ أن‌ يُراد به‌ الحُكم‌ الذي‌ هو بحسب‌ مُقتضي‌ الحكمة‌.

 ويُقال‌: أَحْقَقْتُ كَذَا، أي‌ أثْبَتُّهُ حَقّاً أو حكمتُ بِكَوْنه‌ حقّاً. وقوله‌ تعالی‌: لِيُحِقَّ الْحَقَّ[14]، فإحقاقُ الحقّعلی ضَربيْن‌: أحدهما: بإظهار الادلّة‌ والآيات‌، كما قال‌ تعالی‌: وَأُولَـ'´نءِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَـ'نًا مُّبِينًا[15]، أي‌: حُجّةً قويّة‌.

 والثاني‌: بإكمال‌ الشريعة‌ وبثّها في‌ الكافّة‌، كقوله‌ تعالی‌: وَاللَهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـ'فِرُونَ [16]؛ ـ هُوَ الَّذِي‌´ أَرْسَلَ رَسُولَهُ و بِالْهُدَي‌' وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ و عَلَی الدِّينِ كُلِّهِ. [17]

 وقد جاء لفظ‌ مِن‌ في‌ الآية‌ المباركة‌ الْحَقُّ مِن‌ رَّبِّكَ التي‌ وردت‌ في‌ موضعين‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌، وفي‌ الآية‌: وَإِنَّهُ و لَلْحَقُّ مِن‌ رَّبِّكَ بمعني‌ ابتداء الغاية‌، الذي‌ ينطبق‌ في‌ هذه‌ العبارات‌ وأمثالهاعلی معني‌ النشويّه‌، حيث‌ يدلّعلی حقيقة‌ مهمّة‌ جدّاً وهي‌ أنّ الخالق‌ العظيم‌ هو مركز الحقّ ومنبعه‌، وأنّ ما في‌ عالم‌ الوجود من‌ مطابقة‌ للاصالة‌ والواقعيّة‌ إنّما هو من‌ الله‌ تعالی‌. وباعتبار أنّ اللفظ‌ محلّي‌ بالالف‌ واللام‌، فإنّه‌ يدلّعلی حصر الحقّ من‌ قِبل‌ الله‌ تعالی‌. أيّ أنّ الحقّ أينما وُجد، فهو من‌ الربّ جلّ وعلا. وأنّ جميع‌ الحقائق‌ والاُمور الخارجيّة‌ وآثارها وشؤونها مستمدّة‌ وناشئة‌ من‌ الربّ العظيم‌.

 وقد جاء في‌ سورة‌ الإسراء المباركة‌:

 وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن‌ نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَـ'هَا تَدْمِيرًا.[18]

 ذلك‌ أنّ الله‌ سبحانه‌ لا يُجبر الإنسان‌علی المعصية‌، بل‌ إنّ اختيار الإنسان‌ دخيلٌ بصورة‌ حتميّة‌ في‌ المعصية‌ وعنوانها. وبهذه‌ القرينة‌ فإنّ المراد من‌ قوله‌ أَمَرْنَا ليس‌ الامر بالفسق‌ والمعصية‌، لا نّه‌ تعالی‌ وَلاَ يَرْضَي‌' لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [19]؛ بل‌ المراد بذلك‌؛ أ نّنا نأمرهم‌ بالطاعات‌، فيخالفون‌ أمرنا ويفسقون‌، فيُعذَّبون‌.

 والمراد بعبارة‌ حَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ هو أنّ كلمة‌ العذاب‌ والانتقام‌ تحقّ وتُثبَّت‌ عليهم‌ بواسطة‌ انطباق‌ عملهم‌علی العصيان‌ والتجرّي‌.

 الرجوع الي الفهرس

تفسیر آیه: اولئک الذین حق علیهم القول

 ونظير هذه‌ الآية‌، الآية‌ الواردة‌ في‌ سورة‌ الاحقاف‌:

 وَالَّذِي‌ قَالَ لِوَ لِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِي‌´ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن‌ قَبْلِي‌ وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـ'ذَآ إِلآ أَسَـ'طِيرُ الاْوَّلِينَ * أُولَـ'´نءِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي‌´ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن‌ قَبْلِهِم‌ مِّنَ الْجِنِّ وَالإنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَـ'سِرِينَ.[20]

 قال‌ سماحة‌ العلاّمة‌ آية‌ الله‌ الطباطبائيّ رضوان‌ الله‌ عليه‌: وَالَّذِي‌ قَالَ لِوَ لِدَيْهِ، الظاهر أ نّه‌ مبتدأ في‌ معني‌ الجمع‌، وخبره‌ قوله‌ بعد أُولَـ'´نءِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ. [21]

 وقال‌ أيضاً: بأنّ الآية‌ نزلت‌ في‌ عبد الرحمن‌ بن‌ أبي‌ بكر، قال‌: وفي‌ « الدرّ المنثور » بسنده‌ عن‌ عبد الله‌ قال‌: إنّي‌ لفي‌ المسجد حين‌ خطب‌ مروان‌ فقال‌: إنّ الله‌ قد أري‌ أمير المؤمنين‌ ( معاوية‌ ) في‌ يزيد رأياً حسناً، وإن‌ يستخلفه‌ فقد استخلف‌ أبو بكر وعمر.

 فقال‌ عبد الرحمن‌ بن‌ أبي‌ بكر: أَهِرْقِليَّةٌ؟!

 إنّ أبا بكر ـ والله‌ ما جعلها في‌ أحدٍ من‌ ولده‌ ولا أحد من‌ أهل‌ بيته‌، ولا جعلها معاوية‌ إلاّ رحمةً وكرامةً لولده‌.

 فقال‌ مروان‌: ألستَ الذي‌ قال‌ لوالديه‌: أُفٍّ لَّكُمَا؟

 فقال‌ عبد الرحمن‌: ألستَ ابنَ اللعين‌ الذي‌ لعن‌ أباك‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ ] وآله‌ [ وسلّم‌؟

 قال‌: وسمعتها عائشة‌ فقالت‌: يا مروان‌! أنت‌ القائل‌ لعبد الرحمن‌ كذا وكذا؟! [22]

 كذبتَ والله‌ ما فيه‌ نزلتْ. نزلتْ في‌ فلان‌ بن‌ فلان‌.

 وفيه‌ ( أي‌ في‌ « الدر المنثور »): أخرج‌ ابن‌ جرير عن‌ ابن‌ عبّاس‌ في‌ « الذي‌ قال‌ لوالديه‌ أفّ لكما » الآية‌، قال‌: هذا ابنٌ لابي‌ بكر ».

 ثمّ قال‌ سماحة‌ الاُستاذ العلاّمة‌ قدّس‌ الله‌ نفسه‌: « أقول‌: وروي‌ ذلك‌ أيضاً عن‌ قتادة‌ والسدّيّ. وقصّة‌ رواية‌ مروان‌ وتكذيب‌ عائشة‌ له‌ مشهورة‌ ».

 ثمّ قال‌: قال‌ ( الآلوسي‌ ) في‌ « روح‌ المعاني‌ » بعد ردّ رواية‌ مروان‌: ووافق‌ بعضـهم‌ كالسـهيليّ في‌ « الاعـلام‌ » مروان‌ في‌ زعـم‌ نـزولها في‌ عبد الرحمن‌. ثمّ قال‌ ( الآلوسي‌ ): وعلي‌ تسليم‌ ذلك‌ لا معني‌ للتعيير لاسيّما من‌ مروان‌، فإنّ الرجل‌ أسلم‌ وكان‌ من‌ أفاضل‌ الصحابة‌ وأبطالهم‌، وكان‌ له‌ في‌ الإسلام‌ عناء يوم‌ إلیمامة‌ وغيره‌، و الإسلاَمُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، فالكافر إذا أسلم‌ لا ينبغي‌ أن‌ يُعيَّر بما كان‌ يقول‌. انتهي‌.

 ثمّ إنّ العلاّمة‌ يعترض‌ هناعلی كلام‌ الآلوسي‌ فيقول‌: « وفيه‌ أنّ الروايات‌ لو صحّت‌ لم‌ يكن‌ مَناص‌ عن‌ صريح‌ شهادة‌ الآية‌ عليه‌ بقوله‌: أُولَـ'´نءِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، إلی‌ قوله‌: إِنَّهُمْ كَانُوا خَـ'سِرِينَ؛ ولم‌ ينفع‌ شي‌ء ممّا دافع‌ عنه‌ به‌ ».[23]

 وكان‌ محور إشكال‌ سماحة‌ العلاّمة‌علی الآلوسي‌ّ هو عبارة‌ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، لا نّها تبيّن‌ تثبيت‌ ومطابقة‌ كلمة‌ عذاب‌ الله‌ له‌ في‌ جملة‌ مَن‌ جاء قبله‌ من‌ الجنّ والإنس‌، الذين‌ كانوا من‌ الخاسرين‌ ممّا يوجب‌ بقاءه‌علی الكفر وكون‌ إيمانه‌ إيماناً صوريّاً، أمّا إسلامه‌ ودخوله‌ في‌ معركة‌ إلیمامة‌ وغيرها فلا يصحّ شاهداًعلی خلاف‌ ذلك‌، لان‌ كثيراً من‌ المسلمين‌ غير الواقعيّين‌ كانوا يشتركون‌ في‌ هذه‌ المعارك‌ بسبب‌ غلبة‌ الإسلام‌ وموقعه‌ وصدارته‌.

 فلا يمكن‌ ـ مع‌ نزول‌ هذه‌ الآية‌ في‌ حقّه‌ الدفاع‌ عنه‌ بإسلامه‌ وأفعال‌ الخير الصادرة‌ عنه‌.[24]

 الرجوع الي الفهرس

معنی الضلال فی القرآن الکریم

 وكلمة‌ ضَلال‌ ككلمة‌ حقّ قد استعملها القرآن‌ في‌ آياته‌ حين‌ تحدّث‌ عن‌ الكفّار والمشركين‌ والمتمرّدين‌ والمعتدين‌ والفاسقين‌، فصرنا نري‌ في‌ هذا الكتاب‌ السماويّ كثيراً من‌ كلمات‌ المصدر: الضلال‌ ومشتقّاته‌.

 و الضَّلال‌ بمعني‌ الضياع‌، ويعني‌ عدم‌ الوجود في‌ المكان‌ اللازم‌ المترقّب‌، والاضمحلال‌ والهلاك‌ قبل‌ بلوغ‌ المقام‌ والمرتبة‌ اللازمة‌.

 والمشركون‌ والكفّار يضيعون‌، أي‌ أنّ سعة‌ قدرتهم‌ ونور ذواتهم‌ وهويّتهم‌ الاصليّة‌ لا تبلغ‌ مرحلة‌ الفعليّة‌ التامّة‌، فهم‌ يضيعون‌ ويُعدمون‌ قبل‌ الوصول‌ إلی‌ كمالهم‌، وتضيع‌ قابليّاتهم‌، ويتيهون‌ في‌ مسير حركتهم‌ وسيرهم‌ إلی‌ الهدف‌ الاعلي‌ من‌ الخلقة‌.

 أمّا المؤمنون‌ فإنّهم‌ يربّون‌ أنفسهم‌ ويزيدون‌ في‌ قوّتها باستمرار من‌ خلال‌ مجاهدتهم‌ أنفسهم‌ في‌ سبيل‌ الله‌، ومن‌ خلال‌ الإيمان‌ والعمل‌ الصالح‌ الذي‌ يزيد الثبات‌ لديهم‌، فيجعلون‌ أنفسهم‌ بالرياضات‌ المشروعة‌ مقتدرةً ليمكنها تحمّل‌ لقاء جمال‌ الربّ الودود، أو المقاومة‌ أمام‌ تجلّيات‌ الجلال‌ في‌ مرحلة‌ الاسماء والصفات‌، وليمكنها العبور من‌ عوالم‌ المادّة‌ والشهوة‌ والحجب‌ الظلمانيّة‌، والعبور في‌ مرحلةٍ لاحقة‌ من‌ الحجب‌ النورانيّة‌ وسطوع‌ الانوار الملكوتيّة‌، ثمّ الاستفادة‌ من‌ تجلّي‌ الاسماء والصفات‌ الكلّيّة‌ ونيل‌ مقام‌ الفناء في‌ الذات‌.

 وتعبير الضلال‌ يبيّن‌ أنّ الضإلین‌ يضيعون‌ قبل‌ بلوغهم‌ المقصد بسبب‌ ضعف‌ قابليّاتهم‌ الوجوديّة‌، فلا يمتلكون‌ اسماً ولا أثراً في‌ العوالم‌ العُليا، ومن‌ المعلوم‌ بطبيعة‌ الحال‌ أنّ هذا الضلال‌ والضياع‌ إنّما يحصل‌ في‌ نفوسهم‌ وليس‌ في‌ طبائعهم‌ ولا أبدانهم‌ المادّيّة‌، إذ إنّ كثيراً منهم‌ عاشوا بتلك‌ الابدان‌ وامتلكوا قوّة‌ وشوكة‌، لكنّهم‌ ـ بلحاظ‌ النفس‌ ساروا إلی‌ مرحلة‌ معيّنة‌ ثمّ توقّفوا فضاعوا في‌ المراحل‌ التي‌ تعلوها.

 يقول‌ القرآن‌ الكريم‌: إنّنا نُضلّ أمثال‌ هؤلاء المتمرّدين‌ بحيث‌ يعجز الباحث‌ عنهم‌ عن‌ العثورعلی أدني‌ أثر.

 وقد ورد في‌ القرآن‌ الكريم‌ تعبيران‌ مختلفان‌ مهمّان‌ عن‌ نزول‌ العذاب‌؛ أحدهما: أ نّنا ننزل‌ عليهم‌ العذاب‌ بحيث‌ إنّهم‌ ينعدمون‌ ويفنون‌ حتّي‌ كأ نّهم‌ لم‌ يوجدوا أصلاً. ويقول‌ التعبير الثاني‌: إنّنا نمحو آثارهم‌ ونجعلها أخباراً وحكايات‌.

 وقد جاء التعبير الاوّل‌ في‌ موضعَين‌ من‌ سورة‌ هود:

 الاوّل‌: في‌ شأن‌ قوم‌ ثمود الذين‌ عقروا ناقة‌ صالح‌ علی نبيّنا وآله‌ وعليه‌ السلام‌:

 فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَـ'لِحًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ و بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِنءِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي‌ دِيـ'رِهِمْ جَـ'ثِمِينَ * كَأَن‌ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ أَلآ إِنَّ ثَمُودَا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ. [25]

 والثاني‌: في‌ شأن‌ أصحاب‌ مَدْيَن‌ الذين‌ كانوا يؤذون‌ نبيّهم‌ شُعيب‌علی نبيّنا وآله‌ وعليه‌ السلام‌ ويهدّدونه‌ برجمه‌ إن‌ لم‌ يكفّ عن‌ دعوته‌؛ وهي‌ الآية‌ التإلیة‌:

 وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ و بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي‌ دِيَـ'رِهِمْ جَـ'ثِمِينَ * كَأَن‌ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا´ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ.[26]

 غَنَي‌ يَغْنَي‌ بِالمَكَانِ وَفِي‌ المَكَانِ بمعني‌ أقام‌ فيه‌. و جَـ'ثِمِينَ بمعني‌ مُتَلَبِّدِينَ. أي‌ أنّ ظلم‌ أصحاب‌ مدين‌ لنبيّهم‌ شعيب‌، وظلم‌ قوم‌ ثمود لنبيّهم‌ صالح‌،علی نبيّنا وآله‌ وعليهما السلام‌، وتمرّدهم‌علی ذينك‌ النبيَّين‌، قد سبّب‌ أخذهم‌ بالصيحة‌ السماويّة‌ بحيث‌ أضحوا تراباً، كأ نّهم‌ لم‌ يسكنوا تلك‌ الديار أبدا، وبحيث‌ لم‌ يبق‌ منهم‌ اسم‌ ولا أثر ولا أزواج‌ ولا أولاد ولا بساتين‌ ولا تجارة‌.

 أمّا التعبير الثاني‌ فقد ورد في‌ سورة‌ المؤمنون‌، وهو تعبير أعجب‌ وأغرب‌، لا نّه‌ يقول‌: وجعلناهم‌ « أحاديث‌ »، أي‌ أ نّنا أهلكناهم‌ حتّي‌ لم‌ يبق‌ من‌ حقيقتهم‌ في‌ هذا العالم‌ إلاّ الاحاديث‌ والاخبار والقصص‌ والحكايات‌، أشبه‌ بقولنا: زَيْدٌ عَدْلٌ. والآية‌ لا تقول‌: إنّنا أضعنا آثارهم‌ وأبقينا أخبارهم‌؛ بل‌ تقول‌: إنّنا أخذناهم‌ بالعذاب‌ بحيث‌ جعلنا آثارهم‌ وحقائقهم‌ الوجـوديّة‌ « أخباراً »؛ وكأنّ حقائق‌ ماهيّاتهـم‌ ليـست‌ إلاّ مقـولة‌ الحديث‌ والخبر والحكاية‌.

 وقد جاءت‌ هذه‌ القصّة‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌ بعد بيان‌ قصّة‌ قوم‌ نوح‌ الذين‌ أُغرقوا، ثمّ إنّ الله‌ خلق‌ مِن‌ بعدهم‌ قوماً آخرين‌ فأرسل‌ إلیهم‌ نبيّاً فكذّبوه‌؛ قال‌:

 فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَـ'هُمْ غُثَا´ءً فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّـ'لِمِينَ * ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن‌ بَعْدِهِمْ قُرُونًا ءَاخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَـْخِرُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم‌ بَعْضـًا وَجَعَلْنَـ'هُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ.[27]

 الرجوع الي الفهرس

الأدب الخاص فی تعبیرات الآیات القرآنیة

 ومن‌ الاُمور المختصّة‌ بالقرآن‌ الكريم‌، أمر عدم‌ التصريح‌ بالالفاظ‌ القبيحة‌، إذ للقرآن‌ أدب‌ خاصّ يتفرّد به‌. وقد صرّح‌ سماحة‌ أُستاذنا آية‌ الله‌ العلاّمة‌ قدّس‌ الله‌ سرّه‌ كراراً في‌ مواضع‌ مختلفة‌ من‌ تفسيره‌، ونوّه‌ بأنّ القرآن‌ يمتلك‌ أدباً خاصّاً متميّزاً. حيث‌ يلاحظ‌ أ نّه‌ لا يستعمل‌ ألفاظاً صريحة‌ قطّ في‌ المواضع‌ التي‌ ينبغي‌ أن‌ يذكر فيها أحكاماً بخصوص‌ موضوعات‌ معيّنة‌، كالتبوّل‌ والتغوّط‌ ومجامعة‌ النساء وأمثال‌ ذلك‌؛ ونري‌ أ نّه‌ ـعلی الدوام‌ قد ذكر تلك‌ المطالب‌علی نحو الكناية‌ والاستعارة‌ والتلميح‌.

 فهو مثلاً يعبّر عن‌ مجامعة‌ النساء ب الملامسة‌ والمباشرة‌ والغِشيان‌ و الرَفَث‌ ( وهو الكلام‌ الذي‌ يعدّ قبيحاً في‌ غير ذلك‌ الموضع‌ )، و المقاربة‌ و الإتيان‌ وغير ذلك‌.

 كما أ نّه‌ عبّر عن‌ البراز ب الغائط‌ ( و هو الموضع‌ المنخفض‌ )، لانّ الافراد الذين‌ يتبرّزون‌ في‌ الصحراء، يلجأون‌ عادةً إلی‌ موضع‌ منخفض‌ يسترهم‌ عن‌ الانظار، لذا فقد جعل‌ العودة‌ من‌ ذلك‌ الموضع‌ كنايةً عن‌ التبرّز: أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم‌ مِّنَ الْغَا´نءِطِ. [28]

 ومن‌ مختصّات‌ القرآن‌، تعبيره‌ عن‌ بعض‌ الافراد والمعاني‌ بكلمات‌ تبيّن‌ حقيقة‌ أُولئك‌ الافراد وتلك‌ المعاني‌ وقيمتهم‌ في‌ النظر القرآني‌ّ. فهو ـ مثلاً يعبّر بكلمة‌ الملا عن‌ الاغنياء والاثرياء الذين‌ حصلواعلی اعتبار من‌ خلال‌ كونهم‌ أغنياء لا غير؛ فصاروا يعدّون‌ أنفسهم‌ حكّاماً، ويعتبرون‌ الآخرين‌ رعايا وعبيد لهم‌. وتعني‌ كلمة‌ الملا: الافراد المملوئين‌ بالغرور والاستكبار: قَالَ الْمَلاَ مِن‌ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَب'كَ فِي‌ ضَلَـ'لٍ مُّبِينٍ. [29]

 كما عبّر القرآن‌ عن‌ الافكار التي‌ تفتقد في‌ نظره‌ للقيمة‌ الحقيقيّة‌ بـ الهوي‌ والاهواء أي‌ الاُمور الجوفاء؛ مهما تسنّمت‌ تلك‌ الافكار الذروة‌ والرقيّ في‌ المجتمع‌ وبين‌ علماء الاجتماع‌ والمدنيّة‌؛ إذ إنّ تلك‌ الافكار لم‌ تتشبّع‌ بالاصالة‌ والواقعيّة‌، فعبّر عنها القرآن‌ بالاُمور الجوفاء.

 وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَب'هُ بِغَيْرِ هُدًي‌ مِّنَ اللَهِ. [30]

 أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـ'هَهُ و هَوَب'هُ وَأَضَلَّهُ اللَهُ عَلَي‌' عِلْمٍ. [31]

 وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ. [32]

 الرجوع الي الفهرس

القرآن یعد السب و الشتم عیر جائزین الا للظالمین

 والقرآن‌ كتاب‌ تربية‌ وأدب‌، لذا فقد ردع‌ عن‌ السبّ والشتم‌، حتّي‌ أ نّه‌ يقول‌: لا تسبّوا آلهة‌ المشركين‌ وأصنامهم‌، لا نّهم‌ سيردّون‌ عليكم‌ فيسبّون‌ الله‌ المتعال‌ جهلاً.

 وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن‌ دُونِ اللَهِ فَيَسُبُّوا اللَهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَ لِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّـةٍ عَمَلَهُمْ ثُـمَّ إلَی' رَبِّهِـم‌ مَّرْجِعُهُـمْ فَيُنَبِّئُهُـم‌ بِمَا كَانُـوا يَعْمَلُونَ.[33]

 ولهذا فإنّ المؤمنين‌ يتورّعون‌ عن‌ سبّ طائفة‌ إلیهود والنصاري‌ والمجوس‌، وحتّي‌ عن‌ سبّ المشركين‌ والتحدّث‌ عنهم‌ بما لا يليق‌، لانّ كثيراً منهم‌ قد اعتقدوا بما اعتقدوا عن‌ جهل‌، ولو تبيّن‌ لهم‌ الحقّ لقبلوا به‌. ويُدعي‌ أمثال‌ هؤلاء بالمستضعفين‌. وقد بُشّر المستضعفون‌ في‌ القرآن‌ بالرحمة‌.

 كما أنّ المؤمنين‌ ليس‌ لهم‌ الحقّ في‌ لعن‌ أبناء السنّة‌ والتحدّث‌ عنهم‌ بما لايليق‌، لانّ كثيراً منهم‌ قد اعتنقوا ذلك‌ المذهب‌ نتيجة‌ علل‌ وأسباب‌ خارجة‌ عن‌ إرادتهم‌ واختيارهم‌ حجبتْ الحقّ عنهم‌. أمّا لعن‌ أعداء آل‌ محمّد صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ فمن‌ مستلزمات‌ الإيمان‌.

 ونعني‌ بالاعداء: المعاندين‌ والمتجاسرين‌ والمتجاوزين‌، وهم‌ طائفة‌ خاصّة‌ قد تحدّث‌ التأريخ‌ عن‌ نهجها وأُسلوب‌ عملها بالقدر الكافي‌، وهم‌ الذين‌ ضيّعوا حقوق‌ آل‌ محمّد عن‌ علم‌ وبصيرة‌؛ وليس‌ لعن‌ أمثال‌ أُولئك‌ الاعداء جائزاً فحسب‌، بل‌ إنّ لعن‌ كلّ ظالم‌ يعدّ أمراً جائزاً أيضاً:

 أَلاَ لَعْنَةُ اللَهِ عَلَی الظَّـ'لِمِينَ. [34]

 وبغضّ النظر عن‌ ذلك‌، فقد ورد في‌ القرآن‌ الكريم‌ التصريح‌ بلعن‌ الله‌ تعالی‌ للذين‌ يؤذون‌ الله‌ ورسوله‌:

 إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَهَ وَرَسُولَهُ و لَعَنَهُمُ اللَهُ فِي‌ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا. [35]

 وقد ورد في‌ صحاح‌ السنّة‌ وكتب‌ الشيعة‌ المعتبرة‌ بأسانيد مستفيضة‌ أنّ مَن‌ آذي‌ ذرّيّة‌ رسول‌ الله‌ وأهل‌ بيته‌ كمن‌ آذي‌ رسول‌ الله‌.

 الرجوع الي الفهرس

حجیة السنة فی قوة حجیة القرآن

 ونحن‌ نعلم‌ أنّ حُجّيّة‌ السُّنّة‌ معتبرة‌، وأ نّها في‌ حكم‌ حجّيّة‌ القرآن‌ ونظيرتها في‌ القوّة‌، فلو ضُمّت‌ الآية‌ السابقة‌ التي‌ تنصّعلی جواز لعن‌ مَن‌ يؤذي‌ الله‌ ورسوله‌ إلی‌ السُّنّة‌ المعتبرة‌ التي‌ تَعُدّ أهل‌ بيت‌ النبي‌ّ وذرّيّته‌ ( كأصحاب‌ الكساء ) كنفس‌ النبي‌ّ، وتعتبر أذاهم‌ كأذي‌ رسول‌ الله‌، فإنّ النتيجة‌ تكون‌ جواز لعن‌ من‌ يؤذي‌ آل‌ محمّد عليهم‌ السلام‌.

 فتكون‌ الآية‌ القرآنيّة‌ هي‌ كُبري‌ المسألة‌، والسُّنّة‌ المعتبرة‌ صُغراها، وجواز لعن‌ الاعداء هو النتيجة‌ من‌ هذا القياس‌.

 إنّ القرآن‌ الكريم‌ يتعامل‌ بروح‌ محبّة‌ ووداد وإخلاص‌ ومداراة‌ مع‌ جميع‌ خلق‌ الله‌ تعالی‌، حتّي‌ أ نّه‌ يقول‌ في‌ شأن‌ المشركين‌:

 وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّي‌' يَسْمَعَ كَلَـ'مَ اللَهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ و ذَ لِكَ بِأَنـَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ. [36]

 أي‌ حتّي‌ تدلّه‌علی الله‌ وتبيّن‌ له‌ أمر المعاد والولاية‌ والعقائد الحقّة‌ لتسكن‌ فيه‌ ويطمئنّ قلبه‌، فذلك‌ هو مأمنه‌ ومحلّ سكون‌ خاطره‌ واطمئنان‌ قلبه‌.

 وهذه‌ الآية‌ مـن‌ بدائـع‌ آيات‌ القرآن‌ الكريـم‌، وقد استُعملـت‌ فيها كلمات‌ قليلة‌ دلّت‌علی الذروة‌ من‌ الثبات‌ والمتانة‌ والاخلاق‌ والدلالة‌علی غاية‌ الرسالة‌ والإيصال‌ إلی‌ مقصدها. ويحوي‌ كلّ واحد من‌ ألفاظ‌ أَجِرْهُ، يَسْمَعَ كَلَـ'مَ اللَهِ، أَبْلِغْهُ ومَأْمَنَهُ بمفرده‌ مطالب‌ عميقة‌ ودروساً رشيقة‌ من‌ الحكمة‌.

 أجل‌، فلمّا كان‌ القرآن‌ الكريم‌ هو المبيّن‌ لاُصول‌ المطالب‌ والعقائد والاحكام‌، فإنّه‌ أوكل‌ أمر توضيحها وتفصيلها وتفسيرها إلی‌ السُّنّة‌.

 أي‌ أنّ القرآن‌ الكريم‌ قد جعل‌ قول‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌، وأمره‌ ونهيه‌ وبيانه‌ وعمله‌ حجّةً.. تأمّل‌ هذه‌ الآيات‌ الكريمة‌:

 مَآ ءَاتَن'كُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَن'كُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا.[37]

 إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُو´ا إلَی اللَهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن‌ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.[38]

 وَإِن‌ تُطِيعُوا اللَهَ وَرَسُولَهُ و لاَيَلِتْكُم‌ مِّنْ أَعْمَـ'لِكُمْ شَيـْـًا. [39]

 يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو´ا أطِيعُوا اللَهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي‌ الاْمْرِ مِنكُمْ.[40]

 يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو´ا أَطِيعُوا اللَهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُو´ا أَعْمَـ'لَكُمْ. [41]

 قُلْ إِن‌ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَهَ فَاتَّبِعُونِي‌ يُحْبِبْكُمُ اللَهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. [42]

 الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاْمِّيَّ... أُولَـ'´نءِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. [43]

 وبناءًعلی هذه‌ الآيات‌ ونظائرها، فإنّ العمل‌ بأوامر النبي‌ّ وأُولي‌ الامر ـ وهم‌ الائمّة‌ الطاهرين‌ سلام‌ الله‌ عليهم‌ أجمعين‌ فرضٌ حتمي‌ّ لازم‌، وأنّ السُّنّة‌ ( وهي‌ قول‌ المعصوم‌ وفعله‌ ) قد جُعلت‌ في‌ مصافّ الآيات‌ الإلهيّة‌، وعُدّت‌ حُجّةً. ونحن‌ إنّما نحصل‌علی النتيجة‌ المتوخّاة‌ في‌ كثير من‌ مسائل‌ الاُصول‌ والفروع‌ من‌ خلال‌ ضمّ الكتاب‌ والسُّنّة‌ إلی‌ بعضهما. أمّا اللجوء إلی‌ أحدهما والإعراض‌ عن‌ الآخر، فيجعل‌ الإجابة‌علی المسائل‌ الاعتقاديّة‌ أو العلميّة‌ أمراً عقيماً.

 الرجوع الي الفهرس

القرآن و السنة یعتبران الله العلة الفاعلة

 أمّا في‌ المسائل‌ الاعتقاديّة‌، فكالعلّة‌ الفاعلة‌ التي‌ ينسبها القرآن‌ الكريم‌ إلی‌ الله‌ تعالی‌ في‌ خصوص‌ الحياة‌ والصحّة‌، في‌ خطاب‌ النبي‌ّ إبراهيم‌ عليه‌ السلام‌ لعمّه‌ آزر وقومه‌ وعشيرته‌:

 فَإِنَّهُمْ ( والضمير عائد للاصنام‌ ) عَدُوٌّ لِّي‌´ إِلاَّ رَبَّ الْعَـ'لَمِينَ * الَّذِي‌ خَلَقَنِي‌ فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي‌ هُوَ يُطْعِمُنِي‌ وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي‌ يُمِيتُنِي‌ ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي‌´ أَطْمَعُ أَن‌ يَغْفِرَ لِي‌ خَطِي´ئَتِي‌ يَوْمَ الدِّينِ.[44]

 حيث‌ نُسبت‌ الصحّة‌ والشفاء في‌ هذه‌ الآية‌ المباركة‌، وبصراحة‌، إلی‌ الخالق‌ عزّوجلّ.

 أمّا في‌ السُّنّة‌ فقد جاء بأنّ الله‌ تعالی‌ قد جعل‌ لكلّ داءٍ دواء، وأنّعلی الإنسان‌ أن‌ يرجع‌ إلی‌ الطبيب‌ إذا مرض‌.

 أمّا بالنسبة‌ إلی‌ هبوب‌ الرياح‌ وتفرّق‌ السحاب‌، فإنّ الامرعلی العكس‌ من‌ ذلك‌، فقد عزا القرآن‌ أمر تفرّق‌ السحاب‌ إلی‌ الرياح‌، بينما عزته‌ السُّنّة‌ إلی‌ الملائكة‌ السماويّين‌. ولدينا آيتان‌ في‌ هذا الخصوص‌.

 الاُولي‌: اللَهُ الَّذِي‌ يُرْسِلُ الرِّيَـ'حَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ و فِي‌ السَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ و كِسَفًا فَتَرَي‌ الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَـ'لِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن‌ يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. [45]

 و الثانية‌: وَاللَهُ الَّذِي‌´ أَرْسَلَ الرِّيَـ'حَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَـ'هُ إلَی' بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَ لِكَ النُّشُورُ. [46]

 ونلاحظ‌ في‌ هاتين‌ الآيتين‌ أنّ الله‌ سبحانه‌ قد عزا تفرّق‌ السحاب‌ في‌ السماء إلی‌ الرياح‌، بينها نري‌ في‌ السنّة‌ أنّ الملائكة‌ هم‌ الذين‌ يسوقون‌ السحاب‌؛ فقد جاء في‌ دعاء الإمام‌ زين‌ العابدين‌ عليه‌ السلام‌:

 وَقَبَائِلِ المَلاَئكَةِ الَّذِينَ اخْتَصَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ، وَأَغْنَيْتَهُمْ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بَتَقْدِيسِكَ، وَأَسْكَنْتَهُمْ بُطُونَ أَطْبَاقِ سَمَاوَاتِكَ، وَالَّذِينَ عَلَی أَرْجَائِهَا إِذَا نَزَلَ الاَمْرُ بِتَمَامِ وَعْدِكَ، وَخُزَّانِ المَطَرِ وَزَوَاجِرِ السِّحَابِ، وَالَّذِي‌ بِصَوْتِ زَجْرِهِ يُسْمَعُ زَجَلُ الرُّعُودِ، وَإِذَا سَبَّحَتْ بِهِ خَفِيفَةُ السَّحَابِ التَمَعَتْ صَوَاعِقُ البُرُوقِ؛ وَمُشَيِّعِي‌ الثَّلْجِ وَالبَرَدِ، وَالْهَابِطِينَ مَعَ قَطْرِ المَطَرِ إذَا نَزَلَ، وَالقُوَّامِ عَلَی خَزَائِنِ الرِّيَاحِ، وَالمُوَكَّلِينَ بِالجِبِالِ فَلاَ تَزُولُ، وَالَّذِينَ عَرَّفْتَهُمْ مَثَاقِيلَ المِيَاهِ، وَكَيْلَ مَا تَحْوِيهِ لَوَاعِجُ الاَمْطَارِ وَعَوَالِجُهَا. [47]

 إنّ المَلَك‌ هو أمر ملكوتيّ وقوّة‌ إلهيّة‌ عارية‌ عن‌ لباس‌ المادّة‌، وهو الذي‌ يسوق‌ السحاب‌، أمّا سوطه‌ فقدرته‌ ووسيلته‌ للقيام‌ بذلك‌ الفعل‌.

 ولذلك‌ فإنّ ما جاء في‌ هذا الدعاء المبارك‌ من‌ أنّ هناك‌ ملائكة‌ مأمورة‌ بالسحاب‌ والثلج‌ والبَرَد والمطر هو أمر صحيح‌ لا يتنافي‌ مع‌ الاسباب‌ المادّيّة‌ من‌ بُخار الماء واختلاف‌ درجات‌ الجوّ وسائر الاُمور الطبيعيّة‌ التي‌ تُذكر باعتبارها دخيلة‌ في‌ حصول‌ هذا النوع‌ من‌ الحوادث‌.

 ولقد أثبتنا في‌ أبحاثنا في‌ كتاب‌ « معرفة‌ المعاد »، وفي‌ الجزء الثاني‌ من‌ هذا الكتاب‌ « نور ملكوت‌ القرآن‌ » أنّ الاُمور الملكوتيّة‌ هي‌ العلل‌ العُليا، وأنّ الاُمور المُلكيّة‌ هي‌ العلل‌ السفلي‌، وأنّ هناك‌، ضمن‌ العلل‌ والاسباب‌، عللاً طوليّة‌ يعلو بعضها بعضاً، من‌ المادّة‌ والصورة‌ والعقل‌، وصولاً إلی‌ الاسماء والصفات‌ الكلّيّة‌، وفي‌ ذروتها وقمّتها الذات‌ القدسيّة‌ للحقّ تعالی‌، الذي‌ هو علّة‌ العلل‌.

 وفي‌ حقيقة‌ الامر، فإنّ العلّة‌ الحقيقيّة‌ الفاعلة‌ هي‌ الله‌ تعالی‌؛ أمّا الباقي‌ فهي‌ أسباب‌ ومعدّات‌ تهيّي‌ ـ بإرادة‌ الله‌ تعالی‌ ـ الإمكانات‌ والاُمور اللازمة‌ لحصول‌ شي‌ءٍ ما في‌ العالم‌ الخارجي‌ّ.

 وينبغي‌ العلم‌ بأنّ كثيراً من‌ الناس‌ لم‌ يخطوا في‌ مسيرة‌ الاُمور المتعقَّلة‌ والحكمة‌ المتعالیة‌، وأنّ هؤلاء، بأذهانهم‌ الساذجة‌ التي‌ لم‌ تتجاوز إطار الحسّ والمادّة‌، لا يفرّقون‌ بين‌ العلّة‌ الموجدة‌ الفاعلة‌ وبين‌ المعدّات‌، فصاروا يعدّون‌ أمثال‌ المطر والثلج‌ وأشعّة‌ الشمس‌ ونور القمر وحرارة‌ الارض‌ والفصول‌ الاربعة‌ وغيرها مؤثّرات‌ حقيقيّة‌ في‌ نشوء الاشياء، وهو تصوّر خاطي‌ قاصر، لانّ جميع‌ تلك‌ الاُمور هي‌ علل‌ مُعِدّة‌ وليست‌ عللاً موجدة‌. فالعلّة‌ هي‌ التي‌ يبقي‌ المعلول‌ ببقائها ويفني‌ بفنائها وذهابها؛ كالمصباح‌ الذي‌ هو علّة‌ الإنارة‌، فإن‌ نحنُ جئنا بالمصباح‌، فقد جئنا بالنور؛ وإن‌ نحنُ ذهبنا بالمصباح‌، فقد ذهبنا بالنور.

 أمّا السحاب‌ والمطر والشمس‌ وغيرها، فليس‌ أيّاً منها علّة‌ لنموّ النبات‌، لانّ السحاب‌ إذا تفرّق‌، والمطر إذا انقطع‌، والشمس‌ إذا غربت‌، بقي‌ النبات‌ موجوداً. ولذلك‌ فليـس‌ أيّاً من‌ هذه‌ الاُمـور علّة‌، بل‌ هي‌ أُمور تعدّ البذر وتهيّئه‌ ليجعله‌ الله‌ تعالی‌ بإرادته‌ الفاعلة‌ في‌ هيئة‌ النبات‌ وخاصّيّته‌.

 وجميع‌ الاجسام‌ التي‌ نشاهدها هي‌ إشعاع‌ من‌ موجودات‌ مجرّدة‌ لا نراها، وبقاء الاجسام‌ ببقاء إشعاعها. كما أنّ السحاب‌ والبرق‌ والمطر والثلج‌ هي‌ آيات‌ وعلامات‌ من‌ ذلك‌ العالم‌ اللامرئيّ، أشبه‌ بالفجر الذي‌ يسطع‌ في‌ المشرق‌، فيبشّر بالشمس‌ اللامرئيّة‌ وراء الاُفق‌، ويحكي‌ عن‌ نورها وضيائها وحرارتها.

 جهان‌ جمله‌ فروغ‌ نور حقّ دان                            ‌ حق‌ اندر وي‌ زپيدائي‌ پنهان‌ [48]

 يقول‌ آية‌ الله‌ الشعرانيّ بعد شرح‌ موجز في‌ هذا المجال‌: « وأعجبُ من‌ أحد العلماء الاجلاّء، وهو السيّد مرتضي‌ الداعي‌ الرازيّ عليه‌ الرحمة‌ الذي‌ أنكر هذا المعني‌ بشدّة‌ في‌ كتاب‌ « تبصرة‌ العوامّ »، ونسبه‌ إلی‌ طائفة‌ الحشويّة‌ وقال‌: لقد عزا القرآن‌ الكريم‌ سَوْق‌ السحاب‌ إلی‌ الرياح‌ لا إلی‌ الملائكة‌، ولو كان‌ المَلَك‌ هو الذي‌ يسوق‌ السحاب‌، لما احتاج‌ إلی‌ سوط‌ في‌ سَوْقها » [49].

 كان‌ هذا حاصل‌ الكلام‌ في‌ أمر الكتاب‌ والسنّة‌ في‌ المسائل‌ الاعتقاديّة‌؛ وأمّا في‌ شأن‌ المسائل‌ العمليّة‌، كحكم‌ الزنا، فقد ورد في‌ القرآن‌ الكريم‌:

 الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي‌ فَاجْلِدُوا كُلَّ وَ حِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم‌ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي‌ دِينِ اللَهِ إِن‌ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَهِ وَإلیوْمِ الاْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآنءِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ. [50]

 الرجوع الي الفهرس

القرآن و السنة کجناحی الطائر، یدعم أحدهما الآخر

 أمّا حكم‌ الرجْم‌ في‌ بعض‌ مسائل‌ الزنا، كزنا المحصنة‌، والزنا بالمحارم‌، والإكراه‌علی الزنا، وغير ذلك‌، فقد ورد الامر بالرجم‌ في‌ خصوص‌ هذه‌ الموارد في‌ السُّنّة‌ القطعيّة‌ لرسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌.

 ولذلك‌، فإنّ مجموع‌ مسائل‌ الزنا وأحكامه‌ يجب‌ أن‌ يؤخذ من‌ مجموع‌ الكتاب‌ والسنّة‌.

 ومثل‌ حرمة‌ اللحوم‌ وحلّيّتها، فقد ورد في‌ القرآن‌ الكريم‌ تحريم‌ لحم‌ الخنزير، وورد في‌ السنّة‌ تحريم‌ ونجاسة‌ لحم‌ الكلب‌، وتحريم‌ لحم‌ الارنب‌ والثعلب‌ وسائر الوحوش‌.

 ومثل‌ أصل‌ الصلاة‌، وخصوصيّاتها من‌ الركعات‌، حيث‌ ورد الاوّل‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌، بينما ورد الثاني‌ في‌ السنّة‌.

 ونظير هذا الارتباط‌ القويم‌ بين‌ الكتاب‌ والسنّة‌ قائم‌ وموجود في‌ جميع‌ المسائل‌ الاعتقاديّة‌ الاُصوليّة‌ والعلميّة‌ الفروعيّة‌.

 الرجوع الي الفهرس

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

إرجاعات


[1] ـ لانّ النبي‌ّ بُعـث‌ في‌ سنّ الاربعين‌، وكان‌ سـفره‌ إلي‌ الطائـف‌ بعد ارتحال‌ أبـي‌طالب‌، وكانت‌ وفـاة‌ أبي‌ طالب‌ في‌ السـنة‌ العاشـرة‌ من‌ البعثة‌، لذا فإنّ العمـر المبـارك‌ لرسول‌ الله‌ عند سفره‌ إلي‌ الطائف‌ كان‌ خمسين‌ سنة‌.

[2] ـ ورد الامر بالاءستقامة‌ في‌ آيتين‌، الاولي‌: الآية‌ 112، من‌ السورة‌ 11: هود: فَاسْتَقِمْ كَمَا´ أُمِرْتَ وَمَن‌ تَابَ مَعَكَ وَ لاَ تَطْغَوْا. والثانية‌: الآية‌ 15، من‌ السورة‌ 42: الشوري‌: فَلِذَ لِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا´ أُمِرْتَ.

[3] ـ مقطفات‌ من‌ القصيدة‌ المعروفة‌ والمشهورة‌ بالبُردة‌، وقد أنشدها البوصيري‌ّ مع‌ مقدّمات‌ وتفصيل‌. وقد طُبعت‌ هذه‌ القصيدة‌ في‌ مجموعة‌ واحدة‌ مع‌ «المعلّقات‌ السبع‌» بالطباعة‌ الحجريّة‌.

[4] ـ مقطع‌ من‌ الآية‌ 30 والآية‌ 32، من‌ السورة‌ 10: يونس‌.

[5] ـ صدر الآية‌ 5، من‌ السورة‌ 10: يونس‌.

[6] ـ صدر الآية‌ 53، من‌ السورة‌ 10: يونس‌.

[7] ـ مقطع‌ من‌ الآية‌ 146، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[8] ـ صدر الآية‌ 147، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[9] ـ مقطع‌ من‌ الآية‌ 149، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[10] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 213، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[11] ـ صدر الآية‌ 33، من‌ السورة‌ 10: يونس‌.

[12] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 13، من‌ السورة‌ 32: السجدة‌.

[13] ـ صدر الآية‌ 71، من‌ السورة‌ 23: المؤمنون‌.

[14] صدر الآية‌ 8، من‌ السورة‌ 8: الانفال‌.

[15] ذيل‌ الآية‌ 91، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[16] ذيل‌ الآية‌ 8، من‌ السورة‌ 61: الصفّ.

[17] ـ صدر الآية‌ 33، من‌ السورة‌ 9: التوبة‌؛ وصدر الآية‌ 28: من‌ السورة‌ 48: الفتح‌.

[18] ـ الآية‌ 16، من‌ السورة‌ 17: الاءسراء.

[19] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 7، من‌ السورة‌ 39: الزمر.

[20] ـ الآيتان‌ 17 و 18، من‌ السورة‌ 46: الاحقاف‌.

[21] ـ «الميزان‌ في‌ تفسير القرآن‌» ج‌ 18، ص‌ 220.

[22] ـ يقول‌ السيّد علي‌ خان‌ المدنيّ الشيرازيّ في‌ شرح‌ الصحيفة‌ السجّاديّة‌ المسمّي‌ بـ «رياض‌ السالكين‌» ج‌ 1، ص‌ 165، طبعة‌ مؤسّسة‌ النشر الاءسلاميّ: «وقال‌ (فخر الدين‌) الرازيّ في‌ تفسير الشجرة‌ الملعونة‌: قال‌ ابن‌ عبّاس‌: الشجرة‌ الملعونة‌ في‌ القرآن‌ المراد بها بنو أُمّية‌ الحكم‌ بن‌ ابي‌ العاص‌ وولده‌. قال‌: رأي‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ في‌ المنام‌ أنّ وِلد مروان‌ يتداولون‌ منبره‌، فقصّ رؤياه‌ علي‌ أبي‌ بكر وعمر وقد خلا في‌ بيته‌ معهما، فلمّا تفرّقوا سمع‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ الحكم‌ يُخبر برؤيا رسول‌ الله‌، فاشتدّ عليه‌ ذلك‌، فاتّهم‌ عمر في‌ إفشاء سرّه‌، ثمّ ظهر أنّ الحكم‌ كان‌ يتسمّع‌ إليهم‌، فنفاه‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌. قال‌: وممّا يؤكّد هذا التأويل‌ قول‌ عائشة‌ لمروان‌: لعن‌ الله‌ أباك‌ وأنت‌ في‌ صُلبه‌، فأنتَ بعضُ مَن‌ لعن‌ الله‌». *

 * ـ «التفسير الكبير» للفخر الرازيّ، ج‌ 3، ص‌ 237، (التعليقة‌).

[23] ـ «الميزان‌ في‌ تفسير القرآن‌» ج‌ 18، ص‌ 225 و 226.

[24] ـ إلاّ أنّ هناك‌ مطلباً يستحقّ التأمّل‌ في‌ هذا المجال‌، وهو أنّ بنت‌ عبد الرحمن‌ بن‌ أبي‌ بكر كانت‌ جدّة‌ الاءمام‌ جعفر الصادق‌ عليه‌ السلام‌ لاُمّه‌، والشيعة‌ مُجمعون‌ علي‌ أنّ آباء الائمّة‌ المعصومين‌ وأُمّهاتهم‌ ينبغي‌ أن‌ يكونوا موحّدين‌. وهو أمر يتحقّق‌ إذا كان‌ عبد الرحمن‌ مسلماً؛ إلاّ أن‌ نقول‌ بأنّ إسلام‌ بنت‌ عبد الرحمن‌ كان‌ كافياً لسعة‌ حمل‌ نطفة‌ الاءمام‌ علي‌ الرغم‌ من‌ كون‌ الاب‌ كافراً. كما في‌ أمر شهربانو ونرجس‌ اللتين‌ كانتا مسلمتين‌، فلم‌ يكن‌ هناك‌ ضرر من‌ شرك‌ أبويهما.

 وبيان‌ ذلك‌ أنّ العلماء الاعلام‌، ومن‌ جملتهم‌ آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد محسن‌ الامين‌ العاملي‌ّ في‌ «أعيان‌ الشيعة‌» ج‌ 4، القسم‌ الثاني‌، ص‌ 29، الطبعة‌ الثالثة‌، في‌ سيرة‌ الاءمام‌ جعفر الصادق‌ عليه‌ السلام‌ أوردوا أنّ أُمّ الاءمام‌ هي‌ أُمّ فروة‌ بنت‌ القاسم‌ بن‌ محمّد بن‌ أبي‌ بكر. وأُمّها ـ أي‌ جدّة‌ الاءمام‌ بنت‌ عبد الرحمن‌ ابن‌ أبي‌ بكر، وهذا هو معني‌ قوله‌ عليه‌ السلام‌: إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَلَّدَنِي‌ مَرَّتَيْنِ، * وفي‌ هذا يقول‌ السيّد الشريف‌ الرضي‌ّ:

 وحُزناً عتيقاً وهو غاية‌ فخركم‌ بمولد بنتِ القاسمِ بن‌ محمّد

 وعلي‌ أيّة‌ حال‌، فقد كان‌ القاسم‌ بن‌ محمّد من‌ أصحاب‌ الاءمام‌ زين‌ العابدين‌ عليه‌ السلام‌ الاجلاّء، وكان‌ أحد فقهاء المدينة‌ السبعة‌ ومن‌ الثقات‌ والمعتمدين‌. نشأ في‌ بيت‌ فقه‌. وكانت‌ أُمّ فروة‌ من‌ النساء الجليلات‌. وقال‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ في‌ شأنها: كَانَتْ أُمِّي‌ مِمَّنْ آمَنَتْ وَاتَّقَتْ وَأَحْسَنَتْ وَاللَهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ.

 والخلاصة‌، فقد تزوّج‌ القاسم‌ بن‌ محمّد من‌ ابنة‌ عمّه‌: أسماء بنت‌ عبد الرحمن‌، فوُلِد لهما أُمّ فروة‌ هذه‌ المرأة‌ الجليلة‌. وكانت‌ أسماء مسلمة‌، ولا يُلحق‌ كُفر أبيها ـ بناءً علي‌ صحّة‌ الروايات‌ المذكورة‌ وبناءً علي‌ تفسير الآية‌ الكريمة‌ في‌ شأن‌ الاب‌ ضرراً بإجماع‌ الشيعة‌.

 * ـ يقول‌ السيّد علي‌ خان‌ المدنيّ الشيرازيّ في‌ شـرح‌ الصحيفة‌ السجّاديّة‌ الموسـوم‌ بـ «رياض‌ السالكين‌» ج‌ 1، ص‌ 71، طبعة‌ مؤسّسة‌ النشر الاءسلامي‌ّ، ضمن‌ شرح‌ حال‌ ونسب‌ الاءمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌: لهذا كان‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ يقول‌: وَلَدَنِي‌ أَبُو بَكْرٍ مَرَّتَيْنِ.

[25] ـ الآيات‌ 66 إلي‌ 68، من‌ السورة‌ 11: هود.

[26] ـ الآيتان‌ 94 و 95، من‌ السورة‌ 11: هود.

[27] ـ الآيات‌ 41 إلي‌ 44، من‌ السورة‌ 23: المؤمنون‌.

[28] ـ مقطع‌ من‌ الآية‌ 43، من‌ السورة‌ 4: النساء؛ ومقطع‌ من‌ الآية‌ 6: من‌ السورة‌ 5: المائدة‌.

[29] ـ الآية‌ 60، من‌ السورة‌ 7: الاعراف‌.

[30] ـ مقطع‌ من‌ الآية‌ 50، من‌ السورة‌ 28: القصص‌.

[31] ـ مقطع‌ من‌ الآية‌ 23، من‌ السورة‌ 45: الجاثية‌.

[32] ـ مقطع‌ من‌ الآية‌ 48: من‌ السورة‌ 5: المائدة‌.

ومن‌ مختصّات‌ القرآن‌ الكريم‌ استعماله‌ لفظ‌ الجهل‌ في‌ مورد العلم‌ بالاُمور الظاهريّة‌ والمعارف‌ المادّيّة‌ والاجتماعيّة‌ والسياسيّة‌، إذا لم‌ يكن‌ فيه‌ رصيد من‌ العلم‌ المعنوي‌ّ والروحي‌ّ ومن‌ الاءيمان‌ بالله‌ وعالم‌ الغيب‌، مهما كان‌ التبحّر في‌ تلك‌ العلوم‌ الظاهريّة‌ كاملاً ووافياً. وقد وردت‌ أمثال‌ عبارة‌ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَـ'هِلِينَ خطاباً من‌ الله‌ تعالي‌ إلي‌ رسوله‌ الاكرم‌، وعبارة‌ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، و أَرَب'كُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ، و بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ونظائرها من‌ العبارات‌ علي‌ لسان‌ النبي‌ّ موسي‌ والنبي‌ّ لوط‌ والرسول‌ الاكرم‌ خطاباً منهم‌ لاُممهم‌. ويبدو أنّ أشدّ سباب‌ وشتم‌ شخّصه‌ القرآن‌ الكريم‌ في‌ حقّ هؤلاء الاقوام‌ هو نعتهم‌ بصفة‌ الجهل‌. لانّ الجهل‌ منشأ جميع‌ العيوب‌ والمفاسد والمعاصي‌. وقد عبّر القرآن‌ عن‌ الغيرة‌ والعصبيّة‌ والحميّة‌ الناشئة‌ من‌ حبّ الجاه‌ ومن‌ العصبيّة‌ للقوم‌ والعشيرة‌ بالحميّة‌ الجاهليّة‌. حيث‌ يقول‌ في‌ الآية‌ 26، من‌ السورة‌ 48: الفتح‌: إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي‌ قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَـ'هِلِيَّةِ.

 ويقول‌ في‌ الآية‌ 154، من‌ السورة‌ 3: آل‌ عمران‌: وَطَآنءِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَـ'هِلِيَّةِ.

 ويقول‌ في‌ الآية‌ 50، من‌ السورة‌ 5: المائدة‌: أَفَحُكْمَ الْجَـ'هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ.

 وعلي‌ هذا الاساس‌ فقد جعل‌ الاءسلام‌ كُنية‌ أبي‌ الحكم‌ عمرو بن‌ هشام‌ بن‌ المغيرة‌ المخزومي‌ «أبو جهل‌» فقد كان‌ أبو جهل‌ من‌ رجال‌ السياسة‌ في‌ مكّة‌. وكان‌ الناس‌ يرجعون‌ إليه‌ في‌ أمورهم‌، وكان‌ ذا نفوذ وشخصيّة‌ بارزة‌ في‌ قومه‌. بَيدَ أ نّه‌ يؤمن‌ بالله‌، ودفعه‌ استكباره‌ وعصبيّته‌ القبليّة‌ وأنانيّته‌ إلي‌ العناد والعداء والاذي‌ لرسول‌ الله‌، فكُنّي‌ في‌ التأريخ‌ بأبي‌ جهل‌، أي‌ أ نّه‌ دُعي‌ أباً للجهل‌ الذي‌ هو منبع‌ كلّ العيوب‌.

 أورد المحدّث‌ القمّيّ في‌ «الكني‌ والالقاب‌» ج‌ 1، ص‌ 37 و 38؛ وفي‌ «هديّة‌ الاحباب‌» ص‌ 9 و 10، الطبعة‌ الحجريّة‌ عن‌ أبي‌ جهل‌: كان‌ من‌ أشدّ الناس‌ عداوةً للنبي‌ّ. قُتل‌ يوم‌ بدر كافراً؛ وأخباره‌ مع‌ النبي‌ّ وكثرة‌ أذاه‌ إيّاه‌ مشهورة‌. وروي‌ أنّ النبي‌ّ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ قال‌ فيه‌: إنّ هذا أعتي‌ علي‌ الله‌ عزّ وجلّ من‌ فرعون‌. إنّ فرعون‌ لمّا أيقن‌ بالهلاك‌ وحّد الله‌، وإنّ هذا لمّا أيقن‌ بالهلاك‌ دعا باللات‌ والعُزّي‌. وعمّه‌ الوليد بن‌ المغيرة‌، وكان‌ شيخاً كبيراً مجرّباً من‌ دُهاة‌ العرب‌، يتحاكمون‌ إليه‌ في‌ الاُمور... وهو أحد المستهزئين‌ الخمسة‌ الذين‌ كفي‌ الله‌ شرّهم‌... (ثمّ يورد قصّة‌ قوله‌ بأنّ القرآن‌ سحر، ويقول‌:) فأنزل‌ الله‌ تعالي‌ فيه‌: ذَرْنِي‌ وَمَن‌ خَلَقْتُ وَحِيدًا إلي‌ قوله‌: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ. وكان‌ ابنه‌ خالد بن‌ الوليد فاتكاً، وقد جاءت‌ ترجمته‌ في‌ التأريخ‌ الاءسلامي‌ّ مفصّلةً.

[33] ـ الآية‌ 108، من‌ السورة‌ 6: الانعام‌.

[34] ـ الآية‌ 18، من‌ السورة‌ 11: هود.

[35] ـ الآية‌ 57، من‌ السورة‌ 33: الاحزاب‌.

[36] ـ الآية‌ 6، من‌ السورة‌ 9: التوبة‌.

[37] ـ الآية‌ 7، من‌ السورة‌ 59: الحشر.

[38] ـ الآية‌ 51، من‌ السورة‌ 24: النور.

[39] ـ الآية‌ 14، من‌ السورة‌ 49: الحجرات‌.

[40] ـ الآية‌ 59، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[41] ـ الآية‌ 33، من‌ السورة‌ 47: محمّد.

[42] ـ الآية‌ 31، من‌ السورة‌ 3: آل‌ عمران‌.

[43] ـ الآية‌ 157، من‌ السورة‌ 7: الاعراف‌.

[44] ـ الآيات‌ 77 إلي‌ 82، من‌ السورة‌ 26: الشعراء.

[45] ـ الآية‌ 48، من‌ السورة‌ 30: الروم‌.

[46] ـ الآية‌ 9، من‌ السورة‌ 35: فاطر.

 وكذلك‌ الامر في‌ آيات‌ سورة‌ الواقعة‌ التي‌ تنسب‌ فعل‌ الفاعل‌ إلي‌ الله‌ تعالي‌، وتنسب‌ الاءعداد إلي‌ الموجودات‌، وهو أمر جديرٌ بالتأمّل‌: أَفَرَءَيْتُم‌ مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ و أَمْ نَحْنُ الْخَـ'لِقُونَ (الآيتان‌ 58 و 59، من‌ السورة‌ 56: الواقعة‌)، حيث‌ إنّ الاب‌ صاحب‌ المنيّ وفاعل‌ الفعل‌ هو المعدّ، أمّا الخالق‌ فالله‌ تعالي‌.

 أَفَرَءَيْتُم‌ مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ و´ أَمْ نَحْنُ الزَّ رِعُونَ (الآيتان‌ 63 و 64، من‌ السورة‌ 56: الواقعة‌)؛ حيث‌ إنّ الزارع‌ والفلاّح‌ هو المعدّ، أمّا خالق‌ البذور فهو الله‌ سبحانه‌.

 أَفَرَءَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي‌ تُورُونَ * ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا´ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ. (الآيتان‌ 71 و 72، من‌ السورة‌ 56: الواقعة‌). والآية‌ تعدّ الاءنسان‌ بعنوان‌ العلّة‌ المعدّة‌ لاشتعال‌ الخشب‌؛ أمّا موجِد الخشب‌ وخالق‌ الشجرة‌ فهو الله‌ تعالي‌، الذي‌ هو العلّة‌ الفاعلة‌.

 وبالنسـبة‌ إلي‌ العلوم‌ التي‌ يتعلّمها البشـر، فإنّ تهيئة‌ مقدّمـات‌ النتيجة‌، مـن‌ تعليم‌ الاُستاذ ومطالعة‌ الكتاب‌ والتمرّن‌ علي‌ الحـرفة‌ والفـنّ، هي‌ الاسباب‌ المعـدّة‌. أمّا العلم‌ بالنتيجة‌ فيحصل‌ بواسطة‌ إلهام‌ الملائكة‌. وَاللَهُ مِن‌ وَرَآنءِـهِم‌ مُّحِيطٌ (الآية‌ 20، من‌ السورة‌ 85: البروج‌).

[47] ـ «الصحيفة‌ الكاملة‌ السجّاديّة‌»، الدعاء الثالث‌: في‌ الصلاة‌ علي‌ حَمَلة‌ العرش‌ وكلّ مَلَك‌ مقرّب‌.

[48] ـ للشيخ‌ محمّد الشبستريّ في‌ «گلشن‌ راز».

 يقول‌: «اعلم‌ أنّ العالم‌ بأجمعه‌ هو ضياء نور الحقّ، وأنّ الحقّ مُختفٍ فيه‌ من‌ فَرْط‌ ظهوره‌».

[49] ـ «شرح‌ الصحيفة‌ السجّادّية‌» ترجمة‌ آية‌ الله‌ الشعرانيّ، ص‌ 124 و 125 (بالفارسيّة‌).

[50] ـ الآية‌ 2، من‌ السورة‌ 24: النور.

 الرجوع الي الفهرس

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com