بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة المعاد / المجلد السادس / القسم الخامس: جواب شبهات المعاد الجسمانی، الآخرة باطن الدنیا، مقدمات سبع للمعاد الجسمانی

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

المجلس التاسع والثلاثون

الردّ علي‌ شبهة‌ المعاد الجسمانيّ وبيان‌ حقيقته‌

 

بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد للَّه‌ ربّ العالمين‌ ولا حول‌ ولا قوّة‌ إلاّ بالله‌ العلي‌ّ العظيم‌

وصلَّي‌ الله‌ علي‌ محمّد وآله‌ الطاهرين‌

ولعنة‌ الله‌ علي‌ أعدائهم‌ أجمعين‌ من‌ الآن‌ إلی‌ قيام‌ يوم‌ الدين‌

إجابة‌ صدر المتأ لّهين‌ علي‌ شبهات‌ المعاد الجسماني‌ّ

 قال‌ الله‌ الحكيم‌ في‌ كتابه‌ الكريم‌:

 وَاتَّقُوا اللَهَ الَّذِي‌´ إلیهِ تُحْشَرُونَ. [1]

 وَلَنءِن‌ مُّتُمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَي‌ اللَهِ تُحْشَرُونَ. [2]

 وَاعْلَمُو´ا أَنَّ اللَهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَ نَّهُ و´ إلیهِ تُحْشَرُونَ. [3]

 يَوْمَ تَشَقَّقُ الاْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَ ' لِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ. [4]

 من‌ الإشكالات‌ الواردة‌ علي‌ المعاد الجسمانيّ أنّ مقدار جرم‌ الارض‌ وحجمها معيّنان‌، وأ نّهما مقدّران‌ بعدد معيّن‌ من‌ الفراسخ‌، ومحدّدان‌ بالاميال‌ والاذرع‌، بينما عدد النفوس‌ ـ في‌ الجهة‌ المقابلة‌ ـ غير متناهٍ. ومن‌ ثمّ فإنّ هذا القدر من‌ الجرم‌ المحدود لا يتّسع‌ لهذه‌ الابدان‌ اللا متناهية‌.

 الرجوع الي الفهرس

كلام‌ صدر المتأ لّهين‌ في‌ أنّ الآخرة‌ هي‌ باطن‌ الدنيا

 يقول‌ المرحوم‌ صدر المتألّهين‌ في‌ ردّه‌ علي‌ هذا الإشكال‌:

 « ومنها ( من‌ الإشكالات‌ ) أنّ جرم‌ الارض‌ مقدار محصور محدود ممسوح‌ بالفراسخ‌ والاميال‌ والذراع‌، وعدد النفوس‌ غير متناهٍ، فلايفي‌ مقدار الارض‌ ولايسع‌ لان‌ تحصل‌ منه‌ الابدان‌ غير المتناهيّة‌.

 والجواب‌ الحقّ بما مرّ من‌ الاُصول‌ أن‌ لا عبرة‌ بخصوصيّة‌ البدن‌ وأنّ تشخّصه‌ والمعتبر في‌ الشخص‌ المحشور جسميّة‌ مّا أية‌ جسميّة‌ كانت‌، وأنّ البدن‌ الاُخرويّ ينشأ من‌ النفس‌ بحسب‌ صفاتها، لا أنّ النفس‌ تحدث‌ من‌ المادّة‌ بحسب‌ هيئاتها واستعداداتها كما في‌ الدنيا.

 ولك‌ أن‌ تُجيب‌ أنّ المقادير قد يزداد حجماً وعدداً من‌ مادّة‌ واحدة‌، فإنّ هيولي‌ قوّة‌ قابلة‌ محضة‌ لا مقدار لها في‌ نفسها، ولا لها اختصاص‌ بحدّ خاصّ وعدد معيّن‌، بل‌ تعرض‌ لها المقادير والانقسامات‌ من‌ خارج‌، وهي‌ في‌ نفسها قابلة‌ للانقسامات‌ غير المتناهية‌، وليس‌ أيضاً من‌ شرطها في‌ أن‌ تكون‌ أبدانا، أن‌ تكون‌ صورة‌ الارضيّة‌ باقية‌، بل‌ يجوز انقلابها من‌ الارضيّة‌ إلی‌ أجسام‌ حسب‌ ما شاء الله‌.

 وأيضاً لا يلزم‌ أن‌ يكون‌ كلّ نفس‌ محشورة‌ بالبدن‌، فإنّ من‌ النفوس‌ ما فارقت‌ الاجسام‌ صاعدةً إلی‌ عالم‌ القدس‌ منخرطةً في‌ سلك‌ المقرّبين‌، والجواب‌ الاوّل‌ هو العمدة‌.

 شبهة‌ لزوم‌ مكان‌ للجنّة‌ والنار، وردّ صدر المتألّهين‌:

 ومنها أنّ الجنّة‌ وا لنار إذا كانتا موجودتين‌ جسمانيّتين‌ فأين‌ مكانهما؟ وفي‌ أي‌ّ جهة‌ من‌ جهات‌ العالم‌ حصولهما؟ فإن‌ كان‌ حصولهما أو حصول‌ إحداهما فوق‌ محدّد الجهات‌، فيلزم‌ أن‌ يكون‌ في‌ اللامكان‌ مكان‌ وفي‌ اللاجهة‌ جهة‌؛ وإن‌ كان‌ في‌ داخل‌ طبقات‌ السماوات‌ والارض‌ أو فيما بين‌ طبقة‌ وطبقة‌، فيلزم‌ إمّا التداخل‌ وإمّا الانفصال‌ بين‌ سماء وسماء والكلّ مستحيل‌. ومع‌ هذا ينافي‌ قوله‌ تعإلی‌:

 وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـ'وَ ' تُ وَالاْرْضُ. [5]

 هذا تقريرٌ عن‌ الشبهة‌، وطريق‌ اندفاعها مكشوف‌ لمن‌ تدبّر في‌ الاُصول‌ التي‌ بيّناها.

 أمّا المتكلّمون‌ فحيث‌ لم‌ يدخلوا البيوت‌ من‌ أبوابها، ليس‌ في‌ وسعهم‌ التفصيّ [6]عن‌ أمثال‌ هذا الإشكال‌، فأجابوا عنه‌ تارةً بتجويز الخلاء، وتارةً بعدم‌ كون‌ الجنّة‌ والنار مخلوقتين‌ بعد، وتارة‌ بانفتاق‌ السماوات‌ علي‌ قدر يسع‌ بينها الجنّة‌، وليتهم‌ قنعوا بدين‌ العجائز واكتفوا بالتقليد ولم‌يستنكفوا أن‌ يقولوا: لاندري‌، الله‌ ورسوله‌ أعلم‌ ». [7]

 ثمّ قال‌: « إنّ أعضل‌ شبه‌ الجاحدين‌ للمعاد الجسماني‌ّ، وأعظم‌ إشكالات‌ المنكرين‌ للجنّة‌ والنار المحكوم‌ بثبوتهما وتحقّقهما في‌ الشريعة‌ الحقّة‌ التي‌ أتي‌ بها أهل‌ النبوّة‌ والحكمة‌ المؤسّسة‌ علي‌ الاُصول‌ والمباني‌ المحكمة‌ المهمّة‌ هو طلب‌ المكان‌ لهما، والتزام‌ كونهما في‌ جهة‌ من‌ الجهات‌ الامتداديّة‌ الوضعيّة‌، وفي‌ زمان‌ في‌ الازمنة‌ المتصرّمة‌، واستيجاب‌ كونهما داخل‌ حجب‌ السماوات‌ وتحت‌ حيطة‌ محدّد الجهات‌ وعرش‌ المتماديات‌.

 فالجواب‌ كما يستعلم‌ من‌ الاُصول‌ المؤسّسة‌ عن‌ أصل‌ هذه‌ الشبهة‌ وقلع‌ مادّتها وفسخ‌ صورتها هو أن‌ يقال‌ علي‌ منهج‌ أبحاث‌ المتألهين‌ وطريقة‌ أنظار السالكين‌ إلی‌ الله‌ بأقدام‌ المعرفة‌ وإلیقين‌: إنّ حجّتكم‌ هذه‌ مبنية‌ علي‌ أنّ للجنّة‌ والنار مكاناً من‌ جنس‌ أمكنة‌ هذه‌ الدنيا، لكنّ أصل‌ إثبات‌ المكان‌ علي‌ هذا الوجه‌ للجنّة‌ والنار باطل‌؛ فالشبهة‌ منهدمة‌ الاساس‌ مقتلعة‌ الاصل‌. وممّا يوضّح‌ ذلك‌ حسب‌ ما مضت‌ الإشارة‌ إلیه‌ أنّ عالم‌ الآخرة‌ عالم‌ تامّ لا يخرج‌ عنه‌ شي‌ء من‌ جوهره‌، وما هذا شأنه‌ لايكون‌ في‌ مكان‌ كما ليس‌ لمجموع‌ هذا العالم‌ أيضاً مكان‌ يمكن‌ أن‌ يقع‌ إلیه‌ إشارة‌ وضعيّة‌ من‌ خارجه‌ أو داخله‌، لانّ مكان‌ الشي‌ء إنّما يتقرّر بحسب‌ نسبته‌ وإضافته‌ إلی‌ ما هو مباين‌ له‌ في‌ وضعه‌ خارج‌ عنه‌ في‌ إضافته‌، وليس‌ في‌ خارج‌ هذه‌ الدار شي‌ء من‌ جنسه‌ وإلاّ لم‌ يوجد بتمامه‌، ولا في‌ داخله‌ أيضاً ما يكون‌ مفصولاً عن‌ جميعه‌ إذا أخذ من‌ هذه‌ الحيثيّة‌. فلا إشارة‌ حسيّة‌ إلی‌ هذا العالم‌ عند أخذه‌ تامّاً كاملاً لا من‌ داخله‌ ولا من‌ خارجه‌ فلا يكون‌ له‌ أين‌ ووضع‌. ولهذا المعني‌ حكم‌ معلّم‌ الفلاسفة‌ بأنّ العالم‌ بتمامه‌ لامكان‌ له‌، فقد اتّضح‌ أنّ طلب‌ المكان‌ لما يكون‌ عالماً تامّاً باطلٌ، والمغالطة‌ نشأت‌ من‌ قياس‌ الجزء علي‌ الكلّ، والاشتباه‌ بين‌ الناقص‌ والكامل‌.

 ثمّ علي‌ سبيل‌ التنزّل‌ عن‌ هذا، لو سأل‌ سائل‌ هل‌ الدار الآخرة‌ مع‌ هذه‌ الدار منتظمتان‌ في‌ سلك‌ واحد والمجموع‌ عالم‌ واحد، فحينئذٍ يكون‌ طلب‌ المكان‌ لهما صحيحاً، أو كلّ منهما عالمٌ مباين‌ الجوهر والذات‌ للا´خر غيرمنسلك‌ معها في‌ سلك‌ واحد لا يجمعهما دار واحدة‌، فحينئذٍ طلب‌ المكان‌ لهما غير صحيح‌، وأنت‌ تعلم‌ أنّ الحقّ هو الثاني‌، إلاّ أن‌ يُراد بكونهما واحداً ضرباً آخر من‌ الوحدة‌، فإنّ العوالم‌ والنشئات‌ متداخلة‌ في‌ المعني‌ والقوام‌ لا في‌ الوضع‌ والامتداد، مع‌ كون‌ كلّ منهما عالم‌ تامّ. أو لاتري‌ أنّ أهل‌ العالم‌ متّفقون‌ علي‌ قولهم‌ هذا العالم‌ وذلك‌ العالم‌ حسبما ورثوه‌ من‌ أسلافهم‌ ومقدّميهم‌، ولوكان‌ المجموع‌ عالماً واحداً كان‌ هذا القول‌ باطلاً.

 ولا يصحّ أن‌ يقال‌ هذا الإطلاق‌ من‌ قبيل‌ قولهم‌ عالم‌ العناصر وعالم‌ الافلاك‌ وعالم‌ الحيوان‌، لانّ هذه‌ الاقوال‌ مجازيّة‌ علي‌ سبيل‌ التشبيه‌؛ فإنّ الدنيا والآخرة‌ لو لم‌ يكونا عالمين‌ تامّين‌ فلا يكون‌ في‌ الوجود عالم‌ تامّ، لانّ المجموع‌ ليس‌ منتظماً في‌ سلك‌ واحد إلاّ بأن‌ يكون‌ أحدهما باطن‌ الآخر والآخر ظاهره‌ كما أشرنا إلیه‌، وهذا كلام‌ آخر فيه‌ غموض‌، فإذا لم‌يكونا مع‌ مباينة‌ كلّ منهما للا´خر في‌ الوجود ممّا يشملهما عالم‌ آخر، فلامحالة‌ كلّ منهما عالم‌ تامّ كما أُطلق‌ القول‌ عليه‌ في‌ السنّة‌ الشريفة‌:

 إِنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَالَمَينِ، الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ.

 وممّا يوضّح‌ أيضاً القول‌ بأنّ الآخرة‌ ليست‌ من‌ جنس‌ هذا العالم‌، أنّ الآخرة‌ نشأة‌ باقية‌ يتكلّم‌ الإنسان‌ فيها مع‌ الله‌، وهذه‌ نشأة‌ دائرة‌ بائدة‌ أهلها، هالكة‌ الذوات‌ ولا ينظر إلیهم‌، واختلاف‌ اللوازم‌ يدلّ علي‌ اختلاف‌ الملزومات‌. وأمّا مكالمة‌ الانبياء مع‌ الله‌ تعإلی‌ ومخاطبة‌ سيّد الرسل‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ معه‌ تعإلی‌ ليلة‌ المعراج‌، فهي‌ من‌ ظهور سلطان‌ الآخرة‌ علي‌ قلوبهم‌. وممّا يدّل‌ علي‌ ذلك‌ قوله‌ تعإلی‌: وَنُنشِئَكُمْ فِيمَا لاَتَعْلَمُونَ.[8] فإنّه‌ صريح‌ في‌ أنّ نشأة‌ الآخرة‌ غير نشأة‌ الدنيا. [9]

 وبالجملة‌ فنحو وجود الآخرة‌ غير نحو وجود الدنيا، ولو كانت‌ الآخرة‌ من‌ جوهر الدنيا لم‌ يصحّ أن‌ يقال‌ إنّ الدنيا يخرب‌ والآخرة‌ دار القرار، لانّ الدنيا إنّما هي‌ دنيا بالجوهر والوجود لا بالعوارض‌ الشخصيّة‌ والمخصّصات‌ الخارجيّة‌، وإلاّ لكان‌ كلّ سنة‌ بل‌ كلّ يوم‌ دنيا أُخري‌ لتبدل‌ الاشكال‌ والهيئات‌ والتشخّصات‌، ولكان‌ القول‌ بالآخرة‌ تناسخاً، ولكان‌ المعاد عبارة‌ عن‌ عمارة‌ الدنيا بعد خرابها، وإجماع‌ العقلاء علي‌ أنّ الدنيا تضمحلّ وتفني‌ ثمّ لا تعود ولا تعمر أبداً؛ فقد ثبت‌ وتحقّق‌ أنّ الدنيا والآخرة‌ مختلفتان‌ في‌ جوهر الوجود غير منسلكتين‌ في‌ سلك‌ واحد، فلاوجه‌ لطلب‌ المكان‌ للا´خرة‌، وصاحب‌ الذوق‌ السليم‌ يتفطّن‌ بهذا.

 علي‌ أنّ من‌ نظر إلی‌ مواضع‌ هذا الكتاب‌ لا يحتاج‌ إلی‌ زيادة‌ مؤنة‌ وتفتيش‌، وإنّما بسطنا القول‌ في‌ زيادة‌ الكشف‌ والتوضيح‌ شفقة‌ علي‌ الظاهريّين‌ الذين‌ قصدهم‌ في‌ النسك‌ والعبادات‌ طلب‌ قضاء شهوة‌ البطن‌ والفرج‌ في‌ الآخرة‌ علي‌ وجهٍ ألذّ وأدوم‌. فهم‌ في‌ الحقيقة‌ طلاّب‌ الدنيا وعند أنفسهم‌ أ نّهم‌ يطلبون‌ ثواب‌ الآخرة‌ والتقرّب‌ إلی‌ الله‌ تعإلی‌. » [10]

 وحصيلة‌ القول‌ أنّ مسائل‌ المعاد تنطوي‌ علي‌ قدر من‌ الغموض‌ والإبهام‌ بحيث‌ تتعسّر إقامتها من‌ خلال‌ البحث‌ الفلسفيّ وبراهينه‌ المجرّدة‌. والسرّ في‌ ذلك‌ أنّ المعاد يتحدّث‌ عن‌ ماوراء عالم‌ الحسّ والشهادة‌، وهو أمر لايخلو من‌ الصعوبة‌ لمن‌ يفتقد المعرفة‌ بتلك‌ العوالم‌ والنشآت‌ ويحاول‌ مناقشة‌ تلك‌ الاُمور علي‌ أساس‌ القياس‌ والبرهان‌ الصرف‌.

 ولذلك‌ تجري‌ الاستعانة‌ في‌ الاغلب‌ بمسائل‌ العرفان‌ وشهودات‌ أهل‌ الشهود ومكاشفات‌ أهل‌ الحقّ، وبالروايات‌ الواردة‌ عن‌ المعصومين‌ عليهم‌ السلام‌ والآيات‌ القرآنيّة‌ وهي‌ بدورها تمثّل‌ نعم‌ المفتاح‌ لدعم‌ هذا الامر وتعيين‌ حدوده‌ البرهانيّة‌.

 الرجوع الي الفهرس

نصيحة‌ صدر المتأ لّهين‌ في‌ اجتناب‌ خوض‌ المسائل‌ العقليّة‌ والعقائديّة‌

 يضاف‌ إلی‌ ذلك‌ أنّ خوض‌ هذه‌ المسائل‌ من‌ خلال‌ الاستدلال‌ والبرهان‌ ينطوي‌ علي‌ خطورة‌ بالنسبة‌ إلی‌ الذين‌ لم‌ يتزوّدوا بالقدر الكافي‌ من‌ العلوم‌ العقليّة‌ والحكمة‌ المتعإلیة‌ الإسلاميّة‌، إذ ستكون‌ نتائج‌ أدلّتهم‌ عقيمة‌، شأنهم‌ في‌ ذلك‌ شأن‌ المتكلّمين‌، ولا نّهم‌ بدلاً من‌ حراستهم‌ العقائد الشيعيّة‌ الإسلاميّة‌ الحقّة‌ وصونها عن‌ آفات‌ الملحدين‌ والمغرضين‌ والمعاندين‌، فإنّهم‌ يقدّمون‌ تلك‌ الاُصول‌ الحقّة‌ المتقنة‌ الواقعيّة‌ في‌ أُسلوب‌ سخيف‌ ضحل‌ متهافت‌، فيؤدّون‌ إلی‌ سلب‌ اعتقاد الناس‌ وأهل‌ المعرفة‌ من‌ خلال‌ عرض‌ هذه‌ المسائل‌ الغامضة‌ دون‌ أن‌ يمتلكوا القابليّات‌ الفكريّة‌ اللازمة‌ لذلك‌.

 يقول‌ صدر المتألّهين‌: « إنّ للناظرين‌ في‌ أمر المعاد إثباتاً ونفياً، مشاجرات‌ ومباحثات‌ في‌ الجانبين‌، ذكرها يؤدّي‌ إلی‌ الإطالة‌ من‌ غيرفائدة‌، وما أورده‌ المتكلّمون‌ من‌ الكلام‌ لا يفي‌ بالإلزام‌ والإفحام‌، فكيف‌ يتبيّن‌ المرام‌ وتحقيق‌ المقام‌. والاَولي‌ بحال‌ مَن‌ اقتصر في‌ تحقيق‌ هذه‌ الاُمور الاعتقاديّة‌ علي‌ مجرّد البحث‌ الكلامي‌ّ أن‌ يستفسر عن‌ هؤلاء المنكرين‌ للمعاد الجاحدين‌ لاحكام‌ الشريعة‌، بناءً علي‌ قصور مداركهم‌ عن‌ دركها، أ نّهم‌ هل‌ يدّعون‌ الامتناع‌ أو يمنعون‌ الإمكان‌ والجواز؟ فعلي‌ الاُولي‌ يقال‌ لهم‌: إنّ عليكم‌ البيّنة‌ وإثبات‌ ما ادّعيتم‌، وما لكم‌ فيما قلتم‌ به‌ من‌ هذا عين‌ ولا أثر.

 وعلي‌ الثانية‌: كلّ ما أُزيل‌ ظاهره‌ عن‌ الإحالة‌ والامتناع‌ قام‌ التنزيل‌ الإلهي‌ّ والاخبار النبويّة‌ الصادرة‌ عن‌ قائل‌ مقدّس‌ عن‌ شوب‌ الغلط‌ والكذب‌ مقام‌ البراهين‌ الهندسيّة‌ والدعاوي‌ الحسابيّة‌. [11]

 وعلي‌ كلّ حال‌ فقد بحثنا في‌ مسائل‌ المعاد الجسماني‌ بالقدر الكافي‌، عسي‌ أن‌ تكون‌ حقيقته‌ قد اتّضحت‌ للقرّاء الكرام‌ إن‌ شاء الله‌ تعإلی‌، وقد أوردنا نظرية‌ أعلام‌ حكماء الإسلام‌ بصورة‌ مجملة‌.

 قال‌ الحكيم‌ السبزواري‌ّ قدّس‌ الله‌ سرّه‌ بعد البحث‌ في‌ هذا الامر:

 « وهذا القدر كافٍ للمستعبر المنصف‌، ومن‌ أراد زيادة‌ التحقيق‌ والتفصيل‌ فليرجع‌ إلی‌ كتب‌ صدر المتألّهين‌ كـ « الاسفار » و « المبدأ والمعاد » و « العرشيّة‌ » وغيرها فَإنَّ أمثال‌ هذِهِ التحقيقاتِ حَقُّهُ فِي‌ الدورةِ الإسلاميّةِ الخَتمِيَّةِ، شَكَرَ اللَهُ سَعْيَهُ وَضَاعفَ أَجْرَهُ». [12]

 الرجوع الي الفهرس

بيان‌ مقدّمات‌ سبع‌ للمعاد الجسمانيّ العنصريّ لدي‌ المؤلّف‌

 تصوير المعاد بالبدن‌ العنصري‌ّ لدي‌ مؤلّف‌ الكتاب‌:

 وعدنا في‌ الابحاث‌ السابقة‌ أن‌ نقدّم‌ تصويراً للمعاد الجسمانيّ في‌ هيئته‌ البدنيّة‌ العنصريّة‌ المادّيّة‌ الطبيعيّة‌، وها قد حان‌ الوقت‌ وللّه‌ الحمد والمنّ للشروع‌ في‌ ذلك‌.

 ويتوقّف‌ تحقيق‌ هذه‌ المسألة‌ وصولاً إلی‌ الهدف‌ المنشود علي‌ ذكر مقدّمات‌ سبع‌:

 المقدّمة‌ الاُولي‌: تطرّقنا سابقاً إلی‌ أنّ شيئيّة‌ الشي‌ء بصورته‌ لابمادّته‌، أي‌ أنّ ما يمنح‌ الموجودات‌ الخارجيّة‌ شيئيّتها ووجودها وتشخّصها، وما يجعل‌ الموجود موجوداً ويمنحه‌ اسماً ويميّزه‌ عن‌ باقي‌ الاشياء، هو « فصل‌ » الموجود وصورته‌.

 وليس‌ معني‌ الصورة‌ هو الشكل‌ وسماته‌ الظاهريّة‌، بل‌ تلك‌ الخاصيّة‌ التي‌ تعلّقت‌ بالمادّة‌ المبهمة‌ فميّزتها عن‌ سائر الموجودات‌؛ مثل‌ الصورة‌ الإنسانيّة‌ ( وهي‌ النفس‌ الناطقة‌ )، والصورة‌ الحيوانيّة‌ ( وهي‌ عنوان‌ المتحرّك‌ بالإرادة‌ )، وصورة‌ الحصان‌ وهي‌ الخاصّيّة‌ التي‌ جعلته‌ حصاناً وميّزته‌ عن‌ الحمار والبقرة‌ والإنسان‌ وسائر الحيوانات‌ والنباتات‌، وهي‌ التي‌ تُدعي‌ بالنفس‌ الصاهلة‌. ومن‌ هنا فإنّ المادّة‌ الاوّليّة‌ الاساسيّة‌ التي‌ تدعي‌' بـ « مادّة‌ الموادّ والهيولي‌ الاوّليّة‌ » والتي‌ تشترك‌ فيها جميع‌ الموجودات‌، ليست‌ معياراً للتخصّص‌ والتميّز، لانّ جميع‌ موجودات‌ عالم‌ الطبع‌ والمادّة‌ لها حظّ منها، بل‌ إنّ وجودها وتخصّصها يتمثّل‌ في‌ صورتها وفي‌ تلك‌ المزيّة‌ والمادّة‌ المشتركة‌ التي‌ يطلق‌ عليها اسم‌ الإنسان‌ تارةً، واسم‌ الحيوان‌ تارة‌، واسم‌ الشجرة‌ تارةً، واسم‌ الماء والجماد تارةً رابعة‌.

 المقدّمة‌ الثانية‌: إنّ صور الاشياء المختلفة‌ التي‌ تمنحها التعيّن‌ غيرزائلة‌، فالصور محفوظة‌ عند موت‌ المادّة‌ وفنائها في‌ عالم‌ الطبع‌، وهي‌ ثابتة‌ وباقية‌ في‌ عالم‌ الوجود وعالم‌ الدهر دون‌ تغيّر أو تبدّل‌.

 فصور الاشياء ـومن‌ بينها الإنسان‌ وأفعاله‌ في‌ الطاعة‌ والمعصية‌ـ تختفي‌ عن‌ الانظار بمرور الوقت‌، إلاّ أ نّه‌ ـفي‌ الوقت‌ نفسه‌ـ تحفظ‌ وجودها فلايطرأ عليها البوار والزوال‌ بأيّ وجهٍ من‌ الوجوه‌.

 والعلّة‌ في‌ ذلك‌ أ نّنا موجودات‌ زمنيّة‌ تتحرّك‌ إلی‌ الامام‌ بالتدريج‌ بتحرّك‌ الزمان‌، وحين‌ نوجد في‌ هذا الزمن‌ فإنّنا ندرك‌ الموجودات‌ الكائنة‌ في‌ هذه‌ اللحظة‌، أمّا الموجودات‌ التي‌ وجدت‌ في‌ اللحظة‌ السابقة‌ ثمّ اختفت‌، والموجودات‌ التي‌ ستأتي‌ في‌ اللحظة‌ المقبلة‌ فلانراها ولانحيط‌ بها. فنحن‌ ـإذاًـ ندرك‌ اللحظة‌ التي‌ نحن‌ فيها، لا ساعتنا الفعليّة‌ ولادقيقتنا الفعليّة‌ المركّبتين‌ من‌ لحظات‌ وثوان‌؛ ونحن‌ واقفون‌ علي‌ لحظة‌ واحدة‌ من‌ تلك‌ اللحظات‌، وبعيدون‌ عن‌ باقي‌ تلك‌ اللحظات‌.

 ولقد ترافقنا مع‌ موجودات‌ هذه‌ الدنيا منذ الزمن‌ الذي‌ خُلقنا فيه‌، فنحن‌ نتحرك‌ معها إلی‌ الامام‌ في‌ قافلة‌ واحدة‌، ونحن‌ ندرك‌ من‌ هذه‌ الموجودات‌ ومن‌ وجودنا الخاصّ لحظةً زمنيّة‌ واحدة‌ من‌ الزمن‌ المتصرّم‌، ونحن‌ معزولون‌ كلّيّاً عن‌ هذه‌ القافلة‌، سواءً في‌ الزمن‌ السابق‌ أم‌ اللاحق‌، فلايبقي‌ في‌ ذهننا من‌ تلك‌ الوجودات‌ المسلّمة‌ الثابتة‌ إلاّ الخواطر والذكريات‌.

 ولقد كانت‌ مادّتنا منذ زمن‌ الولادة‌ سيّالة‌ ومتحركة‌ في‌ ذاتها، كما أنّ الزمن‌ ـبدوره‌ـ موجود متحرّك‌ سيّال‌، وكيان‌ متّصل‌ لايتوقّف‌ ولايكفّ عن‌ الحركة‌ أبداً، فنحن‌ نري‌ أنّ هذا الزمن‌ في‌ حركة‌ مستمرّة‌ دائمة‌، متحرّك‌ في‌ ذاته‌ وحقيقته‌. كما أنّنا بدورنا ـباعتبارنا موجودات‌ زمنيّة‌، أي‌ باعتبار انطباق‌ وجودنا علي‌ الزمن‌ وحركته‌ الممتدّة‌ـ في‌ حركة‌ مستمرّة‌ مع‌ تدرّج‌ الزمن‌ وحركته‌. نتقدّم‌ إلی‌ الامام‌ إلی‌ حين‌ موعد رحيلنا عن‌ الدنيا، ثمّ نطوي‌ البرزخ‌ بعد ذلك‌ باعتباره‌ موجوداً زمنيّاً، فنفني‌ في‌ ذات‌ الحقّ ونصل‌ في‌ سيرنا أخيراً إلی‌ نقطة‌ تعلو الزمن‌ وتحيط‌ به‌، فندرك‌ آنذاك‌ جميع‌ اللحظات‌ السابقة‌، وستكون‌ تلك‌ اللحظات‌ بأجمعها حاضرة‌ أمامنا ومشهودة‌ لنا.

 إنّنا حين‌ نقول‌ في‌ هذه‌ الدنيا إنّ الساعة‌ السابقة‌ قد مرّت‌، وإنّ الافعال‌ والوقائع‌ الحادثة‌ في‌ تلك‌ الساعة‌ قد انقضت‌ وتصرّمت‌، فلايعني‌ ذلك‌ أ نّها قد انعدمت‌ وفنيت‌، بل‌ إنّ ذلك‌ يعني‌ أنّ الساعة‌ السابقة‌ والموجودات‌ الواقعة‌ فيها قد اختفت‌ عن‌ نظرنا.

 علي‌ أنّ جميع‌ الموجودات‌ الارضيّة‌ والسماويّة‌ من‌ النفوس‌ الإنسانيّة‌ والحيوانيّة‌ والنباتيّة‌ والجمادات‌، وكلّ ما نفترض‌ وجوده‌ سابقاً، ممّا اختفي‌ الآن‌ وانعدم‌ في‌ الظرف‌ الحإلی‌، هو موجود في‌ ظرف‌ تحقّقه‌ ولايطرأ عليه‌ الزوال‌ والفناء، لانّ هذه‌ الموجودات‌ قد وُجدت‌ في‌ ذلك‌ الزمن‌، ولانّ من‌ المحال‌ علي‌ الشي‌ء الذي‌ صار موجوداً بجميع‌ تلك‌ الخصائص‌ السابقة‌ أن‌ يعرض‌ له‌ العدم‌، فالموجود لا يصبح‌ معدوماً، والوجود والعدم‌ شيئان‌ متناقضان‌، والنور والظلمة‌ لا يجتمعان‌ معاً، كما لاتجتمع‌ الحرارة‌ والبرودة‌.

 بلي‌ من‌ الممكن‌ أن‌ يكون‌ هذا الشي‌ء نورانيّاً في‌ لحظة‌ معينة‌ ثمّ يصبح‌ مظلماً في‌ لحظة‌ أُخري‌؛ أو أن‌ يكون‌ حارّاً في‌ هذه‌ اللحظة‌ وبارداً في‌ اللحظة‌ التإلیة‌؛ أو أن‌ يكون‌ موجوداً في‌ وقت‌ معيّن‌ ومعدوماً في‌ وقت‌ آخر.

 ومن‌ ثمّ فإذا كان‌ هذا الشي‌ء موجوداً فانعدم‌، فإنّه‌ لم‌ينعدم‌ بجميع‌ خصائصه‌، لانّ الزمن‌ كان‌ من‌ جملة‌ خصائصه‌؛ أي‌ أنّ الموجود الذي‌ كان‌ موجوداً قبل‌ ساعة‌ واحدة‌ قد كان‌ للزمن‌ دخلٌ في‌ تحقّقه‌ في‌ تلك‌ الساعة‌ وإذا ما صار معدوماً في‌ هذه‌ الساعة‌ الفعليّة‌، فإنّه‌ لم‌ يكن‌ معدوماً في‌ الساعة‌ السابقة‌ بلحاظ‌ وقيد ذلك‌ الزمن‌، فذلك‌ الشي‌ء موجود باستمرار ( بهذا القيد والخصوصيّة‌ ) في‌ الساعة‌ السابقة‌، وسيبقي‌ في‌ عالم‌ الدهر وعالم‌ الوجود والتحقّق‌ دون‌ أن‌ يطرأ عليه‌ زوال‌.

 إنّ ذلك‌ الشي‌ء الذي‌ كان‌ موجوداً قبل‌ ساعة‌، قد انعدم‌ في‌ الساعة‌ التي‌ تلتها، أي‌ أ نّنا رفعنا قيد « الساعة‌ السابقة‌ » عنه‌، فانعدم‌ في‌ الساعة‌ التإلیة‌، ومن‌ المحال‌، منذ الزمن‌ الاوّل‌ لخلق‌ العالم‌، ومنذ زمن‌ آدم‌ إلی‌ يوم‌ القيامة‌، وقبل‌ خلق‌ هذا العالم‌، أن‌ يطرأ العدم‌ علي‌ سلسلة‌ الموجودات‌ الطوليّة‌ الكائنة‌ في‌ سلسلة‌ مدارج‌ ما فوق‌ هذا العالم‌، كالعقول‌ المفارقة‌ ونفوس‌ الملائكة‌ وموجودات‌ العالم‌ العلوي‌ّ والروح‌ والاسماء والصفات‌ الكلّيّة‌ الإلهيّة‌ ابتداءً من‌ الذات‌ القدسيّة‌ للحضرة‌ الاحديّة‌ جلّ وعزّ وانتهاءً بعالم‌ الكثرة‌ والطبع‌ ومادّة‌ الموادّ، وصولاً إلی‌ بعوضة‌ واحدة‌ أو ذرّة‌ واحدة‌ كُتب‌ لها الوجود.

 لقد كنّا ـحتّي‌ الآن‌ـ أحياء، وهناك‌ إمكانيّة‌ أن‌ نصبح‌ معدومين‌ من‌ الآن‌ فصاعداً، وأن‌ نهلك‌ ونفني‌ بالمرّة‌؛ إلاّ أنّ من‌ غيرالممكن‌ أن‌ ينعدم‌ الوجود الذي‌ اكتسبناه‌ حتّي‌ الآن‌، وليس‌ بإمكانكم‌ في‌ زمن‌ لاحق‌ إفناء شي‌ء قد وجد في‌ زمن‌ سابق‌.

 يمكنكم‌ أن‌ تحرقوا كتاباً ما، أو أن‌ تمحوا كتابةً معينة‌، أو تلقوها في‌ الماء، بَيدَ أ نّكم‌ تقومون‌ بهذا العمل‌ في‌ زمنٍ لاحق‌؛ أمّا في‌ الزمن‌ الذي‌ دوّن‌ فيه‌ ذلك‌ الكتاب‌، فإنّ تلك‌ الكتابة‌ لا يمكن‌ إعدامها وفناؤها. لقد قمنا ببعض‌ الاعمال‌ منذ الصباح‌ إلی‌ الآن‌، ولو اجتمعت‌ جميع‌ العوالم‌ وتكاتفت‌ وتظاهرت‌ علي‌ القول‌ بأنّ هذه‌ الاعمال‌ لم‌ تُنجز لما أمكنهم‌ ذلك‌. لقد فعلنا ما فعلنا، وارتدي‌ ـذلك‌ـ رداء الوجود والتحقّق‌.

 يمكن‌ أن‌ لا يؤاخذ الله‌ تعإلی‌ علي‌ المعاصي‌، ويمكن‌ أن‌ يستر بعض‌ الاعمال‌ ويخفيها تحت‌ الستار، وأن‌ يقول‌ للملائكة‌: لا تدوّنوا هذا! أو أن‌ يصرفهم‌ ـبإرادته‌ـ عن‌ رؤية‌ الاعمال‌ وتدوينها؛ فكلّ ذلك‌ ممكن‌، إلاّ أنّ نفس‌ العمل‌ لن‌يصبح‌ معدوماً، فإعدام‌ العمل‌ أمر محال‌.

 المقدّمة‌ الثالثة‌: إنّ الموجودات‌ التي‌ نشاهدها في‌ الخارج‌ لها ظاهر وباطن‌، وكلّ موجود من‌ الموجودات‌ الطبيعيّة‌ له‌ جسم‌ وروح‌، وله‌ مُلك‌ وملكوت‌. فالصلاة‌ التي‌ يصلّيها الإنسان‌ ـمثلاًـ لها ظاهر وباطن‌، ظاهرها الطهارة‌ والاستقبال‌ والقيام‌ والركوع‌ والسجود والدعاء والقرآن‌ والتسبيح‌ وغير ذلك‌؛ أمّا باطنها وملكوتها فيمثّلان‌ روح‌ الصلاة‌. فهل‌ أُقيمت‌ ـياتري‌ـ رياءً وعُجباً وغروراً وغير ذلك‌ من‌ المقاصد المتدنيّة‌ للمصلّي‌، أم‌ نبعت‌ من‌ الخلوص‌ والإخلاص‌؟

 هل‌ صلاّها الإنسان‌ في‌ حالة‌ الاضطراب‌ وازدحام‌ الخواطر والافكار، أم‌ صلاّها بطمأنينة‌ وسكينة‌ خاطر وحضور قلب‌؟ ما حدود ودرجات‌ حضوره‌ والتفاته‌ الباطني‌؟ وإلی‌ أين‌ أوصله‌ سيره‌ التصاعدي‌ّ؟ والامر كذلك‌ بالنسبة‌ إلی‌ باقي‌ أعمال‌ الإنسان‌، بل‌ حتّي‌ الاعمال‌ القبيحة‌ لها ملكوت‌ وباطن‌.

 كما أنّ الإنسان‌ يمتلك‌ ـبدوره‌ـ ظاهراً لا يختلف‌ بين‌ فرد وآخر، فله‌ طول‌ ويدان‌ ورجلان‌ وعينان‌ وأُذنان‌، وله‌ أعضاء وجوارح‌؛ إلاّ أنّ البواطن‌. ليست‌ متماثلة‌ مع‌ بعضها، فأحدهم‌ مؤمن‌ والآخر كافر، وأحدهم‌ عادل‌ والآخر فاسق‌؛ قد نوي‌ أحدهم‌ خيراً ونوي‌ الآخر شرّاً، وهكذا.

 إنّ كثيراً من‌ الافراد لهم‌ ارتباط‌ مع‌ ربّهم‌، والكثير الآخر معزولون‌ لارابطة‌ لهم‌ به‌، ولبعض‌ الناس‌ ذهن‌ مطمئن‌، بينما لكثير منهم‌ ذهن‌ مضطرب‌ مشوّش‌؛ يتبع‌ كثيرٌ منهم‌ الهوي‌ والهوس‌، بينما البعض‌ الآخر يهربون‌ منهما. هذا يعدّ الدنيا داراً أبديّة‌ خالدة‌، فهو في‌ حركة‌ ونشاط‌ في‌ باطنه‌ من‌ أجل‌ نيلها والوصول‌ إلیها؛ وذاك‌ يعدّ الدنيا فانية‌ ويعتبر الآخرة‌ باقية‌، فينظّم‌ ـعلي‌ هذا الاساس‌ والمحورـ أُمور حياته‌ ومعيشته‌.

 إنّ جميع‌ أفراد البشر يختلفون‌ ـ بلحاظ‌ الباطن‌ ـ عن‌ بعضهم‌ في‌ إدراكاتهم‌ وعقائدهم‌، اطمئنانهم‌ وسكونهم‌، ملكاتهم‌ وأخلاقهم‌ وصفاتهم‌؛ بينما لاندرك‌ ذلك‌ منهم‌ بلحاظ‌ الظاهر والشهود، فهي‌ أُمور تعود إلی‌ الغيب‌ والباطن‌.

 المقدّمة‌ الرابعة‌: مادمنا أسري‌ الهوي‌ والهوس‌، وما دامت‌ أعيننا معلّقة‌ بهذا العالم‌ لا تبرحه‌، وما دمنا نعجز عن‌ إلقاء نظرنا إلی‌ الباطن‌، فإنّنا سنري‌ هذه‌ الموجودات‌ في‌ عالم‌ الطبيعة‌ في‌ تلك‌ الصور الظاهريّة‌؛ فإذا صلّي‌ امرؤ ـمثلاًـ مدفوعاً بالإخلاص‌ أو بالرياء، فإنّنا لاندرك‌ ذلك‌، لا نّنا نري‌ ظاهر الصلاة‌ فقط‌، أمّا الباطن‌ فأمرٌ آخر لا نفهمه‌ ولا ندركه‌، وقد يمكن‌ أن‌ يكون‌ للباطن‌ ـدون‌ أن‌ ندرك‌ـ عدّة‌ صور أو عدة‌ آلاف‌ من‌ الصور.

 أمّا حين‌ نتحرّك‌ إلی‌ الله‌ تعإلی‌ ونتخطّي‌ دائرة‌ هذه‌ الادراكات‌ والمدركات‌، أي‌ حين‌ نذهب‌ إلی‌ مكان‌ تعمل‌ فيه‌ حواسّنا الباطنيّة‌ لاالظاهريّة‌، فإنّنا سنطّلع‌ علي‌ باطن‌ الاعمال‌.

 وبعبارةٍ أُخري‌، فإنّ ما يربطنا بالخارج‌ في‌ عالم‌ الشهادة‌ والظاهر يتمثّل‌ في‌ هذه‌ الحواسّ الظاهريّة‌، فلو عُدمنا الاعين‌ لما شاهدنا هذا العالم‌ الظاهري‌ّ؛ كما أنّ آذاننا، لمسنا، حسّ ذائقتنا وحسّ شمّنا هي‌ وسائل‌ ارتباطنا بالخارج‌، وطريقنا للحصول‌ علي‌ الإدراكات‌. أمّا بغير هذه‌ الحواسّ فإنّنا سنعجز عن‌ الاستفادة‌ من‌ عالم‌ الخارج‌، فيكون‌ وجوده‌ وعدمه‌ بالنسبة‌ لنا علي‌ حدٍّ سواء. وستُسلب‌ منّا هذه‌ الحواسّ حين‌ نرحل‌ عن‌ هذه‌ الدنيا، فنفقد ـمن‌ ثمّـ أعيننا فتستحيل‌ في‌ القبر تراباً؛ ونفقد آذاننا وأيدينا وأرجلنا وجوارحنا وحواسّنا.

 لكنّ الإنسان‌ له‌ نور باطنيّ يدرك‌ به‌ الحقائق‌، وذلك‌ النور متعلّق‌ بالنفس‌ وغير متعلّق‌ بالبدن‌ ولا بالمشاعر. وسيصحب‌ ذلك‌ النور الإنسان‌ في‌ ذلك‌ العالم‌، فيقوم‌ من‌ خلال‌ ذلك‌ الإحساس‌ بإدراك‌ البواطن‌، وستعمل‌ هذه‌ الحواسّ الظاهريّة‌ والمشاعر تبعاً له‌ وفي‌ هدي‌ نور وجوده‌، فتوصل‌ الإدركات‌ والعلوم‌ إلی‌ الإنسان‌، كما يقول‌ الحكيم‌ السبزواريّ قدّس‌ الله‌ نفسه‌:

 « إنّ للنفس‌ في‌ ذاتها سمعاً وبصراً وشمّاً وذوقاً ولمساً وغير ذلك‌، فالقوي‌ التي‌ في‌ البدن‌ ظلال‌ لما في‌ النفس‌ وبالتي‌ في‌ النفس‌ تدرك‌ في‌ النوم‌ والسكر والمرض‌ وفي‌ الكشوف‌ الصوريّة‌ المحسوسات‌ الجزئيّة‌، ومن‌ هنا يقول‌ العارف‌:

 پنج‌ حسّي‌ هست‌ جز اين‌ پنج‌ حسّ         آن‌ چو زرّ سرخ‌ و اين‌ حسّ همچو مِسّ

 صحّت‌ اين‌ حسّ ز معموريّ بدن‌         صحّت‌ آن‌ حسّ ز ويرانيّ بدن‌

 صحّت‌ اين‌ حسّ بجوييد از طبيب        ‌ صحّت‌ آن‌ حسّ بجوييد از حبيب‌»[13]

 ولانّ ذلك‌ العالم‌ عالم‌ تُبْلَي‌ السَّرَائِر، فإنّ المخفيّات‌ ستظهر جليّة‌ فيه‌، فالصلاة‌ ـمثلاًـ موجودة‌ هناك‌، ولكن‌ ليس‌ في‌ هيئة‌ القيام‌ والقعود، فهذه‌ الصورة‌ في‌ القيام‌ والقعود هي‌ صورتها المُلكيّة‌، بينما ستظهر الصلاة‌ هناك‌ في‌ صورتها الملكوتيّة‌.

 فكيف‌ كان‌ ملكوت‌ الصلاة‌ هنا يا تري‌؟ أكان‌ عن‌ إخلاص‌؟ أكان‌ عن‌ التفات‌ إلی‌ الله‌ وغرق‌ ومحوٍ في‌ جماله‌ تعإلی‌! فسيظهر ذلك‌ ويتجلّي‌ في‌ تلك‌ الصورة‌ الملكوتيّة‌.

 للصلاة‌ هناك‌ صورة‌ أعلي‌ من‌ الافهام‌ والعقول‌؛ وحين‌ تقام‌ الصلاة‌ من‌ أجل‌ الوصول‌ إلی‌ الجنة‌ والحور العين‌ وتقرّباً إلیهنّ، فإنّ صورتها الملكوتيّة‌ هي‌ الجنّة‌ والحور العين‌، إذ إنّ الصلاة‌ هناك‌ لا تبقي‌ بمعناها الواقعي‌ّ، فالجنّة‌ والحور العين‌ من‌ اللذّات‌ النفسانيّة‌، وسينال‌ المصلّي‌ تلك‌ اللذات‌ أمّا لو أُقيمت‌ الصلاة‌ هنا رياءً وسُمعة‌، فستكون‌ هناك‌ في‌ صورة‌ حيّة‌ وعقرب‌ ونار، لا نّها كانت‌ لغير الله‌ تعإلی‌، ولانّ المصلّي‌ ارتكب‌ بفعله‌ محرّماً، إذ الرياء في‌ العبادة‌ حرام‌.

 ومن‌ ثمّ فإنّ الاعمال‌ التي‌ يفعلها الإنسان‌ في‌ الدنيا ستوجد هناك‌ في‌ صورتها الملكوتيّة‌، فتظهر الذنوب‌ والمعاصيّ الكبيرة‌ في‌ صورة‌ النار والاغلال‌، وفي‌ صورة‌ الزقّوم‌ والحميم‌ والفلز المصهور يُصبّ في‌ الافواه‌، وبصورة‌ مُهل‌ يشوي‌ الوجوه‌، فينقلب‌ وضع‌ اللحم‌ حين‌ تمسّه‌ النار، وتسودّ الوجوه‌ وتُظلم‌، وفي‌ النهاية‌ فإنّها ستظهر في‌ صورة‌ ظلمات‌ وعقبات‌ ومخاوف‌ وأهوال‌.

 إنّ هذه‌ الصفات‌ الرذيلة‌ التي‌ يمتلكها الإنسان‌ تلذع‌ نفسه‌ الناطقة‌ القدسيّة‌ باستمرار كالحيّات‌ والافاعي‌ دون‌ أن‌ يعي‌ الإنسان‌ ذلك‌، أي‌ أ نّه‌ لايمنح‌ نفسه‌ الفرصة‌ لتفهم‌، ولا يكون‌ في‌ صدد الفهم‌ والإدراك‌. ثمّ يفرّ من‌ الحيّات‌ والعقارب‌ الخارجيّة‌ ويخاف‌ منها، بينما يتوجّب‌ عليه‌ أن‌ يخاف‌ حيّات‌ نفسه‌ الامّارة‌ وعقاربها.

 يتخيّل‌ المسكين‌ أن‌ ليس‌ هناك‌ من‌ شي‌ء، فنفسه‌ هادئة‌ مطمئنّة‌ بذلك‌ الخيال‌؛ أمّا حين‌ تطلع‌ شمس‌ الحقيقة‌ وتسطع‌، فإنّ بواطن‌ الإنسان‌ وذاته‌ وصفاته‌ ستطلع‌ بجلاء في‌ صورها الواقعيّة‌ والملكوتيّة‌، إذ تُعرض‌ الموجودات‌ في‌ ذلك‌ العالم‌ بحقيقتها لا بمجازها، إذ العالم‌ عالم‌ الحقيقة‌، والحساب‌ لايتوجّه‌ إلی‌ المظاهر.

 افرضوا أ نّنا نقف‌ في‌ صحراء ممتدّة‌ مكتظّة‌ في‌ إحدي‌ جهاتها بأنواع‌ الورود والرياحين‌ وأزهار السوسن‌ والنرجس‌ وإلیاسمين‌، ومكتظّة‌ في‌ الجهة‌ الاُخري‌ بأنواع‌ القاذورات‌ والاوساخ‌؛ وأنّ الوقت‌ الآن‌ ليل‌ والهواء بارد عليل‌، والشمس‌ لم‌ تُشرف‌ بعدُ، والثلوج‌ تغطّي‌ الارض‌؛ فسنشاهد أنّ جميع‌ هذه‌ الموجودات‌ في‌ حال‌ خفاء؛ الافاعي‌ والحيّات‌ قد نامت‌ في‌ جحورها، والشرائط‌ غيرمناسبة‌ للظهور والبروز.

 أمّا حين‌ ينقضي‌ الليل‌ ويطلّ الفجر برأسه‌ من‌ وراء الاُفق‌، ثمّ تملا الشمس‌ العالم‌ بنورها، وتبعث‌ للارض‌ بنورها ودفئها من‌ خلال‌ لُجج‌ الإشراق‌ والحرارة‌؛ فإنّ الثلوج‌ ستذوب‌، وستعبق‌ الاوراد والرياحين‌ بشذاها رويداً رويداً، فتنهمك‌ البلابل‌ وطيور الكناري‌ بالترنّم‌ والشدو علي‌ الافنان‌؛ ومن‌ الجانب‌ الآخر فإنّ الاقذار والاوساخ‌ ستبعث‌ روائحها العفنة‌ التي‌ تزكم‌ الاُنوف‌؛ وستزحف‌ الحيّات‌ والعقارب‌ خارجة‌ من‌ جحورها، سيظهر كلّ موجود في‌ هذه‌ الصحراء الممتدّة‌ الحارّة‌ المضاءة‌ حقيقة‌ وجوده‌، ويعرض‌ كمالاته‌ علي‌ مسرح‌ الوجود. هذه‌ هي‌ لازمة‌ طلوع‌ شمس‌ الحقيقة‌.

 آنگه‌ كه‌ آفتاب‌ حقيقت‌ شود پديد                 شرمنده‌ رهروي‌ كه‌ عمل‌ بر مجاز كرد [14]

 إنّ القيامة‌ هي‌ محلّ ظهور نور التوحيد وشمس‌ الحقيقة‌ الوهّاجة‌، ومن‌ ثمّ فإنّ جميع‌ الاعمال‌ ستظهر وتبرز، وسيمثّل‌ ما يصل‌ إلی‌ الإنسان‌ من‌ مثوبات‌ وعقوبات‌ نتيجة‌ أعماله‌، بل‌ نفس‌ أعماله‌ وسلوكه‌ وقد أظهرت‌ حقيقتها وواقعها في‌ ضوء نور التوحيد.

 وهناك‌ بحث‌ يدور بين‌ العلماء الاعلام‌ في‌ أمر الجزاء الذي‌ يُجازي‌ به‌ الإنسان‌ يوم‌ القيامة‌ علي‌ أعماله‌ في‌ دار الدنيا، أهو أمرٌ خارجيّ يُجزي‌ به‌، أو أ نّه‌ يمثّل‌ تجسّد الاعمال‌ ونفس‌ ظهور فعل‌ الإنسان‌ وسيرته‌؟

 وقد أثبتنا بصورة‌ وافية‌ في‌ مباحث‌ عالم‌ المثال‌ والبرزخ‌ اعتماداً علي‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ والروايات‌ الواردة‌ عن‌ الائمّة‌ المعصومين‌ عليهم‌ السلام‌ أنّ جزاء الاعمال‌ ليس‌ خارجاً عنها، وأ نّه‌ نفس‌ تجسّد الاعمال‌ وبروزها وظهورها. وقد برهن‌ المرحوم‌ صدر المتألّهين‌ علي‌ هذا الامر في‌ مواضع‌ كثيرة‌، سواءً في‌ كتابه‌ «الاسفار» أم‌ في‌ سائر كتبه‌ الاُخري‌.

 لذا لا يمكن‌ للإنسان‌ الاحتجاج‌ علي‌ ربّه‌ يوم‌ القيامة‌، بل‌ للّه‌ الحجّة‌ البالغة‌ دوماً علي‌ الإنسان‌، لانّ الإنسان‌ يري‌ نفس‌ عمله‌، ويري‌ الجنّة‌ وجهنّم‌ عين‌ سلوكه‌ وفعله‌ وقد تجلّي‌ في‌ صورة‌ ملكوتيّة‌:

 وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ'مٍ لِّلْعَبِيدِ. [15]

 وحين‌ يري‌ الإنسان‌ أنّ وقود جهنّم‌ هو نفس‌ مدركات‌ قلبه‌ ونواياه‌ الباطنة‌ ويري‌ أنّ الجنّة‌ والحور العين‌ و رضوانٌ من‌ الله‌ أكبر هي‌ نفس‌ مفرزات‌ ذهنه‌ وخلوصه‌ وإخلاصه‌؛ فأيّ حجّة‌ سيمكنه‌ ـمن‌ ثمّـ إقامتها عند ربه‌؟! وكيف‌ ستكون‌ له‌ الحجّة‌ علي‌ ربّه‌؟

 يقول‌ أمير المؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ في‌ الدعاء الذي‌ علمّه‌ لكميل‌بن‌ زياد النخعي‌ّ: وَلَكَ الحُجَّةُ عَلَيَّ فِي‌ جَميعِ ذَلِكَ وَلاَحُجَّةَ لِي‌ فِيمَا جَرَي‌ عَلَيَّ فِيهِ قَضَاؤُكَ. [16]

 المقدّمة‌ الخامسة‌: إنّ المعاد هو الرجوع‌ إلی‌ الله‌ تعإلی‌، وليس‌ في‌ عرض‌ هذا العالم‌، بل‌ هو في‌ طوله‌. ولإيضاح‌ هذا الامر نقول‌:

 معني‌ تقدّم‌ وتأخّر عوالم‌ الطبع‌ والبرزخ‌ والقيامة‌ قياساً إلی‌ بعضها:

 يظنّ عامّة‌ الناس‌ أنّ الله‌ عزّ وجلّ خلق‌ آدم‌ في‌ الجنّة‌ في‌ زمن‌ معيّن‌، ثمّ سلّط‌ الشيطان‌ عليه‌، ثمّ أخرجه‌ من‌ الجنّة‌ فهبط‌ علي‌ الارض‌، حتّي‌ انتهي‌ الامر بتعاقب‌ الازمان‌ إلی‌ عصرنا هذا الذي‌ ولدنا فيه‌، وأ نّنا سنعمّر علي‌ امتداد هذا الزمان‌ حتّي‌ نموت‌، ثمّ يكون‌ لنا برزخ‌ في‌ زمنٍ لاحق‌، وحين‌ ينقضي‌ ذلك‌ الزمن‌ فإنّنا سنذهب‌ إلی‌ القيامة‌.

 أي‌ أ نّهم‌ يتصوّرون‌ أنّ عالم‌ المثال‌ الذي‌ سبق‌ هذا العالم‌ يجسّده‌ زمناً معيّناً في‌ عرض‌ هذا العالم‌، وأنّ عالم‌ البرزخ‌ الذي‌ يتبع‌ هذا العالم‌ يمثل‌ أيضاً زمناً آخر في‌ عرض‌ هذا العالم‌. ويعني‌ ذلك‌ أ نّنا نطوي‌ في‌ هذه‌ الدنيا المراحل‌ الزمنيّة‌ الواحدة‌ تلو الاُخري‌، فنرد البرزخ‌ بعد انتهاء تلك‌ المراحل‌ وضمن‌ هذه‌ السلسلةُ الزمنيّة‌، ثمّ ينتهي‌ زمن‌ البرزخ‌ في‌ هذه‌ السلسلة‌ فنرد عالم‌ القيامة‌. والامر علي‌ هذا النحو بالنسبة‌ إلی‌ القيامة‌ التي‌ تمثّل‌ زمناً معيّناً تتعاقب‌ أوقاته‌ حتّي‌ يحكم‌ الله‌ بين‌ الناس‌.

 وترجع‌ الكثير من‌ الإشكالات‌ والاخطاء التي‌ تدور في‌ أذهان‌ الناس‌ ـصرّحوا بها أم‌ لم‌يصرّحواـ إلی‌ هذه‌ الطريقة‌ الخاطئة‌ من‌ فهم‌ الامر.

 فهم‌ يقولون‌: ما الذي‌ سيحصل‌ بعد القيامة‌؟ وما الذي‌ سيحصل‌ لو انقضت‌ مليون‌ سنة‌ أُخري‌؟ وما الذي‌ سيحصل‌ لو مرّت‌ مليون‌ سنة‌؟ مع‌ أنّ القيامة‌ ليست‌ في‌ عرض‌ هذا العالم‌، ومع‌ أنّ جميع‌ هذه‌ الاسئلة‌ ستكون‌ ـمن‌ ثمّـ أسئلة‌ لا مبرّر لها.

 ولبيان‌ هذه‌ الحقيقة‌ نقول‌: إنّ العوالم‌ متداخلة‌ عمقاً؛ أي‌ أنّ عالم‌ البررخ‌ ليس‌ عالماً يتبع‌ هذا العالم‌، بل‌ هو عالم‌ محيط‌ بهذا العالم‌ المادّيّ الطبيعي‌ّ، كما أ نّه‌ لن‌ يوجد في‌ وقت‌ لاحق‌، لا نّه‌ موجود في‌ الوقت‌ الحاضر.

 كما أنّ عالم‌ النفس‌ والقيامة‌ محيط‌ بنا، ومحيط‌ بعالم‌ الطبيعة‌ والمادّة‌ وبعالم‌ البرزخ‌ كليهما. فهو موجود ـإذاًـ ومتحقّق‌، لا أ نّه‌ سيوجد فيما بعد ويلي‌ هذا العالم‌.

 افرضوا أنّ الزمن‌ الذي‌ نولد فيه‌ ونتحرّك‌ إلی‌ الامام‌ إثر حركة‌ الزمن‌ حتّي‌ نفارق‌ الدنيا يمثّل‌ إناءً ووعاءً معيّناً؛ فسيمثّل‌ عالم‌ البرزخ‌ عالماً محيطاً بجميع‌ هذا الوعاء، وسيمثّل‌ عالم‌ القيامة‌ ـبدوره‌ـ عالماً محيطاً بهذا العالم‌ وبعالم‌ البرزخ‌ كليهما.

 فإن‌ شئنا ـوالامر كذلك‌ـ أن‌ نصل‌ إلی‌ البرزخ‌، فلن‌يتوجّب‌ أن‌ ينقضي‌ عمرنا لنذهب‌ عند موتنا إلی‌ عالم‌ البرزخ‌، لانّ البرزخ‌ موجود فعلاً. ولو أردنا الاطّلاع‌ علي‌ برزخنا فليس‌ علينا أن‌ نسير عرضيّاً، بل‌ علينا أن‌ نسير طوليّاً إلی‌ الاعلي‌، أي‌ أن‌ نتحرّك‌ حركة‌ معنويّة‌ صوب‌ مقام‌ التجرّد وعوالم‌ المعني‌ لنصل‌ إلی‌ البرزخ‌، ثمّ نسير من‌ هناك‌ سيراً طوليّاً ونرتقي‌ إلی‌ الاعلي‌ لنصل‌ إلی‌ القيامة‌، سواءً قمنا بهذا العمل‌ بعد موتنا أم‌ خلال‌ حياتنا.

 ولو نال‌ امروٌ ما مقام‌ التجرّد في‌ الدنيا فإنّه‌ سيموت‌ موتاً اختياريّاً بحيث‌ يتخطّي‌ عالم‌ الصورة‌ ويصل‌ إلی‌ القيامة‌. ولو خرج‌ امروٌ في‌ الدنيا من‌ عالم‌ الشهوة‌ والهوي‌ والآمال‌ وتخطّي‌ محبّة‌ الدنيا من‌ خلال‌ تهذيب‌ النفس‌ واتّباع‌ الشريعة‌ واقتفاء أثر تعإلیم‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌، وبواسطة‌ رعاية‌ الجوانب‌ المعنويّة‌ للاُمور الشرعيّة‌ والعباديّة‌ وصولاً إلی‌ حيازة‌ مَلكة‌ التقوي‌؛ فإنّه‌ سيسير إلی‌ الله‌ تعإلی‌ سيراً من‌ لوازمه‌ الوصول‌ إلی‌ البرزخ‌ في‌ المنزل‌ الاوّل‌. ومن‌ ثمّ فإنّه‌ سيدرك‌ برزخه‌ بلاشكّ ولاريب‌.

 ما هو البرزخ‌؟ هو عالم‌ الصورة‌، وهو التجرّد من‌ المادّة‌. أي‌ أن‌ يري‌ الإنسان‌ نفسه‌ مجرّداً من‌ المادّة‌، ويُدرك‌ الموجودات‌ البرزخيّة‌ التي‌ تمتلك‌ صورة‌ إلاّ أ نّها عديمة‌ الثقل‌ والمادّة‌.

 فإن‌ تحرّك‌ من‌ هناك‌ إلی‌ الامام‌ من‌ خلال‌ تهذيب‌ النفس‌ واتّباع‌ أوامر رسول‌الله‌، وتحرّك‌ في‌ مسيرة‌ طوليّة‌ تصاعديّة‌ ـلافي‌ عرض‌ الزمان‌ـ وارتقي‌ إلی‌ الاعلي‌ في‌ مسيره‌ إلی‌ الله‌ تعإلی‌، فإنّه‌ سيصل‌ إلی‌ القيامة‌ فيدرك‌ قيامته‌ بجميع‌ آثارها وخصائصها.

 لذا ورد في‌ الحديث‌: لَنْ يَلِجَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ مَن‌ لَمْ يُولَدْ مَرَّتَيْنِ.

 وإذا لم‌ يوفّق‌ الإنسان‌ خلال‌ حياته‌ لإدراك‌ هذه‌ العوالم‌ اختياراً، فإنّه‌ سيصلها ويدركها بعد موته‌ اضطراراً.

 أي‌ أنّ الإنسان‌ سيدخل‌ البرزخ‌ من‌ خلال‌ السير العرضيّ حين‌ يقطع‌ علاقته‌ بالبدن‌ وحين‌ يصل‌ موعد موته‌، ثمّ ينقضي‌ البرزخ‌ فيرد القيامة‌ من‌ خلال‌ سيره‌ العرضي‌ّ.

 هذه‌ هي‌ حقيقة‌ السير إلی‌ الله‌ تعإلی‌، لا نّنا نذهب‌. إلیه‌ سبحانه‌ عند موتنا؛ أفلسنا نقول‌: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إلیهِ رَ ' جِعُونَ؟ أوَ لم‌ نذكر عند مطلع‌ البحث‌ آيات‌: إلی‌ اللَهِ تُحْشَرُونَ، إلیهِ تُحْشَرُونَ، إلیهِ تُقْلَبُونَ؟ فأين‌ هو الله‌ تعإلی‌؟ ليس‌ له‌ مكان‌ ولا زمان‌، وهو موجود في‌ كلّ مكان‌ وفي‌ كلّ آن‌ وزمان‌. فنحن‌ ـإذاًـ نُحشر إلیه‌، أي‌ أ نّنا نسير إلی‌ الاعلي‌ في‌ تقرّبنا وسيرنا الطوليّ حتّي‌ نصل‌ إلی‌ حيث‌ نراه‌ محيطاً بكلّ شي‌ء؟

 لقد بُعثت‌ فينا الروح‌ ووُلدنا وأطلق‌ علينا أبونا العزيز اسماً وأقام‌ وليمة‌ في‌ الليلة‌ السادسة‌ لولادتنا وعقّ عنا ودعي‌ الارحام‌ والاصدقاء، ثمّ كبرنا وترعرعنا شيئاً فشيئاً وبلغ‌ عمرنا سنتين‌ ثمّ أربع‌ سنوات‌، ثمّ ذهبنا إلی‌ المدرسة‌، ثمّ أدركنا سنّ البلوغ‌ والشباب‌ ثمّ الكهولة‌، ثمّ إنّنا نموت‌، وذلك‌ في‌ مسيرة‌ متوإلیة‌ تجاه‌ الله‌ تعإلی‌. ثمّ إنّنا نذهب‌ إلی‌ عالم‌ البرزخ‌ ثمّ إلی‌ القيامة‌ ونجتاز كلّ هذه‌ الازمنة‌ الواقعة‌ في‌ عرض‌ العالم‌ حتّي‌ نصل‌ إلی‌ الله‌ سبحانه‌. فهو ـإذاًـ إله‌ واقع‌ في‌ أقصي‌ العالم‌. وكم‌ هو إله‌ مظلوم‌، وكم‌ نحن‌ بشر ظالمون‌! لا نّنا نأتي‌ إلی‌ الإله‌ المحيط‌ بكلّ شي‌ء والموجود مع‌ كلّ شي‌ء، الذي‌ له‌ المعيّة‌ مع‌ كلّ شي‌ء، لا تخلو منه‌ لحظة‌ في‌ العالم‌، الإله‌ الذي‌ نقرأ عنه‌: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ.

 نأتي‌ إلیه‌ فنسلب‌ منه‌ كلّ هذه‌ الاُمور، ثمّ نردّه‌ إلی‌ الوراء ونجعله‌ في‌ تلك‌ الزاوية‌ البعيدة‌ من‌ العالم‌. وحصيلة‌ القول‌ أ نّنا نجعل‌ الله‌ موجوداً ضعيفاً بلاخاصيّة‌ ولاإرادة‌، إلهاً عاجزاً عن‌ فعل‌ أيّ شي‌ء، إلهاً قد سُلب‌ منه‌ كلّ شي‌ء وأُوكل‌ إلی‌ أُمور التكوين‌، إلهاً نجعله‌ في‌ هذه‌ الزاوية‌ وتلك‌ الزاوية‌ من‌ العالم‌، أي‌ في‌ الزاويتين‌ الاُولي‌ والاخيرة‌ من‌ العالم‌، ثمّ نعتبر معني‌ الازل‌ والابد الزمنيين‌ الاوّل‌ والآخر. فأكرِم‌ بهذا الوضع‌ وهذا الحساب‌!! وهو كلام‌ خاطي‌ بأجمعه‌ ومُجانب‌ للصواب‌. فالله‌ تعإلی‌ موجود، وهو موجود دوماً في‌ كلّ مكان‌ ومع‌ كلّ شي‌ء؛ والقيامة‌ موجودة‌ والبرزخ‌ موجود، والعوالم‌ التي‌ تعلو القيامة‌ ( أي‌ الاسماء والصفات‌ الكلّيّة‌ الإلهيّة‌ ) موجودة‌، والذات‌ المقدّسة‌ للّه‌ تعإلی‌ موجودة‌.

 معني‌ الازل‌ والابد:

 لا يعني‌ الازل‌ بداية‌ الزمان‌، كما لا يعني‌ الابد أنتهاء أمد الزمان‌ وطوله‌، بل‌ إنّ معني‌ الازل‌ باللحاظ‌ الطوليّ قياساً إلی‌ هذا العالم‌ يتمثّل‌ في‌ نقطة‌ ابتداء الخلقة‌ في‌ الدرجات‌ العإلیة‌ ومراتب‌ القدرة‌ والعلم‌. أمّا الابد فيعني‌ نقطة‌ انتهاء الخلقة‌ في‌ الدرجات‌ العإلیة‌ ومراتب‌ العلم‌ والقدرة‌. فنقطتي‌ الازل‌ والابد واحدة‌، إلاّ أ نّها واحدة‌ باعتبارينِ، فهي‌ تدعي‌ بالازل‌ بلحاظ‌ بداية‌ الخلقة‌، وتدعي‌ بالابد باعتبار نهايتها.

 أي‌ أنّ الازل‌ عبارة‌ عن‌ النقطة‌ التي‌ أراد الله‌ عزّ اسمه‌ فيها خلق‌ عوالم‌ الكثرة‌ والعوالم‌ الملكوتيّة‌ من‌ ذاته‌ المقدّسة‌ في‌ أعلي‌ الدرجات‌ والمقامات‌، كما أنّ الابد هو النقطة‌ التي‌ تصلها جميع‌ الموجودات‌ والمخلوقات‌ في‌ سيرها إلی‌ الذات‌ المقدّسة‌ في‌ أعلي‌ الدرجات‌ والمقامات‌.

 أين‌ ازل‌ عين‌ ابد آمد يقين‌              ظاهر اينجا عين‌ باطن‌ شد ببين‌ [17]

 ولو فرضنا ـ من‌ باب‌ المثال‌ ـ أنّ الذات‌ الاحديّة‌ ومقام‌ غيب‌ الغيوب‌ وما لا اسم‌ له‌ يمثّل‌ نقطة‌ لا بُعد لها ( نقطة‌ رياضيّة‌ لا نقطة‌ فيزيائيّة‌ )، وأنّ أوّل‌ نقطة‌ ظهور الكثرات‌ تمثّل‌ الإرادة‌ والمشيئة‌، وأنّ كثرات‌ عالم‌ الملكوت‌ توجد من‌ هناك‌ الواحدة‌ تلو الاُخري‌ وتتنزّل‌ إلی‌ الاسف‌ وصولاً إلی‌ عالم‌ الطبع‌ والمادّة‌ الاوسع‌ ـ بلحاظ‌ الكثرة‌ ـ من‌ جميع‌ العوالم‌ والاضيق‌ منها بلحاظ‌ الحياة‌ والعلم‌ والقدرة‌، فإنّ شكلاً مخروطيّاً سيتشكلّ بحيث‌ تمثّل‌ قمّته‌ مقام‌ اسم‌ الاحد، ثمّ في‌ مقام‌ أدني‌ منه‌ اسم‌ الحيّ والعليم‌ القدير، ثمّ الادني‌ وهو مقام‌ الإرادة‌ والمشيئة‌ الذي‌ نشأ منه‌ العالم‌، ثمّ تليها كثرات‌ العالم‌ متعاقبة‌ كلّما اتّجهنا نحو الاسفل‌، حتّي‌ نصل‌ إلی‌ قاعدة‌ المخروط‌ التي‌ تمثّل‌ عالم‌ المادّة‌ وهو أظلم‌ العوالم‌.

 ولقد خُلق‌ كلّ واحد من‌ الموجودات‌ من‌ نقطة‌ معيّنة‌ بإرادة‌ الخالق‌ تعإلی‌، ثمّ إنّها طوت‌ قوس‌ النزول‌ والحركة‌ إلی‌ عالم‌ المادّة‌، فتحركت‌ ـمن‌ ثمّـ إلی‌ جهة‌ المبدأ، لتصل‌ من‌ خلال‌ طيّ قوس‌ الصعود إلی‌ تلك‌ النقطة‌ التي‌ بدأت‌ منها، وصولاً إلی‌ فنائها في‌ تلك‌ النقطة‌: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. [18]

 ومن‌ هنا فإنّ جميع‌ الموجودات‌ تعود إلی‌ الله‌ تعإلی‌، إذ إنّ ذات‌ الحقّ القدسيّة‌ هي‌ غاية‌ سير جهاز الخلقة‌ ومنتهي‌ حركته‌: وَأَنَّ إلی‌' رَبِّكَ الْمُنْتَهَي‌'. [19]

 ولا يخفي‌ أ نّنا جعلنا قمّة‌ المخروط‌ تمثّل‌ الذات‌ الاحدية‌ التي‌ ليس‌لها اسم‌ ولا رسم‌ بأيّ وجه‌ من‌ الوجوه‌، وإلاّ فإنّ قدرة‌ الخالق‌ وعلمه‌ وحياته‌ وسائر أسمائه‌ وصفاته‌ موجودة‌ في‌ جميع‌ هذا المخروط‌ ومثبوتة‌ حتّي‌ في‌ قاعدته‌ التي‌ تمثّل‌ عالم‌ الكثرات‌ المادّيّة‌ والطبعيّة‌، بل‌ إنّها ملات‌ جميع‌ هذا المخروط‌ بحيث‌ إنّنا لا نجد ذرّة‌ ولا نقطة‌ واحدة‌ في‌ هذا الحجم‌ خإلیة‌ من‌ الله‌ تعإلی‌ ولم‌ يصل‌ اسمه‌ وصفته‌ وفعله‌.

 اللَهُ نُورُ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ. [20]

 

 ومن‌ هنا فإنّ اسم‌ الواحد ( وهو مقام‌ ظهور نور الذات‌ في‌ مظاهر العالم‌ ) يشكّل‌ مجموعة‌ المخروط‌.

 ويتّضح‌ ممّا قيل‌ معني‌ الازل‌ والابد:

 الازل‌: أوّل‌ نقطة‌ الحضيض‌ لطيّ قوس‌ النزول‌ في‌ عالم‌ الكثرة‌.

 الابد: آخر نقطة‌ الذروة‌ بعد طيّ قوس‌ الصعود إلی‌ عالم‌ الوحدة‌.

 وعلمنا جيّداً ـتبعاً لهذه‌ المقدّمة‌ـ أين‌ عالم‌ البرزخ‌، وأين‌ عالم‌ القيامة‌، فعالم‌ البرزخ‌ موجود الآن‌، وعالم‌ القيامة‌ موجود كذلك‌. ولايمكننا القول‌ بأنّ القيامة‌ موجودة‌ الآن‌، لانّ « الآن‌ » تعني‌ في‌ هذا الزمن‌، بينما ليس‌ للقيامة‌ زمان‌، وهي‌ ما فوق‌ الزمان‌.

 تماماً كما نقول‌ إنّ بدننا موجود الآن‌، إلاّ أنّ من‌ الخطأ أن‌ نقول‌ بأنّ روحنا موجودة‌ الآن‌. علينا أن‌ نقول‌: الروح‌ موجودة‌، لانّ الروح‌ مجرّدة‌ عن‌ الزمان‌ ولا يسعها الزمان‌.

 بلي‌ يمكننا القول‌ بأ نّها موجودة‌ في‌ هذه‌ الساعة‌ بلحاظ‌ أنّ روحنا قد وسعت‌ هذه‌ الساعة‌ وهذه‌ اللحظة‌ أيضاً، كما أ نّنا نستطيع‌ القول‌ بهذا اللحاظ‌ إنّ القيامة‌ موجودة‌ في‌ هذه‌ الساعة‌، بل‌ إنّنا نستطيع‌ القول‌ بأنّ الله‌ تعإلی‌ موجود في‌ هذه‌ الساعة‌.

 إنّ روح‌ الإنسان‌ ونفسه‌ الناطقة‌ مجرّدة‌ وليست‌ مقيّدة‌ بالزمان‌ بأيّ وجه‌، اللهمّ إلاّ باعتبار تعلّقها بالبدن‌ بلحاظ‌ إدراك‌ صاحبها أمّا لو شاهد امرؤ روحه‌ وجداناً، لرآها فوق‌ الزمان‌ والمكان‌، بل‌ لرآها مهيمنة‌ علي‌ الزمان‌ وقد طبقت‌ جميع‌ العوالم‌، فجميع‌ العوالم‌ كالجوزة‌ في‌ قبضتها.

 لكنّنا لم‌ ندرك‌ روحنا، وتصوّرنا أنّ وجودنا ليس‌ إلاّ هذا الوجود المادّيّ الطبيعي‌ّ، وأ نّه‌ محدود بالزمان‌ والمكان‌، فتصوّرنا ـمن‌ ثمّـ أنّ روحنا زمانيّة‌ بدورها، وصرنا نقول‌ بأ نّنا موجودون‌ الآن‌، وبأنّ روحنا موجودة‌ الآن‌، وعلينا أن‌ نحذف‌ قيد « الآن» ليصحّ تعبيرنا.

 إنّ عالم‌ البرزخ‌ من‌ تتمّات‌ عالم‌ الدنيا، وليس‌ عالماً مجرّداً محضاً، فهو يمتلك‌ صورة‌ علي‌ الرغم‌ من‌ خلوّه‌ من‌ المادّة‌. وتبعاً لذلك‌ فإنّه‌ يتضمّن‌ زماناً ويمكننا لذلك‌ أن‌ نقول‌ بأنّ عالم‌ البرزخ‌ موجود الآن‌. أمّا القيامة‌ فمجرّدة‌ من‌ الصورة‌ والمادّة‌ كليهما ولا زمان‌ لها، ومن‌ هنا يجب‌ التعبير عنها بعبارة‌: القيامة‌ موجودة‌. وإذا ما كانت‌ القيامة‌ مجرّدة‌ والروح‌ مجرّدة‌، فلماذا لاندرك‌ القيامة‌ ياتري‌؟ الإجابة‌: لا نّنا لم‌ نصبح‌ مجرّدين‌ ولم‌ندرك‌ التجرّد ولم‌نفهم‌ مقولة‌ « رو مجرّد شو مجرّد را ببين‌ ». [21]

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ الآية‌ 96، من‌ السورة‌ 5: المائدة‌؛ والآية‌ 9، من‌ السورة‌ 58: المجادلة‌.

[2] ـ الآية‌ 158، من‌ السورة‌ 3: آل‌ عمران‌.

[3] ـ الآية‌ 24، من‌ السورة‌ 8: الانفال‌.

[4] ـ الآية‌ 44، من‌ السورة‌ 50: ق‌.

[5] ـ الآية‌ 132، من‌ السورة‌ 3: آل‌ عمران‌.

[6] -التفصی:الابانةوالفعل.

[7] ـ «الاسفار» ج‌ 9، ص‌ 200 و 201، الطبعة‌ الحروفيّة‌.

[8] ـ النصف‌ الثاني‌ من‌ الآية‌ 61، من‌ السورة‌ 56: الواقعة‌.

[9] ـ من‌ أوضح‌ وأجلي‌ الآيات‌ الدالّة‌، علي‌ أنّ الآخرة‌ ليست‌ في‌ عَرْض‌ الدنيا، بل‌ هي‌ في‌ طول‌ الدنيا وفي‌ باطنها، الآية‌ 7، من‌ السورة‌ 30: الروم‌: يَعْلَمُونَ ظَـ'هِرًا مِّنَ الْحَيَو'ةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاْخِرَةِ هُمْ غَـ'فِلُونَ.

 إذ يستفاد من‌ قرينة‌ التقابل‌ التي‌ جعلت‌ الآخرة‌ مقابل‌ ظاهر الدنيا، أنّ الآخرة‌ هي‌ باطن‌ الحياة‌ الدنيا.

[10] ـ «الاسفار» ج‌ 9، ص‌ 202 إلی‌ 205، الطبعة‌ الحروفيّة‌.

[11] ـ «الاسفار» ج‌ 9، ص‌ 167 و 168، الطبعة‌ الحروفيّة‌.

[12] ـ «المنظومة‌ السبزواريّة‌» ص‌ 344 طبعة‌ ناصري‌.

[13] ـ «المنظومة‌ السبزواريّة‌» حاشية‌ ص‌ 335، طبعة‌ ناصري‌؛ والاشعار للملاّ محمّد العارف‌ الروميّ في‌ «مثنوي‌» ج‌ 1 و ج‌ 2، طبعة‌ ميرخاني‌؛ حيث‌ ورد البيت‌ الاوّل‌ في‌ ج‌ 2، ص‌ 107، وورد البيتان‌ الآخران‌ في‌ ج‌ 1، ص‌ 9.

 يقول‌ الشاعر: «هناك‌ حواسّ خمس‌ غير هذه‌ الحواسّ (الظاهريّة‌)؛ تلك‌ كالذهب‌ الاحمر وهذه‌ كالنحاس‌.

 وبينما يصحّ هذه‌ الحسّ عند معافاة‌ البدن‌، يصحّ ذلك‌ الحسّ عند انهياره‌ وتلفه‌.

 فاطلب‌ صحّة‌ هذا الحسّ عند الطبيب‌، وانشد صحّة‌ ذلك‌ الحسّ عند الحبيب‌!»

[14] ـ يقول‌: «عندما تستبين‌ شمس‌ الحقيقة‌، فسيخجل‌ كلّ سالكٍ عمل‌ بالمجاز!».

[15] ـ النصف‌ الثاني‌ من‌ الآية‌ 46، من‌ السورة‌ 41: فصّلت‌.

[16] ـ دعاء كميل‌ من‌ الادعية‌ القيّمة‌ ذات‌ المضامين‌ العإلیة‌. وقد أورده‌ الشيخ‌ الطوسيّ في‌ «مصباح‌ المتهجّد» ص‌ 587 إلی‌ 592، في‌ أعمال‌ ليلة‌ النصف‌ من‌ شعبان‌. وأورده‌ المجلسيّ في‌ «زاد المعاد» ص‌ 61 إلی‌ 73؛ كما أورده‌ الشيخ‌ إبراهيم‌ الكفعميّ في‌ «مصباح‌ الكفعمي‌ّ» ص‌ 555 إلی‌ 560، وفي‌ «البلد الامين‌» ص‌ 188 إلی‌ 191. أمّا المرحوم‌ السيّد ابن‌ طاووس‌ فقد أورده‌ في‌ «الإقبال‌» ص‌ 706 إلی‌ 710 في‌ أعمال‌ ليلة‌ النصف‌ من‌ شعبان‌، حيث‌ نقله‌ بسندين‌: الاوّل‌ عن‌ جدّه‌ الشيخ‌ الطوسي‌ّ رحمة‌ الله‌ عليه‌ بهذا المضمون‌ أ نّه‌ روي‌ أنّ كميل‌بن‌ زياد النخعيّ رأي‌ أمير المؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ ساجداً يدعو بهذا الدعاء في‌ ليلة‌ النصف‌ من‌ شعبان‌.

 والثاني‌ في‌ رواية‌ أُخري‌ بهذا المضمون‌: قال‌ كميل‌ بن‌ زياد: كنتُ جالساً مع‌ مولاي‌ ï ïأميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ في‌ مسجد البصرة‌ ومعه‌ جماعة‌ من‌ أصحابه‌ فقال‌ بعضهم‌: ما معني‌ قول‌ الله‌ عزّ وجلّ «فيها يفرق‌ كلّ أمرٍ حكيم‌»؟ قال‌ عليه‌ السلام‌: ليلة‌ النصف‌ من‌ شعبان‌؛ والذي‌ نفس‌ علي‌ٍّ بيده‌ إنّه‌ ما عبدٍ إلاّ وجميع‌ ما يجري‌ عليه‌ من‌ خير وشرّ مقسوم‌ له‌ في‌ ليلة‌ النصف‌ من‌ شعبان‌ إلی‌ آخر السنة‌ في‌ مثل‌ تلك‌ الليلة‌ المقبلة‌، وما عبدٍ يُحييها ويدعو بدعاء الخضر عليه‌ السلام‌ إلاّ أُجيب‌ له‌. فلمّا انصرف‌ طرقتُه‌ ليلاً فقال‌: ما جاء بك‌ ياكميل‌؟ قلت‌: ياأميرالمؤمنين‌! دعاء الخضر. فقال‌: اجلس‌ يا كميل‌، إذا حفظت‌ هذا الدعاء فادعُ به‌ كلّ ليلة‌ جمعة‌ أو في‌ الشهر مرّة‌ أو في‌ السنة‌ مرّة‌ أو في‌ عمرك‌ مرّة‌ تُكف‌ وتُنصر وتُرزق‌ ولن‌تُعدم‌ المغفرة‌. يا كميل‌! أوجبَ لك‌ طولُ الصحبة‌ لنا أن‌ نجود لك‌ بما سئلت‌. ثمّ قال‌: اكتب‌: اللهمّ إنّي‌ أسألك‌ برحتمك‌ـ الدعاء.

[17] ـ يقول‌: «لقد صار الازل‌ عين‌ الابد يقيناً، فانظر كيف‌ صار الظاهر هنا عين‌ الباطن‌».

[18] ـ المقطع‌ الاخير من‌ الآية‌ 29، من‌ السورة‌ 7: الاعراف‌.

[19] ـ الآية‌ 42، من‌ السورة‌ 53: النجم‌.

[20] ـ الآية‌ 35، من‌ السورة‌ 24: النور.

[21] ـ يقول‌: «اذهب‌ وكُن‌ مجرّداً لتري‌ المجرّد».

 

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com