بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة المعاد / المجلد الثانی / القسم الخامس: العوالم الثلاثة، الحیاة البرزخیة

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

العوالم‌ الثلاثة‌ للإنسان‌: البدن‌ والذِّهن‌ و النَّفس‌

إنـّنا نمتلك‌ مراتب‌ من‌ مراتب‌ الوجود

 الاُولي‌: بدننا المنتمي‌ إلی‌ عالم‌ الطبع‌ و المادّة‌، و الذي‌ يعروه‌ و يطرأ عليه‌ التغيّر و التحوّل‌ و الفساد و الصلاح‌ و العُمران‌، و المتغيّر دوماً مع‌ تغييرات‌ المادّة‌ والظرف‌ الزمانيّ والمكانيّ. فالبدن‌ بجميع‌ أعضاءه‌ وجوارحه‌ من‌ القلب‌ و المخّ و الكبد و الرئة‌ و الكلية‌ و المعدة‌ و الامعاء واليدين‌ والرِجلين‌ و العين‌ و الاُذن‌ و آلاف‌ الاعضاء و ملايين‌ الخلايا ليس‌ في‌ ثبات‌ و استقرار و لو للحظة‌ واحدة‌، بل‌ يتّخذ لنفسه‌ دوماً في‌ حركته‌ الجوهريّة‌ والذاتيّة‌ حالاتٍ جديدةٍ تخلف‌ حالاته‌ السابقة‌ و تحلّ محلّها.

 الثانية‌: مرحلة‌ ألطف‌ و أعلی، و هي‌ ذهننا الذي‌ يمتلك‌ قويً باطنيّة‌ من‌ القوة‌ المفكّرة‌ و المتخيّلة‌ و الواهمة‌ و الحافظة‌ و الحسّ المشترك‌، والذي‌ يستقبل‌ آلاف‌ الصور و الاشكال‌ و المعاني‌، كما أنـّه‌ يُوجِد بنفسه‌ مثل‌ هذه‌ الصور و المعاني‌ أيضاً.

 فذهننا لا وزن‌ له‌ و لا ثقل‌، و ليس‌ مادّياً، إلاّ أنّ له‌ كيفيّة‌ المادّة‌ وآثارها من‌ الشكل‌ و الصورة‌ و اللذّة‌ و الحزن‌ و غيرها.

 و يمكن‌ لذهننا أن‌ يُوجِد في‌ داخله‌ بإرادته‌ موجوداتٍ لا يمكنها الظهور في‌ هذا العالم‌ بواسطة‌ كثافة‌ المادّة‌.

 كما أنّ حركة‌ بدننا تابعة‌ لاءرادة‌ ذهننا و أمره‌، فلا يمكن‌ للإنسان‌ إنجاز عملٍ مادون‌ أن‌ يتصورّ صورة‌ ذلك‌ العمل‌. و لقد تصوّرنا حين‌ كنّا في‌ المنزل‌ صورة‌ المسجد و الحركة‌ تجاهه‌، و وضعنا في‌ نظرنا فائدة‌ ذلك‌، ثّم‌ إنّ أنفسنا أمرتنا لنعمل‌ وفق‌ تلك‌ الخطّة‌ التي‌ رُسمت‌ في‌ أذهاننا من‌ المسجد و الحركة‌ و تصوّر فائدة‌ المجي‌ء للمسجد، فعلمنا بذلك‌.

 الثالثة‌: نفسنا و حقيقتنا، و هي‌ أعلی و أوسع‌ و ألطف‌ بكثير من‌ ذهننا، لانـّها تفوقه‌ في‌ عدم‌ امتلاكها شكلاً و لا صورة‌، و لا أبعاداً ولاكيفيّة‌. و هي‌ تلك‌ الماهيّة‌ التي‌ يُعبّر عنها بـ «أنا» و «أنت‌» و «هو» و«نحن‌» و «أنتم‌» و «هم‌».

 و هي‌ أعلی من‌ القوي‌ و من‌ الملكات‌ و الصفات‌، لانّ جميع‌ القوي‌ الباطنيّة‌ و الملكات‌ و الصفات‌ موجودة‌ في‌ شعاع‌ وجودها و قائمة‌ بها، وهي‌ حقيقة‌ مجرّدة‌ عن‌ المادّة‌، و مجرّدة‌ عن‌ صورة‌ المادّة‌ و آثارها.

 و هذه‌ المراحل‌ الثلاث‌ لوجودنا أُنموذج‌ و مثال‌ للمراحل‌ الثلاث‌ من‌ وجود العالم‌ الكلّيّ، فبدننا أُنموذج‌ من‌ عالم‌ الهيولا و الطبع‌، و ذهننا و مثالنا المتّصل‌ أُنموذج‌ من‌ عالم‌ البرزخ‌ و المثال‌ المنفصل‌، و نفسنا الناطقة‌ وحقيقتنا أُنموذج‌ من‌ عالم‌ النفس‌ الكلّيّة‌ و القيامة‌ الكبري‌.

 و قد أُشيرَ إلی‌ هذا الامر في‌ الاشعار المنسوبة‌ إلی‌ مولي‌ الموإلی‌ أمير الموحدّين‌ و المؤمنين‌ عليه‌ السلام‌:

 دَوَاؤكَ فِيكَ وَ مَا تَشْعُرُ               وَ دَاؤُكَ مِنْكَ وَ مَا تُبْصِرُ

 وَ تَحْسَبُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ                       وَ فِيكَ انْطَوَي‌ الْعَالَمُ الاْكْبَرُ

 وَ أَنْتَ الْكِتَابُ الْمُبِينُ الَّذِي‌                      بَأَحْرُفِهِ يَظْهَرُ الْمُضْمَرُ

 فَلاَ حَاجَةَ لَكَ فِي‌ خَارِجٍ              يُخَبِّرُ عَنْكَ بِمَا سُطِّرُ [1]

 و قد صُرّح‌ بهذه‌ المراتب‌ الثلاث‌ في‌ وجود الإنسان‌ في‌ السجدة‌ التي‌ سجدها رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ في‌ ليلة‌ النصف‌ من‌ شعبان‌، و كذلك‌ في‌ الدعاء الوارد في‌ سجدة‌ النصف‌ من‌ شعبان‌ بعد إيراد الصلاة‌ بالكيفيّة‌ الخاصّة‌.

 روي‌ الشيخ‌ الطوسيّ في‌ كتاب‌ «مصباح‌ المتهجّد» عن‌ حمّاد بن‌ عيسي‌، عن‌ أبان‌ بن‌ تغلب‌ قال‌:

 قال‌ أبوعبدالله‌ عليه‌ السلام‌: لمّا كانت‌ ليلة‌ النصف‌ من‌ شعبان‌ كان‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ عند عائشة‌، فلمّا انتصف‌ الليل‌ قام‌ رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌، عن‌ فراشها، فلمّا انتبهت‌ وجدت‌ رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ قد قام‌ عن‌ فراشها، فدخلها ما يتداخل‌ النساء و ظنّت‌ أنـّه‌ قد قام‌ إلی‌ بعض‌ نسائه‌، فقامت‌ و تلفّفت‌ بشملتها و أيم‌ الله‌ ما كان‌ قزّاً و لا كتّاناً و لا قطناً، ولكن‌ كان‌ سداه‌ شعراً و لحمته‌ أوبار الإبل‌، فقامت‌ تطلب‌ رسول‌ الله‌ صلي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ في‌ حُجَر نسائه‌ حجرةً حجرة‌، فبينا هي‌ كذلك‌ إذ نظرت‌ إلی‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ ساجداً كثوب‌ متلبّط‌ علی وجه‌ الارض‌، فدنت‌ منه‌ قريباً فسمعته‌ في‌ سجوده‌ و هو يقول‌:

 سَجَدَ لَكَ سَوَادِي‌ وَ خَيَإلی‌ وَ آمَنَ بِكَ فُؤَادِي‌، هَذِهِ يَدَاي‌ وَ مَا جَنَيْتُهُ علی' نَفْسِي‌، يَا عَظِيمَاً تُرْجَي‌ لِكُلِّ عَظِيم‌، إغْفِرْ لِي‌ ذَنْبِي‌ الْعَظِيمَ فَإنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ إلاَّ الرَّبَّ الْعَظِيم‌.

 ثُمّ رفع‌ رأسه‌ و أهوي‌ ثانياً إلی‌ السجود و سَمَعَتْهُ عائشة‌ يقول‌:

 أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي‌ أَضَاءَتْ لَهُ السَّمَو ' تُ وَالاْرَضُونَ، وَانْكَشَفَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَ صَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الاْوَّلِينَ وَالآخِرينَ، مِنْ فُج'اءَةِ نِقْمَتِكَ وَ مِنْ تَحْوِيلِ عَافِيَتِكَ وَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ. اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي‌ قَلْبَاً تَقِيَّاً نَقِيَّاً وَ مِنَ الشِّرْكِ بَرِيئاً لاَ كَافِرَاً وَ لاَ شَقِيَاً.

 ثّم‌ عفّر خدّيه‌ في‌ التراب‌ فقال‌:

 عَفَّرْتُ وَجْهِي‌ فِي‌ التُّرَابِ وَ حَقَّ لِي‌ أَنْ أَسْجُدَ لَكَ.

 فلمّا همّ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ بالانصراف‌ هرولت‌ إلی‌ فراشها، فأتي‌ رسولُ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ فراشَها فإذا لها نَفَسٌ عالٍ، فقال‌ لها رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌: ما هذا النفس‌ العالي‌؟ أمَا تعلمين‌ أي‌ّ ليلةٍ هذه‌؟ هذه‌ ليلة‌ النصف‌ من‌ شعبان‌ فيها تُقسم‌ الارزاق‌ وفيها تُكتب‌ الآجالُ و فيها يُكتب‌ و فدُ الحاجّ، و أنّ الله‌ ليغفر في‌ هذه‌ الليلة‌ من‌ خلقه‌ أكثر من‌ شعر معزي‌ كلب‌، و ينزل‌ الله‌ تعإلی‌ ملائكة‌ من‌ السماء إلی‌ الارض‌ بمكّة‌.

 و قد ذكر المرحوم‌ السيّد بن‌ طاووس‌ هذه‌ الرواية‌ في‌ «الإقبال‌» وأورد سندها بهذه‌ الكيفيّة‌، أي‌: الشيخ‌ الطوسيّ، عن‌ حمّاد بن‌ عيسي‌، عن‌ أبان‌ بن‌ تغلب‌، عن‌ الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌، إلاّ أنـّه‌ ذكر ـ بدلاً من‌ عائشة‌ ـ أنّ رسول‌ الله‌ كان‌ عند بعض‌ نسائه‌. ثمّ أنـّه‌ نقل‌ عن‌ الزمخشريّ في‌ كتاب‌ نابق‌ «الفائق‌ خ‌ ل‌» أنّ أُمّ سلمة‌ تبِعت‌ النبي‌ّ فرأته‌ يتّجه‌ إلی‌ البقيع‌، ثمّ إنّ أُمّ سلمة‌ رجعت‌، فشاهد النبي‌ عند عودته‌ أنفاسها المتلاحقة‌ من‌ إسراعها. إلاّ أنّ الزمخشريّ لم‌ يذكر في‌ هذه‌ الرواية‌ أدعية‌ النبيّ في‌ سجوده‌. ثمّ يوّحد السيّد ابن‌ طاووس‌ بين‌ هذه‌ الرواية‌ و رواية‌ الشيخ‌ في‌ «المصباح‌»، ثمّ يختمها بنسبتها إلی‌ أُمّ سلمة‌ و بذكر الادعية‌ الواردة‌ في‌ السجدات‌ و دعاء الخدّين‌.[2]

 إلاّ أنّ لهذه‌ الرواية‌ إضافة‌ علی رواية‌ الشيخ‌ في‌ «المصباح‌» و هي‌

 يَغْفِرُ اللَهُ تَعَالَي‌' إلاَّ الْمُشْرِك‌ [3] أو مُشَاجِنٍ أوْ قَاطِعِ رَحِمٍ أَوْ مُدْمِنِ مُسْكِرٍ أَوْ مُصِرٍّ علی' ذَنْبٍ أَوْ شَاعِرٍ أَوْ كَاهِنٍ.

 كما يروي‌ الشيخ‌ الطوسيّ في‌ «مصباح‌ المتهجّد» عن‌ الحسن‌ البصريّ، عن‌ عائشة‌؛ و الشيخُ الصدوق‌ بسند آخر عن‌ الإمام‌ الحسن‌ المجتبي‌ عليه‌ السلام‌، أنّ من‌ جملة‌ الاعمال‌ التي‌ أمر رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ بالإتيان‌ بها ليلة‌ النصف‌ من‌ شعبان‌ عشر ركعات‌ يؤتي‌ بها بعد منتصف‌ الليل‌ يُتلي‌ في‌ كلّ ركعة‌ فاتحة‌ الكتاب‌ مرّة‌ و التوحيد عشر مرات‌، ثّم‌ يسجد فيقول‌:

 اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدَ سَوَادِي‌ وَ خَيَإلی‌ وَ بَيَاضِي‌ يَا عَظِيمَ كُلِّ عَظِيمٍ إغْفِرْلِي‌ ذَنْبِيَ الْعَظِيمَ فَإنَّهُ لاَ يَغْفِرُهُ غَيْرُك‌.

 ثّم‌ قال‌ رسول‌ الله‌ فإنـّه‌ مَن‌ فعل‌ ذلك‌ محا الله‌ عنه‌ اثنتين‌ و سبعين‌ ألف‌ سيّئة‌، و كتب‌ له‌ من‌ الحسنات‌ مثلها، و محا الله‌ عن‌ والديه‌ سبعين‌ ألف‌ سيّئة‌.[4]

 الرجوع الي الفهرس

اندكاك‌ العوالم‌ الثلاثة‌ لرسول‌ الله‌ في‌ الذّات‌ الاحديّة‌

 و الخلاصة‌ فقد كان‌ القصد من‌ ذكر هاتين‌ الروايتين‌ خصوص‌ لفظ‌ «سواد» و «خيال‌» و «فؤاد» في‌ الرواية‌ الاُولي‌، و لفظ‌ «سواد» و «خيال‌» و «بياض‌» في‌ الثانية‌. و ذلك‌ لانّ المراد بها تلك‌ العوالم‌ الثلاثة‌ الموجودة‌ في‌ الإنسان‌، فالسواد كناية‌ عن‌ عالم‌ البدن‌ و المادّة‌، لانّ عالم‌ البدن‌ و الطبع‌ مُبتلي‌ بالآلام‌ و المصائب‌ و مُعرّض‌ للحوادث‌ و التغييرات‌ و للكون‌ والفساد، و محدود بالزمان‌ و المكان‌ و أعراض‌ المادّة‌، حيث‌ عُبِّر عنه‌ في‌ الرواية‌ بـ «أظلم‌ العوالم‌».

 و الخيال‌ بمعني‌ عالم‌ المثال‌ و الذهن‌ الذي‌ يتعامل‌ مع‌ الصور بشكل‌ دائمي‌ّ، فلاتتجاوز دائرة‌ نشاطه‌ الشكلَ و الصورةَ و التصوّرَ و التصديقَ.

 أمّا البياض‌ فكناية‌ عن‌ عالم‌ النفس‌ الناطقة‌ و حقيقة‌ الإنسان‌ المجرّدة‌ و المنزّهة‌ عن‌ المادّة‌ و الطبع‌، و عن‌ شكل‌ و صورة‌ و حدود و ثغور عالم‌ المثال‌؛ و السبحة‌ في‌ بحر التحرّر و الإنطلاق‌. و هو معني‌ الفؤاد الذي‌ ورد في‌ الرواية‌ الاُولي‌، كما أنّ السجدة‌ عبارة‌ عن‌ غاية‌ التذلّل‌ و العبوديّة‌ و مقام‌ الفناء.

 و عليه‌ فإنّ معني‌ ذلك‌ سيصبح‌: يا إل'هي‌، لقد قَدِمْتُ بجميع‌ مراتب‌ ودرجات‌ وجودي‌، من‌ الطبع‌ و البدن‌، و من‌ الخيال‌ و المثال‌، و من‌ النفس‌ و الحقيقة‌ إلی‌ مقام‌ التسليم‌ و العبوديّة‌ المحضة‌ و الفناء في‌ ساحتك‌ المقدّسة‌، فليس‌ هناك‌ في‌ أي‌ٍّ منها شائبة‌ للانانيّة‌ و الشخصيّة‌ و الاستكبار والاستقلال‌؛ رزقنا الله‌ ذلك‌ بمحمّد و آله‌ صلواته‌ عليهم‌ و سلامه‌.

 الرجوع الي الفهرس

كلام‌ المرحوم الميرزا جواد آقا الملكيّ التبريزيّ في‌ العوالم‌ الثلاثة‌

 و لهذا المعني‌ فقد صرّح‌ آية‌ الحقّ و اليقين‌، زين‌ الحكماء و العرفاء الشامخين‌، الحاجّ الميرزا جواد آقاي‌ الملكيّ التبريزيّ أعلی الله‌ مقامه‌ الشريف‌ في‌ كتاب‌ «المراقبات‌ أو أعمال‌ السنة‌» ص‌ 85 ضمن‌ أعمال‌ ليلة‌ النصف‌ من‌ شعبان‌ بقوله‌:

 وَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ سَجَدَاتٌ بِدَعَوَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَ فِي‌ بَعْضِهَا إشَارَةٌ إلَي‌' الْمَراتِبِ الثَّلاَثَةِ للاءنْسَانِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: «سَجَدَ لَكَ سَوَادِي‌ وَ خَيَإلی‌ وَبَيَاضِي‌» وَ هُوَ كَالنَّصِّ بِعَالَمِهِ الْمَحْسُوسِ فَإنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ مَادَّةٍ وَ مِقْدَارٍ، وَعَالَمِهِ الْمِثَالِ وَ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ صُورَةٍ وَ رُوحٍ، وَ عَالَمِهِ الْحَقِيقِي‌ّ الَّذِي‌ بِهِ صَارَ إنْسَاناً يَعنِي‌ حَقِيَقَةَ نَفْسِهِ وَ هُوَ عَالَمُهُ الَّذِي‌ لاَ صُورَةَ فِيهِ وَ لاَ مَادَّةَ، وَهُوَ حَقِيقَتُهُ الْعَالِمَةُالَّلطِيفَةُ الرَّبَانِيَّةُ الَّتِي‌ مَنْ عَرفَهَا فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ، أَي‌ تَكُونُ مَعْرِفَتُهُ وَسِيلَةً لِمَعْرِفَةِ الرَّبِّ تَعَالَي‌'.

 و كذلك‌ كتب‌ ذلك‌ المرحوم‌ في‌ إجابته‌ علی رسالة‌ للمرحوم‌ زين‌ الفقهاء و جمال‌ السالكين‌ الحاجّ الشيخ‌ محمّد حسين‌ الكمبانيّ الاصفهانيّ سأله‌ فيها إرشاده‌ إلی‌ طريقة‌ للعمل‌ و إلی‌ المقدّمة‌ المؤدّية‌ إلی‌ معرفة‌ الحضرة‌ الاحديّة‌؛ متعرّضاً إلی‌ هذا المعني‌ يقول‌:

 و العجب‌ من‌ التصريح‌ بهذه‌ المراتب‌ في‌ سجدة‌ دعاء ليلة‌ النصف‌ من‌ شعبان‌، و هو وقت‌ وصول‌ الرسالة‌؛ في‌ قوله‌:

 سَجَدَ لَكَ سَوَادِي‌ وَ خَيَإلی‌ وَ بَيَاضِي‌.

 فأصل‌ المعرفة‌ ذلك‌ الوقت‌ الذي‌ يفني‌ فيه‌ الثلاثة‌ معاً، حيث‌ أنّ حقيقة‌ السجدة‌ عبارة‌ عن‌ الفناء، و عند الفناء عن‌ النفس‌ بمراتبها يحصل‌ البقاء بالله‌.[5]

 و قد روي‌ في‌ كتب‌ أربعة‌ معروفة‌ رواية‌ عجيبة‌ عن‌ السؤال‌ في‌ عالم‌ القبر و عن‌ استجواب‌ منكر و نكير؛

 الاوّل‌: في‌ «تفسير علی بن‌ إبراهيم‌»، ذيل‌ الآية‌ الشريفة‌:

 يُثَبِّتُ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي‌ الْحَيَو'ةِ الدُّنْيَا وَ فِي‌ الآخِرَةِ.[6]

 يرويها عن‌ أبيه‌، عن‌ علی بن‌ مهزيار، عن‌ عمر بن‌ عثمان‌، عن‌ المفضّل‌ بن‌ صالح‌، عن‌ جابر، عن‌ إبراهيم‌ بن‌ العلاء،[7] عن‌ سويد بن‌ غَفَلَة‌. [8]

 الثاني‌: في‌ «تفسير العيّاشيّ»، ذيل‌ نفس‌ الآية‌ المباركة‌، عن‌ سويد ابن‌ غَفَلة‌ دون‌ ذكر السند. [9]

 الثالث‌: في‌ «الكافي‌»، عن‌ علی بن‌ إبراهيم‌، عن‌ أبيه‌، عن‌ عمروبن‌ عثمان‌، و عدّة‌ من‌ الاصحاب‌، عن‌ سهل‌ بن‌ زياد، عن‌ البزنطيّ و الحسن‌ بن‌ عليّ جمعياً، عن‌ أبي‌ جميلة‌، عن‌ جابر، عن‌ عبد الاعلی؛ و كذلك‌ عن‌ علی ابن‌ إبراهيم‌، عن‌ محمّد بن‌ عيسي‌، عن‌ يونس‌، عن‌ إبراهيم‌ بن‌ عبد الاعلی، عن‌ سويد بن‌ غَفَلة‌. [10]

 الرابع‌: في‌ «الامالي‌»، الشيخ‌ الطوسيّ، عن‌ ابن‌ صلت‌، عن‌ ابن‌ عقدة‌، عن‌ القاسم‌ بن‌ جعفر بن‌ أحمد، عن‌ عبّاد بن‌ أحمد القزوينيّ، عن‌ عمّه‌، عن‌ أبيه‌، عن‌ جابر، عن‌ إبراهيم‌ بن‌ عبد الاعلی، عن‌ سويد بن‌ غَفَلة‌.[11]

 كما قام‌ المجلسيّ بروايتها عنهم‌ في‌ كتابه‌ «بحار الانوار».[12]

 و بالطبع‌ فقد كان‌ اختلاف‌ اللفظ‌ في‌ نسخ‌ هذه‌ الرواية‌ طفيف‌ جدّاً، إلاّ أنـّنا ننقل‌ هنا عين‌ عبارة‌ «تفسير علی بن‌ إبراهيم‌».

 الرجوع الي الفهرس

ذُعر الحيوانات‌ و فرارها من‌ عذاب‌ قبر الكفّار و الظالمين‌

 فبعد ذكر السند السابق‌ يحدّث‌ سويد بن‌ غَفَلة‌ عن‌ الإمام‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السّلام‌ قال‌: إنَّ ابْنَ آدَمَ إذَا كَانَ فِي‌ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الآخِرَةِ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ وَ وُلْدُهُ وَ عَمَلُهُ، فَيَلْتَفِتُ إلَي‌' مَالِهِ فَيَقُولُ: وَاللَهِ إنِّي‌ كُنْتُ عَلَيْكَ لَحَرِيصَاً شَحِيحَاً، فَمَا لِي‌ عِنْدَكَ؟

 فَيَقُولُ: خُذْ مِنِّي‌ كَفَنَكَ.

 ثُمَّ يَلْتَفِتُ إلَي‌' وُلْدِهِ فَيَقُولُ: وَاللَهِ إنِّي‌ كُنْتُ لَكُمْ لَمُحِبَّاً، وَ إنِّي‌ كُنْتُ عَلَيْكُمْ لَمُحَامِيَاً؛ فَمَاذَا لِي‌ عِنْدَكُمْ؟

 فَيَقُولُونَ: نُوَدِّيكَ إلَي‌' حُفْرَتِكَ وَ نُوارِيكَ فِيهَا.

 ثُمَّ يَلْتَفِتُ إلَي‌' عَمَلِهِ فَيَقُولُ: إنِّي‌ كُنْتُ فِيكَ لَزَاهِداً؛ وَ إنَّكَ كُنْتَ عَلَيَّ ثَقِيلاً؛ فَمَاذَا لِي‌ عِنْدَكَ؟

 فَيَقُولُ: أَنَا قَرِينُكُ فِي‌ قَبْرِكَ وَ يَوْمَ حَشْرِكَ حَتَّي‌' أُعْرَضُ أَنَا وَ أَنْتَ علی رَبِّكَ.

 فَإنَّ كَانَ لِلهِ وَلِيَّاً أَتَاهُ أَطْيَبُ النَّاسِ رِيحَاً وَ أَحْسَنُهُمْ مَنْظَرَاً وَ أَحْسَنُهُمْ رِيَاشَاً؛ فَيَقُولُ: ابْشِرْ بِرُوحٍ مِنَ اللَهِ وَ رَيْحَانٍ وَ جَنَّةِ نَعِيمٍ؛ قَدْ قَدِمْتَ خَيْرَ مَقْدَمٍ.

 فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟

 فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، أَرْتَحِلُ مِنَ الدُّنْيَا إلَي‌' الْجَنَّةِ؛ وَ إنَّهُ لَيَعْرِفُ غَاسِلَهُ وَ يُنَاشِدُ حَامِلِيهِ أَنْ يُعجِّلُوهُ.

 فَإذَا أُدْخِلَ قَبْرَهُ أَتَاهُ مَلَكَانِ، و هُمَا فَتَّانَا الْقَبْرِ؛ يَجُرَّانِ أَشْعَارَهُمَا وَ يَبْحَثَانِ الاْرْضَ بِأَنْيَابِهِمَا؛ وَ أَصْوَاتُهُمَا كَالرَّعْدِ الْعَاصِفِ؛ وَ أَبْصَارُهُمَا كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ.

 فَيَقُولاَنِ له‌: مَنْ رَبُّكَ؟ وَ مَنْ نَبِيُّكَ؟ وَ مَا دِينُّكَ؟ وَ مَنْ إمَامُكَ؟

 فَيَقُولُ: رَبِّي‌ اللَهُ، وَ مُحَمَّدُ نَبِيّي‌، وَ دِيني‌ الإسلام، وَ علی وَ الائِمَّةُ صَلَواتُ اللَهِ عَلَيْهِمْ أئِمَّتِي‌.

 فَيَقُولاَنِ: ثَبَّتَكَ اللَهُ بِمَا تُحِبُّ وَ تَرضَي‌ وَ هُوَ قَولُ اللَهِ: يُثَبِّتُ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ... الآية‌؛ فَيَفْسَحَانِ لَهُ فِي‌ قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَ يَفْتَحَانِ لَهُ بَابَاً إلَي‌' الْجَنَّةِ؛ وَ يَقُولاَنِ لَهُ: نَمْ قَرِيرَ الْعَيْنِ نَوْمَ الشَّابِّ النَّاعِمِ وَ هُوَ قَولُهُ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَومَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً. وَ إذَا كَانَ لِرَبِّهِ عَدُوَّاً، فَإنَّهُ يَأتِيهِ أقْبَحُ خَلْقِ اللَهِ رِياشَاً وَ أَنْتَنُهُ رِيحاً. فَيَقُولُ لَهُ: أَبْشِرْ بِنُزُلٍ مِنْ حَمِيمٍ، وَ تَصْلِيَةِ جَحِيمٍ؛ وَ أَنَّهُ لَيَعْرِفُ غَاسِلَهُ وَ يُنَاشِدُ حَامِلِيهِ أنْ يَحْبِسُوهُ.

 فَإذَا دَخَلَ قَبْرَهُ أَتَيَاهُ مُقْتَحِمَا الْقَبْرِ، فَألْقَيَا عَنْهُ أَكْفَانَهُ؛ ثَمَّ قَالاَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَ مَنْ نَبِيُّك‌؟ وَ مَا دِينُكَ؟

 فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي‌.

 فَيَقُولاَنِ لَهُ: لاَ دَرَيْتَ وَ لاَ هُدِيتَ؛ [13] فَيَضْرِبَانِهِ بِمِرْزَبَةٍ ضَرْبَةً مَا خَلَقَ اللَهُ دَابَّةً إلاَّ وَ تَذْعَرُ لَهَا خَلاَ الثَّقَلاَنِ.

 ثُمَّ يَفْتَحُ اللَهُ لَهُ بَابَاً إلَي‌' النَّارِ؛ ثُمَّ يَقُولاَنِ لَهُ: نَمْ بِشَرِّ حَالٍ فَهُوَ مِنَ الضِّيقِ مِثْلُ مَا فِيهِ الْقَنا مِنَ الزُّجِّ حَتَّي‌' أنَّ دِمَاغَهُ يَخْرُجُ مِنْهَا مِمَّا بَيْنَ ظُفْرِهِ وَلَحْمَهِ؛ وَ يُسلَّطُ عَلَيْهِ حَيَّاتُ الاْرْضِ وَ عَقَارِبُهَا وَ هُوَامُّهَا فَتَنْهَشَهُ حَتَّي‌' يَبْعَثُهُ اللَهُ مِنْ قَبْرِهِ، وَ أَنـَّهُ لَيَتَمَنَّي‌ قِيَامَ السَّاعَةِ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الشَّرِّ.

 و هذه‌ الرواية‌ منقولة‌ في‌ الكتب‌ المذكورة‌ إلی‌ هذا المقدار الذي‌ ذكرناه‌، إلاّ أنّ لها تتمّة‌ في‌ «تفسير العيّاشيّ» و في‌ «الكافي‌»، و هي‌:

 وَ قَالَ جَابِرُ[14]: قالَ أَبو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلّي‌ الله‌ عَلَيْهِ وآله‌: إنِّي‌ كُنتُ أَنْظُرُ إلَي‌' الإبِلِ وَالْغَنَمِ وَ أَنَا أَرْعَاهَا؛ وَ لَيْسَ مِنْ نَبِي‌ٍّ إلاَّ وَ قَدْ رَعَي‌' الْغَنَمَ، وَ كُنْتُ أَنْظُرُ إلَيْهَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَ هِيَ مُتَمَكِّنَةٌ فِي‌ الْمَكِينَةِ، مَا حَوْلَهَا شَي‌ءٌ يُهَيِّجُهَا حَتَّي‌' تَذْعَرُ فَتَطِيرُ.

 فَأَقُولُ: مَا هَذَا وَ أَعْجَبُ حَتَّي‌' حَدَّثَنِي‌ جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّ الْكَافِرَ يُضْرَبُ ضَرْبَةً مَا خَلَقَ اللَهُ شَيئاً إلاَّ سَمِعَهَا وَ يَذْعَرُ لَهَا إلاَّ الثَّقَلَيْنِ.

 فَقُلْتُ: ذَلِكَ لِضَرْبَةِ الْكَافِرِ، فَنَعُوذُ بِاللَهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.

 الرجوع الي الفهرس

قصّة‌ آية‌ الله‌ الانصاريّ و جنازة‌ الحاكم‌ الظالم‌؛ و قصّة‌ جنازة‌ الرجل‌ العربيّ

 نقل‌ المرحوم‌ آية‌ الحقّ و اليقين‌، ترجمان‌ القرآن‌ و سلمان‌ الزمان‌، آية‌ الله‌ الحاج‌ الميرزا جواد آقاي‌ الانصاريّ الهَمَدانيّ أعلی الله‌ مقامه‌ الشريف‌ و جعل‌ قبره‌ في‌ الرضوان‌. كنتُ أجتاز أحد شوارع‌ هَمَدان‌، فرأيتُ جنازة‌ محمولة‌ علی الاكتاف‌ يُتّجه‌ بها إلی‌ المقبرة‌ و يسير خلفها جمع‌ من‌ المشيّعين‌، إلاّ أنـّه‌ كان‌ يُساق‌ في‌ الجانب‌ الملكوتي‌ إلی‌ ظُلمة‌ مُبهمة‌ عميقة‌، و كانت‌ الروح‌ المثاليّة‌ لهذا الرجل‌ المتوفّي‌ تذهب‌ معه‌ في‌ أعلی جنازته‌ و تحاول‌ الصراخ‌ باستمرار أن‌:

 يا إلـ'هي‌ نجّني‌ كي‌ لا يأخذونني‌ هناك‌! إلاّ أنّ لسانه‌ لم‌ يكن‌ ليجري‌ بذكر الله‌، فكان‌ يلتفت‌ آنذاك‌ إلی‌ الناس‌ و يقول‌ لهم‌: أيـّها الناس‌ نجّوني‌ ولا تدعوهم‌ يأخذونني‌! إلاّ أنّ صوته‌ لم‌ يكن‌ ليصل‌ إلی‌ سمع‌ أحد و كان‌ ذلك‌ المرحوم‌ أعلی الله‌ شأنه‌ يقول‌: و كنتُ أعرف‌ صاحب‌ الجنازة‌، فقد كان‌ من‌ أهل‌ هَمَدان‌، و كان‌ حاكماً ظالماً مستبدّاً.

كان‌ أحد أصدقائنا و يدعي‌ الدكتور حسين‌ إحسان‌ رحمه‌ الله‌ رجلاً جديراً بالاحترام‌ و التقدير، و كان‌ له‌ عيادة‌ في‌ طهران‌، إلاّ أنـّه‌ كان‌ يُسافر في‌ الشتاء إلی‌ العتبات‌ المقدّسة‌ لمدّة‌ ستّة‌ أشهر، و كان‌ له‌ عيادة‌ في‌ كربلاء، و لم‌ يكن‌ يتقاضي‌ من‌ الفقراء أجراً، و كان‌ يعمد إلی‌ إعطاء بعض‌ المحتاجين‌ الدواءَ، بل‌ و نفقات‌ الغذاء أحياناً. و كان‌ يعيش‌ حياةً بسيطة‌ مُفعمة‌ بالصفاء، حيث‌ ينقضي‌ علی رحيله‌ خمس‌ عشرة‌ سنة‌ تقريباً.

 و قد نَقَلَ يوما: كنتُ قد تشرّفتُ يوماً بالذهاب‌ إلی‌ مدينة‌ الكاظمين‌، و جئتُ إلی‌ شاطي‌ النهر (يقصد نهر دجلة‌ الذي‌ يمرّ علی الكاظمين‌ و يبعد عن‌ الحرم‌ المطهّر مسافة‌ قليلة‌)، فشاهدتُ أنـّهم‌ قد جاءوا بجنازة‌ محمولة‌ علی سيّارة‌، ثّم‌ ترجّلوا و حملوها علی أكتافهم‌ متّجهين‌ بها مع‌ المشيّعين‌ إلی‌ الصحن‌ المطهّر.

 و كان‌ معهوداً في‌العراق‌ أنـّه‌ حين‌ يتوفّي‌ أحد أفراد الشيعة‌ ممّن‌ ينتمي‌ إلی‌ عشيرة‌ و قبيلة‌، فإنّ جنازته‌ كانت‌ تُوضع‌ في‌ تابوت‌ و تُحمل‌ علی سيّارة‌ خاصّة‌ فتؤخذ إلی‌ الكاظمين‌ عليهما السلام‌ تصحبها سيّارات‌ المشيّعين‌ العديدة‌، فيُطاف‌ بها هناك‌، ثمّ تؤخذ إلی‌ كربلاء فيُطاف‌ بها هناك‌ أيضاً، ثمّ تؤخذ إلی‌ النجف‌ فيُطاف‌ بها، و تُدفن‌ مِن‌ ثَمّ في‌ وادي‌ السّلام‌ في‌ النجف‌ الاشرف‌.

 و كان‌ ذلك‌ المرحوم‌ يقول‌: كنتُ عازماً علی التشرّف‌ بالذهاب‌ للزيارة‌ في‌ نفس‌ الوقت‌ الذي‌ كانوا يأخذون‌ فيه‌ تلك‌ الجنازة‌ إلی‌ الصحن‌ المطهّر، فتحرّكتُ خلفها. و حين‌ شيّعتها مسافةً ما شاهدتُ فجأة‌ أنّ هناك‌ كلباً أسوداً مُخيفاً جالساً فوق‌ الجنازة‌، فاستغربت‌ كثيراً لذلك‌ و تساءلتُ في‌ نفسي‌: لمإذا جلس‌ هذا الكلب‌ فوق‌ الجنازة‌؟!

 و لم‌ ألتفت‌ إلی‌ أنّ هذا هو البدن‌ المثاليّ للمتوفّي‌، و أنـّه‌ ليس‌ كلباً خارجيّاً. ثمّ سألتُ المشيّعين‌ الذين‌ كانوا إلی‌ جانبي‌: مإذا يوجد علی الجنازة‌؟

 قالوا: لا شي‌ء، إلاّ قطعة‌ القماش‌ التي‌ تراها!

 فأدركتُ آنذاك‌ أنّ هذا الكلب‌ صورة‌ مثاليّة‌، و أنـّني‌ أراه‌ لوحدي‌ بينما لا يدركه‌ الآخرون‌.

 و لم‌ أنبس‌ بشي‌ء بعد ذلك‌، حتّي‌ وصلوا بالجنازة‌ إلی‌ الصحن‌ المطهّر، ثّم‌ رأيتُ عند باب‌ الصحن‌ حين‌ أرادوا إدخال‌ التابوت‌ في‌ الصحن‌ المطهّر للطواف‌، أنّ ذلك‌ الكلب‌ قفز من‌ فوق‌ التابوب‌ و وقف‌ جانباً، حتّي‌ طافوا بالجنازة‌. و ما إن‌ جاءوا بها يريدون‌ إخراجها من‌ باب‌ الصحن‌ حتّي‌ قفز ذلك‌ الكلب‌ ثانيةً فوق‌ التابوت‌ و جلس‌ فوق‌ الجنازة‌. و من‌ المعلوم‌ بالطبع‌ أنّ صاحب‌ تلك‌ الجنازة‌ كان‌ رجلاً ظالماً و متجاوزاً، لذا فقد تجسّمت‌ صورته‌ الملكوتيّة‌ في‌ هيئة‌ صورة‌ الكلب‌، و لانّ ذلك‌ المرحوم‌ كان‌ يمتلك‌ صفاءً باطنيّاً فقد أدرك‌ هذا المعني‌، بينما خفي‌ ذلك‌ علی الآخرين‌ فلم‌ يروا شيئاً.

 الرجوع الي الفهرس

حاسِبوا أنفسكم‌ قبل‌ أن‌ تُحاسَبوا

 والخلاصة‌ فإنّ هذه‌ الدنيا التي‌ نعيش‌ فيها قد وضعت‌ وفق‌ هدف‌ وحكمة‌، كما أنّ كلمات‌ الله‌ و رسوله‌ و الائمّة‌ السالكين‌ في‌ سبيله‌ لم‌ تصدر دون‌ حساب‌.

 لقد منحنا الباري‌ سبحانه‌ قوّتين‌، إحداهما القوّة‌ الباطنيّة‌ و العقل‌، والاُخري‌ القوّة‌ الخارجيّة‌ و هي‌ الدِين‌ و المذهب‌ و سُنّة‌ أولياء الله‌، و علی الإنسان‌ أن‌ يتجنّب‌ ارتكاب‌ الخطأ، فهذا العالم‌ لم‌ يُخلَق‌ لهواً و عبثاً، والإنسان‌ لم‌ يُخلق‌ مهملاً مغفولاً عنه‌:

 أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ'كُمْ عَبَثًا وَ أَنَّكُمْ إلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ.[15]

 خراميدن‌ لاجوردي‌ سپهر                           همان‌ گِرد گرديدن‌ ماه‌ و مِهر

 مپندار كاين‌ چرخ‌ بازيگريست‌                                  سرا پرده‌اي‌ اين‌ چنين‌ سرسري‌ است[16]

 و لم‌ يكن‌ عبثاً أنّ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ كان‌ إذا وصل‌ إلی‌ هذه‌ الآية‌: أَيَحْسَبُ الإنسَـ'نُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًي‌، [17] كرّرها و ترنّم‌ بها مع‌ نفسه‌.

 فلا يظنّنّ أحد إذا ما ارتكب‌ ذنباً في‌ خلوةٍ أنـّه‌ كان‌ بمعزل‌ و أنّ أحداً لم‌ يطّلع‌ عليه‌، فالله‌ هناك‌، و الملائكة‌ هناك‌، و عالَم‌ الغيب‌ هناك‌، و عالم‌ البرزخ‌ و المثال‌ هناك‌، و عالم‌ تدوين‌ الاحوال‌ و الاعمال‌ هناك‌، و عالم‌ إثبات‌ الصور و الاشكال‌ هناك‌؛ و إن‌ تركوا المرء اليوم‌ دون‌ استجواب‌، فسيفعلون‌ ذلك‌ غداً.

 و هكذا سيلقي‌ الذين‌ حاسبوا أنفسهم‌ من‌ أمرهم‌ يُسراً، و سيخلدون‌ بأفضل‌ سبيل‌ و أحسن‌ وجه‌ في‌ مقام‌ الامن‌ و مقرّ الامان‌ الإلهيّ.

 أمّا الذين‌ تخيّلوا أنّ هذا العالم‌ خلق‌ عبثاً و أن‌ لا مدبّر له‌؛ فبدرت‌ منهم‌ المظالم‌، فإنـّهم‌ مُبتلون‌ مؤاخذون‌، مبتلون‌ بسكرات‌ الموت‌، و إلاّ فبسؤال‌ منكر و نكير، أو بعذاب‌ القبر، أو بالحشر و الصراط‌ و الميزان‌ والعرض‌، أو بورود النار و الإقامة‌ في‌ مرحلة‌ الملكات‌ السيّئة‌ التي‌ اقترنت‌ به‌، و الله‌ وحده‌ يعلم‌ كم‌ يلزمهم‌ من‌ الوقت‌ ليخرجوا من‌ هذه‌ المحن‌.

 و إن‌ لم‌ يحاسب‌ المرء نفسه‌ اليوم‌، فإنّ من‌ المسلّم‌ أنـّه‌ سيُحاسب‌ غداً و سيخرج‌ مُثقلاً بالعار و الفضيحة‌.

 قال‌ النبي‌ّ الاكرم‌: الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ. [18]

 و قال‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌:

 ألاَ فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا فَإنَّ فِي‌الْقِيَامَةِ خَمْسِينَ مَوْقِفَاً كُلُّ مَوْقِفٍ مقامُ أَلْفُ سَنَةٍ... الخبر.[19]

 و كذلك‌ روي‌ في‌ «الكافي‌» بسنده‌ المتّصل‌، عن‌ إبراهيم‌ بن‌ عمر اليمانيّ، عن‌ الإمام‌ موسي‌ بن‌ جعفر صلوات‌ الله‌ عليه‌ قال‌:

 لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ فِي‌ كُلِّ يَوْمٍ، فَإنْ عَمِلَ حَسَنَاً اسْتَزَادَ اللَهَ، وَ إنْ عَمِلَ سَيِّئَاً اسْتَغْفَرَ اللَهَ مِنْهُ وَ تَابَ إلَيْهِ.[20]

 و خلاصة‌ الامر، فإن‌ تدارك‌ الإنسان‌ ذنبه‌، و قام‌ بتأدية‌ حقوق‌ الآخرين‌ و أقام‌ علی مرحلة‌ الطاعة‌ و التسليم‌ لله‌، فإنّ سفره‌ إلی‌ الآخرة‌ لن‌ يكون‌ فقط‌ في‌ غاية‌ اليُسر، بل‌ إنّ الملائكة‌ السماويّين‌ و الحور العين‌ سيكونون‌ في‌ استقباله‌ و تهنئته‌، و ملائكة‌ الرحمة‌ سيكونون‌ في‌ انتظاره‌ ترقّب‌ وصوله‌.

 يروي‌ المجلسيّ (ره‌) في‌ «بحار الانوار» مرسلاً عن‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ و آله‌:

 إذَا رَضِي‌َ اللَهُ عَنْ عَبْدٍ قَالَ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ اذْهَبْ إلَي‌' فُلانٍ فَأْتِنِي‌ برُوحِهِ، حَسْبِي‌ مِنْ عَمَلِهِ قَدْ بَلَوتُهُ فَوَجَدْتُهُ حَيْثُ أُحِبُّ.

 فَيَنزِلُ مَلَكُ الْمْوتِ وَ مَعَهُ خَمْسُمائَةٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مَعَهُمْ قُضْبَانُ الرَّيَاحِينَ وَ أُصُولُ الزَّعْفَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُبَشِّرُهُ بِبِشَارَةٍ سِوَي‌' بِشَارَةِ صَاحِبِهِ.

 وَ يَقُومُ الْمَلاَئِكَةُ صَفَّيْنِ لِخُرُوجِ رُوحِهِ، مَعَهُمُ الرَّيْحَانُ، فَإذَا نَظَرَ إلَيْهِمْ إبْلِيسُ وَضَعَ يَدَهُ علی' رَأسِهِ ثُمَّ صَرَخَ؛ فَيَقُولُ لَهُ جُنُودُهُ: مَالَكَ يَا سَيِّدَنَا؟

 فَيَقُولُ: أَمَا تَرَوْنَ مَا أُعْطِي‌ هَذَا الْعَبْدُ مِنَ الْكَرَامَةِ؟

 أَيْنَ كُنْتُمْ عَنْ هَذَا؟

 قَالُوا: جَهِدْنَا بِهِ فَلَمْ يُطِعْنَا.[21]

 و بالطّبع‌ فإنّ الملائكة‌ الخمسائة‌ في‌ هذه‌ الرواية‌ هم‌ بقدر سعة‌ وقابليّة‌ الشخص‌ المؤمن‌، فإذا زادت‌ درجات‌ المؤمن‌ عند الله‌ تبارك‌ و تعإلی‌ عن‌ ذلك‌ بكثير، فما أحراه‌ سبحانه‌ أن‌ يُرسل‌ آنذاك‌ ألف‌ ملك‌ أو عشرة‌ آلاف‌ أو سبعين‌ ألف‌ ملك‌.

 الرجوع الي الفهرس

قصّة‌ بُرير بن‌ خضير الهمدانيّ و عبدالرحمن‌ بن‌ عبد ربّ الانصاريّ

 كان‌ بُرير بن‌ خُضير الهَمْدَانيّ من‌ أصحاب‌ سيّد الشهداء الاجلاّء، وكان‌ ينتمي‌ إلی‌ قبيلة‌ هَمْدان‌، و كان‌ قارئاً للقرآن‌، يجلس‌ في‌ مسجد الكوفة‌ فيعلّم‌ في‌ مدرسته‌ العلميّة‌ القرآن‌ و الاحكام‌.

 ] و كان‌ [ عبدالرحمن‌ بن‌ عبد ربّ و برير بن‌ خضير الهَمْدَانيّ علی باب‌ الفسطاط‌ ] الذي‌ ضربه‌ الحسين‌ ليطلي‌ فيه‌ بالنورة‌ [ تحتكّ مناكبهما فازدحما أيّهما يطلي‌ علی أثره‌، فجعل‌ برير يُهازل‌ عبدالرحمن‌، فقال‌ له‌ عبدالرحمن‌: دعنا فوالله‌ ما هذه‌ بساعة‌ باطل‌.

 فقال‌ له‌ بُرير: والله‌ لقد علم‌ قومي‌ أنّي‌ ما أَحْبَبْتُ الباطلَ شابّاً ولاكهلاً، ولكن‌ واللَهِ إنّي‌ لمستبشر بما نحن‌ لاقون‌، و اللَهِ إنـّه‌ ليس‌ بيننا وبين‌ الحور العين‌ إلاّ أن‌ يميل‌ هؤلاء علينا بأسيافهم‌، و لودَدْتُ أنـّهم‌ قد مالوا علينا بأسيافهم‌ الساعة‌. [22]

 وعدة‌ وصل‌ چون‌ شود نزديك‌                                   آتش‌ عشق‌ شعله‌ور گردد[23]

 قَوْمٌ إذَا نُودُوا لِدَفْعِ مُلِمَّةٍ                                    وَالْقَوْمُ بَيْنَ مُدَعَّسٍ وَ مُكَرْدَسِ

 لَبِسُوا الْقُلُوبَ علی' الدُّرُوعِ وَأَقْبَلُوا                                  يَتَهافَتُونَ علی' ذِهَابِ الاْنْفُسِ

 الرجوع الي الفهرس

 

المجلس‌ الثاني‌ عشر:

مميّزات‌ عالم‌ الطبع‌ و عالم‌ البرزخ‌ و عالم‌ القيامة‌

 

بِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ

(مطالب‌ أُلقيت‌ في‌ اليوم‌ الثاني‌ عشر من‌ شهر رمضان‌ المبارك‌)

الحمد لله‌ ربّ العالمين‌ و لا حول‌ و لا قوّة‌ إلاّ باللَه‌ العليّ العظيم‌

و صلَّي‌ اللهُ علی محمّد و آله‌ الطَّاهرين‌

و لعنة‌ اللَه‌ علی أعدائهم‌ أجمعين‌ من‌ الآن‌ إلی‌ قيام‌ يوم‌ الدين

 قال‌ اللهُ الحكيم‌ في‌ كتابه‌ الكريم‌:

 وَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي‌ سَبِيلِ اللَهِ أَمْوَ ' تًا بَلْ أَحْيَآءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَيـ'هُمُ اللَهُ مِن‌ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم‌ مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤمِنِينَ. [24]

 الرجوع الي الفهرس

أفعال‌ الإنسان في‌ الدنيا تحصل‌ بواسطة‌ الصورة‌ المثاليّة‌

 لقد ذكرنا أنّ روح‌ الإنسان‌ تذهب‌ بعد الموت‌ إلی‌ عالم‌ يدعي‌ بعالم‌ البرزخ‌، و أنّ عالم‌ البرزخ‌ يُدعي‌ أيضاً بالمثال‌ و عالمَ الخيال‌.

 و عالم‌ المثال‌ يعني‌ عالم‌ الصورة‌ المحضة‌ الذي‌ لايحوي‌ مادّة‌، بل‌ هناك‌ خواصّ المادّة‌ و آثارها، مثل‌ الكميّة‌ و الكيفيّة‌.

 و لكي‌ يتّضح‌ هذا المعني‌ قدراً فإنـّنا نقول‌ ـ من‌ باب‌ المثال‌ ـ إنّ الإنسان‌ إذا ما تأمّل‌ في‌ وجوده‌ فإنـّه‌ سيشاهد أنّ له‌ بدناً، و لهذا البدن‌ وزن‌ وثقل‌ لانـّه‌ مادّي‌ّ؛ كما أنّ التغيّر و التبدّل‌ يطرأ علی هذا البدن‌.

 و كذلك‌ فإنـّه‌ يمتلك‌ صورة‌، و هذه‌ الصورة‌ في‌ هذا البدن‌، إلاّ أنـّها ليست‌ داخل‌ هذا البدن‌، بل‌ محيطة‌ به‌. فهذه‌ الصورة‌ هي‌ التي‌ منحت‌ هذا البدن‌ شكلَها و جعلته‌ يتّخذ هيئتها.

 و حين‌ تتطلّعون‌ في‌ المرآة‌ فإنّ صورتكم‌ ترتسم‌ في‌ المرآة‌، إلاّ أنّ ثقلكم‌ لا يترك‌ أثراً فيها، فلا تثقل‌ المرآة‌ لذلك‌. و اذا ماكنتم‌ تحسّون‌ بالتعب‌ فإنّ المرآة‌ لا تتعب‌؛ أو كنتم‌ تفرحون‌ أو تحزنون‌ فإنّ المرآة‌ لايعتريها الفرح‌ أو الحزن‌، بل‌ أنّها تحكي‌ صورتكم‌ فقط‌.

 و بالطبع‌ فقد قلنا هذا من‌ باب‌ المثال‌، و إلاّ فإنّ تلك‌ الصورة‌ البرزخيّة‌ و الملكوتيّة‌ هي‌ أوّلاً غير الشكل‌ و الشمائل‌ الخارجيّة‌. وثانياً فإنّ الصورة‌ لا تظهر في‌ المرآة‌، بل‌ إنّ المرآة‌ تعكس‌ الامواج‌ (الاشعّة‌) فيري‌ الإنسان‌ نفسه‌ ـ لا المرآة‌ ـ بسبب‌ انعكاس‌ الشعاع‌ فوق‌ سطع‌ المرآة‌ الصقيل‌، أي‌ أنّ الشعاع‌ المارّ من‌ بؤبؤ عين‌ الإنسان‌ حين‌ يرتطم‌ بالمرآة‌ ينعكس‌ إلی‌ نفس‌ الإنسان‌ فيري‌ نفسه‌؛ [25] و يُقال‌ لهذه‌ الصورة‌: الصورة‌ المثاليّة‌.

 و يحصل‌ أن‌ تشاهدون‌ حلماً في‌ عالم‌ النوم‌ بينما يرقد بدنكم‌ علی الارض‌، فتتحرّك‌ صورتكم‌ المثاليّة‌ في‌ النوم‌، بينما لا يُبدي‌ البدن‌ أي‌ّ حركة‌، لكنّكم‌ تحسّون‌ لنفسكم‌ واقعيّة‌ و موجوديّة‌ معيّنة‌ في‌ عالم‌ النوم‌، فترون‌ نفسكم‌ أحياء، و ترون‌ لنفسكم‌ علماً و قدرة‌، تتحرّكون‌ و تتكلّمون‌ و تقومون‌ بمختلف‌ الاعمال‌ دون‌ أن‌ يحسّ بدنكم‌ شيئاً أو أن‌ يتحرّك‌ أو يفعل‌ شيئاً.

 إنّ تلك‌ الصورة‌ التي‌ كنتم‌ تدركون‌ موجوديّتها و شخصيّتها في‌ النوم‌ هي‌ صورتكم‌ المثاليّة‌ و الملكوتيّة‌ المنفصلة‌ تماماً عن‌ البدن‌ الراقد.

 الرجوع الي الفهرس

الصورة‌ المثاليّة‌ متّحدة‌ ببدن‌ الإنسان‌

 البدن‌ شي‌ء، و تلك‌ الصورة‌ المتحرّكة‌ النشطة‌ التي‌ يقوم‌ بها جميع‌ وجود الإنسان‌ في‌ النوم‌ شي‌ّ آخر. تلك‌ الصورة‌ هي‌ الصورة‌ المثاليّة‌ أو الخياليّة‌ أو البرزخيّة‌ التي‌ تقطع‌ علاقتها بالبدن‌ جملةً عند النوم‌، لكنّها تتّحد به‌ حال‌ اليقظة‌ و تعكس‌ الاعمال‌ التي‌ تقوم‌ بها في‌ قالب‌ البدن‌ فيقوم‌ البدن‌ بمتابعتها ـ لا تّحاده‌ معها ـ في‌ القيام‌ بتلك‌ الاعمال‌. و هكذا يقوم‌ بدننا بالصلاة‌ و الصيام‌ و الحجّ، لانّ الصورة‌ المثاليّة‌ و الملكوتيّة‌ تقوم‌ بهذه‌ الاعمال‌.

 و يمكن‌ القول‌ عموماً إنّ تلك‌ الصورة‌ المثاليّة‌ المتّحدة‌ بالبدن‌ مهما شاءت‌ و مهما تصوّرت‌، فإنّ هذا الهيكل‌ الخارجيّ سيتحرّك‌ بأمرها وبواسطة‌ اتّحاده‌ بها و عينيّته‌ لها. و تبعاً لحركة‌ تلك‌ الصورة‌ و الرسم‌ الذي‌ تحقّق‌ له‌ مثال‌ الإنسان‌، فإنّ المادّة‌ و البدن‌ سيتحرّكان‌ و يقومان‌ بنشاطاتهما.

 علی أنّ هذه‌ الصورة‌ تقلّل‌ من‌ ارتباطها بالبدن‌ في‌ عالم‌ النوم‌، فتجرّد نفسها و تجد ـ بدون‌ البدن‌ ـ واقعيّتها في‌ نفسها.

 كما أنّ حقيقة‌ النفس‌ تلك‌ تنفصل‌ أيضاً عن‌ الصورة‌ المثاليّة‌ في‌ عالم‌ النفس‌ و القيامة‌، فتتجلّي‌ آنذاك‌ نفسُ الإنسان‌ في‌ واقعيّتها بدون‌ صورة‌.

 أمّا في‌ الدنيا، حيث‌ يتّحد عالم‌ المثال‌ ببدن‌ الإنسان‌، فإنّ نفس‌ الإنسان‌ تتّحد هي‌ الاُخري‌ ببدن‌ الإنسان‌ و مثاله‌، كما أنّ قوي‌ النفس‌ تتّحد جميعها مع‌ مثال‌ الإنسان‌ فتكون‌ جميع‌ مراتب‌ الإنسان‌ الوجوديّة‌ مجتمعة‌ معاً.

 ثمّ إنّ الصّورة‌ المثاليّة‌ تنفصل‌ بالموت‌ عن‌ البدن‌، فتدرك‌ تجرّدها بدون‌ المادّة‌، كما أنّ نفس‌ الإنسان‌ تنفصل‌ عن‌ عالم‌ الصورة‌ بعد العبور من‌ عالم‌ المثال‌ و الورود في‌ عالم‌ القيامة‌، فتدرك‌ تجرّدها الحقيقيّ بدون‌ الصورة‌.

 و يُدعي‌ عالم‌ المثال‌ بالقيامة‌ الصغري‌، كما يُدعي‌ عالم‌ النفس‌ بالقيامة‌ الكبري‌. علی أنّ هذا البدن‌ و الصورة‌ و المثال‌ مجتمعة‌ معاً في‌ هذه‌ الدنيا، أي‌ في‌ عالم‌ المادّة‌ و عالم‌ الطبع‌، ثمّ إنـّها تنفصل‌ عن‌ بعضها بالترتيب‌. كما أنّ اجتماعها ليس‌ بمعني‌ مجاورة‌ أحدها للآخر، بل‌ إنّ للنفس‌ نوعاً من‌ السعة‌ و الإحاطة‌ بالصورة‌ المثاليّة‌، و للصورة‌ المثاليّة‌ نوع‌ من‌ السعة‌ و الإحاطة‌ بالبدن‌. غاية‌ الامر أنّ الناس‌ الرازحين‌ تحت‌ أسر الطبع‌ في‌ هذه‌ الدنيا لا يمكنهم‌ إدراك‌ أكثر من‌ أنّ وجودهم‌ هو هذا البدن‌، لذا فإنـّهم‌ يتخيّلون‌ وجودَهم‌ منحصراً في‌ هذا البدن‌، و يتصوّرون‌ أنّ حقيقتهم‌ النفسانيّة‌ أو المثاليّة‌ هي‌ هذا البدن‌، في‌ حين‌ أنّ البدن‌ له‌ حكم‌ اللباس‌ وحكم‌ القالب‌ و حكم‌ الجلد، فهو يسقط‌ عند تبديل‌ هذا الجلد ويُزاح‌ جانباً، فلا يعلم‌ بعدُ أنّ لتلك‌ الصورة‌ حقيقة‌.

 و الامر كذلك‌ في‌ عالم‌ البرزخ‌ و المثال‌، فالنفس‌ تتخيّل‌ أنّ حقيقتها هي‌ صورتها، و لا تعلم‌ أنّ الصورة‌ من‌ متعلّقات‌ النفس‌. وحين‌ تُدرك‌ النفس‌ واقعيّتها و تصل‌ إلی‌ التجرّد و تخلع‌ البدن‌ والصورة‌، فإنـّها ستفهم‌ آنذاك‌ أنّ حقيقتها قد كانت‌ نفسها التي‌ هي‌ أعلی و أسمي‌ بكثير من‌ عالم‌ الصورة‌، و الصورة‌ أعلی وأسمي‌ بكثير من‌ عالم‌ البدن‌.

 و عليه‌ فإنّ الصورة‌ المثاليّة‌ التي‌ نأخذها بنظر الاعتبار هي‌ الآن‌ معنا، و إلاّ فإنّ بدننا لن‌ يتحرّك‌ و لن‌ يقدر علی إنجاز عمل‌، بَيْدَ أنـّها ليست‌ داخل‌ البدن‌ و ليست‌ منفصلة‌ عنه‌.

 و من‌ الممكن‌ لبعض‌ الافراد الذين‌ يعملون‌ بالتعاليم‌ الشرعيّة‌ ويسلكون‌ طريق‌ السير و السلوك‌ و تهذيب‌ النفس‌ أن‌ يحصل‌ لهم‌ الموت‌ الاختياري‌، و يمكنهم‌ أن‌ يتخلّوا عن‌ البدن‌ متي‌ شاءوا حال‌ حياتهم‌، فتقوم‌ صورتهم‌ المثاليّة‌ بمغادرة‌ البدن‌. كما يمكن‌ للبعض‌ أن‌ يتركوا و يتخلّوا عن‌ صورتهم‌ المثاليّة‌ فتخرج‌ تلك‌ النفس‌ المجرّدة‌ عن‌ الصورة‌، ثمّ ترجع‌ إليها ثانية‌، فيعودون‌ أحياء يتحرّكون‌ كالافراد الآخرين‌.

 و تبعاً لهذا فإنّ مقولة‌ البعض‌ ممّن‌ تصوّروا أنّ الله‌ عزّوجل‌ أوجد في‌ عالم‌ البرزخ‌ صورة‌ مثاليّة‌ للإنسان‌ منفصلةً عنه‌، و أنّ الإنسان‌ يموت‌ حين‌ يموت‌ فتخرج‌ روحه‌ و ترد في‌ ذلك‌ البدن‌ المثاليّ البرزخيّ، مقولةٌ خاطئة‌.

 فليس‌ القالب‌ المثاليّ خارجاً عن‌ حقيقة‌ الإنسان‌ ليخلقه‌ الله‌ فتحلّ الصورة‌ فيه‌، و تذهب‌ الروح‌ فيه‌. الصورة‌ المثاليّة‌ لها اتّحاد و معيّة‌ مع‌ الإنسان‌، و هناك‌ خلع‌ و لبس‌ يحصل‌ بينهما، تماماً كما أنّ للإنسان‌ نوع‌ من‌ الاتّحاد مع‌ لباسه‌، إلاّ أنـّه‌ يخلع‌ اللباس‌ و يُلقي‌ به‌، ثمّ يرتديه‌ علی جسده‌ من‌ جديد.

 إنّ حقيقة‌ الإنسان‌ لا تنغمر في‌ قالبٍ خارجٍ عنه‌، و لا تخرج‌ من‌ قالبٍ خارجٍ عنه‌؛ كما أنّ الصورة‌ لا تدخل‌ في‌ بدن‌ خارج‌ عن‌ حقيقتها، و لا تخرج‌ من‌ بدنٍ خارج‌ عنها، فلها مع‌ هذا البدن‌ نوعٌ من‌ الوحدة‌ و المعيّة‌.

 كما يُخطي‌ء البعض‌ ممّن‌ يتخيّلون‌ أنّ الصورة‌ المثاليّة‌ لامعني‌ لها أصلاً، و أنّ ما يبقي‌ من‌ الإنسان‌ بعد الموت‌ أجزاء لطيفة‌ و صغيرة‌ جدّاً واقعة‌ في‌ البدن‌ بحيث‌ يقوم‌ بها البدن‌، و حين‌ يموت‌ هذا البدن‌ و يُدفن‌ تحت‌ التراب‌ و يتلاشي‌ فإنّ تلك‌ الاجزاء الممعنة‌ في‌ اللطافة‌ و الصغر و التي‌ تقوم‌ بها حقيقة‌ الإنسان‌ وقوامه‌، و التي‌ ترتبط‌ بها نُطفة‌ الإنسان‌ في‌ أصل‌ الخلقة‌ و بدءها، ستبقي‌ حيّةً فيتعلّق‌ بها العقاب‌ أو الثواب‌ و الجزاء. فهذه‌ هي‌ الاُخري‌ مقولة‌ خاطئة‌.

 و ذلك‌ لانّ تلك‌ الاجزاء مهما تناهت‌ في‌ اللطف‌ و الصغر، فإنـّها أخيراً مادّة‌ و من‌ الاجزاء المادّيّة‌ لهذا العالم‌، و عالم‌ المادّة‌ سينطوي‌ بعد الموت‌، و سيكون‌ الحساب‌ و السؤال‌ للصورة‌ التي‌ رحلت‌ عن‌ هذه‌ الدنيا ووصلت‌ إلی‌ تجرّدها، لا للمادّة‌.

 الرجوع الي الفهرس

دلالة‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ علی الحياة‌ البرزخيّة‌

 و من‌ جملة‌ الادلّة‌ التي‌ يمكن‌ إقامتها علی حياة‌ الإنسان‌ بعد الموت‌، هاتان‌ الآيتان‌ اللتان‌ ذُكرتا في‌ مطلع‌ الحديث‌:

 وَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي‌ سَبِيلِ اللَهِ أَمْو ' تاً بَلْ أَحْيَآءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَي'هُمُ اللَهُ مِن‌ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرِونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم‌ مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.

 فبالوصول‌ إلی‌ مقام‌ الولاية‌، أي‌ العبوديّة‌ المطلقة‌، سيزول‌ عنهم‌ أي‌ّ نوع‌ من‌ الخوف‌ و الحزن‌ الذي‌ هو من‌ لوازم‌ الكثرة‌ و من‌ آثار التفرقة‌ والثُنائيّة‌.

 و سيحصل‌ لديهم‌ في‌ ذلك‌ العالم‌ الذي‌ يذهبون‌ إليه‌ اطّلاع‌ علی أرواح‌ المؤمنين‌ الذين‌ لم‌ يموتوا بعد، و ذلك‌ بسب‌ هذا النوع‌ من‌ السعة‌ و التجرّد الذي‌ يمتلكونه‌، فيبشّرون‌ أُولئك‌ بهذا المقام‌ الذي‌ أنعم‌ خالقُهم‌ به‌ عليهم‌.

 يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَهِ وَ فَضْلٍ. و قد ذكر سابقاً أنّ المراد بهذه‌ النعمة‌ مرتبة‌ الولاية‌، أي‌ الفناء في‌ سبيل‌ الله‌. و علاوة‌ علی ذلك‌ فإنّ الربّ سبحانه‌ سيُنيلهم‌ المُني‌ من‌ فضله‌ فيُدركون‌ حقيقة‌ معني‌: وَ أَنَّ اللَهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤمِنِين‌.

 قال‌ في‌ هذه‌ الآية‌: وَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي‌ سَبِيلِ اللَهِ أَمْوَ ' تًا بَلْ أَحْيَآءٌ؛ و لم‌ يقل‌: إنّ اللَهَ يُحييهم‌ يوم‌ القيامة‌، بل‌ هم‌ أحياء عند موتهم‌؛ و هو دليل‌ علی الحياة‌ و المعيشة‌ البرزخيّة‌.

 و بالطبع‌ فإنّ الجميع‌ أحياء، و كلّ من‌ يموت‌ فهو حي‌ّ، إلاّ أنّ خصوصيّة‌ و ميزة‌ أُولئكم‌ التي‌ ميّزهم‌ القرآن‌ بها جاءت‌ في‌ ذيل‌ الآية‌: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَي'هُمُ اللَهُ مِن‌ فَضْلِهِ.

 و من‌ الثابت‌ في‌ علم‌ الحكمة‌ المتعالية‌ أنّ رزق‌ الجواهر المجرّدة‌ المتلالئة‌ هو مقارنة‌ الصفات‌ و الاسماء الإلـهيّة‌. فما أن‌ تُوضع‌ أمام‌ نور الاسماء و الصفات‌، و ما أن‌ تتجلّي‌ فيها وحدة‌ الذات‌ المقدّسة‌ للخالق‌ سبحانه‌، فإنّ جواهر وجودهم‌ ستتلالا فتبعث‌ فيهم‌ البهجة‌ و المسرّة‌ التي‌ لاتُوصَف‌، و ستكون‌ المعارف‌ الإلـهيّة‌ هي‌ رزق‌ الارواح‌ المجرّدة‌ في‌ تلك‌ الحالة‌.

 إنّ الله‌ تعإلی‌ يُنعم‌ عليهم‌ بتلك‌ الارزاق‌، و هم‌ ـ من‌ جهة‌ أُخري‌ ـ يدركون‌ أنّ هذا الرزق‌ من‌ الله‌ تعالي‌، و هذا الإدراك‌ والتعقّل‌ لهذا الرزق‌ له‌ قيمة‌ و لذّة‌ أكبر لديهم‌. لذا يقول‌: يُرزَقُونَ بالمعارف‌ الإلـهيّة‌، و يُصقَل‌ جوهر وجودهم‌ بواسطة‌ مقارنتهم‌ لاسمائه‌ و صفاته. كما أنـّهم‌ منعّمون‌ علی الدوام‌ فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَي'هُمُ اللَهُ مِن‌ فَضْلِهِ، مسرورون‌ مبتهجون‌ بأنّ الله‌ سبحانه‌ قد عني‌ بهم‌ وتجلّي‌ في‌ الجوهر المجرّد لوجودهم‌، و بأن‌ أسماء ذات‌ الحقّ الازلي‌ّ و صفاته‌ قد ظهرت‌ فيهم‌.

 و هذه‌ الآية‌ صريحة‌ في‌ الحياة‌ بعد الموت‌، و علاوة‌ علی دلالتها علی الحياة‌ بعد الموت‌ فإنـّها تدلّ ـ باعتبار أنّ رزقهم‌ بعد موتهم‌ هو ذلك‌ الغذاء الملكوتيّ و ذلك‌ الصلاح‌ في‌ عالم‌ البرزخ‌ ـ علی تنعّم‌ أرواح‌ الموتي‌ بالارزاق‌ المعنويّة‌ و الملكوتيّة‌.

 و لهذه‌ الآية‌ نظير في‌ سورة‌ البقرة‌ (الآية‌ 154):

 وَ لاَ تَقُولُوا لِمَن‌ يُقْتَلُ فِي‌ سَبِيلِ اللَهِ أَمْوَ ' تٌ بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَـ'كِن‌ لاَّ تَشْعُرُونَ.

 الّتي‌ تدلّ علی الحياة‌ بعد الموت‌.

 و يقول‌ في‌ الآية‌ 25 من‌ سورة‌ نوح‌:

 مِّمَّا خَطِيـئ'´تِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً.

 أي‌ أنـّهم‌ حالما أُغرقوا في‌ البحر فقد أُدخلوا النار، و ذلك‌ لانّ الفاء في‌ العربيّة‌ تأتي‌ للترتيب‌ الاتّصاليّ. يُقال‌: رأيتُ زيداً فقلتُ له‌: أي‌ إنـّني‌ قلتُ لزيد حالما رأيتُه‌، لا بعد ساعة‌ مثلاً من‌ رؤيتي‌ له‌.

 يقول‌ «ابن‌ مالك‌» النحويّ في‌ معني‌ «الفاء» و «ثمّ» و الفرق‌ بينهما:

 وَالْفَاءُ لَلتَّرتِيبِ بِاتِّصَالِ و ثُمَّ لِلتَّرتِيبِ بِانْفِصَالِ

 و عليه‌ فإنـّه‌ يمكن‌ الاستفادة‌ من‌ الآيات‌ المباركة‌ من‌ سورة‌ الفجر:

 يَـ'أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي‌´ إِلَي‌' رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي‌ فِي‌ عِبَـ'دِي‌ وَادْخُلِي‌ جَنَّتِي‌.[26]

 والتي‌ يخاطب‌ فيها الله‌ سبحانه‌ النفوس‌ التي‌ وصلت‌ إلی‌ مقام‌ السكينة‌ و الاطمئنان‌:

 «يا أيّتها النفس‌ المطمئنّة‌» بإدراك‌ التوحيد و الولاية‌، «ارجعي‌ إلی‌ ربّك‌ راضيةً» عن‌ ربّك‌ مرضيّة‌ منه‌، «فادخلي‌» في‌ زمرة‌ عبادي‌ و أوليائي‌، «و ادخلي‌ جنّتي‌».

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ «الديوان‌ المنسوب‌ إلی‌ الإمام‌ أميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌»، الطبعة‌ الحجريّة‌، قافية‌ الراءِ.

[2] ـ «الإقبال‌» الطبعة‌ الحجرية‌، أعمال‌ النصف‌ من‌ شعبان‌، ص‌ 702 و 703.

[3] ـ من‌ الممكن‌ أنـّه‌ كان‌ «الاّ لِمُشرك‌»، و هو الاقرب‌.

[4] ـ «مصباح‌ المتهجّد» الطبعة‌ الحجريّة‌ ص‌ 583 و 584.

[5] ـ يوجد لدي‌ الحقير نسخة‌ من‌ هذه‌ المراسلة‌.

[6] ـ الآية‌ 27، من‌ السورة‌ 14: إبراهيم‌.

[7] ـ ورد في‌ التفسير بلفظ‌ ابن‌ العلاء، إلاّ أنـّه‌ ذكر في‌ «الكافي‌» و «أمإلی‌ الشيخ‌» بلفظ‌ عبد الاعلی.

[8] ـ «تفسير علی بن‌ إبراهيم‌»، سورة‌ إبراهيم‌، ص‌ 346، الطبعة‌ الحجريّة‌ سنة‌ 1313.

[9] ـ «تفسير العيّاشيّ»، سورة‌ إبراهيم‌، المجلّد الثاني‌، ص‌ 227.

[10] ـ «الكافي‌»، كتاب‌ الفروع‌ ج‌ 1 كتاب‌ الجنائز، باب‌ أنّ الميّت‌ يُمثَّل‌ له‌ ماله‌ و ولده‌ وعمله‌ قبل‌ موته‌، الطبعة‌ الحجريّة‌ ص‌ 63؛ و الطبعة‌ الحيدريّة‌: المجلّد الثالث‌، ص‌ 231.

[11] ـ «الامالي‌» للشيخ‌ الطوسيّ، طبع‌ مطبعة‌ النعمان‌، النجف‌، المجلّد الاوّل‌، ص‌ 357 إلی‌ 359.

[12] ـ «بحار الانوار»، كتاب‌ العدل‌ و المعاد، طبعة‌ الآخوند، المجلّد السادس‌، ص‌ 224 إلی‌ 228.

[13] ـ يُمكن‌ أن‌ تكون‌ جملة‌ «لاَ دَرَيْتَ و لا هُدِيتَ» إستفهاميّة‌، أو أن‌ تكون‌ لعناً و دعاءً بالسّوء وهو الاقرب‌ إن‌ لم‌ يكن‌ متعيّناً.

[14] ـ و هو من‌ سلسلة‌ رواة‌ هذا الحديث‌.

[15] ـ الآية‌ 115، من‌ السورة‌ 23: المؤمنون‌.

[16] ـ يقول‌: لا يُخيّلنّ لك‌ أنّ تبختر السماء الزرقاء اللازورديّة‌، واستدارة‌ الشمس‌ والقمر، كان‌ لعبَ لاعبٍ و لهوَ لاهٍ، أو أنّ كلّ هذا الوجود كان‌ عبثاً لاطائل‌ وراءه‌!

[17] ـ الآية‌ 36، من‌ السورة‌ 75: القيامة‌.

[18] ـ «احياء العلوم‌»، المجلّد الرابع‌، ص‌ 18.

[19] ـ «بحار الانوار»، الطبعة‌ الكمباني‌، المجلّد 15، الجزء الثاني‌ في‌ الاخلاق‌، ص‌ 40، رواه‌ عن‌ «مجالس‌ الشيخ‌ المفيد» و عن‌ «أمإلی‌ الشيخ‌ الطوسيّ». و ورد في‌ «أمإلی‌ الطوسيّ» ج‌ 1، ص‌ 34 وص‌ 109.

[20] ـ «أُصول‌ الكافي‌»، المجلّد الثاني‌، ص‌ 453 من‌ الطبعة‌ الحيدريّة‌؛ و باعتبار أنّ هذا الحديث‌ فقرة‌ من‌ فقرات‌ الوصيّة‌ التي‌ أوصاها الإمام‌ موسي‌ بن‌ جعفر عليه‌ السلام‌ إلی‌ هشام‌ ابن‌ الحكم‌، و هي‌ وصيّة‌ طويلة‌ و مفصّلة‌ للغاية‌؛ فقد وردت‌ هذه‌ الفقرة‌ أيضاً ضمن‌ تلك‌ الوصيّة‌ في‌ المجلّد الثاني‌ من‌ «أُصول‌ الكافي‌» ص‌ 13 و في‌ «تحف‌ العقول‌» ص‌ 383، و في‌ المجلّد الاوّل‌ «لبحار الانوار» الطبعة‌ الكمباني‌ ص‌ 43 نقلاً عن‌ «تحف‌ العقول‌».

[21] ـ «بحار الانوار»، كتاب‌ العدل‌ و المعاد، طبعة‌ الآخوند، المجلّد السادس‌، ص‌ 161.

[22] ـ نقل‌ المجلسيّ هذه‌ الحكاية‌ مرسلة‌ في‌ «بحار الانوار»، الطبعة‌ الكمباني‌، المجلّد العاشر، ص‌ 192، إلاّ أنّ المحدّث‌ القمّيّ رواها في‌ «نفس‌ المهموم‌» ص‌ 143 عن‌ أبي‌مخنف‌، عن‌ عمرو بن‌ مرّة‌ الجمليّ، عن‌ أبي‌ صالح‌ الحنفيّ، عن‌ غلام‌ عبدالرحمن‌ بن‌ عبد ربّ الانصاريّ.

[23] ـ يقول‌: «إذا ما دني‌ الوصال‌ الموعود، تأجّجت‌ نارُ العشق‌ و زاد أوارها.»

[24] ـ الآيات‌ 169 ـ 171 من‌ السورة‌ 3: آل‌ عمران‌.

[25] ـ و هذا بالطبع‌ بتعبير القدماء، أمّا في‌ تعبير علماء الفيزياء الحديثة‌ فليس‌ هناك‌ من‌ شعاع‌ للعين‌، بل‌ إنّ الشعاع‌ من‌ الشي‌ء المرئي‌ّ يرتطم‌ بالمرآة‌ و ينعكس‌ فيوجد صورةً في‌ العين‌.

[26] ـ الآيات‌ 27 ـ 30: من‌ السورة‌ 89: الفجر.

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com