بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة الله / المجلد الثالث / القسم السابع: علة وجود الشرور، الإختلافات فی عالم الخلقة،قاعدة "الذاتی لایعلّل" ، جنة آد...

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

قضيّة‌ أبو طلحة‌ وأُمّ سليم‌ وموت‌ الابن‌ ، ودعاء النبي‌ّ لهما

 وينقل‌ هنا المرحوم‌ المطهّري‌ّ قضيّة‌ أبي‌ طلحة‌ وأُمّ سليم‌ وقصّة‌ موت‌ ولدهما المعبّرة‌ ، وذلك‌ لبيان‌ أثر روح‌ الإيمان‌ علی‌ المسلم‌ ، حيث‌ إنّه‌ ومع‌ كثرة‌ المصائب‌ الكبيرة‌ والمشاكل‌ التي‌ تقصم‌ الظهر ، فإنّه‌ ليس‌ فقط‌ لا يَهِن‌ ، بل‌ يثبت‌ ويحتسب‌ كالجبل‌ الاشمّ ويشكر الباري‌ علی‌ نِعَمِهِ .

 وارتأينا هنا أن‌ نورد نصّ القصّة‌ لما تحمل‌ من‌ دلالات‌ وعِبَر جمّة‌ :

 روي‌ العلاّمة‌ المجلسي‌ّ رضوان‌ الله‌ علیه‌ في‌ « بحار الانوار » نقلاً عن‌ كتاب‌ « مُسكِّن‌ الفؤاد » للشهيد الثاني‌ رفع‌ الله‌ درجته‌ عن‌ كتاب‌ « عيون‌ المجالس‌ » عن‌ معاوية‌ بن‌ قُرّة‌ حيث‌ قال‌ :

 كَانَ أَبُو طَلْحَةَ يُحِبُّ ابْنَهُ حُبَّاً شَدِيداً . فَمَرِضَ ، فَخَافَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عَلَی‌ أَبِي‌ طَلْحَةَ الجَزَعَ حِينَ قَرُبَ مَوْتُ الوَلَدِ ، فَبَعَثَتْهُ إلَي‌ النَّبِي‌ِّ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ .

 فَلَمَّا خَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ مِنْ دَارِهِ تُوُفِّي‌َ الوَلَدُ . فَسَجَّتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ بِثَوْبٍ وَعَزَلَتْهُ فِي‌ نَاحِيَةٍ مِنَ البَيْتِ . ثُمَّ تَقَدَّمَتْ إلَي‌ أَهْلِ بَيْتِهَا وَقَالَتْ لَهُمْ : لاَ تُخْبِرُوا أَبَا طَلْحَةَ بِشَي‌ءٍ . ثُمَّ إنَّهَا صَنَعَتْ طَعَاماً ثُمَّ مَسَّتْ شَيْئَاً مِنَ الطِّيبِ .

 فَجَاءَ أَبُو طَلْحَةَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ فَقَالَ : مَا فَعَلَ ابْنِي‌ ؟!

 فَقَالَتْ لَهُ : هَدَأَتْ نَفْسُهُ ! ثُمَّ قَالَ : هَلْ لَنَا مَا نَأْكُلُ ؟!

 فَقَامَتْ فَقَرَّبَتْ إلَيْهِ الطَّعَامَ . ثُمَّ تَعَرَّضَتْ لَهُ فَوَقَعَ عَلَیهَا . فَلَمَّا اطْمَأَنَّ قَالَتْ لَهُ : يَا أَبَا طَلْحَةَ ! أَتَغْضَبُ مِنْ وَدِيعَةٍ كَانَتْ عِنْدَنَا فَرَدَدْنَاهَا إلَي‌ أَهْلِهَا ؟!

 فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَهِ ؛ لاَ !

 فَقَالَتْ : ابْنُكَ كَانَ عِنْدَنَا وَدِيعَةً فَقَبَضَهُ اللَهُ تَعَالَي‌ !

 فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : فَأَنَا أَحَقُّ بِالصَّبْرِ مِنْكِ ! ثُمَّ قَامَ مِنْ مَكَانِهِ فَاغْتَسَلَ وَصَلَّي‌ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ انْطَلَقَ إلَي‌ النَّبِي‌ِّ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ فَأَخْبَرَهُ بِصَنِيعِهَا .

 فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ : فَبَارَكَ اللَهُ لَكُمَا فِي‌ وَقْعَتِكُمَا !

 ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ : الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي‌ جَعَلَ فِي‌ أُمَّتِي‌ مِثْلَ صَابِرَةِ بَنِي‌ إسْرَائِيلَ .

 وجاء في‌ نهاية‌ القصّة‌ :

 « فقيل‌ : يا رسول‌ الله‌ ! صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌ ما كان‌ من‌ خبرها ؟ فقال‌ : كان‌ في‌ بني‌ إسرائيل‌ امرأة‌ وكان‌ لها زوج‌ ، ولها منه‌ غلامان‌ ، فأمرها بطعامٍ ليدعو علیه‌ الناس‌ ففعلتْ ، واجتمع‌ الناس‌ في‌ داره‌ ، فانطلق‌ الغلامان‌ يلعبان‌ فوقعاً في‌ بئرٍ كانت‌ في‌ الدار ، فكرهتْ أن‌ تنغّص‌ علی‌ زوجها الضيافة‌ ، فأدخلتْهما البيت‌ وسجّتهما بثوب‌ ، فلمّا فرغوا دخل‌ زوجها فقال‌ : أين‌ ابناي‌ ؟ قالت‌ : هما في‌ البيت‌ ؛ وإنّها كانت‌ تمسّحت‌ بشي‌ءٍ من‌ الطيب‌ وتعرّضتْ للرجل‌ حتّي‌ وقع‌ علیها . ثمّ قال‌ : أين‌ ابناي‌ ؟ قالت‌ : هما في‌ البيت‌ . فناداهما أبوهما فخرجا يسعيان‌ . فقالت‌ المرأة‌ : سُبحان‌ الله‌ ، والله‌ لقد كانا ميّتين‌ ، ولكنّ الله‌ تعالي‌ أحياهما ثواباً لصبري‌ » [1].

الرجوع الي الفهرس

ما السبب‌ في‌ عدم‌ كون‌ العالم‌ خيراً محضاً بلا شرور

 الاختلافات‌ والتباينات‌ :

 وأمّا المسألة‌ الثانية‌ التي‌ وعدنا ببحثها فهي‌ مسألة‌ سبب‌ الاختلافات‌ والتباينات‌ في‌ عالم‌ الوجود . ألم‌ يكن‌ حريّاً أن‌ يُخلَق‌ جميع‌ البشر علی‌ صورة‌ واحدة‌ وشكل‌ واحد ؛ كلّهم‌ أصحّاء ، كلّهم‌ أحياء وخالدون‌ ، جميعهم‌ مرفّهون‌ وحوائجهم‌ مُستجابة‌ ، جميعهم‌ سُعداء ومبتهجون‌ ، كلّهم‌ أتقياء ومؤمنون‌ ، جميعهم‌ أطهار وطيّبون‌ ، الكلّ نشط‌ متحرّك‌ نحو كمال‌ الربّ الموجود الازلي‌ّ الابدي‌ّ الرحيم‌ الودود العطوف‌ وجماله‌ ؟!

 وبعبارة‌ أُخري‌ : فنحن‌ مُسَلِّمون‌ بأنّ الله‌ هو الخالق‌ ، ونُسَلِّم‌ كذلك‌ بأنّ هذا الخلق‌ قائم‌ علی‌ أساس‌ من‌ المنفعة‌ والمصلحة‌ ؛ ولكن‌ ألم‌ يكن‌ من‌ الافضل‌ أن‌ يكون‌ الخلق‌ أفضل‌ من‌ هذا وأرقي‌ منه‌ ؟! خلقاً لا وجود للشرور والنقائص‌ فيه‌ والتي‌ هي‌ عدميّات‌ ـ كما يقول‌ الحكماء بل‌ عالم‌ تكتنفه‌ الخيرات‌ المحضة‌ والمباهج‌ الصِّرفة‌ والتجلّيات‌ الجماليّة‌ دون‌ تسلّط‌ أو ضَيم‌ ، دون‌ لمحة‌ أو بارقة‌ للكبرياء ؛ الكلّ فَرِحٌ وسعيد ، ومسرور ومُبتَهِج‌ ، دون‌ أثر للالم‌ أو المعاناة‌ أو المصائب‌ أو الكوارث‌ أو النفاق‌ أو الكذب‌ أو الزور أو الحسد أو الاضغان‌ ، الكلّ جميعاً يعيشون‌ حياة‌ سعيدة‌ ويحيون‌ فعلیة‌ تامّة‌ ؟!

 أي‌ : ألم‌ يكن‌ من‌ الافضل‌ بدءاً أن‌ يخلق‌ الله‌ الجنّة‌ بالخصوصيّات‌ والميّزات‌ التي‌ بَشَّر بها الانبياء العِظام‌ ومنهم‌ خاتم‌ الانبياء سيّدنا محمّد بن‌ عبد الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وعلی‌ أولاده‌ الطاهرين‌ ولعنة‌ الله‌ علی‌ أعدائهم‌ أجمعين‌ والذي‌ بيّن‌ ذلك‌ بالتفصيل‌ ، وكذلك‌ القرآن‌ الكريم‌ باعتباره‌ أعظم‌ معجزة‌ إلهيّة‌ وهادياً أقوم‌ الاُمم‌ إلي‌ الصراط‌ المستقيم‌ [2] الذي‌ شرح‌ ذلك‌ ووصفه‌ بالإطناب‌ والإجمال‌ في‌ مواقع‌ عدّة‌ ؛ فيُسكِنَ فيها بني‌ آدم‌ ؟! ألَم‌ يَكُن‌ ذلك‌ أفضل‌ وأجدر ، وأبعد عن‌ المشاكل‌ واللفّ والدوران‌ ، وأنأي‌ عن‌ آلاف‌ المصائب‌ والبلايا ؟!

 للجواب‌ علی‌ ذلك‌ نقول‌ فقط‌ : إنّ اختلاف‌ الاشياء الخارجيّة‌ وجميع‌ أفراد البشر يعتمد علی‌ ذاتها هي‌ ، وهو ضروري‌ّ للنظام‌ الاحسن‌ طبقاً لقانون‌ العلیة‌ والمعلوليّة‌ .

 هذا باختصار هو جَوابنا الذي‌ يَشمل‌ البَراهين‌ الحِكَميّة‌ والا´يات‌ الإلهيّة‌ والشّواهد الذّوقيّة‌ والشّهوديّة‌ والعِرفانيّة‌ . وأمّا إذا إبتغيتَ جَواباً أطوَل‌ وشَرحاً أشمَلَ ، فَيَكفينا الإستشهاد بالابيات‌ العِرفانيّة‌ التّالية‌ مِن‌ غَزليّة‌ شَيخ‌ العُرفاء وسَند الواصلين‌ الخواجة‌ محمّد حافظ‌ الشّيرازي‌ّ زادَ الله‌ في‌ عُلوّه‌ ورُتبَته‌ التي‌ يَقول‌ فيها :

 صوفي‌ ار باده‌ به‌ اندازه‌ خورد نوشش‌ باد                   ور نه‌ انديشة‌ اين‌ كار فراموشش‌ باد

 آنكه‌ يك‌ جرعه‌ مي‌ از دست‌ تواند دادن‌                     دست‌ با شاهد مقصود در آغوشش‌ باد [3]

 پير ما گفت‌ خطا بر قلم‌ صُنع‌ نرفت‌               آفرين‌ بر نظر پاك‌ خطا پوشش‌ باد

 شاه‌ تركان‌ سخن‌ مدّعيان‌ مي‌شنود                        شرمي‌ از مَظلمة‌ خون‌ سياوشش‌ باد

 گرچه‌ از كبر سخن‌ با من‌ درويش‌ نگفت‌                    جان‌ فداي‌ شكرين‌ پستة‌ خاموشش‌ باد

چشمم‌ از آينه‌دارانِ خط‌ و خالش‌ گشت‌                     لبم‌ از بوسه‌ ربايانِ بَر و دوشش‌ باد

نرگسِ مستِ نوازش‌ كِ مردم‌ دارش‌                          خون‌ عاشق‌ به‌ قدح‌ گر بخورد نوشش‌ باد

به‌ غلاميّ تو مشهور جهان‌ شد حافظ‌

حلقة‌ بندگي‌ زلف‌ تو در گوشش‌ باد[4]

الرجوع الي الفهرس

الاختلافات‌ في‌ عالم‌ الخلقة‌ صحيحة‌ ؛ وليس‌ هناك‌ من‌ تمييز وتفرقة‌

 وأمّا ما يتعلّق‌ بالبراهين‌ الحِكَميّة‌ فنقول‌ : اعلم‌ أنّ كلّ مشهود في‌ العالَم‌ إنّما هو تباين‌ وليس‌ تمييز .

 والتمييز هو أن‌ نُعطي‌ ضعف‌ الطعام‌ لاحد نفرين‌ مُستَحِقَيْن‌ لنفس‌ المقدار من‌ الطعام‌ دون‌ الا´خر . وليس‌ التمييز أن‌ نُعطي‌ ضعف‌ الطعام‌ لاحدهما المستحقّ والجائع‌ أكثر من‌ نظيره‌ المُستَحقّ لكنّه‌ ليس‌ جائعاً كصاحبه‌ ؛ بل‌ يُدعي‌ ذلك‌ تبايناً وهو أمر صحيح‌ ومقبول‌ . وكذا الحال‌ مع‌ المُعلّم‌ الذي‌ يقوم‌ بتفصيل‌ الدرس‌ لطالب‌ قليل‌ الذكاء حتّي‌ يتمكّن‌ من‌ فَهم‌ الدرس‌ واستيعابه‌ بشكل‌ أفضل‌ في‌ حين‌ يصرف‌ وقتاً أقلّ من‌ ذلك‌ مع‌ طالب‌ آخر أذكي‌ ، فهذا هو ما يُسمّي‌ تبايناً لا تمييزاً وهو أمر صحيح‌ ومقبول‌ كما ذكرنا . فلو كان‌ نفس‌ المعلّم‌ يقوم‌ بتدريس‌ المادّة‌ لكلا الطالبيْنِ بمستوي‌ واحد لكان‌ ذلك‌ عدم‌ تباين‌ وهو أمر غير صحيح‌ وغير مقبول‌ .

 وهكذا ، فقد اتّضح‌ لنا هذا الامر ؛ ثانياً نقول‌ : تَبيّن‌ ممّا تقدّم‌ أنّ النقائص‌ والشرور هي‌ أُمور عدميّة‌ ، فموت‌ زيد مثلاً أمر عدمي‌ّ ويعود مرجعه‌ إلي‌ حياته‌ في‌ هذا المقطع‌ الزمني‌ّ المعلوم‌ . فحياته‌ إذن‌ محدودة‌ بهذا الحدّ من‌ الزمن‌ ، وأمّا استمراريّته‌ التي‌ لا وجود لها فهي‌ أمر عدمي‌ّ وهو شرٌّ ونقص‌ . ومعني‌ علیة‌ الامر العدمي‌ّ للشرور التي‌ هي‌ اعدام‌ هو أنّ عِلّة‌ وجودها لم‌ تستمرّ إلاّ إلي‌ هذا الحدّ وبذلك‌ لم‌ تستطع‌ أن‌ تمنحه‌ الحياة‌ أكثر من‌ ذلك‌ .

الرجوع الي الفهرس

«أنا» التي‌ يقولها زيد دليل‌ علی‌ وجوده‌ وتمامه‌ ، وغير ذلك‌ محال‌

 فإن‌ عمّر زيد خمسين‌ سنة‌ ثمّ مات‌ ، فذلك‌ يعني‌ أنّ علّة‌ وجود حياة‌ زيد امتلكت‌ العلیة‌ حتّي‌ الخمسين‌ من‌ عمره‌ ، ومن‌ الا´ن‌ فصاعداً لن‌ يكون‌ هناك‌ وجوداً لعلّة‌ حياته‌ ، إذاً فهو ليس‌ موجوداً .

 وتؤول‌ جميع‌ الاُمور العدميّة‌ إلي‌ محدوديّة‌ الاُمور الوجوديّة‌ . وعلی‌ هذا يكون‌ عُمُر زيد الذي‌ دام‌ خمسين‌ سنة‌ قد قُيّد في‌ سجل‌ العلّة‌ والمعلول‌ الثابت‌ لعالم‌ الخلق‌ ونظامه‌ البديع‌ والامثل‌ والذي‌ هو مُسَبَّب‌ من‌ لدن‌ مُسَبِّب‌ الاسباب‌ ، وهذا الامر لا يقبل‌ التغيير وهو عين‌ الخير والرحمة‌ .

 وهكذا قُدِّر لزيد أن‌ يوهبَ عُمُراً مقداره‌ خمسون‌ سنة‌ وذلك‌ في‌ سجلّ علل‌ أُمور العالم‌ . وتُعتبر حياته‌ التي‌ دامت‌ خمسين‌ عاماً أمراً وجوديّاً وهي‌ عين‌ الخير والرحمة‌ ، وأمّا عدم‌ حياته‌ بعد هذا المقطع‌ الزمني‌ّ والذي‌ نعبّر عنه‌ بالفقدان‌ والشرّ والضرر فهو أمر عدمي‌ّ . فهو لا شي‌ء لعدم‌ تحقّق‌ علّة‌ وجوده‌ في‌ الخارج‌ ، وما كان‌ من‌ حياته‌ التي‌ دامت‌ خمسين‌ سنة‌ والتي‌ هي‌ أمر وجودي‌ّ هي‌ عين‌ الخير والرحمة‌ والصلاح‌ والحكمة‌ . فماذا ينتظر زيد أكثر من‌ ذلك‌ ؟ وما الذي‌ يريده‌ من‌ نظام‌ الخَلق‌ ؟

 وهنا لو قال‌ ( زيد ) : لِمَ لم‌ يبلُغ‌ عمري‌ الستّين‌ ؟ لِمَ لم‌ تُضَف‌ علیه‌ عشرُ سنوات‌ أُخري‌ ؟

 نقول‌ جواباً علیه‌ : أوّلاً لو كانت‌ قد أُضيفَت‌ عشر سنوات‌ أُخري‌ علی‌ عُمُرك‌ وأصبح‌ ستّين‌ لاعترضتَ بنفس‌ هذا الكلام‌ عند احتضارك‌ وقُلتَ : هلاّ بَلَغْتُ السبعين‌ . لم‌ لا تُضاف‌ علی‌ عُمُري‌ عشر سنوات‌ أُخري‌ ، وهكذا دواليك‌ ، فحتّي‌ لو عمّر زيد ألف‌ سنة‌ لتمنّي‌ عند حضور الموت‌ والفقدان‌ أن‌ يكون‌ عمره‌ ألف‌ سنة‌ وعشراً . وهكذا صعوداً حتّي‌ نشهد زيداً وقد وصل‌ عمره‌ الملايين‌ والمليارات‌ ؛ ومع‌ ذلك‌ فهو لا يرغب‌ في‌ الموت‌ ، لانّ الموت‌ يكون‌ حينها أمراً عدميّاً كذلك‌ وشرّاً ونقصاً وفقداناً وقطع‌ حياة‌ ومعيشة‌ وتكمن‌ مصداقيّة‌ ذلك‌ في‌ « حُكْمُ الامثال‌ فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد » .

 والخلاصة‌ أنّ زيداً يطلب‌ الحياة‌ الابديّة‌ والخلود .

 كان‌ هذا مثالاً عن‌ الحياة‌ . أمّا ما يخصّ جميع‌ نقائص‌ زيد ومحدوديّاته‌ فإنّ الامر علی‌ هذا المنوال‌ كذلك‌ . فلو فرضنا أنّ زيداً حائز علی‌ عشر درجات‌ من‌ درجات‌ العلم‌ فسنراه‌ يشكو من‌ عدم‌ حصوله‌ علی‌ درجات‌ أعلی‌ من‌ العلم‌ . ويقول‌ في‌ نفسه‌ : لِمَ لم‌ أحصل‌ علی‌ مائة‌ أو ألف‌ درجة‌ من‌ العلم‌ ؛ وهلمّ جرّا .

 ولو امتلك‌ زيد مثلاً مائة‌ درجة‌ من‌ القوّة‌ والقدرة‌ بحيث‌ يستطيع‌ بها رفع‌ ثقل‌ مقداره‌ مائة‌ كيلو غرام‌ ، فسنراه‌ يتذمّر من‌ عدم‌ قدرته‌ علی‌ رفع‌ مائة‌ وعشرين‌ كيلو غرام‌ أو خمسمائة‌ كيلو غرام‌ ... وهكذا دواليك‌ ، ولن‌ نشهد زيداً في‌ أيّة‌ مرحلة‌ قانعاً بما عنده‌ من‌ دون‌ أن‌ يتذمّر أو يطلب‌ الزيادة‌ .

 وعلی‌ هذا لا يمكن‌ إيقاف‌ زيد عند حدّه‌ ، فتارة‌ نراه‌ يطلب‌ الحياة‌ الابديّة‌ ، وتارة‌ أُخري‌ يلهث‌ وراء العلم‌ والقوّة‌ السرمديّان‌ ، وأُخري‌ لا ينفكّ يطلب‌ شؤوناً وامتيازات‌ غير محدودة‌ ؛ وكلّ ذلك‌ في‌ هذه‌ الدنيا المقيّدة‌ والمحدّدة‌ بآلاف‌ الحدود ومختلف‌ القيود وأنواع‌ النواقص‌ . فهل‌ مطالب‌ زيد هذه‌ وأُمنيّاته‌ ممكنة‌ الحصول‌ أو التحقّق‌ حسب‌ ذهنيّتنا ، أم‌ أنّ طلبه‌ هذا من‌ الله‌ هو مُغالاة‌ وإلحاح‌ وهراء وشَكاة‌ ؟!

 كان‌ هذا هو الجواب‌ الاوّل‌ بهذا الخصوص‌ .

الرجوع الي الفهرس

أمثال‌ عبارة‌ «لِمَ لَمْ أكن‌ الشيخ‌ الطوسي‌ّ» تبطل‌ نفسها بنفسها

 وأمّا جوابنا الثاني‌ لزيد فهو : أنت‌ تقول‌ : لِمَ لَم‌ أكُن‌ هو دون‌ أنا ؟ لِمَ لَم‌ أكن‌ سلطاناً ؟ لِمَ لَم‌ أكُن‌ الشيخ‌ الطوسي‌ّ ؟ لِمَ لَو أكُن‌ أمير المؤمنين‌ علیه‌ الصلاة‌ والسلام‌ ؟

 وهنا نقف‌ عند كلامك‌ الاوّل‌ ، ويكفينا ذلك‌ إلي‌ يوم‌ القيامة‌ وهو حسبنا . نقول‌ : أَلم‌ تَقلْ : « أنا » ؟! فما معني‌ « أنا » ؟!

 إنّها تعني‌ زيداً الذي‌ يُدعي‌ أبوه‌ ب « حَسن‌ » ، وأُمّه‌ « فاطمة‌ » ، والذي‌ وُلِدَ ( أي‌ زيد ) في‌ مدينة‌ مشهد المقدّسة‌ ، علی‌ مقربة‌ من‌ الحرم‌ الرضوي‌ّ الشريف‌ . ساعة‌ طلوع‌ الفجر ، من‌ يوم‌ الاربعاء ، من‌ شهر ذي‌ الحجّة‌ ، عام‌ 1390 ه ، حيث‌ كان‌ الفصل‌ مثلاً ربيعاً وكان‌ الطقس‌ جميلاً ومعتدلاً ، وكانت‌ مُوَلِّدَتك‌ السيّدة‌ فلانة‌ المحترمة‌ ؛ وكان‌ جَدّك‌ هو الذي‌ سمّاك‌ زيداً وقد شارك‌ ذوو قرباك‌ ومعارفك‌ في‌ مراسم‌ نحر عقيقتك‌ ، مضافاً إلي‌ آلاف‌ الخصائص‌ والميّزات‌ الاُخري‌ التي‌ تتميّز بها .

 ولو تجاوزنا أصل‌ وجودك‌ ، فهناك‌ الكثير من‌ العوارض‌ والمميّزات‌ الزمانيّة‌ والمكانيّة‌ ، والفعل‌ والانفعال‌ والكيف‌ والكَمّ والعلّة‌ والمعلول‌ وغيرها والتي‌ تضافرت‌ مجتمعة‌ وتدخّلت‌ في‌ وجودك‌ وتشخُّصاتك‌ ، وقامت‌ بمجموعها بإنشائك‌ وجَعلتْ منك‌ فرداً يُدعي‌ زيداً .

 والا´ن‌ تقول‌ : لِمَ لَم‌ أكُن‌ الشيخ‌ الطوسي‌ّ ؟ لِمَ لَم‌ أكُن‌ العلاّمة‌ الحلّي‌ّ ؟ لِمَ لَم‌ أكُن‌ السيّد بحر العلوم‌ ؟ فالشيخ‌ الطوسي‌ّ مثلاً اسمه‌ محمّد وأبوه‌ يُدعي‌ حَسَن‌ وولادته‌ كانت‌ في‌ خراسان‌ وقد عاش‌ قبل‌ ألف‌ عام‌ ، وتيّارات‌ معلوماته‌ وانفعالاته‌ وخواصّه‌ وآلاف‌ بل‌ بملايين‌ الاُمور والفوارق‌ التي‌ تختلف‌ اختلافاً كبيراً مع‌ ما لديك‌ أنت‌ منها .[5]

الرجوع الي الفهرس

«الذاتي‌ّ لا يُعلّل‌» قاعدة‌ فلسفيّة‌ لا تتخلّف‌

 إنّ عبارة‌ « لِمَ لم‌ أكن‌ هو » تُبطل‌ نفسها بنفسها ؛ فكلمة‌ أنا تعني‌ أنا ، وهو تعني‌ هو . إنّ الا´ثار والخواصّ والميّزات‌ المتعلّقة‌ بـ « أنا » مؤثّرة‌ في‌ وجود زيد لدرجة‌ أ نّنا لو استبدلنا شعرة‌ واحدة‌ من‌ جسمه‌ بشعرة‌ أُخري‌ فإنّ وجود زيد سينعدم‌ أصلاً ولن‌ يكون‌ زيداً البتة‌ . كما لو فرضناً مثلاً : أنّ حسن‌ الذي‌ هو والد زيد يكون‌ عمّه‌ حسين‌ ، حيث‌ سنكون‌ قد ارتكبنا خطأً كبيراً وضللنا السبيل‌ ، وهكذا الامر في‌ تنظيم‌ وترتيب‌ سلسلة‌ العلل‌ والمعلولات‌ العجيبة‌ والمحيّرة‌ والمنظّمة‌ الدقيقة‌ لدرجة‌ أ نّنا لو قمنا باستبدال‌ شعرة‌ من‌ جسمه‌ ووضعها بالقرب‌ من‌ شفتيه‌ معتبرين‌ ذلك‌ أمراً غير مهمّ في‌ عالم‌ الخلق‌ ومعدوم‌ الوجود والخلقة‌ ، فالحقيقة‌ أ نّنا بذلك‌ نبتعد عن‌ الواقع‌ وننأي‌ عن‌ عالم‌ الخلقة‌ وأسرار الخليقة‌ وسلسلة‌ المراتب‌ والعلل‌ .

 والا´ن‌ افترضوا أ نّنا أكملنا كلّ ما يعتبره‌ زيد نقصاً فيه‌ وجعلنا منه‌ إنساناً كامل‌ الوجود والعلم‌ والحياة‌ والقدر في‌ إطار الإنسانيّة‌ فإنّ زيداً وبالرغم‌ من‌ كلّ ذلك‌ سيقول‌ : لِمَ لم‌ تتوفّر فِي‌َّ صفات‌ وخصوصيّات‌ الحيوانات‌ والجمادات‌ والنباتات‌ الموجودة‌ علی‌ الارض‌ ؟

 لِمَ لم‌ يكن‌ جسمي‌ بحجم‌ جسم‌ الفيل‌ ؟ لِمَ لا أملك‌ قرنين‌ متشابكين‌ كقرنَي‌ الغزال‌ ؟ لِمَ لم‌ تصبح‌ قامتي‌ مثل‌ شجرة‌ الصنوبر ؟ لِمَ لا أنير كالبدر في‌ ليلة‌ تمامه‌ أو مثل‌ كوكب‌ الزهرة‌ ؟

 وذلك‌ لقول‌ الحكماء : الذاتي‌ُّ لا يُعلَّل‌ ؛ أي‌ أ نّه‌ لا يجب‌ البحث‌ عن‌ علّة‌ وجود الاُمور التي‌ هي‌ آثار وخصوصيّات‌ لازمة‌ لذات‌ الشي‌ء ولا يجب‌ الاستقصاء عنها بأي‌ّ نحوٍ كان‌ !

الرجوع الي الفهرس

جنّة‌ آدم‌ هي‌ جنّة‌ القابليّة‌ ؛ وهي‌ غير الجنّة‌ الفعلیة‌ التي‌ تليها

 وأمّا سبب‌ طرد الإنسان‌ من‌ الجنّة‌ وأنّ علیه‌ تحمّل‌ المشاقّ والمعاناة‌ للعودة‌ إليها ثانية‌ فهو أنّ الجنّة‌ صنفان‌ : جنّة‌ القابليّة‌ وجنّة‌ الفعلیة‌ . فالجنّة‌ الاُولي‌ التي‌ كان‌ آدم‌ وبنيه‌ فيها كانت‌ جنّة‌ مرحلة‌ النزول‌ من‌ العوالم‌ الملكوتيّة‌ النورانيّة‌ المجرّدة‌ المحضة‌ والتي‌ كانت‌ واصلة‌ إلي‌ عالَم‌ الصورة‌ والمادّة‌ الاوّليّة‌ والتي‌ يُعَبَّر عنها كذلك‌ بـ «عَالَم‌ الذرّ» . وأمّا الجنّة‌ التي‌ تُقصَد بعد عالَم‌ الدنيا فهي‌ جنّة‌ بمعني‌ الكلمة‌ ، صاحبة‌ الفعلیة‌ والبروز والظهور والتفصيل‌ والانشراح‌ .

 فأمّا إطلاق‌ تسمية‌ الجنّة‌ علی‌ الاُولي‌ فيعود إلي‌ أنّ التكليف‌ فيها لا يوازي‌ التكليف‌ في‌ عالَم‌ الطبيعة‌ ، وهي‌ لا تملك‌ أيّة‌ حركة‌ أو نهضة‌ ؛ وهي‌ طهارة‌ وتنزيه‌ وحسب‌ ، لكنّ تلك‌ الطهارة‌ تخصّ مرحلة‌ القابليّة‌ فقط‌ . وتوجد في‌ ( عالَم‌ ) الدنيا كلّ مسائل‌ التكليف‌ والامر والنهي‌ والطاعة‌ والمعصية‌ والجهاد مع‌ النفس‌ الامّارة‌ بالسوء والتحرُّك‌ نحو المبدأ الاعلی‌ ؛ وبالنتيجة‌ تتحوّل‌ جميع‌ القابليّات‌ في‌ الجنّة‌ الثانية‌ ، والتي‌ هي‌ مرحلة‌ العروج‌ والصعود ، إلي‌ فعلیة‌ ، حيث‌ البروز والظهور الخالصين‌ والشرح‌ والتفصيل‌ اللامتناهيين‌ ، فأين‌ هذا من‌ ذاك‌ ؟

مـيـان‌ مـاه‌ مـن‌ بـا مــاه‌ گـردون‌                    تفاوت‌ از زمين‌ تا آسمان‌ است‌ [6]

دانة‌ فلفل‌ سياه‌ و خال‌ مهرويان‌ سياه‌                        هر دو جان‌ سوزند امّا اين‌ كجا و آن‌ كجا ؟[7]

 لقد كان‌ خروج‌ آدم‌ من‌ الجنّة‌ سبباً لكماله‌ لا لنقصه‌ . فلو لم‌ يخرج‌ منها لثبت‌ في‌ دار الاستعداد ومنزل‌ القابليّة‌ مراوحاً في‌ مكانه‌ دون‌ أي‌ّ تقدّم‌ . لكنّه‌ في‌ نزوله‌ إلي‌ عالَم‌ الطبيعة‌ وتفصيل‌ التكاليف‌ يقطع‌ جميع‌ مراحل‌ مراتب‌ استعداداته‌ البشريّة‌ وقوّته‌ الإنسانيّة‌ ، درجةً درجة‌ ، باختياره‌ وإرادته‌ ، أملاً للوصول‌ بها إلي‌ أعلی‌ درجات‌ الكمال‌ والفعلیة‌ . وهكذا يخطو قُدُماً للدخول‌ إلي‌ الجنّة‌ الثانية‌ والتي‌ تلي‌ هذه‌ الحياة‌ الدنيا ، ويتمكّن‌ منها إلي‌ الابد .

 إنّ مثل‌ الجنّة‌ التي‌ تسبق‌ الدنيا كمثل‌ الجنين‌ ، فمع‌ كونه‌ إنسان‌ إلاّ أ نّه‌ ذو قابليّة‌ محضة‌ ؛ حيث‌ لا ضوضاء ولا ضجيج‌ ، لا حراك‌ فيه‌ ولا عشق‌ ولا حبّ ، لا مقصود فيه‌ ولا مراد ؛ وهكذا يتحتّم‌ علیه‌ الخروج‌ من‌ الجنّة‌ والنزول‌ إلي‌ الدنيا ، وإلاّ فسيؤول‌ إلي‌ الفساد ، بعد أن‌ يفقد كلّ مراتب‌ الاستعدادات‌ التي‌ يمتلكها .

 إنّ الجنين‌ وهو يشهد حريّته‌ وقدرته‌ علی‌ الاختيار في‌ عالَم‌ الطبيعة‌ وسط‌ التيّارات‌ المختلفة‌ والقوي‌ الملكوتيّة‌ والإبليسيّة‌ المضادّة‌ لها ، وفي‌ خضمّ الدعوة‌ إلي‌ الحسنات‌ والسيّئات‌ ، فيسير بقدم‌ ثابتة‌ وإرادة‌ راسخة‌ متينة‌ في‌ مجاهدته‌ للنفس‌ الامّارة‌ بالسوء ؛ فإذا به‌ يري‌ نفسه‌ في‌ عالم‌ تسوده‌ العظمة‌ وتهيمن‌ علیه‌ الاُبّهة‌ والجمال‌ والجلال‌ ؛ عالم‌ تكتنفه‌ الا´ثار التي‌ تتمثّل‌ في‌ بروز الاستعدادات‌ وظهورها من‌ حور العين‌ وقصور وجنّات‌ وخُلد ورضوان‌ ، وبالتالي‌ الانمحاء والانصهار في‌ الذات‌ المقدّسة‌ للربّ الحي‌ّ القدير ، ثمّ والتشكّل‌ بشكل‌ الفعلیة‌ التامّة‌ في‌ جميع‌ مراحل‌ الوجود . ولا سبيل‌ لوصول‌ الإنسان‌ إلي‌ تلك‌ الجنّة‌ إلاّ بالعبور من‌ فوق‌ جسور الشهوة‌ والانانيّة‌ واجتيازها بجدارة‌ ، ولن‌ يكون‌ ذلك‌ إلاّ بالنزول‌ من‌ الجنّة‌ الاُولي‌ والسير في‌ دار التكليف‌ وتصارع‌ القوي‌ الشيطانيّة‌ الامّارة‌ بالسوء مع‌ القوي‌ الملكوتيّة‌ الرحمانيّة‌ . ومحال‌ هذا دون‌ ذاك‌ !

 ومثل‌ الجَنّة‌ الاُولي‌ كذلك‌ كمثل‌ حَبّة‌ ومثل‌ الجنّة‌ الثانيّة‌ كمثل‌ شجرة‌ بالغة‌ وكاملة‌ النموّ . ومع‌ أنّ هذه‌ الشجرة‌ مع‌ ما تحويه‌ من‌ جذع‌ وجذور وأغصان‌ وأوراق‌ وثمار وحبوب‌ تلك‌ الاثمار التي‌ تُمثّل‌ كلّ واحدة‌ منها شجرة‌ مستقلّة‌ قائمة‌ بذاتها ولها جميع‌ خصوصيّات‌ تلك‌ الشجرة‌ وآثارها وخواصّها ، إلاّ أ نّها في‌ الحقيقة‌ نفس‌ تلك‌ الحَبّة‌ والتي‌ تحوّلت‌ إلي‌ هذا الشكل‌ وتبدّلت‌ بهذه‌ الصورة‌ . لكن‌ بين‌ هاتَيْن‌ الحالتَيْن‌ بون‌ شاسع‌ وفَرق‌ كبير . إنّ تلك‌ الحبّة‌ الصغيرة‌ والتي‌ تبدو في‌ بعض‌ الاحيان‌ تافهة‌ وحقيرة‌ ولا يمكن‌ تصوّر خروج‌ شجرة‌ شامخة‌ قويّة‌ خضراء ، تلك‌ الحبّة‌ هي‌ شجرة‌ الصنوبر . ولا يمكن‌ المقايسة‌ كذلك‌ من‌ جهة‌ الا´ثار والمنفعة‌ الوجوديّة‌ بين‌ تلك‌ الحبّة‌ وتلك‌ الشجرة‌ . ولو أ نّنا لم‌ نلحظ‌ تلك‌ الحبّة‌ أو لم‌ نَقُم‌ بزرعها بأيدينا ونشهد بأنفسنا خروج‌ وتبرعم‌ تلك‌ الحبّة‌ ثمّ صيرورتها شجرة‌ قويّة‌ عالية‌ ومثمرة‌ ، كشجرة‌ التوت‌ مثلاً والتي‌ تُعطي‌ أُكلها عشرات‌ السنين‌ وتُسعد الكثيرين‌ وتُبهجهم‌ ، لولا كلّ ذلك‌ لكان‌ من‌ المستحيل‌ علینا أن‌ نُصدّق‌ أنّ هذه‌ الشجرة‌ إنّما هي‌ تلك‌ الحبّة‌ الصغيرة‌ الدقيقة‌ .

 بل‌ انظر إلي‌ الإنسان‌ نفسه‌ الذي‌ نشأ عن‌ نطفة‌ وهي‌ ذرّة‌ دقيقة‌ جدّاً لا تُري‌ بالعين‌ المجرّدة‌ ، كيف‌ تمرّ بأدوار في‌ الرحم‌ وتطوي‌ مراحل‌ عدّة‌ حتّي‌ تتشرّف‌ بقوله‌ تعالي‌ عن‌ الإنسان‌ فَتَبَارَكَ اللَهُ أَحْسَنُ الْخَـ'لِقِينَ [8] ، فيخرج‌ إنساناً سويّاً إلي‌ هذا العالم‌ ، إنساناً عاقلاً نافعاً عالماً . وعلی‌ هذه‌ الشاكلة‌ تكون‌ مراحل‌ تكامل‌ الإنسان‌ وخروجه‌ من‌ هذه‌ الدنيا إلي‌ دار التجرّد والنور والإطلاق‌ .

 إنّ هذا الإنسان‌ الملكوتي‌ّ والجبروتي‌ّ واللاهوتي‌ّ هو نفسه‌ الذي‌ كان‌ إنساناً ناسوتيّاً في‌ البدء ، لا غيره‌ ؛ لكنّه‌ وبسبب‌ من‌ الارتقاء والتكامل‌ اللذين‌ حصلا له‌ ، وبسبب‌ كذلك‌ من‌ حُسن‌ اختياره‌ وقوّة‌ إرادته‌ ، ومن‌ أجل‌ اجتيازه‌ لمدارج‌ الكمال‌ ومعارجه‌ ، وتخلّيه‌ عن‌ الانانيّة‌ الرمزيّة‌ الجوفاء ، لاجل‌ كلّ ذلك‌ تمكّن‌ من‌ الوصول‌ إلي‌ مرتبة‌ العبوديّة‌ المحضة‌ والتي‌ تُوازي‌ الربوبيّة‌ المحضة‌ لربّه‌ .

الرجوع الي الفهرس

طي‌ّ قوس‌ الصعود يبلغ‌ بالإ نسان‌ إلي‌ جنّة‌ الفعلیة‌ وظهور الاعمال‌

 وعلی‌ هذا ، فإنّ خروج‌ آدم‌ من‌ الجنّة‌ الاُولي‌ والذي‌ سبق‌ نزوله‌ إلي‌ هذه‌ الدنيا كان‌ في‌ مصلحته‌ لا في‌ ضرره‌ ، بل‌ إنّ جميع‌ ذلك‌ كان‌ في‌ مصلحته‌ ومنفعته‌ . إنّها المنافع‌ الجمّة‌ واللامتناهية‌ ، وكلّما ارتقي‌ سُلّم‌ الرقي‌ّ صعوداً كانت‌ النتيجة‌ منفعة‌ لا متناهية‌ ؛ فتسوقه‌ المنافع‌ اللامتناهية‌ تلك‌ نحو الجنّة‌ الثانية‌ ، جنّة‌ فعلیته‌ وبروز أعماله‌ وظهورها وتَميُّز ملكاته‌ وعقائده‌ وحقائقه‌ .

 فتعالَ وانظرْ ما قد حصل‌ !

 فخلال‌ اجتياز القوس‌ النزولي‌ّ يمرّ الإنسان‌ طِواله‌ عبر مراحل‌ الاستعداد والقابليّة‌ التي‌ تكمن‌ فيه‌ ويقوم‌ بادّخار ذلك‌ كلّه‌ ؛ لكنّه‌ في‌ اجتيازه‌ لطريق‌ القوس‌ الصعودي‌ّ وهي‌ رجعته‌ من‌ نقطة‌ الحضيض‌ هذه‌ باتّجاه‌ المبدأ أو الاصل‌ الاوّل‌ وربّ حي‌ّ علیم‌ أزلي‌ّ أبدي‌ّ ، يمرّ بالفعلیة‌ والظهور اللتين‌ يشهدهما في‌ وجوده‌ عياناً . وعلی‌ أساس‌ من‌ هذا البرهان‌ المُقتَبَس‌ من‌ مجموع‌ كتب‌ صدر المتأ لّهين‌ الشيرازي‌ّ ، فخرنا وفخر الإسلام‌ والمسلمين‌ والبشريّة‌ جمعاء إلي‌ يوم‌ القيامة‌ ، نري‌ مدي‌ ما يمتلكه‌ الإنسان‌ من‌ عوامل‌ الرقي‌ّ وأسباب‌ الكمال‌ ! ونلاحظ‌ كذلك‌ عمق‌ هُوّة‌ الجهل‌ والظُّلمة‌ اللتين‌ يغوص‌ فيهما مَن‌ ابتعد عن‌ فلسفته‌ وحكمته‌ ولا يحاول‌ قضاء أعزّ شي‌ء عنده‌ وهو عمره‌ في‌ فهمهما ! [9] نعم‌ ، ومصداق‌ ذلك‌ الا´ية‌ الشريفة‌ :

 أُولَـ'´نءِكَ يُنَادَوْنَ مِن‌ مَّكَانِ بَعِيدٍ . [10]

 وأمّا المؤمنون‌ المتوغّلون‌ في‌ العلوم‌ الإلهيّة‌ والسابرون‌ الحكمة‌ المتعالية‌ فهم‌ : وَالسَّـ'بِقُونَ السَّـ'بِقُونَ * أُولَـ'´نءِكَ الْمُقَرَّبُونَ . [11]

 كان‌ ذلك‌ موجزاً للبحث‌ الوارد في‌ البرهان‌ حول‌ هذه‌ المسألة‌ .

 وأمّا الا´يات‌ القرآنيّة‌ فكلّها تدلّ علی‌ لزوم‌ التباين‌ بين‌ أفراد البشر ، وأنّ بحثها يقتضي‌ الإطناب‌ ، إلاّ أ نّنا نكتفي‌ بالإشارة‌ إلي‌ بعض‌ الا´يات‌ لتكون‌ حسبنا في‌ هذا المجال‌ :

 1 ـ وَإِن‌ مِّن‌ شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ و وَمَا نُنَزِّلُهُ و´ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ . [12]

 2 ـ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَـ'هُ بِقَدَرٍ * وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَ حِدَةٌ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ . [13]

 3 ـ وَلَوْ بَسَطَ اللَهُ الْرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي‌ الاْرْضِ وَلَـ'كِن‌ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ و بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ . [14]

 4 ـ مَا كَانَ عَلَی‌ النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَهُ لَهُ و سُنَّةَ اللَهِ فِي‌ الَّذِينَ خَلَوْا مِن‌ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا . [15]

 5 ـ تَبَارَكَ الَّذِي‌ نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَی‌' عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـ'لَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي‌ لَهُ و مُلْكُ السَّمَـ'وَ تِ وَالاْرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن‌ لَّهُ و شَرِيكٌ فِي‌ الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ و تَقْدِيرًا . [16]

 6 ـ سَبِّـحِ اسْمَ رَبِّكَ الاْعلی‌ * الَّذِي‌ خَلَقَ فَسَوَّي‌' * وَالَّذِي‌ قَدَّرَ فَهَدَي‌' . [17]

الرجوع الي الفهرس

الكلام‌ البديع‌ لهشام‌ بن‌ الحكم‌ في‌ الردّ علی‌ الثنويّة‌

 وبالجملة‌ ، فمن‌ المناسب‌ هنا أن‌ نختم‌ بحثنا بذِكر كلامٍ لعالمٍ جليل‌ ومتكلّم‌ نبيل‌ ، حكيم‌ الفلسفة‌ ربيب‌ الشيعة‌ ، أحد تلامذة‌ الإمام‌ جعفر الصادق‌ علیه‌ السلام‌ ، ألا وهو هشام‌ بن‌ الحكم‌ ، والذي‌ يُفنّد فيه‌ مذهب‌ الثنويّة‌ ، وذلك‌ لكي‌ نُبطِل‌ نحن‌ مذهب‌ الدهريّة‌ والمادّيّة‌ والشيوعيّة‌ والثنويّة‌ ، والمعتقدين‌ بأصالة‌ الوجود والماهيّة‌ معاً من‌ أمثال‌ الشيخ‌ أحمد الاحسائي‌ّ حيث‌ يمكن‌ اعتباره‌ ( أي‌ كلام‌ هشام‌ بن‌ الحكم‌ ) أفضل‌ البراهين‌ وأجود الادلّة‌ :

 يقول‌ الدكتور أحمد أمين‌ المصري‌ّ خلال‌ بحثه‌ في‌ أحوال‌ وآراء هشام‌ بن‌ الحكم‌ :

 «وَجَاءَهُ رَجُلٌ مُلْحِدٌ فَقَالَ لَهُ : أَنَا أَقُولُ بِالاِثْنَيْنِ ، وَقَدْ عَرَفْتُ إنْصافَكَ . فَلَسْتُ أَخَافُ مُشاغَبَتَكََ!

 فَقَامَ هِشَامٌ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِثَوْبٍ يَنْشُرُهُ وَقَالَ : حَفِظَكَ اللَهُ !

 هَلْ يَقْدِرُ أَحَدُهُمَا عَلَی‌ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئَاً لاَ يَسْتَعِينُ بِصَاحِبِهِ عَلَیهِ ؟!

 قَالَ : نَعَمْ !

 قَالَ هِشَامٌ : فَمَا تَرْجُو مِنِ اثْنَيْنِ ؟! وَاحِدٌ خَلَقَ كُلَّ شَي‌ءٍ أَصَحُّ لَكَ !

 فَقَالَ الرَّجُلُ : لَمْ يُكَلِّمْنِي‌ بِهَذَا أَحَدٌ قَبْلَكَ !». [18]

 هذا هو برهان‌ هشام‌ القويم‌ في‌ حالة‌ استطاعة‌ أحد الاثنين‌ خلق‌ شي‌ء دون‌ الحاجة‌ إلي‌ معونة‌ صاحبه‌ ؛ فلو كان‌ جواب‌ الرجل‌ هو عدم‌ استطاعة‌ أحد الاثنين‌ بفعل‌ ذلك‌ إلاّ بمعونة‌ الا´خر ، لكان‌ جواب‌ هشام‌ علی‌ ذلك‌ ما يلي‌ : إذن‌ فمجموع‌ الاصلينِ القديمينِ معاً وقدرتهما علی‌ خلق‌ الشي‌ء كلٌّ بمعونة‌ أحدهما في‌ الواقع‌ أصل‌ واحد ولابدّ لذلك‌ الاصل‌ أن‌ يكون‌ الله‌ الازلي‌ّ والقديم‌ !

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ «بحار الانوار» في‌ طبعة‌ الكمباني‌ّ : ج‌ 18 ، ص‌ 227 ، وفي‌ طبعة‌ الإسلاميّة‌ : ج‌ 82 ، ص‌ 151 .

 [2] ـ إشارة‌ إلي‌ الآية‌ 9 ، من‌ السورة‌ 17 : الإسراء : إِنَّ هَـ'ذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي‌ لِلَّتِي‌ هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّـ'لِحَـ'تِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا .

 [3] ـ يقول‌ : «إنّ السالك‌ إلي‌ الله‌ إذا شرب‌ من‌ خمرة‌ العشق‌ بقدرٍ فهنيئاً له‌ ؛ وأمّا إذا تجاوز حدّ الشراب‌ واخترق‌ حدوده‌ فسينسي‌ فكرة‌ السير والسلوك‌ في‌ طريق‌ المعرفة‌ .

 وإنّ مَن‌ يستطيع‌ شرب‌ جرعة‌ أقلّ من‌ خمرة‌ (الحُبّ) فإنّه‌ سيضع‌ في‌ النهاية‌ ذراعه‌ علي‌ عاتق‌ محبوبه‌ ويتمتّع‌ بوصاله‌» .

 [4] ـ يقول‌ : «لقد قال‌ شيخنا (العارف‌) (لِمَن‌ اعتقد هناك‌ أخطاء كثيرة‌ موجودة‌ في‌ خِلقة‌ العالَم‌) لَم‌ يصدر هناك‌ أي‌ّ خطأ في‌ عالَم‌ الخَلق‌ ؛ فبورِكَ مِن‌ نظر نزيه‌ ساتر للعيوب‌ .

 إنّ مَلك‌ تُركستان‌ ( وهو أفراسياب‌) كان‌ يُصغي‌ إلي‌ المدّعين‌ ؛ فأباحَ قتل‌ (سياوش‌) فعليه‌ أن‌ يخجل‌ مِن‌ طلب‌ ثأره‌ .

 وبالرغم‌ مِن‌ أ نّه‌ (أي‌ الحبيب‌) لَم‌ يتحدّث‌ معي‌ لِعظَم‌ شأنه‌ ؛ لكنّ روحي‌ فداء لثغره‌ المعسول‌ وإن‌ أغلقه‌ ولم‌ ينبس‌ ببِنت‌ شفة‌ .

 ولانّ جمال‌ الحبيب‌ بادٍ أمامي‌ علي‌ الدوام‌ ، فكأنّ ناظِرَي‌ّ مرآة‌ له‌ ولخاله‌ (المنقوش‌ علي‌ وجهه‌) ؛ وعلي‌ هذا أتمنّي‌ أن‌ تحظيا شفتاي‌ كذلك‌ بقُبلة‌ من‌ صدره‌ وكتفه‌ .

 إذا شَرب‌ المعشوق‌ دم‌ العاشق‌ في‌ كأس‌ فهنيئاً له‌ ذلك‌ .

 لقد اشتهر (حافظ‌) بعُبوديّته‌ لك‌ (أيّها الحبيب‌) ؛ ولتَدمُ أقراط‌ العُبوديّة‌ في‌ أُذنه‌ إلي‌ الابد» .

 «ديوان‌ الخواجة‌ شـمـس‌ الدين‌ محمّد حافـظ‌ الشـيرازي‌ّ» ص‌ 75 و 76 ، الغزليّة‌ رقم‌ 167 ، طبعة‌ حسين‌ پژمان‌ .

 [5] ـ قال‌ العلاّمة‌ الشيخ‌ آغا بزرك‌ الطهراني‌ّ قدّس‌ سرّه‌ في‌ «طبقات‌ أعلام‌ الشيعة‌» ، في‌ المُجلّد الموسوم‌ بـ «النابِس‌ في‌ القرن‌ الخامس‌» ، ص‌ 161 و 162 ، تحت‌ اسم‌ : محمّد بن‌ الحسن‌ بن‌ علي‌ّ بن‌ الحسن‌ أبو جعفر الطوسي‌ّ ـ شيخ‌ الطائفة‌ :

 «وُلِدَ في‌ خراسان‌ في‌ شهر رمضان‌ من‌ سنة‌ 385 ه ، أي‌ لاربع‌ سنين‌ مضين‌ علي‌ وفاة‌ الصدوق‌ (توفّي‌ 381 ه ) وفي‌ السنة‌ التي‌ تُوفّي‌ فيها هارون‌ بن‌ موسي‌ التلعُكبُري‌ّ . سافر إلي‌ العراق‌ سنة‌ 408 ه (وهو في‌ الثالثة‌ والعشرين‌ من‌ العمر) ، وتتلمذ خمس‌ سنين‌ علي‌ يد الشيخ‌ المفيد (توفّي‌ 413 ه) وثلاثاً علي‌ يد الغضائري‌ّ (توفّي‌ 411 ه) . وكان‌ تلميذاً كذلك‌ لابن‌ حاشر البَزّاز وابن‌ أبي‌ جيد وابن‌ الصلت‌ ، وكلّهم‌ توفّوا بعد سنة‌ 408 ه ، وقال‌ بعضهم‌ إنّ النجاشي‌ّ ( 372 450 ه) كان‌ من‌ بين‌ أساتذته‌ أيضاً .

 ... عاصر السيّد المرتضي‌ (توفّي‌ 436 ه) 28 سنة‌ إلاّ أ نّه‌ لم‌ يَدرك‌ السيّد الرضي‌ّ (توفّي‌ 406 ه) . عَيّنه‌ الخليفة‌ العبّاسي‌ّ القائم‌ بأمر الله‌ أُستاذاً لعلم‌ الكلام‌ في‌ بغداد ، فاجتمع‌ حوله‌ الطلاّب‌ والعلماء حتّي‌ بلغ‌ عدد العلماء الذين‌ درسوا عنده‌ الـ « 300 » ... وظلّ محتفظاً بمنصبه‌ هذا حتّي‌ سقوط‌ بغداد بِيَد السلاجقة‌ الاتراك‌ .

 دخل‌ طُغرُل‌ بك‌ بغداد سنة‌ 447 ه وأحرق‌ «خزانة‌ الكُتُب‌ التي‌ وَقفها الوزير أبو نَصر سابور بن‌ أردشير وزير بهاء الدولة‌ بن‌ عضد الدولة‌ ، ولم‌ يكن‌ في‌ الدنيا أحسن‌ كُتُباً منها «معجم‌ البلدان‌» لياقوت‌ الحموي‌ّ ، مادّة‌ بَيْنُ السُّورَين‌ . وكانت‌ مدّة‌ حُكم‌ طُغرُل‌ بك‌ من‌ سنة‌ 429 إلي‌ 455 ه . فوقعت‌ فتنة‌ بين‌ الشيعة‌ والسنّة‌ عام‌ 448 ه وفي‌ ذلك‌ يقول‌ ابن‌ الجوزي‌ّ : وفرّ أبو جعفر الطوسي‌ّ وأغاروا علي‌ داره‌ (في‌ الكاظميّة‌) . وقال‌ في‌ حوادث‌ سنة‌ 449 ه في‌ شهر صفر من‌ هذه‌ السنة‌ هَدّموا دار أبو جعفر الطوسي‌ّ المتكلّم‌ الشيعي‌ّ في‌ الكرخ‌ مع‌ سقفه‌ وساووه‌ بالتراب‌ ، وأمّا الكتب‌ والدفاتر التي‌ وُجِدَت‌ فيها والمنبر الذي‌ كان‌ يجلس‌ عليه‌ أثناء تدريسه‌ وثلاثة‌ أعلام‌ بيضاء كانوا يحملونها إلي‌ كربلا أثناء العزاء الحسيني‌ّ وغلاّية‌ للشاي‌ ، جاؤوا بكلّ ذلك‌ خارجاً وأحرقوها في‌ مكان‌ في‌ ناحية‌ الكرخ‌ . فهاجر الشيخ‌ علي‌ أثر ذلك‌ إلي‌ النجف‌ الاشرف‌ وأقام‌ دعائم‌ وأركان‌ الحوزة‌ فيها . وقال‌ بعضهم‌ : بل‌ كانت‌ الحوزة‌ في‌ النجف‌ موجودة‌ قبله‌ ...

 ... ظلّ الشيخ‌ مدّة‌ اثنتي‌ عشر سنة‌ في‌ النجف‌ حتّي‌ تُوفّي‌ ليلة‌ الاثنين‌ 22 محرّم‌ سنة‌ 460 ه ، فتصدّي‌ لغسله‌ ودفنه‌ تلامذته‌ وهم‌ : الحسن‌ بن‌ المهدي‌ّ والسليقي‌ّ والحسن‌ بن‌ عبد الواحد العَيْن‌ زربي‌ وأبو الحسن‌ اللؤلؤي‌ّ ، ودُفِنَ في‌ داره‌ هناك‌ . فتحوّلت‌ داره‌ إلي‌ مسجد وهو اليوم‌ من‌ أشهر المساجد الموجودة‌ في‌ النجف‌ الاشرف‌ ، ويقع‌ عند الباب‌ الشمالي‌ّ لصحن‌ الامير عليه‌ السلام‌ والمعروف‌ كذلك‌ بـ «باب‌ الطوسي‌ّ» .

 نعم‌ ، لَم‌ يكن‌ مرادنا أو هدفنا من‌ إيراد هذه‌ النبذة‌ عن‌ حياة‌ شيخ‌ الطائفة‌ إلاّ لكي‌ نطّلع‌ علي‌ الزوايا المختلفة‌ والحالات‌ المتباينة‌ وجَري‌ الاُمور لهذا الرجل‌ العظيم‌ والفقيه‌ المتكلّم‌ وحامي‌ مذهب‌ الشيعة‌ ، ونقول‌ لزيد ، الذي‌ يكرّر دوماً هذه‌ العبارة‌ : لِمَ لَم‌ أكُن‌ الشيخ‌ الطوسي‌ّ : إنّ سبب‌ عدم‌ كونك‌ الشيخ‌ الطوسي‌ّ هو عدم‌ تعيين‌ كلّ تلك‌ الحوادث‌ لك‌ منذ ولادة‌ الشيخ‌ حتّي‌ وفاته‌ . وإنّيّة‌ زيد هي‌ السبب‌ الوحيد في‌ كونه‌ «هوَ هوَ» وليس‌ أحداً غير الـ «هوَ» ، وهذه‌ الـ «إنّيّة‌» هي‌ التي‌ تُبطل‌ كلّ ادّعاءاته‌ وطلباته‌ .

 وتجدر الإشارة‌ إلي‌ ذِكر نقطة‌ مهمّة‌ وردت‌ في‌ عبارة‌ المرحوم‌ العلاّمة‌ الطهراني‌ّ والتي‌ نقلناها عن‌ كتابه‌ «النابس‌» وهي‌ : أُخذ ما وُجد من‌ دَفاتِره‌ وكرسي‌ٍّ كان‌ يَجلِس‌ عليه‌ لِلكلامِ ، وأُخرِج‌ إلي‌ الكرخِ ، وأُضيفَ إليه‌ ثَلاثةُ سَناجيقَ بيضٍ فأُحرِق‌ الجميعُ . وجاء في‌ أصل‌ عبارات‌ ابن‌ الجوزي‌ّ في‌ «المنتظم‌ في‌ تأريخ‌ الاُمم‌ والملوك‌» ج‌ 16 ، ص‌ 16 ، في‌ حوادث‌ سنة‌ 449 ه (طبعة‌ سنة‌ 1412 هجريّة‌ قمريّة‌) ، ما يلي‌ : و أُخذ ما وُجد من‌ دَفاترِه‌ وكرسي‌ٍّ كانَ يَجلِس‌ عليه‌ لِلكلامِ وأُخرِج‌ ذلك‌ إلي‌ الكرخِ وأُضيفَ إليه‌ ثَلاثةُ مَجانيقَ بيضٍ كان‌ الزُّوّار من‌ أهلِ الكرخِ قديماً يَحمِلونها معَهم‌ إذا قَصدوا زيارةَ الكوفةِ فأُحرِق‌ الجميعُ .

 وهنا يجب‌ القول‌ إنّ عبارة‌ «مناجيق‌ بيض‌» الواردة‌ في‌ المجلّد المطبوع‌ لكتاب‌ ابن‌ الجوزي‌ّ قد وردت‌ كذلك‌ في‌ نُسخ‌ أُخري‌ من‌ كُتب‌ التأريخ‌ وهو لا يتعدّي‌ كونه‌ تصحيفاً أو تحريفاً .

 والصحيح‌ هو ما ورد في‌ عبارات‌ العلاّمة‌ الطهراني‌ّ «ثلاثة‌ سناجيق‌ بيض‌» .

 جاء في‌ «أقرب‌ الموارد» السِّنْجَق‌ : اللِواءُ والدَّائِرةُ تحتَ لواءٍ واحدٍ ، فارِسيّة‌ ، ج‌ : سناجق‌ .

 وعلي‌ هذا فكلمة‌ «سناجق‌» هي‌ الاصحّ والمقصود بها أعلام‌ وألوية‌ بيضاء كانت‌ موجودة‌ في‌ دار الشيخ‌ وكانت‌ تُحمل‌ من‌ قِبل‌ الزوّار الشيعة‌ في‌ الكرخ‌ عند زيارتهم‌ الكوفة‌ وقبر أمير المؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ وسيّد الشهداء الإمام‌ الحسين‌ عليه‌ السلام‌ في‌ مواكب‌ العزاء .

 [6] ـ يقول‌ : «إنّ البعد بين‌ قمري‌ وقمر السماء ؛ كالبعد بين‌ السماء والارض‌» .

 [7] ـ يقول‌ : «إنّ الفلفل‌ الاسود يشبه‌ لون‌ الخال‌ الموجود علي‌ وجنة‌ الحبيب‌ ؛ وكلاهما حِرّيف‌ ، لكن‌ أين‌ هذا من‌ ذاك‌» .

[8] ـ ذيل‌ الآية‌ 14 ، من‌ السورة‌ 23 : المؤمنون‌ .

 [9] ـ نظم‌ الخواجة‌ شمس‌ الدين‌ حافظ‌ الشيرازيّ قدّس‌ سرّه‌ الابيات‌ التالية‌ والتي‌ تضمّنت‌ أسرار عالَم‌ الخِلقة‌ جميعاً :

 در ازل‌ پرتو حسنت‌ ز تجلّي‌ دم‌ زد         عشق‌ پيدا شد و آتش‌ به‌ همه‌ عالَم‌ زد

 جلوه‌اي‌ كرد رخت‌ ديد ملك‌ عشق‌ نداشت‌         عين‌ ا´تش‌ شد از اين‌ غيرت‌ و بر آدم‌ زد

 عقل‌ مي‌خواست‌ كزان‌ شعله‌ چراغ‌ افروزد         برق‌ غيرت‌ بدرخشيد و جهان‌ بر هم‌ زد

 مدّعي‌ خواست‌ كه‌ آيد به‌ تماشاگه‌ راز         دست‌ غيب‌ آمد و بر سينة‌ نامحرم‌ زد

 ديگران‌ قرعة‌ قسمت‌ همه‌ بر عيش‌ زدند         دل‌ غمديدة‌ ما بود كه‌ هم‌ بر غم‌ زد

 جان‌ علوي‌ هوس‌ چاه‌ زنخدان‌ تو داشت‌         دست‌ در حلقة‌ آن‌ زلف‌ خم‌ اندر خم‌ زد

 حافظ‌ آنروز طرب‌ نامة‌ عشق‌ تو نوشت‌         كه‌ قلم‌ بر سر اسباب‌ دل‌ خرّم‌ زد

 «ديوان‌ حافظ‌» ص‌ 103 و 104 طبعة‌ محمّد القزويني‌ّ و الدكتور قاسم‌ غني‌ .

 يقول‌ : «لقد تجلّي‌ نور حسنك‌ منذ الازل‌ ، فظهر الحبّ وأشعلت‌ نيرانه‌ كلّ العالم‌ .

 وتجلّي‌ جمالك‌ ورآه‌ إبليس‌ ، فاحترق‌ بسبب‌ الغيرة‌ والحسد (لانّ الحبّ لم‌ يكن‌ في‌ فطرته‌ ليعبدك‌ كالعاشقين‌) فاتّخذ قلب‌ آدم‌ مأوي‌ له‌ ، وسعي‌ في‌ ضلاله‌ .

 وأراد العقل‌ أن‌ يستنير من‌ تلك‌ الشعلة‌ ، فأومض‌ برق‌ الغيرة‌ ، وقلب‌ نظام‌ العالم‌ .

 وأراد العقل‌ الوصولي‌ّ منافسة‌ الحبّ والدخول‌ في‌ أسرار الغيب‌ ، فجاءت‌ يد الحقّ ودفعته‌ بعيداً .

 لقد اقترع‌ الآخرون‌ علي‌ العيش‌ ، في‌ حين‌ قلوبنا ساهمت‌ علي‌ غمّ (الحبّ) .

 لقد أرادت‌ الروح‌ العلوي‌ّ وصالك‌ ، فتمسّك‌ مضطرّاً بجذائل‌ شعرك‌ .

 يا حافظ‌ ! لقد كُتب‌ في‌ كتاب‌ فرحك‌ منذ ذلك‌ اليوم‌ ازدياد عشقك‌ وهيامك‌ ، ووضع‌ نهاية‌ لراحة‌ قلبك‌ واستقراره‌ ، وسُرّ بعذابك‌ ومعاناتك‌» . 

[10] ـ ذيل‌ الآية‌ 44 ، من‌ السورة‌ 41 : فصّلت‌ .

 [11] ـ الآيتان‌ 10 و 11 ، من‌ السورة‌ 56 : الواقعة‌ .

[12] ـ الآية‌ 21 ، من‌ السورة‌ 15 : الحجر . 

[13] ـ الآيتان‌ 49 و 50 ، من‌ السورة‌ 54 : القمر .

[14] ـ الآية‌ 27 ، من‌ السورة‌ 42 : الشوري‌ .

[15] ـ الآية‌ 38 ، من‌ السورة‌ 33 : الاحزاب‌ .

[16] ـ الآيتان‌ 1 و 2 ، من‌ السورة‌ 25 : الفرقان‌ .

[17] ـ الآيات‌ 1 إلي‌ 3 ، من‌ السورة‌ 87 : الاعلي‌ .

[18] ـ «ضُحي‌ الإسلام‌» ج‌ 3 ، ص‌ 269 .

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com