بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة الله / المجلد الثالث/ القسم السادس: إجابة إشکالات قصة ابلیس،تصرف الشیطان فی الإنسان و احتناکه، التوراة و الشیط...

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

إجابة‌ العلاّ مة‌ علی‌ جميع‌ الإ شكالات‌ المذكورة‌ في‌ قصّة‌ إبليس

 والذي‌ يجب‌ تحريره‌ وتنقيحه‌ علی‌ الحرّ الباحث‌ عن‌ هذه‌ الحقائق‌ الدينيّة‌ المرتبطة‌ بجهات‌ التكوين‌ أن‌ يحرّر جهات‌ :

 الاُولي‌ : أنّ وجود شي‌ء من‌ الاشياء التي‌ يتعلّق‌ بها الخلق‌ والإيجاد في‌ نفسه‌ ـ أعني‌ وجوده‌ النفسي‌ّ من‌ غير إضافة‌ لا يكون‌ إلاّ خيراً ولا يقع‌ إلاّ حُسناً ، فلو فرض‌ محالاً تعلّق‌ الخلقة‌ بما فرض‌ شرّاً في‌ نفسه‌ عاد أمراً موجوداً له‌ آثار وجوديّة‌ يبتدي‌ من‌ الله‌ ويرتزق‌ برزقه‌ ثمّ ينتهي‌ إليه‌ ، فحاله‌ حال‌ سائر الخليقة‌ ليس‌ فيه‌ أثر من‌ الشرّ والقبح‌ إلاّ أن‌ يرتبط‌ وجوده‌ بغيره‌ ، فيفسد نظاماً عادلاً في‌ الوجود ، أو يوجب‌ حرمان‌ جمع‌ من‌ الموجودات‌ من‌ خيرها وسعادتها ، وهذا هو معني‌ الإضافة‌ المذكورة‌ .

 ولذلك‌ كان‌ من‌ الواجب‌ في‌ الحكمة‌ الإلهيّة‌ أن‌ ينتفع‌ من‌ هذه‌ الموجودات‌ المضرّة‌ الوجود بما يربو علی‌ مضرّتها ، وذلك‌ قوله‌ تعالي‌ : الَّذِي‌´ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ . [1]

 وقوله‌ تعالي‌ : تَبَارَكَ اللَهُ رَبُّ الْعَـ'لَمِينَ . [2]

 وقوله‌ : وَإِن‌ مِّن‌ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـ'كِن‌ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ  .[3]

 الثانية‌ : أنّ عالم‌ الصنع‌ والإيجاد علی‌ كثرة‌ أجزائه‌ وسعة‌ عرضه‌ مرتبط‌ بعضه‌ ببعض‌ معطوف‌ آخره‌ إلي‌ أوّله‌ ، فإيجاد بعضه‌ إنّما هو بإيجاد الجميع‌ ، وإصلاح‌ الجزء إنّما هو بإصلاح‌ الكل‌ ، فالاختلاف‌ الموجود بين‌ أجزاء العالم‌ في‌ الوجود وهو الذي‌ صيّر العالم‌ عالماً ثمّ ارتباطها يستلزم‌ استلزاماً ضروريّاً ـ في‌ الحكمة‌ الإلهيّة‌ نسبة‌ بعضها إلي‌ بعض‌ بالتنافي‌ والتضادّ ، أو بالكمال‌ والنقص‌ والوجدان‌ والفقدان‌ والنيل‌ والحرمان‌ ، ولولا ذلك‌ لعادت‌ جميع‌ الاشياء إلي‌ شي‌ء واحد لا تميّز فيه‌ ولا اختلاف‌ فيبطل‌ بذلك‌ الوجود .

 قال‌ تعالي‌ : وَمَا´ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَ حِدَةٌ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ . [4]

 فلولا الشرّ والفساد والتعب‌ والفقدان‌ والنقص‌ والضعف‌ وأمثالها في‌ هذا العالم‌ لما كان‌ للخير والصحّة‌ والراحة‌ والوجدان‌ والكمال‌ والقوّة‌ مصداق‌ ، ولا عقل‌ منها معني‌ لا نّا إنّما نأخذ المعاني‌ من‌ مصاديقها .

 ولولا الشقاء لم‌ تكن‌ سعادة‌ ، ولولا المعصية‌ لم‌ تتحقّق‌ طاعة‌ ، ولولا القبح‌ والذنب‌ لم‌ توجد حُسن‌ ولا مدح‌ ، ولولا العقاب‌ لم‌ يحصل‌ ثواب‌ ، ولولا الدنيا لم‌ تتكوّن‌ آخرة‌ .

 فالطاعة‌ مثلاً امتثال‌ الامر المولوي‌ّ ، فلو لم‌ يمكن‌ عدم‌ الامتثال‌ ـ الذي‌ هو المعصية‌ لكان‌ الفعل‌ ضروريّاً لازماً ، ومع‌ لزوم‌ الفعل‌ لا معني‌ للامر المولوي‌ّ لامتناع‌ تحصيل‌ الحاصل‌ ، ومعه‌ عدم‌ الامر المولوي‌ّ لا مصداق‌ للطاعة‌ ولا مفهوم‌ لها كما عرفت‌ .

 ومع‌ بطلان‌ الطاعة‌ والمعصية‌ يبطل‌ المدح‌ والذم‌ المتعلّق‌ بهما والثواب‌ والعقاب‌ والوعد والوعيد والإنذار والتبشير ، ثمّ الدين‌ والشريعة‌ والدعوة‌ ، ثمّ النبوّة‌ والرسالة‌ ، ثمّ المجتمع‌ والمدنيّة‌ ، ثمّ الإنسانيّة‌ ، ثمّ كلّ شي‌ء ، وعلی‌ هذا فقس‌ جميع‌ الاُمور المتقابلة‌ في‌ النظام‌ ، فافهم‌ ذلك‌ .

 ومن‌ هنا ينكشف‌ لك‌ أنّ وجود الشيطان‌ الداعي‌ إلي‌ الشرّ والمعصية‌ من‌ أركان‌ نظام‌ العالم‌ الإنساني‌ّ الذي‌ إنّما يجري‌ علی‌ سُنّة‌ الاختيار ويقصد سعادة‌ النوع‌ .

 وهو كالحاشية‌ المكتنفة‌ بالصراط‌ المستقيم‌ الذي‌ في‌ طبع‌ هذا النوع‌ أن‌ يسلكه‌ كادحاً إلي‌ ربّه‌ ليلاقيه‌ ، ومن‌ المعلوم‌ أنّ الصراط‌ إنّما يتعيّن‌ بمتنه‌ صراطه‌ بالحاشية‌ الخارجة‌ عنه‌ الحافّة‌ به‌ ، فلولا الطرف‌ لم‌ يكن‌ وسط‌ ، فافهم‌ ذلك‌ وتذكّر قوله‌ تعالي‌ : قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي‌ لاَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَ طَكَ الْمُسْتَقِيمَ . [5]

 وقوله‌ تعالي‌ : ] قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي‌ لاَزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي‌ الاْرْضِ وَلاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ .

 قَالَ هَـ'ذَا صِرَ طٌ عَلَی مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي‌ لَيْسَ لَكَ عَلَیهِمْ سُلْطَـ'نٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ . [6]

 إذا تأمّلت‌ في‌ هاتين‌ الجهتين‌ ثمّ تدبّرت‌ آيات‌ قصّة‌ السجدة‌ وجدتها صورة‌ منبّئة‌ عن‌ الروابط‌ الواقعيّة‌ التي‌ بين‌ النوع‌ الإنساني‌ّ والملائكة‌ وإبليس‌ قد عُبِّرَ عنها بالامـر والامتثال‌ والاسـتكبار والطـرد والرجم‌ والسـؤال‌ والجواب‌ ، وأنّ الإشكالات‌ الموردة‌ فيها ناشئة‌ من‌ التفريط‌ في‌ تدبّر القصّة‌ ، حتّي‌ أنّ بعض‌ من‌ تنبّه‌ لوجه‌ الصواب‌ ، [7] وأ نّها تُشير إلي‌ ما علیه‌ طبائع‌ الإنسان‌ والملك‌ والشيطان‌ فقد ذكر أنّ الامر والنهي‌ ـ يُريد أمر أبليس‌ بالسجدة‌ ونهي‌ آدم‌ عن‌ أكل‌ الشجرة‌ تكوينيّان‌ ، فأفسد بذلك‌ ما قد كان‌ أصلحه‌ ، وذهل‌ عن‌ أنّ الامر والنهي‌ التكوينيّين‌ لا يقبلان‌ التخلّف‌ والمخالفة‌ ، وقد خالف‌ إبليس‌ الامر وخالف‌ آدم‌ النهي‌ .

 الثالثة‌ : أنّ دلالة‌ قصّة‌ الجنّة‌ ـ علی‌ ما تقدّم‌ تفصيل‌ القول‌ فيها في‌ سورة‌ البقرة‌ تُنَبِّي‌ عن‌ أنّ الله‌ سبحانه‌ خلق‌ جنّة‌ برزخيّة‌ سماويّة‌ ، وقد أدخل‌ آدم‌ فيها قبل‌ أن‌ يستقرّ علی‌ الحياة‌ الارضيّة‌ ، ويغشاه‌ التكليف‌ المولوي‌ّ ، ليختبر بذلك‌ الطباع‌ الإنسانيّة‌ فيظهر به‌ أنّ الإنسان‌ لا يسعه‌ إلاّ أن‌ يعيش‌ علی‌ الارض‌ ، ويتربّي‌ في‌ حِجر الامر والنهي‌ فيستحقّ السعادة‌ والجنّة‌ بالطاعة‌ ، وإن‌ كان‌ دون‌ ذلك‌ فدون‌ ذلك‌ .

 وأن‌ لا قدرة‌ للإنسان‌ ليقف‌ في‌ موقف‌ القُرب‌ وينزل‌ في‌ منزل‌ السعادة‌ إلاّ بقطع‌ هذا الطريق‌ .

 وبذلك‌ ينكشف‌ أن‌ لاشي‌ء من‌ الإشكالات‌ التي‌ أوردوها في‌ قصّة‌ الجنّة‌ ، فلا الجنّة‌ كانت‌ جنّة‌ الخُلد التي‌ لا يدخلها إلاّ ولي‌ّ من‌ أولياء الله‌ تعالي‌ دخولاً لا خروج‌ بعده‌ أبداً ، ولا الدار كانت‌ داراً دنيويّة‌ يُعاش‌ فيها عيشة‌ دنيويّة‌ يديرها التشريع‌ ويحكم‌ فيها الامر والنهي‌ المولويّان‌ ، بل‌ كانت‌ داراً يظهر فيها حُكم‌ السجيّة‌ الإنسانيّة‌ لاسجيّة‌ آدم‌ علیه‌ السلام‌ بما هو شخص‌ آدم‌ ، إذ لم‌ يؤمَر بالسجدة‌ له‌ ولا أُدخِل‌ الجنّة‌ إلاّ لا نّه‌ إنسان‌ كما تقدّم‌ بيانه‌ .

الرجوع الي الفهرس

العلاّ مة‌ يوضّح‌ قضيّة‌ إبليس‌ بأحسن‌ وجه‌

 رجعنا إلي‌ أوّل‌ الكلام‌ :

 لم‌ يصف‌ الله‌ سبحانه‌ من‌ ذات‌ هذا المخلوق‌ الشرّير الذي‌ سمّاه‌ إبليس‌ إلاّ يسيراً ، وهو قوله‌ تعالي‌ : كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . [8]

 وما حكاهُ عنه‌ في‌ كلامه‌ : خَلَقْتَنِي‌ مِنْ نَّارٍ .

 فبيّن‌ أنّ بدء خِلقته‌ كان‌ من‌ نار من‌ سنخ‌ الجِنّ وأمّا ما آل‌ إليه‌ أمره‌ فلم‌ يذكره‌ صريحاً ، كما أ نّه‌ لم‌ يذكر تفصيل‌ خلقته‌ كما فصّل‌ القول‌ في‌ خلقة‌ الإنسان‌ .

نعم‌ ، هناك‌ آيات‌ واصفة‌ لصنعه‌ وعمله‌ يمكن‌ أن‌ يستفاد منها ما ينفع‌ في‌ هذا الباب‌ ، قال‌ تعالي‌ حكاية‌ عنه‌ :

 لاَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَ طَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَتِيَنَّهُم‌ مِّن‌ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـ'نِهِمْ وَعَن‌ شَمَآنءِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـ'كِرِينَ . [9]

 فأخبر أ نّه‌ يتصرّف‌ فيهم‌ من‌ جهة‌ العواطف‌ النفسانيّة‌ من‌ خوف‌ ورجاء وأُمنية‌ وأمل‌ وشهوة‌ وغضب‌ ، ثمّ في‌ أفكارهم‌ وإرادتهم‌ المنبعثة‌ منها .

 كما يقارنه‌ في‌ المعني‌ قوله‌ :

 قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي‌ لاَزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي‌ الاْرْضِ . [10]

 أي‌ لاُزيننّ لهم‌ الاُمور الباطلة‌ الرديئة‌ الشوهاء بزخارف‌ وزينات‌ مهيّأة‌ من‌ تعلّق‌ العواطف‌ الداعية‌ نحو اتّباعها ، ولاُغوينّهم‌ بذلك‌ ، كالزنا مثلاً الذي‌ يتصورّه‌ الإنسان‌ ، وتزيّنه‌ في‌ نظره‌ الشهوة‌ بقوّتها ما يخطر بباله‌ من‌ المحذور في‌ اقترافه‌ ، فيصدّق‌ به‌ فيقترفه‌ .

 ونظير ذلك‌ قوله‌ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـ'نُ إِلاَّ غُرُورًا . [11]

 وقوله‌ : فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْـطَـ'نُ أَعْمَـ'لَهُمْ . [12]

 كلّ ذلك‌ ـ كما تري‌ ـ يدلّ علی‌ أنّ ميدان‌ عمله‌ هو الإدراك‌ الإنساني‌ّ ، ووسيلة‌ عمله‌ العواطف‌ والإحساسات‌ الداخلة‌ ، فهو الذي‌ يُلقي‌ هذه‌ الاوهام‌ الكاذبة‌ والافكار الباطلة‌ في‌ النفس‌ الإنسانيّة‌ ، كما يدلّ علیه‌ قوله‌ تعالي‌ : الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي‌ يُوَسْوِسُ فِي‌ صُدُورِ النَّاسِ . [13]

 لكن‌ الإنسان‌ مع‌ ذلك‌ لا يشكّ في‌ أنّ هذه‌ الافكار والاوهام‌ المسمّاة‌ وساوس‌ شيطانيّة‌ أفكار لنفسه‌ يوجدها هو في‌ نفسه‌ من‌ غير أن‌ يشعر بأحد سواه‌ يُلقيها إليه‌ أو يتسبّب‌ إلي‌ ذلك‌ بشي‌ء ، كما في‌ سائر أفكاره‌ وآرائه‌ التي‌ لا تتعلّق‌ بعمل‌ وغيره‌ ، كقولنا : الواحد نصف‌ الاثنين‌ ، والاربعة‌ زوج‌ ، وأمثال‌ ذلك‌ .

 فالإنسان‌ هو الذي‌ يوجِد هذه‌ الافكار والاوهام‌ في‌ نفسه‌ ، كما أنّ الشيطان‌ هو الذي‌ يُلقيها إليه‌ ويخطرها بباله‌ من‌ غير تزاحم‌ ، ولو كان‌ تسبّبه‌ فيها نظير التسبّبات‌ الدائرة‌ فيما بيننا لمن‌ ألقي‌ إلينا خبراً أو حكماً أو ما يشبه‌ ذلك‌ لكان‌ إلقاؤه‌ إلينا لا يُجامع‌ استقلالنا في‌ التفكير ، ولانتفت‌ نسبة‌ الفعل‌ الاختياري‌ّ إلينا ، لكون‌ العلم‌ والترجيح‌ والإرادة‌ له‌ لا لنا ، ولم‌ يترتّب‌ علی‌ الفعل‌ لوم‌ ولا ذمّ ولا غيره‌ .

وقد نسبه‌ الشيطان‌ نفسه‌ إلي‌ الإنسان‌ فيما حكاه‌ الله‌ من‌ قوله‌ يوم‌ القيامة‌ :

 وَقَالَ الشَّيْطَـ'نُ لَمَّا قُضِيَ الاْمْرُ إِنَّ اللَهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَیكُم‌ مِّن‌ سُلْطَـ'نٍ إِلاَّ´ أَن‌ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي‌ فَلاَ تَلُومُونِي‌ وَلُومُو´ا أَنفُسَكُم‌ مَّآ أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم‌ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي‌ كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن‌ قَبْلُ إِنَّ الظَّـ'لِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . [14]

الرجوع الي الفهرس

العلاّ مة‌ : تصرّف‌ الشيطان‌ في‌ الإ نسان‌ يتمثّل‌ في‌ نظرته‌ الاستقلاليّة‌

 فنسب‌ الفعل‌ والظلم‌ واللوم‌ إليهم‌ وسلبها عن‌ نفسه‌ ، ونفي‌ عن‌ نفسه‌ كلّ سلطان‌ إلاّ السلطان‌ علی‌ الدعوة‌ والوعد الكاذب‌ ، كما قال‌ تعالي‌ :

 إِنَّ عِبَادِي‌ لَيْسَ لَكَ عَلَیهِمْ سُلْطَـ'نٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ . [15]

 فنفي‌ سبحانه‌ سلطانه‌ إلاّ في‌ ظرف‌ الاتّباع‌ ، ونظيره‌ قوله‌ تعالي‌ :

 قَالَ قَرِينُهُ و رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ و وَلَـ'كِن‌ كَانَ فِي‌ ضَلَـ'لِ بَعِيدٍ . [16]

 وبالجملة‌ فإنّ تصرّفه‌ في‌ إدراك‌ الإنسان‌ تصرّف‌ طولي‌ّ لا ينافي‌ قيامه‌ بالإنسان‌ وانتسابه‌ إليه‌ انتساب‌ الفعل‌ إلي‌ فاعله‌ ، لاعرضي‌ّ ينافي‌ ذلك‌ .

 فله‌ أن‌ يتصرّف‌ في‌ الإدراك‌ الإنساني‌ّ بما يتعلّق‌ بالحياة‌ الدنيا في‌ جميع‌ جهاتها بالغرور والتزيين‌ ، فيضع‌ الباطل‌ مكان‌ الحقّ ويُظهره‌ في‌ صورته‌ ، فلا يرتبط‌ الإنسان‌ بشي‌ء إلاّ من‌ وجهه‌ الباطل‌ الذي‌ يغرّه‌ ويصرفه‌ عن‌ الحقّ ، وهذا هو الاستقلال‌ الذي‌ يراه‌ الإنسان‌ لنفسه‌ أولاً ، ثمّ لسائر الاسباب‌ التي‌ يرتبط‌ بها في‌ حياته‌ ، فيحجبه‌ ذلك‌ عن‌ الحقّ ويلهوه‌ عن‌ الحياة‌ الحقيقيّة‌ ، كما تقدّم‌ استفادة‌ ذلك‌ من‌ قوله‌ المحكي‌ّ : فَبِمَا´ أَغْوَيْتَنِي‌ لاَقْعُدَنَّ لَهُمْ . [17]

 وقوله‌ : رَبِّ بِمَا´ أَغْوَيْتَنِي‌ لاَزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي‌ الاْرْضِ . [18]

 ويؤدّي‌ ذلك‌ إلي‌ الغفلة‌ عن‌ مقام‌ الحقّ ، وهو الاصل‌ الذي‌ ينتهي‌ ويحلّل‌ إليه‌ كلّ ذنب‌ ، قال‌ تعالي‌ : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا´ أُولَـ'´نءِكَ كَالاْنْعَـ'مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَـ'´نءِكَ هُمُ الْغَـ'فِلُونَ . [19]

 فاستقلال‌ الإنسان‌ بنفسه‌ وغفلته‌ عن‌ ربّه‌ وجميع‌ ما يتفرّع‌ علیه‌ من‌ سيّي‌ الاعتقاد وردي‌ء الاوهام‌ والافكار التي‌ يرتضع‌ عنها كلّ شِرك‌ وظلم‌ إنّما هي‌ من‌ تصرّف‌ الشيطان‌ في‌ عين‌ أنّ الإنسان‌ يخيّل‌ إليه‌ أ نّه‌ هو الموجود لها القائم‌ بها لِما يراه‌ من‌ استقلال‌ نفسه‌ ، فقد صبغ‌ نفسه‌ صبغة‌ لا يأتيه‌ اعتقاد وعمل‌ إلاّ صبغه‌ بها .

 وهذا هو دخوله‌ تحت‌ ولاية‌ الشيطان‌ وتدبيره‌ وتصرّفه‌ من‌ غير أن‌ يتنبّأ لشي‌ء أو يشعر بشي‌ء وراء نفسه‌ ، قال‌ تعالي‌ :

 إِنَّهُ و يَرَب'كُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ و مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَـ'طِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ . [20]

 وولاية‌ الشيطان‌ علی‌ الإنسان‌ في‌ المعاصي‌ والمظالم‌ علی‌ هذا النمط‌ نظير ولاية‌ الملائكة‌ علیه‌ في‌ الطاعات‌ والقُربات‌ ، قال‌ تعالي‌ :

 إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَهُ ثُمَّ اسْتَقَـ'مُوا تَتَنَزَّلُ عَلَیهِمُ الْمَلَـ'´نءِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي‌ كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي‌ الْحَيَو'ةِ الدُّنْيَا . [21] والله‌ من‌ ورائهم‌ محيط‌ وهو الولي‌ّ الذي‌ لا ولي‌ّ سواه‌ ، قال‌ تعالي‌ :

 مَا لَكُم‌ مِّن‌ دُونِهِ مِن‌ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ . [22]

الرجوع الي الفهرس

العلاّ مة‌ : «الاحتناك‌» بمعني‌ الإ لجام‌ ، كما يُلجم‌ الراكب‌ فَرَسَه

 وهذا هو الاحتناك‌ أي‌ الإلجام‌ الذي‌ ذكره‌ فيما حكاه‌ الله‌ تعالي‌ عنه‌ بقوله‌ : قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـ'ذَا الَّذِي‌ كَرَّمْتَ عَلَی لَنءِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَي‌' يَوْمِ الْقِيَـ'مَةِ لاَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ و´ إِلاَّ قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَن‌ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَآءً مَّوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم‌ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَیهِم‌ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي‌ الاْمْوَ لِ وَالاْوْلَـ'دِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـ'نُ إِلاَّ غُرُورًا . [23]

 أي‌ لاَلْجَمَنَّهُمْ فأتسلّط‌ علیهم‌ تسلّط‌ راكب‌ الدابّة‌ الملجم‌ لها علیها ، يُطيعونني‌ فيما آمرهم‌ ويتوجّهون‌ إلي‌ حيث‌ أشير لهم‌ إليه‌ من‌ غير أي‌ّ عصيان‌ وجماح‌ .

 ويظهر من‌ الا´يات‌ أنّ له‌ جُنداً يعينونه‌ فيما يأمر به‌ ويساعدونه‌ علی‌ ما يريد ، وهم‌ القبيل‌ الذي‌ ذُكر في‌ الا´ية‌ السابقة‌ إِنَّهُ و يَرَنـ'كُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ و مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ . وهؤلإ وإن‌ بلغوا من‌ كثرة‌ العدد وتفنّن‌ العمل‌ ما بلغوا فإنّما صنعهم‌ صنع‌ نفس‌ إبليس‌ ووسوستهم‌ نفس‌ وسوسته‌ ، كما يدلّ علیه‌ قوله‌ : لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . [24] وغيره‌ ممّا حكته‌ الا´يات‌ ، نظير ما يأتي‌ به‌ أعوان‌ الملائكة‌ العظام‌ من‌ الاعمال‌ فتُنسب‌ إلي‌ رئيسهم‌ المستعمل‌ لهم‌ فيما يريده‌ ، قال‌ تعالي‌ في‌ ملك‌ الموت‌ :

 قُلْ يَتَوَفَّب'كُم‌ مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي‌ وُكِّلَ بِكُمْ . [25]

 ثمّ قال‌ : حَتَّي‌'´ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ . [26] إلي‌ غير ذلك‌ .

 وتدلّ الا´ية‌ : الَّذِي‌ يُوَسْوِسُ فِي‌ صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ . [27] علی‌ أنّ في‌ جنده‌ اختلافاً من‌ حيث‌ كون‌ بعضهم‌ من‌ الجنّة‌ وبعضهم‌ من‌ الإنس‌ .

 ويـدلّ قوله‌ : أَفَتَتَّخِـذُونَهُ و وَذُرِّيَّـتَـهُ و´ أَوْلِيَـآءَ مِن‌ دُونِي‌ وَهُـمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [28] . أنّ له‌ ذرّيّة‌ هم‌ من‌ أعوانه‌ وجنوده‌ ، لكن‌ لم‌ يفصّل‌ كيفيّة‌ إنتشاء ذرّيّته‌ منه‌ .

 كما أنّ هناك‌ نوعاً آخر من‌ الاختلاف‌ يدلّ علیه‌ قوله‌ : وَأَجْلِبْ عَلَیهِم‌ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ، في‌ الا´ية‌ المتقدّمة‌ ، وهو الاختلاف‌ من‌ جهة‌ الشدّة‌ والضعف‌ وسرعة‌ العمل‌ وبطؤه‌ ، فإنّ الفارق‌ بين‌ الخيّالة‌ والمشاة‌ هو السرعة‌ في‌ اللحوق‌ والإدراك‌ وعدمها .

 وهناك‌ نوع‌ آخر من‌ الاختلاف‌ في‌ العمل‌ ، وهو الاجتماع‌ علیه‌ والانفراد ، كما يدلّ علیه‌ أيضاً قوله‌ تعالي‌ :

 وَقُل‌ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَ تِ الشَّيَـ'طِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن‌ يَحْضُرُونِ . [29]

 ولعلّ قوله‌ تعالي‌ : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَی‌' مَن‌ تَنَزَّلُ الشَّيَـ'طِينُ * تَنَزَّلُ عَلَی‌' كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَـ'ذِبُونَ [30] من‌ هذا الباب‌ .

 فملّخص‌ البحث‌ : أنّ إبليس‌ لعنه‌ الله‌ موجود مخلوق‌ ذو شعور وإرادة‌ ، ويدعو إلي‌ الشرّ ويسوق‌ إلي‌ المعصية‌ ، كان‌ في‌ مرتبة‌ مشتركة‌ مع‌ الملائكة‌ غير متميّز منهم‌ إلاّ بعد خلق‌ الإنسان‌ وحينئذٍ تميّز منهم‌ ووقع‌ في‌ جانب‌ الشرّ والفساد ، وإليه‌ يستند نوعاً من‌ الاستناد انحراف‌ الإنسان‌ عن‌ الصراط‌ المستقيم‌ وميله‌ إلي‌ جانب‌ الشقاء والضلال‌ ، ووقوعه‌ في‌ المعصية‌ والباطل‌ .

 كما أنّ المَلَك‌ موجود مخلوق‌ ذو إدراك‌ وإرادة‌ ، إليه‌ يستند نوعاً من‌ الاستناد اهتداء الإنسان‌ إلي‌ غاية‌ السعادة‌ ومنزل‌ الكمال‌ والقرب‌ .

 وأنّ أعوان‌ من‌ الجِنّ والإنس‌ وذرّيّة‌ مختلفي‌ الانواع‌ يجرون‌ بأمره‌ إيّاهم‌ أن‌ يتصرّفوا في‌ جميع‌ ما يرتبط‌ به‌ الإنسان‌ من‌ الدنيا وما فيها بإظهار الباطل‌ في‌ صورة‌ الحقّ ، وتزيين‌ القبيح‌ في‌ صورة‌ الحَسن‌ الجميل‌ .

 وهم‌ يتصرّفون‌ في‌ قلب‌ الإنسان‌ وفي‌ بدنه‌ وفي‌ سائر شؤون‌ الحياة‌ الدنيا من‌ أموال‌ وبنين‌ وغير ذلك‌ بتصرّفات‌ مختلفة‌ اجتماعاً وانفراداً ، وسرعة‌ وبطؤاً ، وبلا واسطة‌ ومع‌ الواسطة‌ ، وربّما كانت‌ الواسطة‌ خيراً أو شرّاً ، وطاعة‌ أو معصية‌ .

 ولا يشعر الإنسان‌ في‌ شي‌ء من‌ ذلك‌ بهم‌ ولا أعمالهم‌ ، بل‌ لا يشعر إلاّ بنفسـه‌ ولا يقع‌ بصره‌ إلاّ بعمله‌ ، فلا أفعالهم‌ مزاحمة‌ لاعمال‌ الإنسـان‌ ولا ذواتهم‌ وأعيانهم‌ في‌ عرض‌ وجود الإنسان‌ ، غير أنّ الله‌ سبحانه‌ أخبرنا أنّ إبليس‌ من‌ الجِنّ وأ نّهم‌ مخلوقون‌ من‌ النار ، وكأنّ أوّل‌ وجوده‌ وآخره‌ مختلفان‌ .

الرجوع الي الفهرس

نقل‌ العلاّ مة‌ للإ شكالات‌ الإ بليسيّة‌ الستّة‌ التي‌ أوردها شارح‌ الإ نجيل‌

 بحث‌ عقلي‌ّ وقرآني‌ّ

 قال‌ في‌ « روح‌ المعاني‌ » : وقد ذكر الشهرستاني‌ّ عن‌ شارح‌ الاناجيل‌ الاربعة‌ صورة‌ مناظرة‌ جرت‌ بين‌ الملائكة‌ وبين‌ إبليس‌ بعد هذه‌ الحادثة‌ ، وقد ذكرت‌ في‌ التوراة‌ ، وهي‌ أنّ اللعين‌ قال‌ للملائكة‌ : إنّي‌ أسلّم‌ أنّ لي‌ إلهاً هو خالقي‌ وموجدي‌ ، لكن‌ لي‌ علی‌ حكمه‌ أسئلة‌ :

 الاوّل‌ : ما الحكمة‌ في‌ الخلق‌ ، لا سيّما وقد كان‌ عالماً أنّ الكافر لا يستوجب‌ عند خلقه‌ إلاّ النار ؟!

 الثاني‌ : ما الفائدة‌ في‌ التكليف‌ مع‌ أ نّه‌ لايعود إليه‌ منه‌ نفع‌ ولا ضرر ، وكلّ ما يعود إلي‌ المكلّفين‌ فهو قادر علی‌ تحصيله‌ لهم‌ من‌ غير واسطة‌ التكليف‌ ؟!

 الثالث‌ : هب‌ أ نّه‌ كلّفني‌ بمعرفته‌ وطاعته‌ ، فلماذا كلّفني‌ بالسجود ؟!

 الرابع‌ : لمّا عصيتُهُ في‌ ترك‌ السجود ، فلِمَ لعنني‌ وأوجب‌ عقابي‌ ، مع‌ أ نّه‌ لا فائدة‌ له‌ ولا لغيره‌ فيه‌ ولي‌ فيه‌ أعظم‌ الضرر ؟!

 الخامس‌ : أ نّه‌ لمّا فعل‌ ذلك‌ ، لِمَ سلّطني‌ علی‌ أولاده‌ ومكّنني‌ من‌ إغوائهم‌ وإضلالهم‌ ؟!

 السادس‌ : لمّا استمهلتُهُ المدّة‌ الطويلة‌ في‌ ذلك‌ ، فلِمَ أمهلني‌ ، ومعلوم‌ أ نّه‌ لوكان‌ العالَم‌ خالياً من‌ الشرّ لكان‌ ذلك‌ خيراً ؟!

 قال‌ شارح‌ الاناجيل‌ : فأوحي‌ الله‌ تعالي‌ إليه‌ من‌ سرادق‌ العظمة‌ والكبرياء :

 يَا إبْلِيسُ ! أَنْتَ مَا عَرَفْتَنِي‌ ؛ وَلَوْ عَرَفْتَنِي‌ لَعَلِمْتَ أَ نَّهُ لاَ اعْتِرَاضَ عَلَی‌َّ فِي‌ شَي‌ءٍ مِنْ أَفْعَالِي‌ !

 فَإنِّي‌ أَنَا اللَهُ لاَ إلَهَ إلاَّ أَنَا ؛ لاَ أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ انتهي‌ .

 ثمّ قال‌ الا´لوسي‌ّ : قال‌ الإمام‌ الرازي‌ّ : إنّه‌ لو اجتمع‌ الاوّلون‌ والا´خرون‌ من‌ الخلائق‌ وحكموا بتحسين‌ العقل‌ وتقبيحه‌ لم‌ يجدوا من‌ هذه‌ الشبهات‌ مخلصاً ، وكان‌ الكلّ لازماً .

 ثمّ قال‌ الا´لوسي‌ّ : ويعجبني‌ ما يحكي‌ أنّ سيف‌ الدولة‌ بن‌ حَمْدان‌ خرج‌ يوماً علی‌ جماعته‌ فقال‌ : قد عملت‌ بيتاً ما أحسب‌ أنّ أحداً يعمل‌ له‌ ثانياً إلاّ أن‌ كان‌ أبا فراس‌ ، وكان‌ أبوفراس‌ جالساً ، فقيل‌ له‌ : ما هو ؟ فقال‌ : قولي‌ :

 لَـكَ جِـسْــمِـي‌ تَـعُـلُّـهُ              فَـدَمِــي‌ لاَ تَــطُــلُّـهُ ؟[31]

 فابتدر أبو فراس‌ قائلاً :

 قَـالَ إنْ كُـنْـتُ مَـالِـكـاً                فَــلَـــي‌ الاَمْــرُ كُــلُّــهُ

الرجوع الي الفهرس

إجابة‌ العلاّ مة‌ البليغة‌ علی‌ الإ شكالات‌ الإ بليسيّة‌ الستّة‌

 أقول‌ : ما مرّ من‌ البيان‌ في‌ أوّل‌ الكلام‌ السابق‌ يصلح‌ لدفع‌ هذه‌ الشبهات‌ الستّة‌ عن‌ آخرها ويكفي‌ مؤنتها من‌ غير أن‌ يحتاج‌ إلي‌ اجتماع‌ الاوّلين‌ والا´خرين‌ ثمّ لا ينفع‌ اجتماعهم‌ علی‌ ما ادّعاه‌ الإمام‌ ، فليست‌ بذاك‌ الذي‌ يحسب‌ ، ولتوضيح‌ الامر نقول‌ ... » [32] .

 وهنا يبدأ سماحة‌ العلاّمة‌ بالإجابة‌ تفصيليّاً علی‌ الشبهات‌ الستّ خلال‌ صفحات‌ متعدّدة‌ بلغت‌ أربع‌ عشرة‌ صفحة‌ [33] وبأُسلوب‌ رائع‌ رصين‌ يسرّ القاري‌ ويدخله‌ في‌ بحر من‌ العظمة‌ وأُفق‌ من‌ النور والبهجة‌ ، ولولا خشية‌ الإطناب‌ في‌ هذا الكلام‌ لُقمنا بنقل‌ ذلك‌ كلّه‌ هنا .

 إنّه‌ منطق‌ التوراة‌ وتعاليمها التي‌ تُصوّر الله‌ مقهوراً لمنطق‌ الشيطان‌ ومغلوباً علی‌ أمره‌ ؛ إذ إنّ الشيطان‌ بإيراده‌ هذه‌ الشبهات‌ الستّ ودخوله‌ الحديث‌ مع‌ الله‌ والإشكال‌ علیه‌ ، كأ نّما وضع‌ الله‌ والعياذ بالله‌ في‌ مأزق‌ وحرج‌ للجواب‌ علی‌ هذه‌ الشبهات‌ وأجبره‌ علی‌ استخدام‌ هراوة‌ الانانيّة‌ للطرق‌ علی‌ رأس‌ الشيطان‌ للتهرّب‌ من‌ الجواب‌ . في‌ حين‌ أ نّه‌ طبقاً لمنطق‌ القرآن‌ كما رأينا وكما ذكر سماحة‌ العلاّمة‌ ذلك‌ بالبيان‌ الفصيح‌ واللسان‌ المنطيق‌ وكلام‌ بليغ‌ واستدلال‌ رائع‌ بالبراهين‌ ، استنتجنا مدي‌ بُعد هؤلاء عن‌ رَكب‌ الإنسانيّة‌ جاعلین‌ من‌ نظام‌ الخَلق‌ والإنسان‌ والشيطان‌ ألعوبة‌ كما يقوم‌ البعض‌ باللهو في‌ مَسرح‌ الدُّمي‌ .

 فلم‌ تُحيِّر الشبهات‌ الإبليسيّة‌ شارح‌ الإنجيل‌ فحسب‌ ، بل‌ وكما رأينا ، فإنّها جَرَّتْ وراءها الإمام‌ الفخر الرازي‌ّ والا´لوسي‌ّ وسيف‌ الدولة‌ بن‌ حَمدان‌ وشاعره‌ أبا فراس‌ وألقَت‌ بهم‌ في‌ غياهب‌ بحر الشبهات‌ . ومُلخّص‌ الكلام‌ أنّ كلّ مَن‌ عجز عن‌ التخلّص‌ من‌ هذه‌ الشبهات‌ وسقط‌ في‌ حبائلها أو حبائل‌ بعض‌ منها ، فهو محتاج‌ إذن‌ إلي‌ نفس‌ القدر من‌ الهداية‌ في‌ داخل‌ نفسه‌ حتّي‌ يتبيّن‌ له‌ الإسلام‌ الحقيقي‌ّ بوضوح‌ وجلاء بعيداً عن‌ كلّ ما يُسمّي‌ بشبهة‌ توحيديّة‌ .

الرجوع الي الفهرس

 التوراة‌ تنسب‌ الكذب‌ إلي‌ الله‌ والصدق‌ إلي‌ الشيطان‌

والعجيب‌ أنّ التوراة‌ تُصوِّر قضيّة‌ إبليس‌ وإغواءه‌ آدم‌ ـ أبو البشر في‌ الجنّة‌ بطريقة‌ وشكل‌ مختَلفَيْن‌ تماماً عمّا ذَكره‌ القرآن‌ الكريم‌ . فالتوراة‌ تعترف‌ صراحةً أنّ الاكل‌ من‌ ثمر الشجرة‌ المنهيّة‌ ( التي‌ نُهي‌َ آدم‌ عن‌ الاكل‌ منها ) كان‌ في‌ صالح‌ آدم‌ ، وأنّ إرادة‌ الله‌ كانت‌ تكمن‌ في‌ إبقاء آدم‌ داخل‌ هالة‌ من‌ الجهل‌ ؛ فلمّا عَلِمَ الشيطان‌ ذلك‌ قام‌ بطريقته‌ الخاصّة‌ وأُسلوبه‌ المُتميّز بإيقاظ‌ آدم‌ من‌ غفلته‌ وأوصله‌ إلي‌ حدود العلم‌ والمعرفة‌ ؛ فالله‌ كان‌ مخالفاً لتوصيل‌ آدم‌ إلي‌ شاطي‌ العلم‌ والمعرفة‌ في‌ حين‌ كان‌ الشيطان‌ موافقاً علی‌ ذلك‌ ! ولهذا فقد تنبّهَ ( أي‌ إبليس‌ ) إلي‌ حيلة‌ الله‌ ومكره‌ والعياذ بالله‌ وأفهمها آدم‌ ! فلمّا أطاعَ آدم‌ الشيطان‌ مخالفاً بذلك‌ ما نهاه‌ الله‌ عنه‌ ، تَفتّحت‌ بصيرته‌ وعَلِمَ ما كان‌ يجهل‌ من‌ قَبل‌ ! فالشيطان‌ إذاً نصير العلم‌ والمعرفة‌ والبصيرة‌ والهداية‌ ، في‌ حين‌ أنّ الله‌ حاشا له‌ نصير الجهل‌ والاُمّيّة‌ والعمي‌ !

 جريمة‌ التوراة‌ الحاليّة‌ نحو عالَم‌ البشريّة‌ :

 يذكر القرآن‌ الكريم‌ أنّ الشيطان‌ الذي‌ قام‌ بإغواء آدم‌ قال‌ له‌ : « يا آدم‌ هل‌ أدُلُّك‌ علی‌ شجرة‌ الخُلدِ ومُلكٍ لا يبلي‌ » .

 والتوراة‌ تقول‌ : إنّ الشيطان‌ الذي‌ قام‌ بإغواء آدم‌ قال‌ له‌ : إذا أكلتَ من‌ هذه‌ الشجرة‌ فإنّك‌ ستحصل‌ علی‌ العلم‌ والمعرفة‌ وتستنير بصيرتك‌ .

 وطبقاً لمنطق‌ القرآن‌ ، فإنّ آدم‌ الذي‌ أزلّه‌ الشيطان‌ وتناول‌ من‌ ثمار الشجرة‌ التي‌ نُهي‌ عنها ، طُرِد من‌ الجنّة‌ ، وتسبّب‌ أكله‌ من‌ الشجرة‌ المذكورة‌ في‌ عدم‌ خلوده‌ لا في‌ خلوده‌ ( كما تدّعي‌ التوراة‌ ) ، إذن‌ فكلام‌ الله‌ هو الحقّ ، وكلام‌ الشيطان‌ هو الكذب‌ والباطل‌ والافتراء .

 وتقول‌ التوراة‌ إنّ آدم‌ الذي‌ أزلّه‌ الشيطان‌ وتناول‌ من‌ ثمار الشجرة‌ التي‌ نُهي‌ عنها ، أصبح‌ يملك‌ عيناً وبصيرة‌ وعلماً ومعرفة‌ فوجد نفسه‌ عرياناً ، ولذا فقد تناول‌ من‌ أوراق‌ شجر الجنّة‌ ووضعها علی‌ عورته‌ ليسترها . وإنّ الله‌ إنّما أراد بمنع‌ آدم‌ من‌ الاكل‌ من‌ تلك‌ الشجرة‌ ونهيه‌ عنها ، إبقائه‌ علی‌ جهله‌ وعدم‌ اطّلاعه‌ علی‌ عورته‌ أو كشفها ؛ لكنّه‌ بانقياده‌ للشيطان‌ ومخالفته‌ أمر الله‌ تمكّن‌ من‌ كشف‌ عورته‌ وتوصّل‌ إلي‌ المعرفة‌ . وهذا يعني‌ أنّ كلام‌ الله‌ والعياذ بالله‌ خطأ في‌ حين‌ أنّ كلام‌ الشيطان‌ كان‌ صحيحاً مطابقاً للواقع‌ !

 لكنّ خطأ التوراة‌ يكمن‌ في‌ ادّعائها أنّ الله‌ كان‌ قد وهب‌ الشيطان‌ العلم‌ والمعرفة‌ قبل‌ أمره‌ بالسجود لا´دم‌ . والا´ية‌ المباركة‌ :

 وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاْسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَی‌ الْمَلَـ'´نءِكَةِ فَقَالَ أَنبِـُونِي‌ بِأَسْمَآءِ هَـ'´ؤُلاَ´ءِ إِن‌ كُنتُمْ صَـ'دِقِينَ . [34]

 تدلّ دلالة‌ صريحة‌ وواضحة‌ علی‌ هذا الامر . لانّ المراد من‌ الاسماء هو حقائق‌ الموجودات‌ حيث‌ إنّ كلّ موجود هو اسم‌ لذات‌ الله‌ المقدّسة‌ وعلامة‌ له‌ ؛ وهذه‌ المسألة‌ كانت‌ واضحة‌ مسبّقاً لدي‌ آدم‌ وكان‌ قد حصل‌ علی‌ العلم‌ والمعرفة‌ من‌ قبل‌ .

 بل‌ إنّ الشجرة‌ ، طبقاً للعقيدة‌ الإسلاميّة‌ ، كانت‌ شجرة‌ خبيثة‌ كخبث‌ الحسد والبخل‌ والضغينة‌ ؛ وآدم‌ ، بإطاعته‌ الشيطان‌ وتناوله‌ من‌ تلك‌ الشجرة‌ ، صار موجوداً مادّيّاً وشقّ طريقه‌ نحو الحسد والبخل‌ والضغينة‌ ، فكان‌ مصيره‌ أن‌ طُرِد من‌ الجنّة‌ التي‌ هي‌ مقرّ الاطهار ودار مقامه‌ .

 وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَي‌'´ ءَادَمَ مِن‌ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ و عَزْمًا .

 وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـ'´نءِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُو´ا إِلاَّ´ إِبْلِيسَ أَبَي‌' .

 فَقُلْنَا يَـ'´ـَادَمُ إِنَّ هَـ'ذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَي‌'´ .

 إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَي‌' * وَأَ نَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَي‌' .

 فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَـ'نُ قَالَ يَـ'´ـَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَی‌' شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَي‌' .

 فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَ تُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَیهِمَا مِن‌ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَي‌'´ ءَادَمُ رَبَّهُ و فَغَوَي‌' . [35]

الرجوع الي الفهرس

التوراة‌ تقول‌ : الدين‌ يدعو إلي‌ الجمود والعمي

 ويعرّف‌ القرآن‌ الشجرة‌ المذكورة‌ بأ نّها شجرة‌ خبيثة‌ ، والشيطان‌ ، الذي‌ ادّعي‌ أ نّها شجرة‌ الخُلد ، كذّابٌ وعدوٌ لا´دم‌ . لكنّ التوراة‌ تقول‌ غير هذا . فهي‌ تقول‌ : إنّها شجرة‌ العلم‌ والمعرفة‌ . وإنّ الله‌ أراد أن‌ يبقي‌ آدم‌ في‌ الجنّة‌ جاهلاً دون‌ علم‌ أو معرفة‌ ، وإنّ الشيطان‌ إنّما دعا آدم‌ ليأكل‌ من‌ تلك‌ الشجرة‌ ، فلمّا تناول‌ منها حصل‌ علی‌ العلم‌ والمعرفة‌ فوجد نفسه‌ عرياناً .

 وحسب‌ كلام‌ التوراة‌ فإنّ الشيطان‌ صادق‌ وصاحب‌ مخلص‌ لا´دم‌ ، وهو الذي‌ دلّه‌ علی‌ الحقيقة‌ والواقع‌ وهداه‌ إليهما ؛ في‌ حين‌ أراد الله‌ أن‌ يبقي‌ آدم‌ بعيداً عن‌ تلك‌ المعرفة‌ وجاهلاً وبمنأي‌ عن‌ ذلك‌ العلم‌ ، ولهذا منعه‌ من‌ تناول‌ ثمر شجر المعرفة‌ .

 وعلی‌ هذا الاساس‌ تقول‌ التوراة‌ : إنّ الله‌ والدين‌ يدعوان‌ إلي‌ الجمود والركود والجهل‌ والعمي‌ ، ويريدان‌ من‌ الإنسان‌ أن‌ يكون‌ محاطاً دوماً بالجهل‌ . وإذا أراد الإنسان‌ أن‌ يخرج‌ من‌ تلك‌ الحالة‌ ويحصل‌ علی‌ المعرفة‌ ، وجب‌ علیه‌ أن‌ يتخلّص‌ من‌ قوانين‌ الدين‌ وتعاليمه‌ ؛ لانّ تلك‌ القوانين‌ والتعاليم‌ لا تمثّل‌ إلاّ الجهل‌ والعمي‌ وهي‌ إنّما حُجُبٌ وموانع‌ تحول‌ دون‌ الوصول‌ إلي‌ الحقائق‌ والواقعيّة‌ . ولذا يمكن‌ القول‌ : إنّ تعاليم‌ التوراة‌ هذه‌ أكبر جريمة‌ تُرتكب‌ بحقّ البشريّة‌ .

 وللمرحوم‌ آية‌ الله‌ المحقّق‌ والباحث‌ الشيخ‌ جواد النجفي‌ّ البلاغي‌ّ رضوان‌ الله‌ علیه‌ أبحاث‌ قيّمة‌ في‌ هذا المجال‌ . [36]

 نعم‌ ، ولا بأس‌ هنا ونحن‌ مُقبلون‌ علی‌ إنهاء مسألة‌ الشرور في‌ قصّة‌ آدم‌ وإبليس‌ أن‌ لايفوتنا ذكر موضوعين‌ آخرين‌ كذلك‌ ؛ الاوّل‌ التشأوم‌ الفلسفي‌ّ ، والثاني‌ : الاختلافات‌ والتباينات‌ .

 فأمّا ما يخصّ المسألة‌ الاُولي‌ ، نكتفي‌ بإيراد ما قاله‌ المرحوم‌ الصديق‌ العزيز الشهيد الفقيد : آية‌ الله‌ الحاجّ الشيخ‌ مرتضي‌ المطهّري‌ّ قدّس‌ سرّه‌ الشريف‌ . يقول‌ المرحوم‌ :

 « يطرح‌ القرآن‌ مسألة‌ الشيطان‌ بشكل‌ مذهل‌ ومحيّر حقّاً بحيث‌ لا يؤثّر سلباً علی‌ مسألة‌ التوحيد الذاتي‌ّ وأصل‌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ،[37] وكذا أساس‌ التوحيد في‌ الخالقيّة‌ ، وأصل‌ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ، [38] قُلِ اللَهُ خَـ'لِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، [39] لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ و شَريكٌ فِي‌ الْمُلْكِ .[40]

الرجوع الي الفهرس

 مسألة‌ الشرور غير محلولة‌ لدي‌ المادّيّين‌ ، فينظرون‌ إلي‌ العالم‌ بتشاؤم‌

التشاؤم‌ الفلسفي‌ّ :

 من‌ آثار « مسألة‌ الشرور » الاُخري‌ هي‌ ظهور التشاؤم‌ الفلسفي‌ّ . والفلاسفة‌ المتشائمون‌ هم‌ ـ عادةً ـ من‌ المادّيّين‌ ، وهناك‌ علاقة‌ وترابط‌ لا يُنكران‌ بين‌ المادّيّة‌ وبين‌ التشاؤم‌ الفلسفيّ . ويرجع‌ السبب‌ في‌ تشاؤم‌ المادّيّين‌ إلي‌ بقاء مسألة‌ الشرور في‌ الفلسفة‌ بدون‌ حلّ .

 حسب‌ النظرة‌ الفلسفيّة‌ الإلهيّة‌ فإنّ الوجود يعني‌ الخير ، وأمّا الشرّ فهو أمر إضافي‌ّ ونسبي‌ّ ، وفي‌ خفايا كلّ شرّ هناك‌ خير كامن‌ ؛ ولا وجود لهذا الشي‌ء حسب‌ النظرة‌ المادّيّة‌ .

 إنّ النظرة‌ التشاؤميّة‌ نحو العالم‌ هي‌ أمر مؤلم‌ . إنّها لكارثة‌ كبيرة‌ أن‌ يعتبر الإنسان‌ العالَمَ بلا إحساس‌ أو إدراك‌ أو هدف‌ . عندما يفكّر هذا الإنسان‌ . الذي‌ يري‌ نفسه‌ طفلاً صغيراً في‌ هذا العالم‌ وأنّ له‌ طموحاً ، ويتأمّل‌ مع‌ نفسه‌ قائلاً بأنّ الكون‌ الذي‌ أنجبني‌ وأفكاري‌ وعلّمني‌ أن‌ أكون‌ صاحب‌ هدف‌ ، هو نفسه‌ بلا هدف‌ ، سيسيطر علیه‌ القلق‌ بلا شكّ .

 إنّ مَن‌ يظنّ بانعدام‌ العدالة‌ في‌ الكون‌ ، وأنّ هناك‌ تمييز وظلم‌ ؛ سيظلّ علی‌ تشاؤمه‌ وعدم‌ ارتياحه‌ ولو أُعطي‌ نِعَم‌ الدنيا وكنوزها .

 وطبيعي‌ّ فإنّ جهود هكذا فرد لنيل‌ السعادة‌ والنجاح‌ له‌ ولبني‌ البشر لن‌ تكون‌ مقرونة‌ بالامل‌ والاطمئنان‌ . وعندما يكون‌ الظلم‌ هو أساس‌ الوجود ، فلا معني‌ من‌ التحدّث‌ عن‌ العدالة‌ .

 ولمّا كان‌ أصل‌ العالم‌ عبثاً فمن‌ الحُمق‌ أن‌ نفكّر بأن‌ يكون‌ لنا هدف‌ .

 ومن‌ هنا نري‌ أنّ المؤمنين‌ يمتلكون‌ الاستقرار والراحة‌ النفسيّة‌ أكثر من‌ غيرهم‌ ، لا نّهم‌ لا يَرَون‌ العالم‌ أبلهاً ، بل‌ يؤمنون‌ بأ نّه‌ ( أي‌ العالم‌ ) ذو هدف‌ وحكمة‌ ، وأ نّه‌ عادل‌ وعاقل‌ . وأمّا فيما يخصّ السيّئات‌ والشرور فيعتقد أصحاب‌ الاديان‌ والموحّدون‌ أنّ كلّ ذرّة‌ منها خاضعة‌ للحساب‌ الدقيق‌ ، وهي‌ لا تعدو عن‌ احتمالَينِ ، عقابيّة‌ عادلة‌ ، أو ابتلائيّة‌ ذات‌ هدف‌ وثواب‌ .

 ولكن‌ ما حيلة‌ غير المؤمنين‌ ؟ بماذا يسلون‌ ؟ فهم‌ يلجأون‌ إلي‌ الانتحار ، وعلی‌ رأي‌ أحدهم‌ فهم‌ يحتضنون‌ الموت‌ بشهامة‌ .

 ومن‌ ناحية‌ أُخري‌ ، أعلنت‌ منظمّة‌ الصحّة‌ العالميّة‌ في‌ إحصائيّة‌ نشرتها عن‌ ارتفاع‌ معدّلات‌ الانتحار وخصوصاً بين‌ المثقّفين‌ . وحسب‌ تقرير المنظّمة‌ المذكورة‌ فقد ارتفع‌ بشكل‌ مريع‌ معدّل‌ الانتحار في‌ ثمان‌ دول‌ أُوروبّيّة‌ ، حيث‌ تأتي‌ سويسرا ـ التي‌ نحمل‌ تصورّاً عنها أ نّها غارقة‌ في‌ النعيم‌ في‌ عداد هذه‌ الدول‌ ـ وجاء في‌ ذلك‌ التقرير أنّ الانتحار يأتي‌ في‌ المرتبة‌ الثالثة‌ من‌ أسباب‌ الوفيّات‌ . أي‌ أنّ ضحاياه‌ تفوق‌ ضحايا السرطان‌ ، وأنّ نسبته‌ في‌ الطبقات‌ المتعلّمة‌ ، ومع‌ الاسف‌ ، أكثر منها في‌ غير المتعلّمة‌ .

 ويضيف‌ التقرير بأنّ معدّل‌ الانتحار يرتفع‌ بشكل‌ مضطرد في‌ الدول‌ النامية‌ التي‌ تُضيعُ إيمانُها يوماً بعد آخر . ففي‌ المانيا الغربيّة‌ مثلاً ، يموت‌ حوالي‌ 12000 شخص‌ انتحاراً ، و60000 آخرون‌ يُقدمون‌ علی‌ الانتحار ولكن‌ يتمّ إنقاذهم‌ .

 هذا هو الفارق‌ بين‌ من‌ يعتقد بعدم‌ وجود مالك‌ لهذا العالم‌ وبين‌ من‌ يؤمن‌ بأنّ للكون‌ رب‌ عالِم‌ وهو ربّ العالمين‌ .

 أمّا المتشرّبون‌ للتربية‌ الإسلاميّة‌ ، فحين‌ تحلُّ بهم‌ المصائب‌ وتعصف‌ بهم‌ الاحداث‌ فإنّهم‌ يضعون‌ هذه‌ الحقيقة‌ نصب‌ أعينهم‌ وهي‌ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَ جِعُونَ . [41]

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ الآية‌ 7 ، من‌ السورة‌ 32 : السجدة‌

 [2] ـ الآية‌ 54 ، من‌ السورة‌ 7 : الاعراف‌ .

 [3] ـ الآية‌ 44 ، من‌ السورة‌ 17 : الإسراء .

 [4] ـ الآية‌ 50 ، من‌ السورة‌ 54 : القمر .

 [5] ـ الآية‌ 16 ، من‌ السورة‌ 7 : الاعراف‌ .

 [6] ـ الآيات‌ 39 إلي‌ 42 : من‌ السورة‌ 15 : الحجر .

 [7] ـ صحاب‌ «المنار» في‌ الجزء الثامن‌ من‌ التفسير ، تحت‌ عنوان‌ «الإشكالات‌ في‌ القصّة‌» .

  [8] ـ الآية‌ 50 ، من‌ السورة‌ 18 : الكهف‌ .

 [9] ـ الآيتان‌ 16 و 17 ، من‌ السورة‌ 7 : الاعراف‌ .

 [10] ـ الآية‌ 39 ، من‌ السورة‌ 15 : الحجر .

 [11] ـ الآية‌ 120 ، من‌ السورة‌ 4 : النساء .

 [12] ـ الآية‌ 63 ، من‌ السورة‌ 16 : النحل‌ .

 [13] ـ الآيتان‌ 4 و 5 ، من‌ السورة‌ 114 : الناس‌ .

 [14] ـ الآية‌ 22 ، من‌ السورة‌ 14 : إبراهيم‌ .

 [15] ـ الآية‌ 42 ، من‌ السورة‌ 15 : الحجر .

 [16] ـ الآية‌ 27 ، من‌ السورة‌ 50 : ق‌ .

 [17] ـ الآية‌ 16 ، من‌ السورة‌ 7 : الاعراف‌ .

 [18] ـ الآية‌ 39 ، من‌ السورة‌ 15 : الحجر .

 [19] ـ الآية‌ 79 ، من‌ السورة‌ 7 : الاعراف‌ . 

[20] ـ الآية‌ 27 ، من‌ السورة‌ 7 : الاعراف‌ .

 [21] ـ الآيتان‌ 30 و 31 ، من‌ السورة‌ 41 : حم‌ السجدة‌ .

[22] ـ الآية‌ 4 ، من‌ السورة‌ 41 : السجدة‌ . 

[23] ـ الآيات‌ 62 إلي‌ 64 ، من‌ السورة‌ 17 : الإسراء . 

[24] ـ الآية‌ 39 ، من‌ السورة‌ 15 : الحجر . 

[25] ـ الآية‌ 11 ، من‌ السورة‌ 32 : السجدة‌ . 

[26] ـ الآية‌ 61 ، من‌ السورة‌ 6 : الانعام‌ . 

[27] ـ الآيتان‌ 5 و 6 ، من‌ السورة‌ 114 : الناس‌ . 

[28] ـ الآية‌ 50 ، من‌ السورة‌ 18 : الكهف‌ . 

[29] ـ الآيتان‌ 97 و 98 ، من‌ السورة‌ 23 : المؤمنون‌ . وجاء في‌ «أقرب‌ الموارد» : الهَمْزَة‌ ، ج‌ : هَمَزات‌ ؛ وهَمَزاتُ الشَّيْطان‌ : خطَراتُه‌ التي‌ يَخطِرُ بها بقَلْبِ الإنسان‌ . 

[30] ـ الآيات‌ 221 إلي‌ 223 ، من‌ السورة‌ 26 : الشعراء . 

[31] ـ عَلَّ ـُـِ ه‌ ضَرباً : تتابَعَ عَلَيه‌ الضَّرب‌ . طَلَّ ـُ طَلاَّ وطُلولاً الدَّمَ : أهْدَرَه‌ . 

[32] ـ «الميزان‌ في‌ تفسير القرآن‌» ج‌ 8 ، ص‌ 35 إلي‌ 45 ، سورة‌ الاعراف‌ . 

[33] ـ «الميزان‌ في‌ تفسير القرآن‌» ج‌ 8 ، ص‌ 45 إلي‌ 59 . 

[34] ـ الآية‌ 31 ، من‌ السورة‌ 2 : البقرة‌ . 

[35] ـ الآيات‌ 115 إلي‌ 121 ، من‌ السورة‌ 20 : طه‌ . 

[36] ـ «الرحلة‌ المدرسيّة‌ والمدرسة‌ السيّارة‌» ص‌ 7 إلي‌ 11 ، تحت‌ عنوان‌ (نهي‌ آدم‌ عن‌ الشجرة‌ والكذب‌ ، والحيّة‌ والصدق‌) ، وعنوان‌ (هل‌ عندا الله‌ جلّ شأنه‌ كذب‌ وغشّ؟!) ، طبعة‌ النجف‌ الاشرف‌ ، وسنة‌ 1382 ه . 

[37] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 11 ، من‌ السورة‌ 42 : الشوري‌ .

 [38] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 54 ، من‌ السورة‌ 7 : الاعراف‌ .

 [39] ـ قسم‌ من‌ الآية‌ 16 ، من‌ السورة‌ 13 : الرعد .

 [40] ـ ليس‌ لدينا آية‌ في‌ القرآن‌ بهذه‌ العبارة‌ : فالآية‌ 111 ، من‌ السورة‌ 17 : الإسراء ، ليست‌ فيها كلمة‌ «صاحبة‌» فهي‌ تقول‌ : لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن‌ لَّهُ و شَرِيكٌ فِي‌ الْمُلْكِ .

 وفي‌ الآية‌ 3 ، من‌ السورة‌ 72 : الجنّ : مَا اتَّخَذَ صَـ'حِبَةً وَلاَ وَلَدًا . أي‌ أ نّها جاءت‌ مع‌ ما النافية‌ لا مع‌ لَم‌ .

 [41] ـ الآية‌ 156 ، من‌ السورة‌ 2 : البقرة‌ : الَّذِينَ إِذَا´ أَصَـ'بَتْهُم‌ مُّصِيبَةٌ قَالُو´ا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا´ إِلَيْهِ رَ جِعُونَ .

 «العدل‌ الإلهي‌ّ» ص‌ 25 إلي‌ 27 ، طبعة‌ سنة‌ 1390 هجريّة‌ قمريّة‌ .

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com