بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب ولاية الفقيه/ المجلد الثالث/ القسم الثامن: العلوم الحقیقیة، الاهتمام بالقرآن

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

الدرس‌ الرابع‌ والعشرون‌:

 ميزان‌ أعلميّة‌ الفقيه‌، أعلميّته‌ بكتاب‌ الله‌

 

أعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ

بِسْـمِ اللَهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِـيـمِ

وصلَّي‌ اللَهُ عَلَی سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ

ولَعْنَةُ اللَهِ عَلَی أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَی قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ

 ولاَ حَولَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العَلِي‌ِّ العَظِيمِ

تفسير المجلسي‌ّ والمحقّق‌ الفيض‌ للفقرات‌ الثلاث‌ لهذاالحديث‌

 انتهي‌ بنا البحث‌ إلی أنَّ الاعلمّة‌ لازمة‌ في‌ ولاية‌ الفقيه‌ وللمرجعيّة‌ في‌ الفتوي‌؛ أي‌ يجب‌ أن‌ يكون‌ الوالي‌ والمفتي‌ أَعْلَمُ مَنْ فِي‌ الاُمَّةِ.

 ويدور كلامنا الآن‌ حول‌: ما المراد من‌ العلم‌؟ وما هو مناط‌ الاعلميّة‌؟

 يروي‌ محمّد بن‌ يعقوب‌ الكليني‌ّ قدّس‌ سرّه‌، عن‌ محمّد بن‌ الحسن‌ وعلي‌ّبن‌ محمّد، عن‌ سهل‌ بن‌ زياد، عن‌ محمّد بن‌ عيسي‌، عن‌ عبيدالله‌بن‌ عبدالله‌ الدِّهقان‌، عن‌ دُرُست‌ الواسطي‌ّ، عن‌ إبراهيم‌ بن‌ عبدالحميد، عن‌ الإمام أبي‌ الحسن‌ موسي‌ الكاظم‌ علیه السلام‌، قال‌:

 دَخَلَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ المَسْجِدَ فَإذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ. فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: عَلاَّمَةٌ! فَقَالَ: وَمَا العَلاَّمَةُ؟ فَقَالُوا لَهُ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ العَرَبِ وَوَقَائِعِهَا، وَأَيَّامِ الجَاهِلِيَّةِ، وَالاَشْعَارِ العَرَبِيَّةِ. قَالَ: فَقَالَ النَّبِي‌ُّ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَیهِ  وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ذَاكَ عِلْمٌ لاَيَضُرُّ مَنْ جَهِلَهُ، وَلاَيَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ.

 ثُمَّ قَالَ النَّبِي‌ُّ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إنَّمَا العِلْمُ ثَلاَثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ؛ وَمَا خَلاَهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ[1].

 وروي‌ هذا الحديث‌ الشريف‌ المرحوم‌ المحدّث‌ الجليل‌ الفيض‌ الكاشاني‌ّ في‌ « المحجّة‌ البيضاء » [2]، كما رواه‌ المجلسي‌ّ رحمة‌ الله‌ علیهفي‌ « بحار الانوار » [3] عن‌ كتب‌ أربعة‌، هي‌ « الامالي‌ » للصدوق‌، و « معاني‌ الاخبار » و « السرائر » و « غوالي‌ اللئالي‌ ». وأورد شرحاً حوله‌ ( علی نفس‌ النهج‌ الذي‌ في‌ « مرآة‌ العقول‌ » ). ونتعرّض‌ الآن‌ لبيان‌ شرحه‌ في‌ « مرآة‌ العقول‌ ».

 كما أورد هذا الحديث‌ الغزّالي‌ّ في‌ « إحياء العلوم‌ » [4].

 ومع‌ أنَّ المجلسي‌ّ قد عدّ في‌ « مرآة‌ العقول‌ » [5] هذا الحديث‌ من‌ الاحاديث‌ الضعاف‌، لكنَّ الحديث‌ معتبر ومقبول‌، لانَّ جميع‌ الاجلاّء قد ذكروه‌ في‌ كتبهم‌، ومتنه‌ معتبر إذ يحمل‌ مضموناً تؤيّده‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ والاحاديث‌ الاُخري‌. ومن‌ الجهات‌ الجابرة‌ للروايات‌ الضعاف‌ ـ كما قد بيّنا سابقاًـ الشهرة‌ العمليّة‌، والشهرة‌ الفتوائيّة‌. وبناء علیه، تكون‌ الرواية‌ معتبرة‌، وتقع‌ محلاّ للقبول‌.

 من‌ الجهات‌ الجابرة‌: الاعتبارُ. هو أن‌ يكون‌ متن‌ الحديث‌ مؤيّداً بقرائن‌ كثيرة‌ من‌ الآيات‌ أو الروايات‌. فتسمّي‌ الرواية‌ في‌ هذه‌ الحال‌ بـ: المعتبرة‌؛ أي‌ أنَّ متنها ومضمونها معتبراً.

 ومتن‌ هذا الحديث‌ الشريف‌ من‌ هذا القبيل‌، لانَّ المطالب‌ التي‌ ذُكرت‌ في‌ الروايات‌ الاُخري‌، وإن‌ لم‌ تكن‌ بشكل‌ يحصر العلم‌ في‌ هذه‌ الموضوعات‌ الثلاثة‌، ولكنَّ ما يستفاد من‌ الروايات‌ الكثيرة‌ التي‌ نقلها المحدّثون‌ في‌ أبواب‌ العقل‌ والعلم‌ عن‌ النبي‌ّ والائمّة‌ علیهم السلام‌ لاتتجاوز هذه‌ الاُمور الثلاثة‌. فمضمون‌ هذه‌ الرواية‌ هو نفس‌ مضامين‌ تلك‌ الروايات‌ الكثيرة‌ المتفرّقة‌. وعليه‌، فلا مجال‌ للإشكال‌ في‌ السند وهو قابل‌ للقبول‌.

 وللمرحوم‌ المجلسي‌ّ في‌ شرح‌ كلام‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌ بيانٌ، وكذا المحقّق‌ الفيض‌ فله‌ بيانٌ آخر، وللمحدّث‌ الميرداماد بيان‌ ثالث‌ أيضاً.

 يقول‌ المجلسي‌ّ في‌ « مرآة‌ العقول‌ » [6] في‌ شرح‌ هذا الحديث‌: قوله‌ صلّي‌الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌: مَا هَذَا؟ ولم‌ يقل‌: مَنْ هَذَا؟] مع‌ أنـّه‌ كان‌ يجب‌ أن‌ يقول‌: مَنْ هَذَا؟ إذ إنَّ السؤال‌ عن‌ هويّة‌ عاقل‌ لا عن‌ هويّة‌ غيرعاقل‌، ولفظ‌ «مَا» يستعمل‌ لغير العاقل‌، بينما لفظ‌ «مَنْ» يستعمل‌ للعاقل‌. أي‌ كان‌ يجب‌ أن‌ يقول‌: أي‌ّ شخص‌ هذا؟ لا أن‌ يقول‌ أي‌ّ شي‌ء هذا؟ [ تحقيراً أو إهانة‌ وتأديباً... إنَّما هو لكي‌ يُفهم‌ أنَّ إطلاقهم‌ لفظ‌ العلاّمة‌ علی هذا الشخص‌ واستعماله‌ هنا غلط‌، فكانت‌ هذه‌ علّة‌ أُخري‌ لتحقيره‌ وإهانته‌ وتأديبه‌.

 فيريد الرسول‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ أن‌ يقول‌: إنَّ هذا العلم‌ في‌ حكم‌ اللاعلم‌. وهذا الشخص‌ المتّصف‌ بهذا العلم‌ ساقط‌ عن‌ درجة‌ العقل‌ والعلم‌. ولذا، لا ينبغي‌ أن‌ يُخَاطَب‌ كذوي‌ العقول‌. وقد بُحِثَت‌ هذه‌ المسألة‌ في‌ علم‌ البيان‌ بشكل‌ مفصّل‌.

 ثمّ قال‌: قوله‌ صلّي‌ الله‌ علیه وآله‌ وسلّم‌: « وما العلاّمة‌؟» فمراده‌ السؤال‌ عن‌ حقيقة‌ علمه‌ الذي‌ اتّصف‌ بواسطته‌ بالعلاّمة‌، وأي‌ّ نوع‌ من‌ أنواع‌ العلاّمة‌ هو؟ وعلي‌ أساس‌ أي‌ّ علم‌ كان‌ تنوّعه‌؟ وأي‌ّ معني‌ من‌ معاني‌ العلاّمة‌ الذي‌ تقولونه‌ فسمّيتم‌ ذلك‌ الشخص‌ به‌؟

 ويبيّن‌ المرحوم‌ المجلسي‌ّ المطلب‌ إلی هنا، ثمّ ينحي‌ إلی التحقيق‌ في‌ معني‌ هذه‌ الاُمور الثلاثة‌ التي‌ حصر رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ العلم‌ فيها. وبعد أن‌ يذكر عدّة‌ احتمالات‌ في‌ المسألة‌ يقول‌: المراد بالآية‌ المحكمة‌ البراهين‌ العقليّة‌ علی أُصول‌ الدين‌ التي‌ قد استنبطت‌ من‌ القرآن‌، لانـّها محكمة‌ ولا تزول‌ مع‌ الشكوك‌ والشبهات‌. والمراد من‌ الفريضة‌: أحكام‌ الواجبات‌. والمراد من‌ السنّة‌: أحكام‌ المستحبّات‌، لانـّها تؤخذ من‌ القرآن‌ ومن‌ غير القرآن‌.

 وذلك‌ لانَّ المحكم‌ في‌ مقابل‌ المتشابه‌، والآية‌ المحكمة‌ تطلق‌ علی الآية‌ التي‌ لا يحتاج‌ في‌ دلالتها علی المراد إلی التأمّل‌. والعقائد والاُصول‌ التي‌ تكون‌ كذلك‌ لها أحكام‌ واستحكام‌، وأمّا السبب‌ في‌ أنـّه‌ قد وصف‌ الفريضة‌ ـ أي‌ الواجب‌ـ بصفة‌ « العادلة‌ » فهو أنـّها قد أُخذت‌ من‌ الكتاب‌ والسنّة‌ بنحو مساوٍ من‌ دون‌ جورٍ وحيف‌ وميل‌ إلی الخلاف‌.

 ثمّ ينقل‌ المرحوم‌ المجلسي‌ّ قدّس‌ سرّه‌ عن‌ ابن‌ الاثير في‌ « النهاية‌ » أنـّه‌ يقول‌: المراد من‌ العدل‌ في‌ عبارة‌ «فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ» العدالة‌ في‌ القسمة‌، أي‌ الحقوق‌ الواجبة‌ التي‌ تؤدّي‌ علی السهام‌ المذكورة‌ الواردة‌ في‌ الكتاب‌ والسنّة‌ بعدالة‌ ومن‌ دون‌ جور وظلم‌؛ أي‌ أنـَّها مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الكِتابِ وَالسُّنَّةِ فَتَكونُ هَذِهِ الفَريضَةُ تَعْدِلُ بِما أُخِذَ عَنْهُما.

 ويقول‌ المحقّق‌ الفيض‌ في‌ شرح‌ هذا الحديث‌ في‌ كتابه‌ الشريف‌ « الوافي‌ » [7]: العلاّمة‌ بمعني‌ كثير العلم‌، وتاؤه‌ للمبالغة‌، وقد نبّه‌ رسول‌الله‌ صلّي‌الله‌ علیه وآله‌ بعبارة‌: لاَ يَضُرُّ مَنْ جَهِلَهُ علی أنَّ ذلك‌ العلم‌ ليس‌علماً في‌ الحقيقة‌، لانَّ العلم‌ الحقيقي‌ّ هو الذي‌ يضرّ الجهل‌ به‌ بمعاد الإنسان‌ وينفع‌ العلم‌ به‌ في‌ يَوْم‌ التَّناد. لا ذلك‌ الذي‌ يرتضيه‌ العوامّ ويجعل‌ شِباكاً لاصطياد حطام‌ الدنيا. ثمّ يبيّن‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ العلمَ النافع‌ الذي‌ قد رغّب‌ وحرّض‌ الشرع‌ علی نيله‌، ويحصره‌ في‌ ثلاثة‌ أشياء:

 آية‌ محكمة‌، إشارة‌ إلی أُصول‌ العقائد، لانَّ براهينها آيات‌ محكمات‌ مأخوذة‌ من‌ العالِم‌ أو القرآن‌؛ ويقول‌ تعالي‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌ في‌ كثير من‌ الموارد التي‌ يورد فيها ذكراً عن‌ المبدأ والمعاد: إِنَّ فِي‌ ذَ ' لِكَ لآيَـ'تٍ أو لآيَةً.

 وفريضة‌ عادلة‌، إشارة‌ إلی علم‌ الاخلاق‌، لانَّ محاسن‌ الاخلاق‌ من‌ جنود العقل‌، ومساوي‌ الاخلاق‌ من‌ جنود الجهل‌. وبما أنَّ التحلّي‌ بالاُولي‌ والتخلّي‌ من‌ الثانية‌ واجب‌، فقد عُبِّر عنها بالفريضة‌. وأمّا التعبير عنها بصفة‌ العدالة‌، فلكونها واسطة‌ بين‌ طرفي‌ الإفراط‌ والتفريط‌.

 وسنّة‌ قائمة‌، إشارة‌ إلی أحكام‌ الشريعة‌ ومسائل‌ الحلال‌ والحرام‌.

 وانحصار العلوم‌ الدينيّة‌ في‌ هذه‌ الاُمور الثلاثة‌ معلوم‌، وهي‌ ذات‌ الاُمور الثلاثة‌ التي‌ بُيِّنت‌ في‌ كتاب‌ « الوافي‌ ». وهي‌ مطابقة‌ للنشآت‌ الثلاث‌ للإنسان‌: الاُولي‌ لعقله‌، والثانية‌ لنفسه‌، والثالثة‌ لبدنه‌؛ بل‌ لعوالم‌ وجوده‌ الثلاثة‌ التي‌ هي‌: عالم‌ العقل‌ و الخيال‌ و الحسّ.

 وأمّا قوله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ أنَّ ما خلاهنّ فهو فضل‌: أي‌ زائد ولاحاجة‌ إليه‌، أو فضيلةٌ لكنّها ليست‌ بتلك‌ الدرجة‌.

 ويقول‌ الميرداماد قَدَّس‌ الله‌ سرَّه‌ [8]: العلم‌ بالآية‌ المحكمة‌ علم‌ نظري‌ّ، وهي‌ معرفة‌ الله‌ والانبياء وحقيقة‌ الامر في‌ البدء والعود، وهذا هو الفقه‌ الاكبر. والعلم‌ بالفريضة‌ العادلة‌ علم‌ شرعي‌ّ وفيه‌ معرفة‌ الشرائع‌ والسنن‌ والقواعد والاحكام‌ في‌ الحلال‌ والحرام‌، وهذا هو الفقه‌ الاصغر.

 والعلم‌ بالسنّة‌ القائمة‌ علم‌ تهذيب‌ الاخلاق‌ وتكميل‌ آداب‌ السفر إلی الله‌، والسير والسلوك‌ إليه‌، ومعرفة‌ المنازل‌ والمقامات‌، والنظر بِما فيها مِنَ المُهْلِكاتِ وَالمُنْجيات‌. إلی هنا تنتهي‌ هذه‌ المطالب‌ عن‌ المرحوم‌ الميرداماد.

 الرجوع الي الفهرس

مرجع‌ التفاسير المختلفة‌ لهذا الحديث‌ إلی أمر واحد

 ومجمل‌ ما نحصل‌ علیهمن‌ مجموع‌ هذه‌ المطالب‌ هو: أنَّ هؤلاء الاجلّة‌ الثلاثة‌ ( المرحوم‌ المجلسي‌ّ والمرحوم‌ الفيض‌ والمرحوم‌ الميرداماد ) يريدون‌ بيان‌ مطلب‌ واحد، أي‌ أنـّهم‌ يريدون‌ أن‌ يقولوا إنَّ العلم‌ النافع‌ والعلم‌ الحقيقي‌ّ لا يخرج‌ عن‌ مجموع‌ العلوم‌ الشرعيّة‌ والدينيّة‌ التي‌ تؤدّي‌ إلی كمال‌ الإنسان‌ ( من‌ العقائد والاخلاق‌ والعبادات‌ والمعاملات‌ والقوانين‌ والتكاليف‌ الشرعيّة‌ ).

 فيعبّر المرحوم‌ المجلسي‌ّ قدّس‌ سرّه‌ الآية‌ المحكمة‌ عبارة‌ عن‌ العلم‌ بالتوحيد والمعارف‌ الإلهيّة‌ وصفات‌ الله‌، وهو بالتقريب‌ نفس‌ المعني‌ الذي‌ طرحه‌ المحقّق‌ الفيض‌ والسيّد الداماد للآية‌ المحكمة‌.

 وعلي‌ هذا، فلا خلاف‌ بينهم‌ في‌ تفسير الآية‌ المحكمة‌. وأمّا في‌ الفريضة‌ العادلة‌ والسنّة‌ القائمة‌، فيقول‌ المرحوم‌ المجلسي‌ّ: الفريضة‌ العادلة‌ هي‌ العلم‌ بالواجبات‌، الاعمّ من‌ الواجبات‌ الفقهيّة‌ والعمليّة‌ المدوّنة‌ في‌ الرسائل‌ العمليّة‌. والسنّة‌ القائمة‌ هي‌ المستحبّات‌، أعمّ من‌ أن‌ تكون‌ مستحبّات‌ أخلاقيّة‌ أو تكاليف‌ مستحبّة‌.

 بينما يعتبر المرحوم‌ الفيض‌ قدّس‌ سرّه‌ أنَّ العلم‌ بالفريضة‌ العادلة‌ هو علم‌ الاخلاق‌ الذي‌ يجب‌ أن‌ يكون‌ بعيداً عن‌ الإفراط‌ والتفريط‌، والذي‌ يورث‌ للإنسان‌ ـ في‌ كلّ حال‌ـ الملكة‌ العادلة‌ التي‌ هي‌ الحدّ الاوسط‌. وبما أنـّه‌ أدني‌ من‌ علم‌ التوحيد بدرجة‌، فقد عدّه‌ من‌ الدرجة‌ الثانية‌. واعتبر العلم‌ بالسنّة‌ القائمة‌ العلم‌ بالاحكام‌ الظاهريّة‌ التي‌ هي‌ أعمّ من‌ الواجبات‌ والمستحبّات‌، ولم‌ يعمّم‌ هنا. ولذلك‌ فقد جعلها في‌ المرحلة‌ الثالثة‌. وهذه‌ الاُمور الثلاثة‌ تؤدّي‌ إلی كمال‌ الإنسان‌ من‌ ناحية‌ العقل‌ وناحية‌ النفس‌ وناحية‌ البدن‌.

 أمّا المحقّق‌ الميرداماد قدّس‌ سرّه‌ فقد رأي‌ الفريضة‌ العادلة‌ عبارة‌ عن‌ علم‌ الفقه‌ المتعارف‌ الذي‌ سمّاه‌ بالفقه‌ الاصغر، في‌ مقابل‌ الفقه‌ الاكبر الذي‌ هو الآية‌ المحكمة‌. واعتبر السنّة‌ القائمة‌ هي‌ علم‌ الاخلاق‌. وبناء علی هذا، فليس‌هناك‌ أي‌ّ تفاوت‌ من‌ حيث‌ المجموع‌ في‌ استفادة‌ هؤلاء الاجلّة‌ من‌ هذه‌ الرواية‌. فكلّ منهم‌ قد طبّق‌ هذه‌ العبارة‌ من‌ جهة‌ علی ذلك‌ المعني‌ الاصلي‌ّ الذي‌ في‌ ذهنه‌ الشريف‌ ووجّهها علی هذا الاساس‌.

 وحاصل‌ مطالبهم‌ هو: أنَّ العلم‌ ينحصر في‌ علم‌ العرفان‌ الإلهي‌ّ وتوحيد ذات‌ الله‌ والعلوم‌ التي‌ يتضمّنها علم‌ الحكمة‌ العالية‌ والدروس‌ العقليّة‌، وهذه‌ هي‌ الدرجة‌ الاُولي‌ من‌ العلم‌؛ ويأتي‌ بعدها علم‌ الاخلاق‌ الذي‌ يصير الإنسان‌ بموجبه‌ من‌ أصحاب‌ اليقين‌ ومتخلّقاً بصفات‌ الاولياء والاجلاّء. بينما يأتي‌ في‌ المرحلة‌ الثالثة‌ فقه‌ الجوارح‌ الذي‌ هو مقدّمة‌ لعلم‌ الاخلاق‌، والاخلاق‌ مقدّمة‌ للكمال‌. ولذا، فهذه‌ المعاني‌ غير قابلة‌ للإنكار مطلقاً. ولدينا شواهد كثيرة‌ من‌ الآيات‌ والروايات‌ علی انحصار العلم‌ في‌ هذه‌ العلوم‌ الثلاثة‌. يقول‌ الله‌ تعالي‌:

 اللَهُ الَّذِي‌ خَلَقَ سَبْعَ سَمَـ'وَ ' تٍ وَ مِنَ الاْرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاْمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُو´ا أَنَّ اللَهَ عَلَی ‌' كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [9].

 أي‌ أنَّ جميع‌ السماوات‌ السبع‌ والارضين‌ السبع‌ ونزول‌ الامر بينهنّ مقدّمة‌ لعلمكم‌، ولكي‌ تعلموا أنَّ الله‌ قادر علی كلّ شي‌ء وأنَّ علمه‌ محيط‌ بكلّ شي‌ء. فجميع‌ نظام‌ الخلقة‌ هذا مقدّمة‌ للعلم‌.

 ويقول‌ أمير المؤمنين‌ علیه السلام‌: وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَی العِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ [10]. وفي‌ رواية‌: اطْلُبُوا العِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ [11].

 وجاء في‌ « مصباح‌ الشريعة‌ »: «قَالَ علی ‌ٌّ عَلَیهِ السَّلاَمُ: اطْلُبُوا العِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ. » وَهُوَ عِلْمُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ وَفِيهِ مَعْرِفَةُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ [12].

 كما أورد أُستاذنا الاكرم‌ آية‌ الله‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ قدّس‌ الله‌ سرّه‌ تسع‌ عشرة‌ رواية‌ في‌ هذا المعني‌ عن‌ « الغرر والدرر » للآمدي‌ّ عن‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ [13].

 وَقَدْ اتَّفَقَ العُلَماءُ: أنَّ شَرَفَ كُلِّ عِلْمٍ بِشَرَفِ المَعْلومِ، وَكُلُّ عِلْمٍ يَكونُ مَعْلومُهُ أشْرَفَ المَعْلوماتِ يَكونُ ذَلِكَ العِلْمُ أشْرَفَ العُلومِ؛ فَأشْرَفُ العُلومِ العِلْمُ الإلَهي‌ُّ، لاَنَّ مَعْلومَهُ اللَهُ تَبارَكَ وَتَعالَي‌، وَهُوَ أشْرَفُ المَعْلومات‌.

 والشواهد المذكورة‌ هي‌ اعتبارات‌ عقليّة‌ وروائيّة‌ وقرآنيّة‌ ذُكرت‌ لاجل‌ تأييد مضمون‌ هذا الحديث‌ الشريف‌. فالحديث‌ إذَن‌ متقن‌ من‌ ناحية‌ الاعتبار والمفاد.

 الرجوع الي الفهرس

مع‌ انحصار العلم‌ في‌ العلوم‌ الثلاثة‌ فالمراد من‌ الاعلميّة‌ واضحاً

 وعندما ينحصر العلم‌ في‌ نظر الشرع‌ في‌ هذه‌ الاُمور الثلاثة‌ نستطيع‌ من‌ خلال‌ ذلك‌ أن‌ نعرف‌ الاعلم‌، ومَن‌ سيكون‌ الاعلم‌ في‌ هذه‌ الاُمور الثلاثة‌.

 فلو جري‌ مثلاً حديث‌ في‌ كلّيّة‌ الطبّ عن‌ الاعلم‌. فمن‌ المعلوم‌ أنَّ المراد هو الاعلم‌ من‌ الاطبّاء، لا الاعلم‌ في‌ أي‌ّ علم‌ أو فنّ آخر. وعندما ينحصر أصل‌ العلم‌ في‌ نظر مذاق‌ الشارع‌ في‌ العلوم‌ والمعارف‌ الإلهيّة‌ وعلم‌ تهذيب‌ الاخلاق‌ والسير والسلوك‌ إلی الله‌ وعلم‌ الفقه‌، والمعرفة‌ بسند رسول‌الله‌ والائمّة‌ الطاهرين‌ صلوات‌ الله‌ علی هم‌ أجمعين‌، يتّضح‌ أيضاً أنَّ الاعلميّة‌ يبحث‌ عنها في‌ بحث‌ ولاية‌ الفقيه‌ والمرجعيّة‌ في‌ الفتوي‌ هي‌ الاعلميّة‌ في‌ هذه‌ العلوم‌.

 فيجب‌ أن‌ يكون‌ الاعلم‌ مَن‌ قد اكتمل‌ سيره‌ إلی الله‌ وطوي‌ المنازل‌ الاربعة‌، ووصل‌ بعد الفناء في‌ الله‌ إلی البقاء في‌ الله‌ وصار إنساناً كاملاً. حيث‌ بإمكان‌ شخص‌ كهذا أن‌ يتكفّل‌ هذه‌ السِّمة‌، وإلاّ لم‌ يكن‌ بمقدوره‌ التصدّي‌ لذلك‌.

 ولإثبات‌ هذه‌ المطالب‌ ثمّة‌ ثلاثة‌ أدلّة‌ من‌ الروايات‌ ( علی ضوء تفحّصنا إلی الآن‌ ) ولا يستبعد أن‌ نحصل‌ علی أدلّة‌ أُخري‌ مشابهة‌.

 الرجوع الي الفهرس

رواية‌: الفَقِيهِ حَقَّ الفَقِيهِ، مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَهِ...

 الدليل‌ الاوّل‌: الرواية‌ التي‌ يرويها الكليني‌ّ بسند صحيح‌، عن‌ عِدَّة‌ مِن‌ أصحابنا، عن‌ أحمد بن‌ محمّد البرقي‌ّ، عن‌ إسماعيل‌ بن‌ مهران‌، عن‌ أبي‌ سعيد القَمَّاط‌، عن‌ الحلبي‌ّ، عن‌ أبي‌ عبد الله‌ ] الصادق‌ [ علیه السلام‌ قال‌:

 قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَیهِ السَّلاَمُ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِالفَقِيهِ حَقَّ الفَقِيهِ؟! مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَهِ، وَلَمْيُرَخِّصْ لَهُمْ فِي‌ مَعَاصِي‌ اللَهِ، وَلَمْ يَتْرُكِ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إلَی غَيْرِهِ. أَلاَ لاَخَيْرَ فِي‌ عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ؛ أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي‌ قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ؛ أَلاَ لاَخَيْرَ فِي‌ عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَكُّرٌ!

 وفي‌ رِوايَةٍ أُخْرَي‌: أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي‌ عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ؛ أَلاَ لاَخَيْرَ فِي‌ قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ؛ أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي‌ عِبَادَةٍ لاَ فِقْهَ فِيهَا؛ أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي‌ نُسُكٍ لاَوَرَعَ فِيهِ [14].

 ويروي‌ هذه‌ الرواية‌ أبو نعيم‌ الإصفهاني‌ّ بسند آخر متّصلاً إلی عاصم‌بن‌ ضَمرَة‌، عن‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ أنـّه‌ قال‌:

 أَلاَ إنَّ الفَقِيهَ كُلَّ الفَقِيهِ الَّذِي‌ لاَ يُقَنِّطُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَهِ؛ وَلاَيؤْمِنُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَهِ؛ وَلاَ يُرَخِّصُ لَهُمْ فِي‌ مَعَاصِي‌ اللَهِ؛ وَلاَيَدَعُ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إلَی غَيْرِهِ! وَلاَ خَيْرَ فِي‌ عِبَادَةٍ لاَ عِلْمَ فِيهَا؛ وَلاَخَيْرَ فِي‌ عِلْمٍ لاَ فَهْمَ فِيهِ؛ وَلاَ خَيْرَ فِي‌ قِرَاءَةٍ لاَ تَدَبُّرَ فِيَها [15].

 مفاد الحديث‌ هو: أنَّ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ يقول‌: ألا أُخبركم‌ عن‌ الفقيه‌ حقّ الفقيه‌؟ هو ذلك‌ الشخص‌ الذي‌ أدّي‌ حقّ الفقاهة‌، ووصل‌ إلی روح‌ الفقاهة‌؛ فالذي‌ ينطبق‌ علیهعنوان‌ الفقه‌ بالحمل‌ الشائع‌ الصناعي‌ّ، ويجب‌ أن‌ يقال‌ له‌ فقيه‌ ( أي‌ ذلك‌ الشخص‌ الفقيه‌ والكامل‌ في‌ الفقاهة‌، أي‌ّ فقيه‌ هو؟) هو ما يكون‌ بالاوصاف‌ المذكورة‌.

 وتوضّح‌ لنا هذه‌ الرواية‌ مطالب‌ كثيرة‌؛ وقد حصر الإمام علیه السلام‌ الفقيه‌ الحقيقي‌ّ بمن‌ امتاز بأربع‌ صفات‌: الاُوّلي‌: لا يقنِّط‌ الناس‌ من‌ رحمة‌ الله‌، الثانية‌: لا يؤمنهم‌ من‌ عذاب‌ الله‌، الثالثة‌: لا يرخّص‌ لهم‌ في‌ معاصي‌ الله‌، الرابعة‌: لا يترك‌ القرآن‌ رغبة‌ عنه‌ إلی غيره‌.

 والمقصود من‌: مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَهِ، الذي‌ يحفظ‌ الناس‌ بين‌ الخوف‌ والرجاء؛ لانـّه‌ إذا اهتمّ بأحد جانبي‌ الخوف‌ أو الرجاء أكثر، فمن‌ الطبيعي‌ّ أنَّ الناس‌ سيميلون‌ إلی ذلك‌ الجانب‌، أمّا إلی الخوف‌ أو إلی الرجاء.

 أمّا الذي‌ وصل‌ إلی الكمال‌ فيجب‌ أن‌ يكون‌ حال‌ خوفه‌ مساوياً لحال‌ رجائه‌، وأن‌ يوجّه‌ الناس‌ علی هذا الاساس‌.

 أي‌ خلاصة‌ الامر، يجب‌ أن‌ يكون‌ ذلك‌ الشخص‌ ممسكاً بزمام‌ نفوس‌ الناس‌ بيده‌، وأن‌ يكون‌ له‌ إحاطة‌ وسيطرة‌ علی النفوس‌، ويستطيع‌ أن‌ يربّي‌ الناس‌ تربية‌ نفسانيّة‌ ويحفظهم‌ بين‌ الخوف‌ والرجاء. فلايمنحهم‌ الرجاء إلی ذلك‌ الحدّ الذي‌ يقعون‌ فيه‌ بالمعصية‌ ويلقون‌ أنفسهم‌ بالهلكة‌ لشدّة‌ الرجاء، والذي‌ هو بالطبع‌ رجاء كاذب‌؛ ولا يخوّفهم‌ من‌ عذاب‌الله‌ إلی ذلك‌ الحدّ الذي‌ يفرّون‌ به‌ من‌ شدّة‌ الخوف‌ والخشية‌ إلی الصحاري‌ والجبال‌ ويبتعدون‌ عن‌ المجتمع‌، حتّي‌ يروا الله‌ موجوداً وغريباً وبعيداً عن‌ عالم‌ المجتمع‌، كمن‌ يكمن‌ في‌ انتظار صيد العصافير باستمرار، فيشبّه‌الله‌ بتلك‌ الحالة‌، يأخذ الناس‌ ويلقيهم‌ في‌ جهنّم‌! إنَّ عمل‌ الإنسان‌ ( عمل‌ الخير والشرّ، كلاهما ) هو لنفس‌ الإنسان‌، وعلي‌ هذه‌ النفس‌ أن‌ تصل‌ إلی مقام‌ تكاملها بين‌ هاتين‌ الصفتين‌، لكي‌ تطهر من‌ جميع‌ الرذائل‌ وتتحلّي‌ بصفات‌ الجمال‌ وتقع‌ في‌ حرم‌ الله‌.

 وهذه‌ الحالة‌ بين‌ الخوف‌ والرجاء، هي‌ التي‌ عمل‌ بها الائمّة‌ علیهم السلام‌؛ ففي‌ الوقت‌ الذي‌ لم‌ يتركوا العبادات‌ حتّي‌ آخر ساعات‌ حياتهم‌، مع‌ كونهم‌ أفضل‌ العاملين‌ بأوامر الله‌، فإنَّهم‌ لم‌ يجنحوا إلی الذنب‌، ولم‌يرتكبوا أي‌ّ معصيّة‌ ومخالفة‌.

 والخلاصة‌: الفَقِيهُ حَقَّ الفَقِيهِ، مَن‌ تكون‌ نفوس‌ الناس‌ بيده‌ بهذا النحو، ولايحصل‌ هذا من‌ دون‌ إنسان‌ كامل‌. فما لم‌ يصل‌ الإنسان‌ إلی مقام‌ الكمال‌ الروحي‌ّ والكمال‌ العرفاني‌ّ فلا يمكنه‌ أن‌ يدرك‌ هذا المعني‌ أصلاً؛ ولذا فمن‌ الممكن‌ أن‌ يسمح‌ للناس‌ ويقول‌ لهم‌: ارتكبوا المخالفة‌ الفلانيّة‌، لانَّ مقتضيات‌ الزمان‌ والمكان‌ الآن‌ لا تسمح‌ مثلاً أن‌ ننفّذ أمر الله‌ الفلاني‌ّ أو سنّة‌ الرسول‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌! أو لانـّنا لا نستطيع‌ القيام‌ بذلك‌! لكنَّ الثابت‌ هو كون‌ أيّة‌ معصية‌ في‌ القرآن‌ أو السنّة‌ معصية‌ للّه‌، وهي‌ ليست‌قابلة‌ للتخصيص‌، كما أنـّها ليست‌ بيد الفقيه‌ لكي‌ يستطيع‌ أن‌ يُحدِث‌ فيها تغييراً بواسطة‌ قوّته‌ الولايتيّة‌.

 أمّا جملة‌: وَلَمْ يَتْرُكِ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إلَی غَيْرِهِ، أي‌ أنَّ الفقيه‌ لايستطيع‌ أن‌ يترك‌ القرآن‌ ويرجع‌ إلی سواه‌، فجميع‌ العلوم‌ هي‌ لاجل‌ القرآن‌ ومقدّمة‌ له‌. فجميع‌ علوم‌ التفسير والحديث‌ والاخلاق‌ لاجل‌ القرآن‌، إلی أن‌ تصل‌ إلی علم‌ الفقه‌ المصطلح‌، الذي‌ هو أدون‌ العلوم‌، وهو أيضاً مقدّمة‌ لعلم‌ الاخلاق‌، وعلم‌ الاخلاق‌ لاجل‌ التزكية‌ والتحلّي‌ والتي‌ هي‌ أيضاً مقدّمة‌ للعرفان‌ الإلهي‌ّ. فجميع‌ ذلك‌ لاجل‌ القرآن‌.

 وبناء علی هذا، فيجب‌ أن‌ يكون‌ الفقيه‌ مأنوساً بالقرآن‌ علی الدوام‌، ومستمرّاً في‌ قراءته‌ والتعاطي‌ معه‌ وتلاوته‌ في‌ آناءِ اللَّيْلِ وَالنَّهار؛ وتحصيل‌ شأن‌ نزوله‌ وحالات‌ النبي‌ّ حال‌ نزوله‌، وأن‌ يكون‌ مطّلعاً علی مفاد آيات‌ القرآن‌ ومصادر تفسيرها، وتأويلات‌ آياته‌ المؤوّلة‌، والناسخ‌ والمنسوخ‌، والمطلق‌ والمقيّد فيه‌. وباختصار: يجب‌ أن‌ يكون‌ عارفاً بالقرآن‌ من‌ جميع‌ الجهات‌، إذ إنَّ القرآن‌ هو المبدأ والاصل‌ للعلوم‌ الإسلاميّة‌.

 فمن‌ يترك‌ القرآن‌ ويتّجه‌ نحو العلوم‌ الاُخري‌، كأن‌ يقرأ القرآن‌ أقلّ من‌ قراءته‌ كتاب‌ الادعية‌، فإنَّه‌ قد ترك‌ القرآن‌، ومن‌ يقرأ القرآن‌ قليلاً بينما يطالع‌ كتب‌ الحديث‌ أو بعض‌ العلوم‌ الاُخري‌ بنحو يصير فيه‌ القرآن‌ مهجوراً، فليس‌ هو فقيه‌ حقّ الفقيه‌؛ ولا هو ممّن‌ قد وصل‌ إلی روح‌ الفقه‌ ولامسه‌.

 الرجوع الي الفهرس

حري‌ٌّ بالشيعة‌ مع‌ وجود حديث‌ اقتران‌ الثَّقَلَينِ الاهتمام‌ بالقرآن‌ أكثر

 وحقّاً علی نا كشيعة‌ أن‌ نبدي‌ خجلنا وتأسّفنا هنا، وأن‌ نعترف‌ بأنـّنا لم‌نؤدِّ حقّ القرآن‌.

 فقد تقدّمنا في‌ مسألة‌ الولاية‌ بشكل‌ جيّد، لكنّنا تركنا القرآن‌؛ بينما أخذ أهل‌ السنّة‌ القرآن‌ وتركوا الولاية‌. ولذا، خرجت‌ كلتا الفرقتين‌ بأيدٍ خالية‌! وذلك‌ لقول‌ النبي‌ّ: هُمَا مُقْتَرِنَانِ، لا ينفصل‌ أحدهما عن‌ الآخر. فإذا تركنا أحدهما وأخذنا الآخر فإنَّا نستكشف‌ « إنَّا » بالملازمة‌، بأنـّنا: قد فقدنا الآخر أيضاً.

 ولقد تفضّل‌ أُستاذنا الآية‌ الإلهيّة‌ العظمي‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ رضوان‌الله‌ علیهبعبارة‌ جليلة‌، إذ قال‌ يوماً: أنتم‌ الشيعة‌ تركتم‌ القرآن‌ وتمسّكتم‌ بالولاية‌، بينما العامّة‌ علی العكس‌ من‌ ذلك‌، قد أخذوا القرآن‌ وتركوا الولاية‌، فكانت‌ النتيجة‌ أن‌ فقدنا كلا الامرين‌.

 فيجب‌ أن‌ نعترف‌ كشيعة‌: بأنـّنا غير مطّلعين‌ علی القرآن‌؛ فأبناؤنا لايعرفون‌ القرآن‌، مع‌ أنَّ الطفل‌ يحفظ‌ القرآن‌ بسرعة‌. ويجب‌ أن‌ يكون‌ أبناؤنا حافظين‌ للقرآن‌ عندما يبلغون‌ الخامسة‌ عشر من‌ العمر، فنحن‌ لانهتمّ بعلوم‌ القرآن‌!

 عندما دخلت‌ النجف‌، كان‌ أحد الاعاظم‌ يقوم‌ بتفسير القرآن‌ في‌ ليالي‌ الخميس‌ والجمعة‌، لكنَّ ذلك‌ الامر توقّف‌ دون‌ أن‌ يستمرّ أكثر من‌ سنة‌. وكان‌ يخطأ في‌ قراءة‌ بعض‌ الآيات‌ عندما كان‌ يفسّر القرآن‌ من‌ علی المنبر!

 الرجوع الي الفهرس

تأسّف‌ المؤلِّف‌ من‌ كلام‌ أحد علماء النجف‌ حول‌تدريس‌العلوم‌ القرآنيّة‌

 وذات‌ يوم‌، جاء إلی منزلنا أحد أعاظم‌ النجف‌ ـ وقد توفّي‌ رحمة‌الله‌ علیه‌، وكان‌ في‌ تلك‌ الفترة‌ من‌ مراجع‌ الدرجة‌ الثانية‌ بنحو لو بقي‌ لكان‌ أحد المراجع‌ بكلّ تأكيدـ لرؤية‌ أحد السادة‌ القادمين‌ من‌ طهران‌ والذي‌ كان‌ قد حلّ ضيفاً عندنا، وفي‌ أثناء الحديث‌، قال‌ ذلك‌ السيّد القادم‌ من‌ طهران‌: من‌ المستحسن‌ لو يكون‌ الاهتمام‌ أكثر بالقرآن‌ وتفسيره‌ في‌ هذه‌ الحوزة‌، ويزداد وقت‌ حصص‌ دراسة‌ القرآن‌ للطلاّب‌.

 فأجاب‌ ] ذلك‌ الشخص‌ [ ( وهذه‌ عين‌ عبارته‌ ): ولماذا تعطّل‌ الطلبة‌ بهذه‌ الاُمور! فالقرآن‌ عبارة‌ عن‌ ثلاثة‌ أُمور: المسائل‌ التوحيديّة‌، والمسائل‌ الاخلاقيّة‌، والمسائل‌ العمليّة‌.

 أمّا في‌ المسائل‌ التوحيديّة‌، مثل‌: هُوَ اللَهُ الْوَاحِدُ، اللَهُ لآ إِلَـ'هَ إِلاَّ هُوَ، فمن‌ المعلوم‌ أنَّ الله‌ واحد، فكلّ عالم‌ وجاهل‌ وعامّي‌ يعلم‌ أنَّ الله‌ واحد.

 وأمّا في‌ المسائل‌ الاخلاقيّة‌، فهي‌ ليست‌ مسائل‌ مهمّة‌ جدّاً، ويمكن‌ تحصيلها بشكل‌ عامّ.

 وأمّا في‌ المسائل‌ الفرعيّة‌، مثل‌ الصلاة‌ والزكاة‌ وأمثالهما، ففي‌ القرآن‌ مجملات‌ عنها فقط‌، مثل‌: أَقِيمُوا الصَّلَو'ةَ؛ ءَاتُوا الزَّكَو'ةَ؛ أَحَلَّ اللَهُ الْبَيْعَ، فليس‌ فيه‌ شي‌ء غير المجملات‌. والشي‌ء المهمّ هو تفصيله‌ في‌ الفقه‌، فلايجوز أن‌ نحثّ الطلاّب‌ ونرغّبهم‌ بالمسائل‌ التي‌ توجب‌ تعويقهم‌، فعندما نعلّمهم‌ الفقه‌ أو الاُصول‌ فهذا يغنيهم‌ عن‌ كلّ شي‌ء!

 انتبهوا جيّداً إلی هذا المنطق‌ وهذه‌ المسألة‌! إنَّ هذا المنطق‌ قد كسر ظهر النبي‌ّ، لانـّه‌ قد أدّي‌ إلی اقتلاع‌ حوزة‌ النجف‌ وخلوّها، وإلي‌ تسليط‌ الله‌ سبحانه‌ لهؤلاء الظالمين‌ علی ها لاجلّ تطهيرها، ولكي‌ تحيا ثانية‌ إن‌ شاءالله‌ وبإرادته‌ تلك‌ الحوزات‌ الفتيّة‌ المقترنة‌ بالقرآن‌ والتقوي‌ والتطهير والولاية‌، فتتأ لَّق‌ ثانية‌ ويظهر فيها هؤلاء الطلبة‌ وتلك‌ العلوم‌ والعلماء الذين‌ يتمنّاهم‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ في‌ قوله‌: آهِ آهِ، شَوْقاً إلَی رُؤْيَتِهِمْ!

 ومن‌ البديهي‌ّ أنـّه‌ عندما يتدنّي‌ المستوي‌ الفكري‌ّ في‌ الحوزة‌ وعالمها إلی درجة‌ القول‌ إنَّ القرآن‌ كتاب‌ زائد، وإنَّه‌ لماذا نشغل‌ أنفسنا نحن‌ الطلبة‌ به‌؟! فمن‌ المعلوم‌ أنَّ هذا الفكر ليس‌ له‌ من‌ مآل‌ سوي‌ الزوال‌. فنحن‌ إذَن‌ قد فقدنا القرآن‌، ويجب‌ أن‌ نتأسّف‌ علی ذلك‌ الفقدان‌. وهو ما يؤسَفُ له‌ حقّاً!

 فالعالِم‌ بالقرآن‌ هو الذي‌ يقول‌ عنه‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌: لَمْ يَتْرُكِ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إلَی غَيْرِهِ. غالباً ما يقتصر زوّار حرم‌ الائمّة‌ علی كتب‌ الادعية‌، وقد لا يقرؤون‌ القرآن‌ علی الإطلاق‌، وكأنَّ وجوده‌ هناك‌ لاجل‌ الاستخارة‌ فقط‌! لِمَ لا نقرأ القرآن‌ عقيب‌ صلواتنا؟ ولماذا لانقرأ القرآن‌ في‌ الحرم‌ بعد الزيارة‌ الجامعة‌؟ بل‌ لماذا تُرِكَ القرآن‌؟ ولماذا لايملك‌ طلاّبنا الخبرة‌ بالقرآن‌؟! عندما لا يكون‌ طلاّبنا عارفين‌ بالقرآن‌، فهل‌ نتوقّع‌ عندها أن‌ يعرف‌ القرآن‌ عوامّ الناس‌؟

 لم‌ تكن‌ طريقة‌ كبار علمائنا مثل‌ الشيخ‌ المفيد والسيّد المرتضي‌ والشيخ‌ الطوسي‌ّ والعلاّمة‌ الحلّي‌ّ والسيّد ابن‌ طاووس‌ وبحر العلوم‌ وأمثالهم‌ بهذا النحو، فلقد كانوا حماة‌ للقرآن‌ وحرّاسه‌، وكانوا من‌ حفظته‌، وكانت‌ أرواحهم‌ مقترنة‌ به‌. وقد كانت‌ جميع‌ مشاكلنا علی عواتقهم‌. وقد قاموا بهذا العب‌ء وأرشدونا، وإلاّ لما وصل‌ إلينا ذلك‌ ولما كان‌ لدينا شي‌ء من‌ القرآن‌.

 تشتمل‌ مسألة‌ القرآن‌ علی درجة‌ كبيرة‌ من‌ الاهمّيّة‌، ويجب‌ أن‌ نعطي‌ القرآن‌ اهتماماً كبيراً.

 والخلاصة‌: أنَّ الفقيه‌ حقّ الفقيه‌ هم‌ مَن‌: لَمْ يَتْرُكِ القُرْءَانَ رَغْبَةً عَنْهُ إلَی غَيْرِهِ.

 الدليل‌ الثاني‌: من‌ الادلّة‌ التي‌ تدلّ علی لزوم‌ الاعلميّة‌ هو: أنَّ رسول‌الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌ في‌ غزوة‌ أُحد، وعندما دُفن‌ الشهيدان‌ أو أكثر في‌ قبر واحد، كان‌ يقدّم‌ أقْرَأُ القُرْآنِ مِنْ بَيْنِ الجَماعَة‌، ويجعله‌ قبلة‌ لعدّة‌ أشخاص‌ ثمّ يصلّي‌ علی هم‌ ويدفنهم‌. أي‌ كان‌ يجعل‌ مَن‌ كانت‌ قراءته‌ للقرآن‌ أكثر ومعرفته‌ بالقرآن‌ أكثر في‌ المقدّمة‌ حتّي‌ في‌ مقام‌ الدفن‌.

 يروي‌ ابن‌ الاثير في‌ « الكامل‌ في‌ التاريخ‌ » أنـّه‌: أَمَرَ رَسُولُاللَهُ صَلَّي‌اللَهُ عَلَیهِ  وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أَنْ يُدْفَنَ الاثْنَانِ وَالثَّلاَثَةُ فِي‌ القَبْرِ الوَاحِدِ، وَأَنْ يُقَدَّمَ إلَی القِبْلَةِ أَكْثَرُهُمْ قُرْآناً وَصَلَّي‌ عَلَیهِ مْ [16].

 يتحصّل‌ من‌ هذا: أنَّ مناط‌ التقدّم‌ هو القرآن‌. وذلك‌ الشخص‌ الذي‌ قد تجسّد القرآن‌ في‌ وجوده‌ أكثر من‌ غيره‌ ( كأن‌ يكون‌ حافظاً للقرآن‌، عارفاً بآياته‌، وبإمكانه‌ الاستدلال‌ به‌ بشكل‌ أفضل‌ ) فهو المقدّم‌؛ وهذا هو مناط‌ الاعلميّة‌.

 الرجوع الي الفهرس

موارد التقدّم‌: الاعلميّة‌ بالقرآن‌، السنّة‌، الهجرة‌، ومن‌ ثمّ الإسلام‌

 الدليل‌ الثالث‌: يروي‌ العلاّمة‌ الاميني‌ّ في‌ « الغدير » رواية‌ صحيحة‌ من‌ طرق‌ العامّة‌، أنَّ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌ قال‌: يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَهِ. فِإنْ كَانُوا فِي‌ القِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ؛ فَإنْ كَانُوا فِي‌ السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً؛ فَإنْ كَانُوا فِي‌ الهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْماً [17].

 كان‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌ كلّما أرسل‌ جيشاً إلی ناحية‌ من‌ النواحي‌ أو جمع‌ جماعة‌ ما ( في‌ أي‌ّ مكان‌ أو محلّة‌ ) يأمر أن‌ يكون‌ إمامهم‌ ذلك‌ الذي‌ علمه‌ بالقرآن‌ أكثر. أي‌ لو أراد عدد من‌ الناس‌ أداء الصلاة‌ جماعة‌ وكان‌ بينهم‌ عدّة‌ علماء، فالذي‌ يجب‌ أن‌ يكون‌ إمام‌ الجماعة‌ هو العارف‌ بالقرآن‌ أكثر، لا العارف‌ بالحديث‌ أكثر. وإذا كان‌ هناك‌ شخصان‌ أو ثلاثة‌ متساوين‌ في‌ القرآن‌ فيصل‌ الدور إلی السنّة‌، فمن‌ كان‌ أعرف‌ بسنّة‌ النبي‌ّ وحديثه‌ هو المقدّم‌. فعندئذٍ، تكون‌ السنّة‌ مرجّحاً في‌ الدرجة‌ الثانية‌.

 فنحصل‌ علی: إذا كان‌ هناك‌ شخصان‌ أحدهما أعلم‌ بالقرآن‌ دون‌ السنّة‌، والآخر أعلم‌ بالسنّة‌ دون‌ القرآن‌، فحقّ التقدّم‌ للاعلم‌ بالقرآن‌.

 وإذا كانوا متساوين‌ في‌ السنّة‌ يقدّم‌ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، أي‌ الذي‌ هاجر إلی دار الإسلام‌ أوّلاً، حتّي‌ لو كان‌ إسلامه‌ متأخّراً، لانَّ الخروج‌ من‌ تحت‌ لواء الكفر والدخول‌ في‌ لواء الإسلام‌ أمر واجب‌.

 فالدخول‌ تحت‌ لواء الإسلام‌ في‌ زمان‌ حكومة‌ الإسلام‌، والمجي‌ء إلی دار الإسلام‌ من‌ جميع‌ أنحاء العالم‌ بعد تشكيل‌ حكومة‌ الإسلام‌، أمر واجب‌ ولايجوز لاحد من‌ المسلمين‌ الذين‌ يعيشون‌ الآن‌ في‌ أنحاء العالم‌ أن‌ يبقوا هناك‌ دقيقة‌ واحدة‌ مع‌ وجود حكومة‌ الإسلام‌، سواء كان‌ ذلك‌ المكان‌ الذي‌ يعيشون‌ فيه‌ وطنهم‌ أم‌ محلّ إقامتهم‌، أم‌ كان‌ ذهابهم‌ إلی هناك‌ لاجل‌ التحصيل‌ أو أمثال‌ ذلك‌، فلا يجوز لهم‌ البقاء، إلاّ إذا كان‌ ذهابهم‌ إلی هناك‌ وفق‌ مصلحة‌ ما وبإذن‌ من‌ حاكم‌ الشرع‌. أو كان‌ تحصيلهم‌ ضروريّاً، أو أنـّهم‌ ذهبوا لاجل‌ معالجة‌ ضروريّة‌، ويكون‌ ذلك‌ بإجازة‌ الحاكم‌ أيضاً. وإلاّ فإن‌ لم‌ يكن‌ بإجازة‌ الحاكم‌ فهم‌ كمن‌ يعيش‌ في‌ جهنّم‌ وبقاؤهم‌ معصية‌ كبيرة‌.

 فالتوطّن‌ والعيش‌ تحت‌ لواء الكفر خطأ، سواء كان‌ بنحو التجسّس‌ أم‌ الإقامة‌ والسكني‌ المؤقّتة‌؛ والهجرة‌ من‌ الاُمور الواجبة‌. فعلي‌ هذا، إذا كان‌ هناك‌ شخصان‌ متساويان‌ في‌ العلم‌ بالسنّة‌ فإمام‌ الجماعة‌ من‌ بينهم‌ مَن‌ كان‌ أسبق‌ هجرة‌ إلی دار الإسلام‌، لا ذلك‌ الشخص‌ الذي‌ كان‌ أسبق‌ في‌ إسلامه‌ ولكنّه‌ تأخّر في‌ هجرته‌. وأمّا إذا كانا متساويين‌ في‌ الهجرة‌ فـ أَقْدَمُهُم‌ سِلْماً؛ أي‌ يقدّم‌ أقدّمهم‌ إسلاماً.

 هذا هو مناط‌ الاعلميّة‌ والافضليّة‌ والاشرفيّة‌ بنظر سنّة‌ رسول‌الله‌ في‌ باب‌ ولاية‌ الفقيه‌. وهذا ما يمكن‌ أن‌ نستفيده‌ من‌ هذه‌ الرواية‌ أيضاً.

 هذه‌ المسائل‌ دقيقة‌ جدّاً، ويجب‌ التأمّل‌ فيها، لكي‌ يفيض‌ الله‌ تعالي‌ علی الإنسان‌ مطالب‌ أُخري‌ ليتمكّن‌ من‌ إدراك‌ معاني‌ أعلي‌ ومرامي‌ أسمي‌.

 اللَهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد

الرجوع الی المجلد الثالث

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ «أُصول‌ الكافي‌» ج‌ 1، ص‌ 32، حديث‌ 1، كتاب‌ فضل‌ العلم‌، طبعة‌ المطبعة‌ الحيدريّة‌.

[2] ـ «المحجّة‌ البيضاء» ج‌ 1، ص‌ 28 و 29.

[3] ـ «بحار الانوار» ج‌ 1، ص‌ 65 و 66، طبعة‌ الكمباني‌.

[4] ـ «إحياء العلوم‌» ج‌ 1، ص‌ 27.

[5] ـ «مرآة‌ العقول‌» ج‌ 1، ص‌ 22 و 23، الطبعة‌ الحروفيّة‌.

[6] ـ «مرآة‌ العقول‌» ج‌ 1، ص‌ 102 و 103، الطبعة‌ الحروفيّة‌.

[7] ـ «الوافي‌» ج‌ 1، ص‌ 37، باب‌ صفة‌ العلم‌.

[8] ـ «الوافي‌» ج‌ 1، باب‌ صفة‌ العلم‌، تعليقة‌ ص‌ 37.

[9] ـ الآية‌ 12، من‌ السورة‌ 65: الطلاق‌.

[10] ـ «نهج‌ البلاغة‌» خطبة‌ 191؛ ومن‌ الطبعة‌ المصريّة‌ بتعليقة‌ الشيخ‌ محمّد عبده‌، ج‌ 1، ص‌ 396.

[11] ـ في‌ «بحار الانوار» ج‌ 1، ص‌ 57 و 58، طبعة‌ الكمباني‌، هذه‌ الرواية‌ مرويّة‌ في‌ «غوالي‌ اللئالي‌» وفي‌ «روضة‌ الواعظين‌» عن‌ الرسول‌ الاكرم‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌.

[12] ـ «مصباح‌ الشريعة‌» ص‌ 41، باب‌ 62 سنة‌ 1379 ه، تحقيق‌ وتقديم‌ العالم‌ الكبير الحاجّ الشيخ‌ حسن‌ المصطفوي‌ّ. والعبارة‌ التي‌ بعدها هي‌: قَالَ النَّبِي‌ُّ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ. ونقل‌ الملاّ محسن‌ الفيض‌ في‌ «المحجّة‌ البيضاء» ج‌ 1، ص‌ 68 عين‌ هذه‌ الرواية‌ عن‌ «مصباح‌ الشريعة‌».

[13] ـ «الميزان‌ في‌ تفسير القرآن‌» ج‌ 6، ص‌ 182، البحث‌ الروائي‌ّ.

[14] ـ «أُصول‌ الكافي‌» ج‌ 1، ص‌ 36، كتاب‌ فضل‌ العلم‌، باب‌ صفة‌ العلماء، طبعة‌ المطبعة‌ الحيدريّة‌.

[15] ـ «حلية‌ الاولياء» ج‌ 1، ص‌ 77.

[16] ـ «الكامل‌ في‌ التاريخ‌» ج‌ 2، ص‌ 163، طبعة‌ دار صادر، بيروت‌.

[17] ـ «الغدير» ج‌ 1، ص‌ 53؛ عن‌ «صحيح‌ مسلم‌» ج‌ 3، ص‌ 133؛ وعن‌ «صحيح‌ الترمذي‌ّ» ج‌ 6، ص‌ 34؛ وعن‌ «سُنن‌ أبي‌ داود» ج‌ 1، ص‌ 96. والمراد من‌ صحّة‌ الرواية‌ صحّتها بمناط‌ العامّة‌.

الرجوع الی المجلد الثالث

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com