بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب نورملكوت القرآن/ المجلد الثالث / القسم الرابع: غلبة الانجلیز علی العراق بالارتشاء، منطق المستعمرین

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

غلبة‌ الإنجليز علی‌ العراق‌ في‌ الحرب‌ العالميّة‌ كان‌ ناشئاً من‌ الارتشاء

جهاد العلماء والشعب‌ ضدّ الهجوم‌ الإنجليزي‌ّ

 وفي‌ هذه‌ الاثنـاء فقد قـام‌ الجيـش‌ الهندي‌ّ الخاضـع‌ للاسـتعمار الإنجليزي‌ّ بمهاجمة‌ أراضي‌ الدولة‌ العثمانيّة‌، فطلبت‌ الدولة‌ العثمانيّة‌ من‌ علماء دولة‌ إيران‌ وجماعة‌ العلماء المقيمين‌ في‌ العراق‌، وكذلك‌ من‌ رجال‌ الدين‌ القاطنين‌ في‌ سوريا والحجاز ومصر المساعدة‌ علی‌ الوقوف‌ بوجه‌ الإنجليز.

 و علیه‌، فقد صدر أمر الجهاد المقدّس‌ للدفاع‌ عن‌ حريم‌ الإسلام‌ وصيانة‌ الاعراض‌، وقام‌ العلماء المسلمون‌ الساكنون‌ في‌ العتبات‌ المقدّسة‌ بالتحرّك‌ مع‌ الناس‌ بأنفسهم‌ أو بإرسال‌ أولادهم‌، فتحركوا من‌ النجف‌ الاشرف‌ وكربلاء المقدّسة‌ ومن‌ بغداد، وكانوا يسلّمون‌ كلّ شخص‌ سلاحاً ومبلغاً من‌ المال‌ لتغطية‌ نفقاته‌ الشخصيّة‌، وتحرّكوا باتّجاه‌ كوت‌ العمارة‌ لمواجهة‌ العدوّ الإنجليزي‌ّ في‌ جبهة‌ خرّمشهر: (المحمّرة‌) ومنطقة‌ القرنة‌ باتّجاه‌ العزير والفردوسيّة‌ والجزر الواقعة‌ في‌ هور الحمّار، وخاصّة‌ القسم‌ الواقع‌ بين‌ نهرَي‌ دجلة‌ والفرات‌. وبقيت‌ هذه‌ القوات‌ مدّة‌ سنة‌ تقريباً في‌ هذه‌ المنطقة‌ تمنع‌ ورود القوّات‌ الإنجليزيّة‌. ثمّ بدأ أخيراً الهجوم‌ الإنجليزي‌ّ علی‌ الفاو، ثمّ علی‌ مدينة‌ البصرة‌.

 وفي‌ هذه‌ المواجهة‌ وصلت‌ القوّات‌ الإسلاميّة‌ إلی مشارف‌ الظفر والنصر علی‌ العدوّ، فقام‌ جماعة‌ من‌ الخونة‌ متوسّلين‌ بإعطاء الرشوة‌ بالحصول‌ علی‌ الاسرار والمعلومات‌ اللازمة‌ وسلّموها إلی رؤساء الإنجليز. ووصل‌ الامر بشيوخ‌ العشائر الذين‌ كانوا يتحرّكون‌ من‌ ناحية‌ سوق‌ الشيوخ‌ في‌ جيش‌ كبير تحت‌ قيادة‌ وإشراف‌ العالِم‌ المجاهد الشهير آية‌ الله‌ السيّد محمّد سعيد الحبّوبي‌ّ وعلماء آخرين‌ من‌ بينهم‌ آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد محسن‌ الحكيم‌ متّجهين‌ إلی منطقة‌ الشعيبة‌، وكان‌ هناك‌ من‌ جهة‌ أُخري‌ جيش‌ آخر مأمور بالدفاع‌ المقدّس‌ بقيادة‌ سليمان‌ العسكري‌ّ من‌ طرف‌ الدولة‌ العثمانيّة‌ آنذاك‌؛ وصل‌ الامر بهؤلاء إلی الإيعاز لعشائرهم‌ الحاضرة‌ في‌ تلك‌ المنطقة‌ فطوت‌ عَلَمها الحربي‌ّ المنصوب‌ علی‌ رمح‌ ـ والحرب‌ لم‌ تبدأ بعدُ وانسحبت‌ من‌ ساحة‌ القتال‌!

 وقد أدّي‌ ذلك‌ إلی أن‌ يسقط‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌ السيّد محمّد سعيد الحبّوبي‌ّ ©[87] مريضاً بالسلّ من‌ الغصّة‌ والحسرة‌ والالم‌، فحُمل‌ إلی النجف‌ الاشرف‌ في‌ علّته‌، وفارقت‌ روحه‌ الطاهرة‌ الدنيا وحلّقت‌ إلی أ علی‌ علِّيِّين‌، عَلَيْهِ الرَّحَمَاتُ الوَفِيرَةُ مِنَ اللَهِ العَلِي‌ِّ القَدِيرِ المَنَّانِ الرَّؤُوفِ بِعِبَادِهِ.

 كما قام‌ سليمان‌ العسكري‌ّ ـ قائد الجيش‌ العثماني‌ّ جرّاء خيانة‌ العرب‌ بالانتحار، فوضع‌ خاتمة‌ حياته‌ بيده‌.

 وينبغي‌ العِلم‌ أنّ سلاح‌ المدفعيّة‌ العثمانيّة‌ كان‌ ذا مديً قصير، وكانت‌ قنابل‌ مدفعيّة‌ الجيش‌ العثماني‌ّ تبرد وتسقط‌ ولمّا تصل‌ بعدُ إلی مواضع‌ العدوّ، في‌ حين‌ كانت‌ المدفعيّة‌ البريطانيّة‌ ذات‌ مديً بعيد، فكانت‌ قنابلهم‌ تنهال‌ في‌ المعركة‌ علی‌ مؤخّرة‌ الخطوط‌ الاُولي‌ وتصل‌ إلی مؤخّرة‌ ساحة‌ القتال‌، وكان‌ ذلك‌ من‌ الميزات‌ المهمّة‌ التي‌ تميّز بها الجيش‌ المهاجم‌. وفي‌ النتيجة‌، فقد أُجبر جيش‌ المجاهدين‌ الوطني‌ّ خلال‌ نصف‌ يوم‌ فقط‌ علی‌ تخلية‌ خنادقهم‌ والفرار.

 وقد قام‌ الجيش‌ الإنجليزي‌ّ أوّلاً بمهاجمة‌ وإسقاط‌ الجناح‌ الايمن‌ في‌ منطقة‌ الفلاحـيّة‌ ـ قرب‌ خرّمشـهر والتي‌ كانت‌ تحت‌ إشـراف‌ المرحـوم‌ آية‌ الله‌ السيّد محمّد ابن‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌ السيّد محمّد كاظم‌ الطباطبائي‌ّ اليزدي‌ّ، ثمّ اتّجه‌ إلی الشعيبة‌، وقام‌ عن‌ طريق‌ إعطاء الرشاوي‌ والقيام‌ بحرب‌ مختصرة‌ بهزيمة‌ الجيش‌ هناك‌، ثمّ تحرّك‌ صوب‌ سوق‌ الشيوخ‌ والناصريّة‌، وقام‌ باحتلال‌ مدينة‌ الناصريّة‌ بعدّة‌ سفن‌ حربيّة‌ صغيرة‌.

 وبعد الانتهاء والفراغ‌ من‌ هاتين‌ الجبهتين‌، فقد سقطت‌ خلال‌ نصف‌ يوم‌ النقاط‌ الاستراتيجيّة‌ المهمّة‌ في‌ هور الحمّار ومن‌ ضمنها جزيرة‌ عَرار وأبو عَران‌ التي‌ كان‌ يدافع‌ عنها مائة‌ نفر من‌ الجيش‌ العثماني‌ّ وحوالي‌ مائة‌ نفر من‌ المجاهدين‌ الوطنيّين‌، فقد بدأ الهجوم‌ علیها عند الفجر ودامت‌ المعركة‌ إلی ساعةٍ بعد الظهر.

 وكان‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد أحمد الخوانساري‌ّ وآية‌ الله‌ آقا ميرزا علی‌ مجاهد قمشه‌اي‌ وابن‌ خالته‌: آية‌ الله‌ آقا ميرزا محمّد حسين‌ قمشه‌اي‌، والاُستاذ أبو الحسن‌ الشوشتري‌ّ (المسؤول‌ الاخصّائي‌ّ ومهندس‌ إدارة‌ الماء والكهرباء في‌ النجف‌ والكوفة‌ الذي‌ ذهب‌ أخيراً ليقوم‌ بمهمّة‌ توسعة‌ حرم‌ وصحن‌ ومرقد السيّدة‌ زينب‌ سلام‌ الله‌ علیها) مع‌ شخصَين‌ آخرَين‌ يدافعون‌ في‌ خندق‌ صغير في‌ مؤخّرة‌ الخنادق‌، وكان‌ هذا الجزء هو نقطة‌ الدفاع‌ الاخيرة‌ في‌ هذه‌ الجزيرة‌، وقد قام‌ الجيش‌ العثماني‌ّ بعد هزيمته‌ في‌ هذه‌ الجزيرة‌ بالانسحاب‌ رأساً باتّجاه‌ كُوت‌ العِمارة‌ (الإمارة‌)، وانسحب‌ الناس‌ والعلماء المجاهدون‌: الآيات‌ العظام‌: الحاجّ الشيخ‌ فتح‌ الله‌ شريعت‌ الإصفهاني‌ّ الغازي‌ّ، والمرحوم‌ السيّد عبد الحسين‌ حجّت‌، و السيّد مهدي‌ الحيدري‌ّ الكاظمي‌ّ والعلماء الآخرون‌ الذين‌ رافقوهم‌، وقاموا عن‌ طريق‌ الشيوخ‌ المحلّيّين‌ بالركوب‌ في‌ قوارب‌ صغيرة‌ أوصلتهم‌ إلی حي‌ّ عِفَك‌ السماوة‌، ثمّ وصلوا إلی النجف‌ الاشرف‌ والكاظميّة‌ وكربلاء، بينما استقرّ الإنجليز في‌ مدينتَي‌ الناصريّة‌ والعمارة‌.

 ودامت‌ الحرب‌ مع‌ الإنجليز سنتَين‌، حيث‌ تحرّك‌ هؤلاء باتّجاه‌ كوت‌ العمارة‌ بقيادة‌ الجنرال‌ طاوزند، وكانوا لم‌ يستقرّوا فيها بعد حين‌ وصل‌ الجيش‌ العثماني‌ّ القادم‌ من‌ بغداد إلی مدينة‌ الكوت‌، وكان‌ يتمتّع‌ بمعنويّات‌ عالية‌، فقام‌ بمحاصرة‌ الجيش‌ الإنجليزي‌ّ لمدّة‌ ستّة‌ أشهر حتّي‌ اضطره‌ إلی التسليم‌ بعد انتهاء أرزاقهم‌، وكان‌ عدد الجيش‌ الإنجليزي‌ّ المستسلم‌ اثني‌ عشر ألف‌ جندي‌ّ.

 وبعد هذه‌ الواقعة‌ أرسل‌ الإنجليز مجدّداً جيشاً آخر بقيادة‌ الجنرال‌ مود فاستولي‌ أوّلاً علی‌ مدينة‌ الكوت‌، ثمّ توجّه‌ إلی بغداد فسيطر علیها، واستمرّ في‌ مطاردة‌ الجيش‌ العثماني‌ّ إلی مدينة‌ سامرّاء وتكريت‌.

 ثمّ قامت‌ الدولة‌ العثمانيّة‌ بعد ذلك‌ بإخلاء منطقة‌ تكريت‌ والموصل‌ وأطراف‌ هذه‌ المناطق‌ طولاً وعرضاً وتراجعت‌ عنها بدون‌ حرب‌، فاستغلّ الإنجليز خلوّ الميدان‌ وتابعوا تقدّمهم‌ إلی منطقة‌ ديار بكر والحدود الف علیّة‌ لدولة‌ تركيا، فاحتلّت‌ المنطقة‌ النفطيّة‌ بلا حرب‌.

 وبدأ بعد هذا التأريخ‌ فصـل‌ جديـد في‌ الاسـتعمار عُرِف‌ بعنـوان‌: العراق‌ تحت‌ استعمار وسيطرة‌ الإنجليز، إلاّ أنّ ذلك‌ العنوان‌ زال‌ بعد ثورة‌ الرميثة‌، الديوانيّة‌، الحلّة‌، ديالي‌، الرمادي‌ والنجف‌ الاشرف‌، وجري‌ منح‌ الاستقلال‌ للعراق‌.

 ويلزم‌ ذكر أنّ بقايا الجيش‌ العثماني‌ّ المنسحب‌ قد توجّهت‌ إلی إيران‌ ووصلت‌ إلی حدود همدان‌، فعمد الإنجليز إلی تحريك‌ القطعات‌ العسكريّة‌ الاحتياط‌ باتّجاه‌ إيران‌ خلف‌ الجيش‌ العثماني‌ حتّي‌ وصلوا إلی حدود گيلان‌ وغابات‌ مازندران‌ ولاهيجان‌.

 وفي‌ هذه‌ الاثناء حدثت‌ حوادث‌ التمرّد والثورة‌ داخل‌ الإمبراطوريّة‌ الروسيّة‌، فأُسر الإمبراطور الروسي‌ّ القيصر بِيَدِ المتمرّدين‌ في‌ حالٍ يُرثي‌ لها، ثمّ قُتِل‌ مع‌ أفراد عائلته‌ بصورة‌ فجيعة‌، وأُسّست‌ من‌ ثَمَّ حكومات‌ بلشفيّة‌ واشتراكيّة‌ في‌ أرجاء المملكة‌ الواسعة‌. ولم‌ يمضِ وقت‌ طويل‌ حتّي‌ نشبت‌ المنازعات‌ والحروب‌ بين‌ هذه‌ الحكومات‌ حول‌ مبدأ وأُسلوب‌ الحكم‌، وأعقب‌ ذلك‌ غلبة‌ لينين‌ وسيطرته‌ علی‌ جميع‌ أرجاء الدولة‌، فأخضعها لنظام‌ بلشفي‌ّ واحد.

 وكانت‌ ثورة‌ الشعب‌ العراقي‌ّ قد تقارنت‌ مع‌ هذه‌ الاوضاع‌، حيث‌ قاموا بهزيمة‌ الجيش‌ الإنجليزي‌ّ الفاتح‌ في‌ عدّة‌ معارك‌ مهمّة‌: الرُّمَيثة‌، الرارنجيّة‌، الرمادي‌ وديالي‌، ممّا أجبر الإنجليز إلی إعادة‌ قادة‌ جيوشهم‌ من‌ إيران‌ إلی العراق‌ لضمان‌ السيطرة‌ علی‌ العراق‌ مجدّداً، وأعطوا وعود الاستقلال‌ الوطني‌ّ طبق‌ رغبة‌ الشعب‌ العراقي‌ّ.

 وقد قام‌ مرجع‌ تقليد الشيعة‌: آية‌ الله‌ الميرزا محمّد تقي‌ الشيرازي‌ّ المتوفّي‌ سنة‌ 1338 هجريّة‌ قمريّة‌ بإعلان‌ الجهاد علی‌ الإنجليز، فأُطيع‌ أمره‌ واشتعلت‌ ثورة‌ عامّة‌ ضدّ الاستعمار الإنجليزي‌ّ في‌ مناطق‌ العراق‌ المختلفة‌، ومن‌ بينها النجف‌ الاشرف‌ وكربلاء، وقد عجز الإنجليز عن‌ إخماد هذه‌ الثورة‌ بقوّة‌ السلاح‌، فأُجبروا مُكرهين‌ علی‌ منح‌ العراق‌ الاستقلال‌ وقاموا بإمضاء حكم‌ الاستقلال‌. [88]

 وقد وقع‌ هنا خبط‌ واشتباه‌، فلم‌ يجر في‌ تعيين‌ الرئيس‌ رعاية‌ الدقّة‌ اللازمة‌، فبالرغم‌ من‌ أنّ الشيعة‌ يشكّلون‌ ثلاثة‌ أرباع‌، بل‌ أربعة‌ أخماس‌ مجموع‌ السكّان‌، إلاّ أنّ المسألة‌ انتهت‌ لصالح‌ السنّة‌ وبضرر الشيعة‌، فقد كانت‌ أنظار أهل‌ الكفر تتوجّه‌ صوب‌ أهل‌ السنّة‌ الذين‌ كانوا أسهل‌ في‌ التعامل‌ معهم‌. ولقد حكم‌ الإنجليز العراق‌ بواسطة‌ هؤلاء الحكّام‌ السنّة‌ طيلة‌ خمس‌ وعشرين‌ سنة‌ عن‌ طريق‌ حكومة‌ استشاريّة‌ برئاسة‌ الملك‌ فيصل‌ الاوّل‌ و الملك‌ غازي‌ بن‌ فيصل‌ و الملك‌ فيصل‌ الثاني‌ ابن‌ الملك‌ غازي‌، حتّي‌ سقوط‌ الحكم‌ الملكي‌ّ في‌ ثورة‌ قادها عبد الكريم‌ قاسم‌ الذي‌ أعلن‌ فيها قيام‌ الحكم‌ الجمهوري‌ّ بدل‌ الحكم‌ الملكي‌ّ.

 وطيلة‌ السنتين‌ اللتين‌ حكم‌ فيهما عبد الكريم‌ قاسم‌ حدث‌ تزلزل‌ مشهود في‌ كثير من‌ الاحكام‌ الإسلاميّة‌، من‌ ضمنها مسألة‌ حقوق‌ إرث‌ الاب‌ (حيث‌ صارت‌ حصّة‌ المرأة‌ في‌ الإرث‌ مساوية‌ لحصّة‌ الرجل‌).

 ولم‌ يدم‌ الامر طويلاً حتّي‌ نشب‌ الاختلاف‌ بين‌ أعوان‌ عبد الكريم‌ قاسـم‌، فقـام‌ أحـدهـم‌ واسـمه‌ عبد السـلام‌ محمّد عارف‌ بانقـلاب‌ علی‌ عبد الكريم‌ وهجم‌ علی‌ بغداد ووزارة‌ الدفاع‌، فاعتقلوه‌ بينما كان‌ يساهم‌ في‌ الدفاع‌ مع‌ المدافعين‌ وقتلوه‌ شرّ قتلة‌.

 وكان‌ في‌ نيّة‌ عبد السلام‌ محمّد عارف‌ إعلان‌ حكومة‌ لا دينيّة‌ ولا مذهبيّة‌ حين‌ احترقت‌ طائرته‌ فجأة‌ خلال‌ سفره‌ إلی مدينة‌ البصرة‌ لبحث‌ أُمورها الداخليّة‌، بينما كان‌ يحلّق‌ في‌ موكب‌ يضمّ ثلاث‌ طائرات‌ (أو ثلاث‌ هليكوبترات‌) متّجهاً إلی منطقة‌ صناعيّة‌ في‌ الهارثة‌، وهوت‌ طائرته‌ المحترقة‌ في‌ منطقة‌ نائية‌ ولم‌ توفّق‌ الطائرتان‌ الاُخرتان‌ علی‌ العثور علی‌ أثر من‌ طائرته‌.

 وأخيراً جاء في‌ اليوم‌ التالي‌ أحد رعاة‌ الاغنام‌ إلی دائرة‌ الشرطة‌ فأبلغ‌ عن‌ كيفيّة‌ ومحلّ سقوط‌ الطائرة‌، ولم‌ يشاهد المسؤولون‌ حين‌ وصلوا محلّ الحادثة‌ من‌ بقايا الطائرة‌ إلاّ أجساداً محترقة‌ متفحّمة‌.

 وآلت‌ الرئاسة‌ بعد هذه‌ الحادثة‌ إلی أخيه‌ عبد الرحمن‌ محمّد الذي‌ لم‌ يحكم‌ إلاّ أقلّ من‌ سنة‌ واحدة‌، فقد وقع‌ انقلاب‌ عسكري‌ّ جاء بحكومة‌ بعثيّة‌ إلی الحكم‌ وأُقصي‌ عبد الرحمن‌ مع‌ عائلته‌، حيث‌ طلب‌ اللجوء السياسي‌ّ من‌ الحكومة‌ التركيّة‌.

 ثمّ لم‌ تنقضِ علی‌ ذلك‌ سنة‌ واحدة‌، حتّي‌ وقع‌ انقسام‌ بين‌ البعثيّين‌ الكبار جاء بالحكومة‌ البعثيّة‌ الثانية‌ التي‌ كان‌ منظّرها رجل‌ نصراني‌ّ يُدعي‌ ميشيل‌ عفلق‌، وشكّلت‌ حكومة‌ لإدارة‌ البلاد برئاسة‌ أحمد حسن‌ البكر.

 الرجوع الي الفهرس

كانت‌ الحرب‌ العراقيّة‌ الظالمة‌ لإسقاط‌ إيران‌ الإسلاميّة‌

 وبعد مرور عدّة‌ سنوات‌ تنحّي‌ أحمد حسن‌ البكر عن‌ السلطة‌ لصالح‌ نائبه‌ وقريبه‌ صدّام‌ حسين‌ التكريتي‌ّ حيث‌ بدأ بعد ذلك‌ فصلٌ جديد في‌ تأريخ‌ العراق‌، وكانت‌ الحكومة‌ الثوريّة‌ الإسلاميّة‌ في‌ إيران‌ قد تأسّست‌ حين‌ ذاك‌، وكان‌ يبدو أنّ تنحّي‌ أحمد حسن‌ البكر ومجي‌ء صدّام‌ ـ الذي‌ كان‌ مظهراً للبطش‌ والخبث‌ وسفك‌ الدماء تمهيداً لإعلان‌ الحرب‌ وشنّ الهجوم‌ الظالم‌ علی‌ الحكومة‌ الإسلاميّة‌ في‌ إيران‌، حيث‌ يمرّ حتّي‌ الآن‌ علی‌ هذه‌ الحرب‌ مدّة‌ ثمان‌ سنوات‌ كان‌ النصر فيها محالفاً للدولة‌ الإسلاميّة‌ وللمجاهدين‌ المسلمين‌، ولا زالت‌ الحرب‌ قائمة‌ وستنتهي‌ إن‌ شاء الله‌ بنصر الاُمّة‌ الإسلاميّة‌ الناهضة‌ في‌ إيران‌ وخسارة‌ الكفر والزندقة‌ والإلحاد العالمي‌ّ.

 تذييل‌ رقم‌ 1: ولا ننسي‌ القول‌ إنّ الهيئة‌ العلميّة‌ للمجاهدين‌ ضدّ القوّات‌ الإنجليزيّة‌ قد فكّرت‌ بعد هزيمتها في‌ منطقة‌ القرنة‌ والعمارة‌ بتجديد قواها من‌ جديد، فاجتمع‌ لهذه‌ الغاية‌ آنذاك‌ المرحوم‌ حجّة‌ الإسلام‌ السيّد مصطفي‌ الكاشاني‌ّ ـ وكان‌ مقيماً في‌ الكاظميّة‌ برفقة‌ علماء آخرين‌ من‌ كربلاء، هم‌ حجّة‌ الإسلام‌ السيّد محمّد علی‌ الطباطبائي‌ّ، والآخوند الملاّ حسين‌ قمشه‌اي‌، و الحاجّ الشيخ‌ جواد الجواهري‌ّ، و الشيخ‌ علی‌ مانع‌، و الحاجّ الشيخ‌ إسحاق‌ ابن‌ آية‌ الله‌ الشيخ‌ حبيب‌ الله‌ الرشتي‌ّ، و الميرزا مهدي‌ الكفائي‌ّ، و الشيخ‌ محمّد الحسين‌ آل‌ كاشف‌ الغطاء وجمع‌ آخر من‌ الاعلام‌ ورجال‌ الدين‌ الافاضل‌ في‌ مدينة‌ الكاظميّة‌ ودعوا الاُمّة‌ إلی الثورة‌ والنهوض‌ من‌ جديد. وكان‌ قد وصل‌ آنذاك‌ إلی بغداد جيشٌ مجهّز من‌ الحكومة‌ المركزيّة‌ في‌ إسطنبول‌، فذهب‌ مع‌ العلماء لحرب‌ طاوزند المقيم‌ في‌ كوت‌ العمارة‌ وتمكّن‌ بعد ستّة‌ أشهر من‌ الحصار من‌ فتح‌ مدينة‌ الكوت‌، وعادت‌ هيئة‌ العلماء من‌ الكاظميّة‌ إلی كربلاء والنجف‌ الاشرف‌.

 الرجوع الي الفهرس

السياسة‌ الإنجليزيّة‌ في‌ أي‌ّ بلد تتمثّل‌ في‌ الدعوة‌ إلی القوميّة‌

 تذييل‌ رقم‌ 2: قام‌ الحلفاء بعد نصرهم‌ علی‌ دول‌ المحور بتجزئة‌ الدولة‌ العثمانيّة‌ وقسّموها إلی تسع‌ عشرة‌ دولة‌ صغيرة‌، وساروا فيها بسياسة‌ التفرقة‌ في‌ العقائد والاخلاق‌ والسنن‌ التي‌ كانت‌ تقوي‌ وتنفذ يوماً بعد آخر، وذلك‌ لمواجهة‌ الوحدة‌ الإسلاميّة‌، ودعوا الناس‌ في‌ هذه‌ النقاط‌ كلاّ علی‌ انفراد إلی اتّباع‌ السنن‌ والطقوس‌ الشعبيّة‌ في‌ مناطقهم‌ وذلك‌ من‌ منطلق‌ حربهم‌ للإسلام‌.

 فقاموا في‌ دولة‌ تركيا باتّباع‌ برنامج‌ سياسي‌ّ ثقافي‌ّ وسعوا في‌ نشر هذا الفكر وتغذيته‌ ـ من‌ خلال‌ الكتب‌ الدراسيّة‌ بأنّ الاُمّة‌ القديمة‌ الاصليّة‌ في‌ آسيا كانت‌ أقوام‌ باسم‌ حَتّ تركوا في‌ شجاعتهم‌ ومآثرهم‌ دروساً لا تنسي‌ لاُمّتهم‌، و علی‌ أفراد الدولة‌ أن‌ يحفظوا أصالة‌ قدمائهم‌ وأجدادهم‌ ويتّبعوا سننهم‌ وآدابهم‌. [89]

 وفي‌ دولة‌ سوريا كانوا يروّجون‌ بأنّ الاقوام‌ الاصليّين‌ للشام‌ ولبنان‌ هم‌ الآراميّون‌ والفينيقيّون‌.

 وقد نشر هؤلاء الآراميّون‌ لآداب‌ حياتهم‌ الخطّ واللغة‌ الآراميّة‌ في‌ أطراف‌ آشور وجنوب‌ لبنان‌. أمّا الفينيقيّون‌ فكانوا يربّون‌ قوماً محاربين‌ في‌ البحار، وكان‌ لهم‌ مساهمة‌ خاصّة‌ في‌ تكميل‌ حروف‌ الهجاء.

 وقد قاتل‌ الجيش‌ الفينيقي‌ّ في‌ البحر مع‌ دولة‌ الروم‌ الغربيّة‌، وفتح‌ سواحل‌ تونس‌ وشمال‌ أفريقيا، وسيطر علی‌ مدينة‌ وميناء كارتاج‌، وكان‌ له‌ التقدّم‌ في‌ الفتوحات‌ الساحليّة‌ حيث‌ أحاط‌ بسواحل‌ أسبانيا والبرتغال‌ وتفرّد بالحكم‌ هناك‌، حتّي‌ وصل‌ به‌ الامر أن‌ يصل‌ الي‌ الساحل‌ الجنوبي‌ّ لجزيرة‌ بريطانيا ويأخذ من‌ أهليها الضرائب‌. فهذه‌ الانتصارات‌ وأعلام‌ الفخر التي‌ يحملها تعود جميعها إلی شعب‌ لبنان‌.

 وكانوا في‌ دولة‌ العراق‌ يقولون‌: أنتم‌ أفضل‌ من‌ جميع‌ الاقوام‌ الاُخري‌، فالآشوريّون‌ كانوا في‌ شجاعتهم‌ وسعيهم‌ لتوسعة‌ البلد وفتح‌ المناطق‌ الاُخري‌ إلی الحدّ الذي‌ كانوا يحكمون‌ فيه‌ علی‌ القوم‌ الآراميّين‌ وقسماً من‌ إيران‌: كردستان‌ ولرستان‌.

 أمّا الاكديّون‌ الذين‌ سبقوا زمن‌ الآشوريّين‌ فقد أسّسوا في‌ مقاطعات‌ وسط‌ العراق‌ قبل‌ غيرهم‌ أوّل‌ دولة‌ في‌ العراق‌. ثمّ بسط‌ بختنصّر نفوذ دولته‌ إلی فلسطين‌ ودمّر مدينة‌ القدس‌ فقتل‌ الرجال‌ وأسر النساء وجاء بهنّ إلی بابل‌ في‌ العراق‌. ثمّ استولي‌ السومريّون‌ علی‌ دولة‌ الاكديّين‌ وواصلوا تقدّمهم‌ وفتوحاتهم‌ حتّي‌ وصلوا منطقة‌ خوزستان‌ وبختياري‌.

 أمّا في‌ دولة‌ إيران‌، فمع‌ أ نّها لم‌ تكن‌ من‌ أجزاء الدولة‌ العثمانيّة‌ المقسّمة‌، فقد كانوا يذكّرون‌ بعصر جمشيد ملك‌ فارس‌، ويخاطبوهم‌: أ نّكم‌ أفضل‌ من‌ غيركم‌ وأمهر، ولقد وصلت‌ فتوحاتكم‌ من‌ فارس‌ إلی بابل‌ وسوريا وشمال‌ العراق‌، ووصلت‌ غرب‌ نهر النيل‌ إلی حدود تونس‌، حيث‌ شكّلت‌ في‌ هذه‌ البلدان‌ دولاً عيّن‌ لها أُمراء محلّيّين‌ يحكمونها، وهي‌ كلّها تابعة‌ لدولة‌ الإمبراطوريّة‌ الإيرانيّة‌. ثمّ إنّ أجدادكم‌ قاموا بنشر القانون‌ الاوّل‌ لحقوق‌ البشر وأوكلوا أمر التجارة‌ والزراعة‌ في‌ كلّ ولاية‌ إلی القاطنين‌ فيها، والذين‌ كانوا يتبعون‌ إدارة‌ الحكومة‌ المركزيّة‌ في‌ شوش‌ القديمة‌.

 كما كان‌ هؤلاء يظهرون‌ لشعوب‌ الحجاز واليمن‌ ومصر بسلسلة‌ تأريخهم‌ المفصّل‌ عظمة‌ وتفوّق‌ قوميّتهم‌ علی‌ جميع‌ أفراد الدنيا وأُممها، ويوحون‌ إلی وجوب‌ اتّباع‌ هذه‌ الآداب‌ والعادات‌ للوصول‌ إلی الرقي‌ّ والتقدّم‌. [90]

 إنّ الشرح‌ والتفصيل‌ سيجرّنا إلی الإطالة‌، فنذكر إجمالاً أنّ الاستعمار كان‌ يبذل‌ ـ كما رأينا قصاري‌ جهده‌ ومساعيه‌ لتحطيم‌ الحكومة‌ الإسلاميّة‌ وتمزيق‌ وحدتها ومركزيّتها، سواء من‌ ناحية‌ المكان‌ والارض‌، أو من‌ ناحية‌ الافكار والافهام‌. ثمّ إنّ الدول‌ الاستعماريّة‌ نصبت‌ علی‌ رأس‌ كلّ واحد من‌ هذه‌ الدول‌ المجزّأة‌ الصغيرة‌ أحد عملائها، وقاموا بالمحافظة‌ علی‌ تسلّطهم‌ علی‌ هذه‌ المراحل‌ بإدارة‌ الاُمور فيها عن‌ طريق‌ المستشارين‌ الاجانب‌ الذين‌ كانوا يرسلونهم‌ للعمل‌ تحت‌ إشراف‌ هؤلاء الرؤساء العملاء. [91]

 وكانت‌ خطوتهم‌ الاُولي‌ هي‌ منح‌ الحرّيّة‌، أي‌ الحرّيّة‌ في‌ العقيدة‌ والمذهب‌ والاخلاق‌، والتي‌ ليست‌ في‌ الحقيقة‌ إلاّ الحرّيّة‌ في‌ السُّكْر والرقص‌ وأعمال‌ الجنس‌ وشيوع‌ الموسيقي‌ وازدياد محلاّت‌ بيع‌ الخمور والمسابح‌ المختلطة‌ ودور السينما المبتذلة‌ والمُفسدة‌ للاخلاق‌، وإشاعة‌ الفساد بواسطة‌ الجرائد والمجلاّت‌، والتغيير الجذري‌ّ للبرامج‌ الثقافيّة‌ للمدارس‌، شروعاً من‌ دور الحضانة‌ وانتهاءً بالجامعات‌، وصياغتها جميعاً علی‌ أساس‌ تربية‌ العبيد ونزع‌ الحميّة‌ والغيرة‌ الإسلاميّة‌، وترويج‌ التدخين‌ والإدمان‌ علی‌ المخدّرات‌ باختلاف‌ أنواعها حتّي‌ لاطفال‌ المدارس‌ وتلاميذها، و علی‌ السخرية‌ من‌ العلماء والفقهاء والعلوم‌ الاصيلة‌، والاجتناب‌ عن‌ العمامة‌ والزي‌ّ الإسـلامي‌ّ، وكانت‌ هـذه‌ الاُمـور جميعاً تنصبّ في‌ جبهة‌ مقابل‌ تعاليم‌ القرآن‌. [92]

 وكان‌ يجري‌ تعيين‌ ميزانيّة‌ خاصّة‌ في‌ البرنامج‌ السياسي‌ّ لهذه‌ الدولة‌ من‌ قبل‌ ملوك‌ ورؤساء الجمهوريّات‌ فتصرف‌ المبالغ‌ الطائلة‌ لإشاعة‌ المنكرات‌ والاُمور الجنسيّة‌ ومحاربة‌ المسائل‌ القرآنيّة‌.

 الرجوع الي الفهرس

عمل‌ المستعمرين‌ يماثل‌ أُسلوب‌ فراعنة‌ مصر مع‌ العبيد في‌ بناء الاهرام‌

 نعم‌، فليس‌ لهذا الاستعمار حقيقة‌ إلاّ الاستعباد بصورته‌ القبيحة‌ المنفورة‌ التي‌ تختفي‌ وراء قناع‌ الإعانات‌ والتقدّم‌ والتنمية‌. وكما يقول‌ غوستاف‌ لوبون‌، فإنّ شموخ‌ قصور لندن‌ وتقدّم‌ تلك‌ المدنيّة‌ هناك‌ وفي‌ سائر الدول‌ المُستعمِرة‌ كان‌ يقوم‌ علی‌ الانقاض‌ والتخريب‌ والنهب‌ والقتل‌ في‌ الدول‌ المستعمَرة‌، ومبني‌ّ علی‌ إتلاف‌ ثرواتها وأخلاقها وشرفها.

 فلقد عُطِّل‌ جهاد صدر الإسلام‌ ذاك‌، وتناست‌ إمبراطوريّتا بني‌ أُميّة‌ وبني‌ العبّاس‌ الكبيرتَين‌ الإسلاميتَين‌ ظاهراً برنامج‌ القرآن‌ القائم‌ علی‌ أساس‌ محاربة‌ الظلم‌ وبسط‌ العدل‌ والإنصاف‌، واستمرّوا في‌ اكتساب‌ الملذّات‌ والتنعّم‌ والاكل‌ والشرب‌ وبنوا قصورهم‌ من‌ أتعاب‌ الآخرين‌.

 ونتيجة‌ لإلقاء الدرس‌ العملي‌ّ للقرآن‌، فقد آلت‌ نوبة‌ الاستعباد إلی السقوط‌ بأيدي‌ هؤلاء الشياطين‌ الذين‌ لا همّ لهم‌ إلاّ الفساد في‌ العالم‌، ولا هدف‌ لهم‌ من‌ الحرب‌ إلاّ توسعة‌ الارض‌ والتمتّع‌ بالذخائر والمعادن‌ علی‌ حساب‌ كدح‌ وجهود الضعفاء واليتامي‌ والارامل‌.

 وتصيبنا الدهشة‌ والحيرة‌ حقّاً حين‌ نقارن‌ ذلك‌ الجهاد الإسلامي‌ّ، وذلك‌ الهدف‌، وذلك‌ القصد، وذلك‌ الإيثار والعدل‌ والإنصاف‌ والاُخوّة‌ والمساواة‌ مع‌ هذه‌ السيطرة‌ علی‌ العالم‌ والاكتشافات‌ والرحلات‌ البحريّة‌ والسيطرة‌ علی‌ الاُمم‌ بالمكر والرشوة‌ ونشر المواد المخدّرة‌ وإسقاط‌ قيمة‌ الاخلاق‌ والفضائل‌ لنيل‌ الحطام‌ الدنيوي‌ّ والحياة‌ الناعمة‌.

 فأين‌ هذا من‌ ذاك‌؟! فهذا يمثّل‌ الانحطاط‌ والدناءة‌ مائة‌ في‌ المائة‌، وذاك‌ يمثّل‌ الشرف‌ والفضيلة‌ مائة‌ في‌ المائة‌.

 إنّ سياسة‌ هؤلاء تقوم‌ علی‌ أساس‌ من‌ الكذب‌ والمكر، في‌ حين‌ تبتني‌ سياسة‌ القرآن‌ علی‌ أساس‌ من‌ الصدق‌ والواقعيّة‌.

 فعلامَ يُحمل‌ احتلال‌ البلاد وتسخير أهلها للعمل‌ في‌ المعامل‌ والاشغال‌ الثقيلة‌ لاستخراج‌ المعادن‌، فلا يحصلون‌ في‌ المقابل‌ حتّي‌ علی‌ قوت‌ لا يموت‌؟ وعَلامَ يُحمل‌ القحط‌ والجوع‌ وإتلاف‌ نفوس‌ الملايين‌ والحرمان‌ من‌ الثقافة‌ والادب‌؟

 نعم‌، فلقد كانت‌ تلك‌ اللقمة‌ ملوّثة‌ بالدماء التي‌ سالت‌ لاجلها، وذاك‌ القصر والبلاط‌ وتلك‌ الحكومة‌ والسلطان‌، وتلك‌ الجامعة‌ والمدرسة‌، وتلك‌ المدينة‌ وذلك‌ الفضاء الذي‌ حُصل‌ علیه‌ من‌ ألقاب‌ وجهود هؤلاء الناس‌ المحرومين‌ بالمكر والخديعة‌، مملوءة‌ بالهواء المتعفّنُ الناقل‌ للاوبئة‌.

 ولقد قال‌ غاندي‌ حين‌ ذهب‌ إلی لندن‌: أعجبُ كيف‌ لم‌ تغرق‌ هذه‌ الجزيرة‌ تحت‌ المياه‌ حتّي‌ الآن‌؟ قيل‌: لماذا؟

 قال‌: لقد خُيِّل‌ لي‌ أنّ الذهب‌ الذي‌ نقلته‌ دولة‌ الإنجليز من‌ الهند إلی هنا قد أثقل‌ هذه‌ الجزيرة‌ بكثرته‌ فأغرقها تحت‌ الماء.

 لقد كان‌ إعمار مدن‌ البلاد الاستعماريّة‌ يقابل‌ تخريب‌ المدن‌ المستعمرة‌، ممّا يذكّرنا بأهرام‌ طغاة‌ مصر وفراعنتها التي‌ شيدت‌ بتلك‌ العظمة‌ والجلال‌ الذي‌ يصعب‌ معه‌ علی‌ البعض‌ أن‌ يصدّق‌ أ نّها من‌ بناء كرتنا الارضيّة‌، فقد جسّدت‌ أتعاب‌ ومحنة‌ ومعاناة‌ ثلاثين‌ ألف‌ عبد قد قاموا بنقل‌ قطعاتها الضخمة‌ الثقيلة‌ من‌ فاصلة‌ ألف‌ كيلومتر ولمدّة‌ ثلاثين‌ سنة‌، وكانوا يتهاوون‌ في‌ الطريق‌ ويموتون‌ فتُدفن‌ أجسادهم‌ بعنوان‌ خدم‌ وحشم‌ في‌ مواضع‌ منخفضة‌ جنب‌ البناء الشامخ‌ للاهرام‌ الذي‌ كان‌ بمثابة‌ مقبرة‌ أُولئك‌ الطغاة‌، ليدافعوا عن‌ جنايات‌ أُولئكم‌ في‌ العالم‌ الآخر.

 نعم‌، لقد كان‌ هذا كلّه‌ دليلاً علی‌ فساد وتعاسة‌ أُولئك‌ الطغاة‌، لا علی‌ جهل‌ الناس‌.

 أفيمكن‌ للعالم‌ نسيان‌ الجرائم‌ والفجائع‌ التي‌ ارتكبتها في‌ التأريخ‌ دولة‌ بلجيكا بحقّ شعب‌ الكونغو المحروم‌ في‌ إجبارهم‌ علی‌ حمل‌ الآلات‌ والمعادن‌ المستخرجة‌؟

 « ولانّ لومومبا المظلوم‌ كان‌ شهماً فضح‌ الاُسلوب‌ الديكتاتوري‌ّ الظالم‌ لبلجيكا حين‌ وقف‌ في‌ عيد استقلال‌ الكونغو يوم‌ الثلاثين‌ من‌ حزيران‌ سنة‌ 1960 م‌ ليقول‌ أمام‌ ملك‌ بلجيكا: إنّ الهديّة‌ الوحيدة‌ التي‌ تفضّلت‌ بها علی‌ شعب‌ الكونغو بلجيكا المسيحيّة‌ المتمدّنة‌، التي‌ تدّعي‌ أ نّها هي‌ التي‌ أوجدت‌ تقدّم‌ وتربية‌ الاقوام‌ المتوحّشة‌ بعد سنين‌ من‌ استخدامها وتسخيرها لنا نحن‌ شعب‌ الكونغو البائس‌، هي‌ الفقر والمرض‌ والجهل‌، إذ لم‌ يتجاوز عدد مثقّفينا المائتي‌ شخص‌ من‌ بين‌ عدّة‌ ملايين‌...

 وكان‌ هؤلاء مشغولين‌ بالرقص‌ والاعمال‌ التافهة‌ الاُخري‌ إلی الحدّ الذي‌ رأي‌ لومومبا حين‌ عاد من‌ أمريكا ـ حسب‌ قول‌ مؤلِّف‌ كتاب‌ « نشاطات‌ وكالة‌ المخابرات‌ المركزيّة‌ الامريكيّة‌ CIA وضع‌ بلده‌ بدرجة‌ من‌ السوء والوخامة‌ والتعاسة‌ بحيث‌ كان‌ يظنّ أنّ الاُمم‌ المتّحدة‌ مشغولة‌ بالتآمر علی‌ بلده‌.

 ولقد اتّهم‌ المستعمرون‌ وعملاؤهم‌ لومومبا ـ المضحّي‌ والحامي‌ لشعبه‌ بالشيوعيّة‌ واعتقلوه‌ وسجنوه‌، ثمّ عذّبوه‌ تعذيباً وحشيّاً حطّموا فيه‌ أصابعه‌، ثمّ قتلوه‌ بأفجع‌ قتلة‌، كي‌ لا يجرؤ لومومبا آخر أن‌ يكرّر خطأه‌ ويتحدّث‌ عن‌ منافع‌ شعبه‌ ». [93]

 إنّ المنطق‌ القرآني‌ّ هو تساوي‌ أفراد البشر علی‌ اختلاف‌ عناصرهم‌ وأعراقهم‌، المثقّفون‌ منهم‌ والاُمّيّون‌، المتوحّشون‌ والمتمدّنون‌، الابيض‌ منهم‌ والاسود؛ فالفضيلة‌ للتقوي‌ فقط‌؛ ولقد كان‌ شعار الإسلام‌ أينما توجّه‌ للجهاد هذه‌ الآية‌:

 يَـ'´أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ'كُم‌ مِّن‌ ذَكَرٍ وَأُنثَي‌' وَجَعَلْنَـ'كُمْ شُعُوبًا وَقَبَآنءِلَ لِتَعَارَفُو´ا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَهِ أَتْقَب'كُمْ. [94]

 وكان‌ يُعلن‌ ذلك‌ لجميع‌ الاُمم‌ المغلوبة‌، فهذه‌ الآية‌ من‌ آيات‌ القرآن‌، ولقد كان‌ الإسلام‌ أينما وضع‌ أقدامه‌ يعطيهم‌ القرآن‌ ويأمرهم‌ بتلاوته‌.

 ولقد توائم‌ الجهاد الإسلامي‌ّ مع‌ الرفق‌ والمحبّة‌ والعطف‌ وإعطاء جميع‌ الامتيازات‌ الإنسانيّة‌ والبشريّة‌ للشعوب‌ المغلوبة‌، بحيث‌ أثار عجب‌ ودهشة‌ حتّي‌ الاجانب‌، ولقد اعترف‌ هؤلاء بأنّ تعاليم‌ أيّة‌ أُمّة‌ ودين‌ لا تقوم‌ علی‌ أساس‌ المحبّة‌ كما هي‌ الحال‌ في‌ الإسلام‌. وقام‌ المسلمون‌ عملاً بإظهار هذه‌ المودّة‌ والرأفة‌ في‌ حروبهم‌، فكانوا يعاملون‌ أسراهم‌ وعبيدهم‌ كمعاملتهم‌ بعضهم‌ البعض‌ الآخر.

 يقول‌ غوستاف‌ لوبون‌: لم‌ يكن‌ انتشار واتّساع‌ الإسلام‌ في‌ الشرق‌ والغرب‌ بالسيف‌ والقوّة‌، بل‌ كان‌ بالاخلاق‌ الفاضلة‌ الإسلاميّة‌ [95] التي‌ تسيطر علی‌ قلوب‌ المسلمين‌ والتي‌ قد فقدت‌ مركزيّتها السياسيّة‌ بالفعل‌.

 ويقول‌ أيضا: غير أنّ أهمّ نتيجة‌ يمكن‌ استنباطها من‌ جميع‌ ما تقدّم‌ هي‌ تأثير القرآن‌ العظيم‌ في‌ الاُمم‌ التي‌ أذعنت‌ لاحكامه‌، فالديانات‌ التي‌ لها ما للإسلام‌ من‌ السلطان‌ علی‌ النفوس‌ قليلة‌ جدّاً.

 وقد لا تجد ديناً اتّفق‌ له‌ ما اتّفق‌ للإسلام‌ من‌ الاثر الدائم‌، والقرآن‌ هو قطب‌ الحياة‌ في‌ الشرق‌، والقرآن‌ هو ما نري‌ أثره‌ في‌ أدقّ شؤون‌ الحياة‌.

 أجل‌، دخلت‌ دولة‌ العرب‌ في‌ ذمّة‌ التأريخ‌، بَيدَ أنّ الدين‌ الذي‌ كان‌ سبباً في‌ قيامها لا يزال‌ ينتشر، ويسيطر ظِلُّ النبي‌ّ من‌ مرقده‌ علی‌ ملايين‌ المؤمنين‌ الذين‌ يسكنون‌ أقطار أفريقيا وآسيا الواقعة‌ بين‌ مراكش‌ والصين‌ والبحر المتوسط‌ وخطّ الاستواء. [96]

 الرجوع الي الفهرس

منطق‌ المستعمرين‌ هو القوّة‌ والاقتدار

استعمار العالم‌ يمثّل‌ نفس‌ قوانين‌ الغاب‌ بصياغة‌ جديدة‌

منطق‌ المستعمرين‌ يعاكس‌ تماماً المنطق‌ القرآني‌ّ

 ولقد عامل‌ المستعمرون‌ ويعاملون‌ سكّان‌ مستعمراتهم‌ معاملة‌ الحيوانات‌، وما أسهل‌ علیهم‌ أن‌ يذبحونهم‌ زرافات‌ زرافات‌ ويقتلونهم‌ ويحرقونهم‌ علی‌ أساس‌ تفوّقهم‌ علیهم‌ وبمنطق‌ القوّة‌ التي‌ يحسبونها ميزاناً لكلّ حقّ وواقعيّة‌.

 يقولون‌: لا نّنا نمتلك‌ القوّة‌ والبندقيّة‌، فنحن‌ نمتلك‌ كلّ شي‌ء، فالحكم‌ والسيادة‌ للاقوي‌.

 ونقول‌: إنّكم‌ إن‌ كنتم‌ تمتلكون‌ القوّة‌ والمهارة‌، وترغبون‌ في‌ الاستفادة‌ من‌ المنابع‌ الطبيعيّة‌ لسائر البلاد والامكنة‌، ف علیكم‌ أوّلاً تحصيل‌ إجازة‌ من‌ أصحابها للورود إليها؛ و علیكم‌ ثانياً أن‌ تعملوا وفق‌ عقد واتّفاق‌ صحيح‌ وعادل‌، فتدفعوا لاصحابها حقّهم‌، وتعملوا علی‌ رفع‌ مستوي‌ البشر فيها، فيرتفع‌ مستواكم‌ أنتم‌ وتعمر قلوبكم‌. لكنّ مجيئكم‌ بالدبّابات‌ والمدافع‌، وبالسفن‌ الحربيّة‌ التي‌ تصبّ الحمم‌، وعبوركم‌ بالقصف‌ الجوّي‌ّ علی‌ أجساد أصحاب‌ البلد الذين‌ كانوا يعيشون‌ تحت‌ ظلّ أشجار الغابة‌ ويقضون‌ عمرهم‌ في‌ قناعة‌، ونهبكم‌ لكدِّهم‌ وحاصل‌ جهودهم‌، وأسركم‌ لجمعهم‌ واستعبادكم‌ لهم‌، ثمّ صرفكم‌ منافعهم‌ وثرواتهم‌ علی‌ ترفكم‌ ونزواتكم‌ التي‌ لا حدّ لها ولا حصر، كلّ هذا أمر خاطي‌ ومُدان‌.

 ولكن‌، أنّي‌ لاُولئك‌ الذين‌ أسكرهم‌ غرورهم‌ وأعمتهم‌ نعرة‌ الجاهليّة‌ والتكبّر أن‌ يصغوا لهذا الكلام‌؟ فهم‌ يؤلّفون‌ الكتب‌، محاولين‌ بأدلّة‌ واهية‌ سخيفة‌ إثبات‌ تفوّق‌ عنصرهم‌ وعرقهم‌ علی‌ سائر العناصر والاعراق‌، فيثبتون‌ علی‌ هذا الاساس‌ أنّ الغلبة‌ حقّ مسلّم‌ لهم‌، وأنّ التبعيّة‌ والمغلوبيّة‌ حقّ طبيعي‌ّ للاُمم‌ الضعيفة‌، ليمنحوا بهذا وجهةً فلسفيّة‌ وعلميّة‌ لجناياتهم‌، ولإثبات‌ إمكان‌ الضغط‌ علی‌ كلّ ضعيف‌ وعاجز حسب‌ ميزان‌ أفضليّة‌ وتفوّق‌ قدرتهم‌ وقوّتهم‌.

 وكم‌ كان‌ بيان‌ الاُستاذ العلاّمة‌ آية‌ الله‌ الطباطبائي‌ّ جميلاً وشافياً حين‌ قال‌:

 كان‌ الإنسان‌ فيما مضي‌ يرمي‌ بالحجر فيقتل‌ به‌ إنساناً، واليوم‌ صار يرمي‌ بقنبلة‌ فيمحـو ويُهلك‌ مدينة‌ هيروشـيما، والإنسـان‌ الذي‌ كان‌ يأسر يوماً إنسـاناً عاجـزاً ضعيفاً فيجعله‌ عبـده‌ ويحصـل‌ من‌ كـدّه‌ وأتعابه‌ علی‌ دراهم‌ معدودة‌، صار اليوم‌ لا يكتفي‌ بملايين‌ العبيد ومليارات‌ الليـرات‌ والدولارات‌ و... [97]

 وقال‌ أيضاً: وكان‌ هناك‌ دوماً قوانين‌ جارية‌ في‌ المجتمعات‌ الإنسانيّة‌، وكلّ ما هنالك‌ أنّ القوانين‌ في‌ المجتمعات‌ غير المتقدّمة‌ كانت‌ تتعيّن‌ تلقائيّاً وسط‌ الاضطرابات‌ لمصلحة‌ الاقوي‌، وكانت‌ تجري‌ في‌ المجتمع‌ وتنفّذ بشكل‌ غير منتظم‌، لكنّها توضع‌ في‌ المجتمعات‌ المتقدّمة‌ الراقية‌ عن‌ رويّة‌ وفكر وتفرض‌ علی‌ الناس‌ وتطبّق‌ وتنفّذ بشكل‌ منتظم‌ نسبيّاً.

 وفي‌ نفس‌ الوقت‌ فإنّ الاعتداءات‌ التي‌ كانت‌ تجري‌ سابقاً بين‌ الافراد الاقوياء والافراد الضعفاء، أو بين‌ الافراد الاقوياء والمجتمعات‌ الضعيفة‌، تجري‌ حالياً بين‌ المجتمعات‌ القويّة‌ والمجتمعات‌ المتخلّفة‌. [98]

 وقال‌ سماحته‌ أيضاً: وحين‌ ندقّق‌ في‌ الامر نلحظ‌ عِياناً أنّ جميع‌ الرذائل‌ الإنسانيّة‌ التي‌ كانت‌ موجودةً في‌ العصور المظلمة‌ السابقة‌ بين‌ الفرد والفرد الآخر، أو بين‌ فرد قوي‌ّ ظالم‌ وبين‌ مجتمعٍ ما، موجودة‌ فعلاً بين‌ المجتمعات‌ القويّة‌ والضعيفة‌، بين‌ مربّي‌ عالم‌ الإنسانيّة‌ والبشر، بين‌ الغربي‌ّ والشرقي‌ّ، بين‌ الابيض‌ والاسود، وبين‌ المثقفين‌ المتنوّرين‌ والمتخلّفين‌.

 فأنواع‌ الظلم‌ والمكر والتزوير والفساد وآلاف‌ البلايا الاُخري‌ التي‌ لا علاج‌ لها، وكانت‌ تجري‌ سابقاً بشكل‌ عشوائي‌ّ غير منظّم‌، تجري‌ اليوم‌ بمنتهي‌ الدقّة‌ ووفق‌ برامج‌ لمائة‌ سنة‌ ولالف‌ سنة‌، وتحصل‌ بشكل‌ مؤثِّر ومنظَّم‌، دافعةً بالإنسانيّة‌ يوماً بعد آخر إلی هاوية‌ الهلاك‌ والفناء.

 فلا يمكن‌ اعتبار أنّ يوم‌ سعادة‌ وحسن‌ حظّ البشر سيأتي‌ علی‌ يد هؤلاء المربّين‌ الاغراب‌، الذين‌ يدّعون‌ أ نّهم‌ أشفق‌ علی‌ الطفل‌ من‌ أُمّه‌ التي‌ أنجبته‌. [99]

 ويمكن‌ استخلاص‌ أُمور هامّة‌ بالتأمّل‌ والتمعّن‌ في‌ المطالب‌ التالية‌، التي‌ نقلت‌ بأجمعها عن‌ أقوال‌ الاجانب‌:

 إنّ إلقاء نظرة‌ واحدة‌ علی‌ الاجزاء الاربعة‌ الضخمة‌ لكتاب‌ الكونت‌ غوبينو حول‌ اختلاف‌ العناصر والاعراق‌ البشريّة‌، تشير إلی مدي‌ الجدّ والسعي‌ الذي‌ بُذل‌ فيها لإظهار اختلاف‌ العناصر بطريقة‌ علميّة‌، حتّي‌ أ نّهم‌ لم‌ يتورّعوا في‌ إثباتهم‌ العلمي‌ّ لهذا المطلب‌ عن‌ الإفراط‌ بالتوسّل‌ بأيّة‌ خرافة‌ ومهزلة‌!

 فحين‌ يعجز السيّد صاموئيل‌ كارت‌ رايت‌ في‌ مقالته‌ عن‌ الإتيان‌ بأي‌ّ دليل‌، فإنّه‌ يتوسّل‌ في‌ إثباته‌ لحيوانيّة‌ السود الاستدلال‌ بشكل‌ شعورهم‌، فيقول‌:

 إنّ ساق‌ كلّ شعرة‌ منهم‌ مغطّاة‌ بما يشبه‌ الفلس‌، شأنها شأن‌ صوف‌ الاغنام‌، فيمكن‌ حياكة‌ شعورهم‌ ببعضها كما يُحاك‌ الصوف‌، وليس‌ الشَّعر الحقيقي‌ّ هكذا... والسود كثيرو القرب‌ من‌ جهة‌ حاسّة‌ الشمّ بالحيوانات‌ الواطئة‌، ويمكنهم‌ أن‌ يميّزوا بيننا بحاسّة‌ الشمّ فقط‌... [100]

 إنّ جميع‌ طغاة‌ وسفّاكي‌ التأريخ‌ هم‌ ظاهراً أو باطناً من‌ أتباع‌ ومستحسني‌ هذا المنطق‌ العلمي‌ّ البرّاق‌، ابتداءً من‌ آتيلاّ ونيرون‌ إلی بسمارك‌ وهتلر، فكلّ هؤلاء يؤيّدون‌ تصريحاً أو تلميحاً المَثَل‌ الإنجليزي‌ّ القائل‌ بأنّ القوّة‌ تعني‌ الحقّ، أو حسب‌ مقولة‌ بسمارك‌: الحقّ يمرّ من‌ فوهة‌ الدبّابة‌.

 ويحاول‌ أدولف‌ هتلر السفّاك‌ العنصري‌ّ المشهور أن‌ يبرّر هذه‌ الخشونة‌ والعنف‌ الوحشي‌ّ تحت‌ غطاء جميل‌ ولطيف‌ الاحترام‌ لقانون‌ الطبيعة‌، فيقول‌:

 إن‌ لم‌ نحترم‌ قانون‌ الطبيعة‌ فنفرض‌ إرادتنا كأقوياء علی‌ الآخرين‌، فسيأتي‌ اليوم‌ الذي‌ ستفترسنا فيه‌ الحيوانات‌ ثانية‌، ثمّ ستلتهم‌ الحشرات‌ تلك‌ الحيوانات‌، ولن‌ يبقَ علی‌ وجه‌ البسيطة‌ إلاّ الجراثيم‌. [101]

 وننقل‌ هناك‌ مقتطفاً من‌ بحث‌ روبرت‌ نوكس‌ [102] حول‌ العناصر البشريّة‌ السوداء، لتتّضح‌ لنا بشكل‌ أفضل‌ المباني‌ العلميّة‌ لاخلاق‌ دعاة‌ العنصريّة‌ وتحكيم‌ القوّة‌، وحري‌ّ بنا قبل‌ نقل‌ كلام‌ نوكس‌ أن‌ نتحدّث‌ عن‌ شخصيّته‌، فذلك‌ ممّا لا يخلو من‌ فائدة‌؛ فهو طبيب‌ إنجليزي‌ّ ومؤسِّس‌ لمدرسة‌ التشريح‌ في‌ أدينبورو.

 وقد تورّط‌ الشخصان‌ اللذان‌ كانا يهيّئان‌ له‌ أجساد الموتي‌ للتشريح‌ في‌ أعمال‌ أبعد من‌ نبش‌ القبور، فارتكبا جنايةً قتلا فيها شخصاً ليجلبا بدنه‌ للتشريح‌، فامتدّت‌ الفضيحة‌ لتنال‌ نوكس‌ أيضاً، ممّا أجبره‌ علی‌ الاستقالة‌.

 وكان‌ قد تجاوز نوكس‌ بعد ذلك‌ حدود علمه‌ الخاصّ المحدود، فقام‌ بإلقاء محاضرات‌ في‌ التشريح‌ العالي‌ [103] الذي‌ يتضمّن‌ مقارنة‌ العناصر البشريّة‌ المختلفة‌، فيميّز الجيّد منها من‌ الردي‌ء. وقد نشر كتابه‌ سنة‌ 1850 م‌ تحت‌ عنوان‌ «العناصر البشريّة‌». والخلاصة‌ التي‌ ننقلها فيما يلي‌ مقتبسة‌ من‌ فصل‌ في‌ كتابه‌ تحت‌ عنوان‌ العناصر البشريّة‌ السوداء، يقول‌ فيه‌:

 لقد كانت‌ القوّة‌ دوماً منذ الادوار الاُولي‌ للتأريخ‌ المدوّن‌ هي‌ التي‌ توجد الحقّ، أو التي‌ يتصوّر أ نّها كذلك‌. و علی‌ أساس‌ هذا الحقّ فقد قام‌ العنصر السلافي‌ّ بتدمير إيطاليا والقضاء علی‌ أشرف‌ فئات‌ البشريّة‌.

 ولقد قمنا؛ بهذا الحقّ؛ بالاستيلاء علی‌ أميركا الشماليّة‌ وأخرجناها من‌ أيدي‌ العناصر المحلِّيّة‌ التي‌ تُعِدُّ أمريكا حقّاً طبيعيّاً لهم‌، وقمنا بإبعادهم‌ إلی الغابات‌ الاُولي‌ التي‌ كانوا فيها وقتلناهم‌ بكلّ سهولة‌ ويُسر. وبناءً علی‌ هذا الحقّ نفسه‌ ـ أي‌ بالقوّة‌ فقد قام‌ أعقابنا من‌ أفراد الولايات‌ المتّحدة‌ بإبعادنا عنها...

 ويتزامن‌ مع‌ كتابتي‌ لهذه‌ الكلمات‌ قيام‌ عنصر السِّلت‌ بإعداد العدّة‌ للسيطرة‌ علی‌ أفريقيا الشماليّة‌ بنفس‌ الحقّ الذي‌ سيطرنا به‌ علی‌ الهند، أي‌ بالقوّة‌ والضغط‌. فالحقّ الطبيعي‌ّ الوحيد يتمثّل‌ في‌ ذلك‌ الضغط‌ الفيزياوي‌ّ...

 وليس‌ لدي‌ّ أدني‌ شكّ في‌ أنّ كبار المسؤولين‌ في‌ إدارة‌ المستعمرات‌ كانوا يفكّرون‌ في‌ هندٍ مماثلة‌ أُخري‌ في‌ أفريقيا المركزيّة‌، والتي‌ يمكن‌ أن‌ تجعل‌ الثروة‌ من‌ حاصل‌ عمل‌ الملايين‌ من‌ الافارقة‌؛ الذين‌ ليسوا في‌ الحقيقة‌ إلاّ عبيداً تنساب‌ إلی صناديق‌ إدارة‌ الهجرة‌. وللاسف‌ الشديد فإنّ المستعمرين‌ الساعين‌ لامتلاك‌ الاراضي‌ والسيطرة‌ علیها قد تدخّل‌ الماء والجوّ في‌ عملهم‌ فأغرق‌ ركّاب‌ السفينة‌ التي‌ أرسلوها لهذا الهدف‌ وحوّل‌ آمالهم‌ هباءً منثوراً.

 و علیه‌، فإنّ العناصر السوداء لم‌ تزل‌ منذ القِدَم‌ عبيداً لاسيادهم‌ المستعبدين‌ البيض‌.

 فلِمَ كان‌ ذلك‌؟ يجيب‌ السيّد غيبون‌ بأُسلوبه‌ الجازم‌ الدائمي‌ّ علی‌ هذا السؤال‌ فيُشير إلی الضِّعة‌ البدنيّة‌ المشهودة‌ لذوي‌ شعر القطط‌...

 ولكنّي‌ اعتقد أ نّه‌ ينبغي‌ وجود نوع‌ من‌ الضِّعة‌ والانحطاط‌ البدني‌ّ الذي‌ يؤدّي‌ّ إلی ضِعة‌ روحيّة‌ في‌ جميع‌ أفراد العناصر السوداء... ويمكن‌ أن‌ لا يكون‌ ذلك‌ عموماً مرتبطاً بنفس‌ مادّة‌ المخّ، بل‌ إنّه‌ يرتبط‌ أكثر بكيفيّة‌ تركيب‌ المخّ. [104]

 هذا هو أُسلوب‌ تفكير الدول‌ الاستعماريّة‌ ومنطقها، ويمكن‌ القول‌ إنّ هؤلاء يمثّلون‌ خطراً عظيماً وجناية‌ علی‌ البشريّة‌. والله‌ وحده‌ يعلم‌ كم‌ من‌ المصائب‌ صُبّت‌ علی‌ إيران‌ في‌ القرنَين‌ الاخيرَين‌ من‌ قبل‌ الروس‌ والإنجليز، ويمكن‌ للراغبين‌ في‌ الاطّلاع‌ مراجعة‌ « تاريخ‌ روابط‌ سياسي‌ إيران‌ وإنگليس‌ در قرن‌ نوزدهم‌ » (= تأريخ‌ العلاقات‌ السياسيّة‌ لإيران‌ وإنجلترا في‌ القرن‌ التاسع‌ عشر) تأليف‌ محمود محمود، وخاصّة‌ الفصول‌ 92 إلی 95 من‌ الجزء الثامن‌.

 الرجوع الي الفهرس

رأي‌ السيّد جمال‌ الدين‌ الاسدآبادي‌ّ في‌ عداء إنجلترا للمسلمين‌

 لقد فغرت‌ جميع‌ الدول‌ الاستعماريّة‌، وخاصّة‌ أمريكا، أفواهها وأعدّت‌ نفسها لابتلاع‌ المسلمين‌ في‌ شهيّة‌ كبيرة‌، فهي‌ الشياطين‌ المفسدة‌ المثيرة‌ للفتن‌، الكُفْرُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. لكن‌ الإنجليز يمتلكون‌ عداءً خاصّاً للإسلام‌، ولقد أزاحت‌ كلمات‌ وخطب‌ وكتابات‌ السيّد جمال‌ الدين‌ الاسدآبادي‌ّ الستار عن‌ هذا الامر، فقد جاء في‌ كتاب‌ « سير در انديشه‌ سياسي‌ عرب‌ » (= جولة‌ في‌ الفكر السياسي‌ّ العربي‌ّ):

 أنّ السيّد لا يعتبر إنجلترا القدرة‌ الاستعماريّة‌ الوحيدة‌ فقط‌، بل‌ يعدّها العدوّ اللدود الصلب‌ للمسلمين‌، ويعتقد أنّ هدف‌ إنجلترا في‌ إفناء الإسلام‌؛ وكتب‌ مرّة‌ يقول‌:

 إنَّ عَدَاءَ إنْجِلْتَرَا لِلْمُسْلِمِينَ يَكْمُنُ فِي‌ اتِّبَاعِهِمْ لِدِينِهُمُ الإسْلاَمِي‌ِّ، فَهِي‌َ تَسْعَي‌ دَوْماً بِمُخْتَلَفِ الحِيَلِ لِتَسْتَوْلِي‌ عَلَی‌ جُزْءٍ مِنَ الاَرَاضِي‌ الإسْلاَمِيَّةِ فَتُعْطِيهَا لاِمَمٍ أُخْرَي‌ مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِينَ، لَكَأَنَّ انْكِسَـارَ وَسُـوءَ طَالِـعِ أَهْـلِ الدِّينِ يُثْلِجُ فُؤَادَهَا، فَهِي‌َ تَسْـعَي‌ إلَي‌ سَـعَادَتِهَا فِي‌ إذْلاَلِهِمْ وَإفْنَاءِ وَمَحْوِ كُلِّ مُقَدَّرَاتِهِمْ وَثَرْوَاتِهِمْ. [105]

 وكان‌ يعتبر اعتداءات‌ فرنسا علی‌ تونس‌ نتيجة‌ مباشرة‌ لسياسة‌ التوسّع‌ الإنجليزيّة‌ في‌ البحر المتوسّط‌. [106]

 وكان‌ من‌ نتائج‌ نظرته‌ المعادية‌ للإنجليز أن‌ مال‌ إلی اعتبار الإسلام‌ دين‌ الحـرب‌ والجهـاد، لذا فقد كان‌ يؤكّـد كثيـراً علی‌ فريضـة‌ الجهـاد، فلم‌ يكن‌ للمسلمين‌ أمام‌ حكومة‌ عازمة‌ علی‌ إفناء الإسلام‌ إلاّ اللجوء إلی القوّة‌، لذا فقد كان‌ يُهاجم‌ بعنف‌ جميع‌ القادة‌ الدينيّين‌ المسلمين‌ الذين‌ كانوا يمنحون‌ تعاليم‌ الإسلام‌ وجهاً مسالماً يميل‌ إلی الصلح‌ والسلام‌ والدعة‌. [107]

 و علیه‌، فقد كان‌ السيّد يمتدح‌ التعصّب‌ الديني‌ّ، لا نّه‌ كان‌ يعدّه‌ رأسمال‌ وحدة‌ وفخر كلّ قوم‌ في‌ الدفاع‌ عن‌ حقّهم‌، وكان‌ يُهاجم‌ أُولئك‌ الذين‌ يعتبرونه‌ عائقاً أمام‌ تقدّم‌ أهل‌ الدين‌ باتّجاه‌ المدنيّة‌ الجديدة‌، لكنّه‌ كان‌ يقول‌ في‌ نفس‌ الوقت‌: إنّ التعصّب‌ صفةٌ كباقي‌ الصفات‌ الإنسانيّة‌ لها حدّ معتدل‌ ولها إفراط‌ وتفريط‌، فإن‌ روعي‌ فيها المحافظة‌ علی‌ الاعتدال‌ عُدَّت‌ من‌ الصفات‌ الحميدة‌، وإلاّ صارت‌ من‌ الصفات‌ الذميمة‌.

 و علی‌ أيّة‌ حال‌، فإنّ التعصّب‌ الديني‌ّ لا يختلف‌ عن‌ التعصّب‌ العنصري‌ّ عدا أ نّه‌ أنزه‌ منه‌ وأقدس‌ وأكثر نفعاً وفائدة‌، ولكن‌ كيف‌ يُمتدح‌ التعصّب‌ العنصري‌ّ باسم‌ الوطنيّة‌ في‌ حين‌ يعدّ التعصّب‌ الديني‌ّ عيباً؟! [108]

 ومن‌ الجلي‌ّ أنّ الاُوروبّيّين‌ حين‌ يرون‌ أنّ العقيدة‌ الدينيّة‌ للمسلمين‌ هي‌ أقوي‌ الروابط‌ بينهم‌، يسعون‌ لإضعاف‌ هذه‌ الرابطة‌ باسم‌ مخالفة‌ التعصّب‌، لكنّهم‌ يقعون‌ أسري‌ التعصّب‌ الديني‌ّ أكثر من‌ أيّة‌ جماعة‌ ودين‌، فيتكلّم‌ رجل‌ متحرّر مثل‌ غلادستون‌ رئيس‌ وزراء إنجلترا فيدافع‌ بتعصّب‌ عن‌ المسيحيّة‌ وخاصّة‌ في‌ مقابل‌ الإسلام‌ مع‌ أ نّه‌ لم‌ يكن‌ متديّناً عملاً، وكأنّ كلّ كلام‌ قاله‌ بشأن‌ الإسلام‌ ترجمة‌ لروح‌ بطرس‌ الراهب‌، أي‌ إظهارٌ لروح‌ الحروب‌ الصليبيّة‌. [109]

 ولهذا السبب‌ فقد كان‌ السيّد جمال‌ الدين‌ يعتبر القرآن‌ الكريم‌ هو الكتاب‌ الوحيد الباعث‌ للحياة‌ في‌ عالَم‌ الإنسانيّة‌، ويعدّ ضعف‌ المسلمين‌ وذلّهم‌ راجعاً إلی ضعف‌ عملهم‌ بالقرآن‌، وأنّ السبيل‌ الوحيد لهم‌ في‌ النجاة‌ والقوّة‌ والحياة‌ من‌ جديد ينحصر في‌ الرجوع‌ إلی هذا القرآن‌العمل‌ به‌.

 الرجوع الي الفهرس

خطبة‌ السيّد جمال‌ الدين‌ في‌ مصر حول‌ عظمة‌ القرآن‌

 يقول‌ في‌ كتاب‌ « شـرح‌ حـال‌ وآثار سـيّد جمال‌ الدين‌ أسـد آبادي‌ » (= ترجمة‌ حياة‌ ومؤلّفات‌ السيّد جمال‌ الدين‌ الاسدآبادي‌ّ):

 ويذهب‌ السيّد إلی مصر ثانيةً فيتوقّف‌ فيها عشر سنين‌ يربّي‌ تلاميذه‌ ويشتغل‌ بالتدريس‌ والبحث‌ وإلقاء الخطب‌، ومن‌ جملتها خطبته‌ المشهورة‌ في‌ مسـألة‌ الرجـوع‌ إلی القرآن‌، وهي‌ خطـبة‌ غرّاء بالعربيّة‌، نوردها فيما يلي‌:

 إلهي‌! قولك‌: وَالَّذِينَ جَـ'هَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. [110]

 وكلامك‌ الحقّ المحض‌! ولانّ دعوتي‌ واستجابة‌ هذه‌ النفوس‌ الزكيّة‌ كان‌ خالصاً مخلصاً لوجهك‌ الكريم‌، فأهدنا بموجب‌ قولك‌ الحقّ إلی سبيل‌ الهداية‌ والرشاد.

 أيّها السادة‌! إنّ القرآن‌ هو المدينة‌ الفاضلة‌ الإنسانيّة‌، والصراط‌ المستقيم‌ للسعادة‌ البشريّة‌. إنّ جلال‌ الدستور المقدّس‌ الذي‌ يمثّل‌ خلاصة‌ سموّ ورفعة‌ جميع‌ أديان‌ العالم‌ الحقّة‌، والبرهان‌ القاطع‌ للخاتميّة‌ المطلقة‌ للدين‌ الإسلامي‌ّ إلی يوم‌ القيامة‌، وضمان‌ سعادة‌ الدارين‌ وفوز النشأتين‌، آهٍ، آهٍ، صار من‌ فرط‌ الغفلة‌ مهجوراً.

 إنّ جلال‌ وعزّة‌ الدستور المقدّس‌ الذي‌ وصل‌ العالم‌ القديم‌ والدنيا الحديثة‌ مع‌ تلك‌ الحقارة‌ بشرارة‌ طفيفة‌ من‌ قبسات‌ أنواره‌ المضيئة‌ إلی هذه‌ المدنيّة‌، آهاً، آهاً، صارت‌ فوائده‌ اليوم‌ تنحصر في‌ الاُمور التالية‌:

 التلاوة‌ علی‌ القبور ليالي‌ الجمعة‌، مشغلة‌ للصائمين‌، متروكات‌ المساجد، كفّارة‌ الذنوب‌، أُلعوبة‌ الكتاتيب‌، للوقاية‌ من‌ الحسد، اليمين‌ الكاذبة‌، رأسمال‌ الاستجداء، زينة‌ قماط‌ الطفل‌، قلادة‌ العروس‌، تميمة‌ عضد الخبّاز أو في‌ عنق‌ الاطفال‌، حرز حفظ‌ المسافرين‌، سلاح‌ علاج‌ المصروعين‌، زينة‌ الاحتفالات‌ وفي‌ حجلة‌ العروس‌، مقدّمة‌ نقل‌ أثاث‌ البيت‌، حرز محلّ ألعاب‌ القوي‌ (زورخانه‌)، في‌ أمتعة‌ التجارة‌ لروسيا والهند، رأسمال‌ الكتبيّين‌، رأسمال‌ استجداء المتسوّلين‌ من‌ النساء والرجال‌ في‌ المعابر والطرقات‌.

 آهٍ، وا أسفاه‌! فسورة‌ والعصر كانت‌ لوحدها ـ مع‌ عدم‌ احتوائها علی‌ أكثر من‌ ثلاث‌ آيات‌ أساس‌ نهضة‌ جماعة‌ أصحاب‌ الصُّفّة‌ الذين‌ حوّلوا بالفيض‌ المقدّس‌ لهذه‌ السورة‌ المختصرة‌، محلّ أصنام‌ مكّة‌ الذي‌ كان‌ مرتعاً للشِّرك‌ قبل‌ الهجرة‌ إلی بستان‌ للتوحيد وبيت‌ للّه‌ في‌ بطحاء مكّة‌.

 آهٍ، وا لهفاه‌! هذا الكتاب‌ السماوي‌ّ المقدّس‌، وهذا التصنيف‌ العزيز للحضرة‌ السبحانيّة‌، وهذا الاساس‌ لكلّ السعادات‌ الإنسانيّة‌، لم‌ يعد يحظي‌ اليوم‌ بالاهتمـام‌ إلاّ أقـلّ من‌ « ديـوان‌ سـعدي‌ » وحافـظ‌ و « المثنـوي‌ » وابن‌ الفارض‌.

 و علی‌ العكس‌ من‌ ذلك‌، فحين‌ تقرأ إحدي‌ المقطوعات‌ الشعريّة‌ في‌ جمع‌ وحفلٍ ما فإنّ الآهات‌ تتصاعد من‌ أعماق‌ القلوب‌، والعيون‌ والآذان‌ والافواه‌ تفتح‌ وتصغي‌ وتفغر لسماعها، وكم‌ هو الامر معكوس‌ بالنسبة‌ للقرآن‌ والذي‌ لن‌ يزاحم‌ أبداً في‌ أي‌ّ مكان‌ ثرثرة‌ أحد أو عمله‌ أو تفكيره‌.

 إي‌ وَحَقِّكَ، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ! أَنْتَ القَائِلُ وَقَوْلُكَ حَقُّ: «نَسُوا اللَهَ فَأَنسَب'هُمْ أَنفُسَهُمْ». [111]

 سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَقَوْلُكَ حَقُّ: «إِنَّ اللَهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّي‌' يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ». [112]

 عَلَيْكُمْ بِذِكْرِ اللَهِ الاَعْظَمِ وَبُرْهَانِهِ الاَقْوَمِ؛ فَإنَّهُ نُورُهُ المُشْرِقُ الَّذِي‌ بِهِ يُخْرَجُ مِنْ ظُلُمَاتِ الهَوَاجِسِ وَيُتَخَلَّصُ مِنْ عَتَمَةِ الوَسَاوِسِ وَهُوَ مِصْبَاحُ النَّجَاةِ. مَنِ اهْتَدَي‌ بِهَا نَجَي‌ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ. وَهُوَ صِرَاطُ اللَهِ القَوِيمُ. مَنْ سَلَكَهُ هُدِيَ، وَمَنْ أَهْمَلَهُ هَوَي‌.

 عَلَيْكُمْ بِالفَوْزِ مِمَّا انْتَثَرَ مِنْ لَئَالِي‌ مَقَالاَتِ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، لِقَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَهِ عَلَی‌ قائِلِهِ:

 إذَا أَرَادَ اللَهُ بِقَوْمٍ سُوءاً قَلَّ فِيهِمُ العَمَلُ؛ وَكَثُرَ فِيهِمُ الجَلاَلُ.

 وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ثَلاَثٌ لاَ يَغِلُّ قَلْبُ امْرِي‌ٍ مُسْلِمٍ: إخْلاَصُ العَمَلِ فِيهِ، وَالنَّصِيحَةُ لاُمَرَاءِ المُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ.

 المُسْلِمُونَ تَكَافَؤُ دِمَاؤُهُمْ أَدنَاهُمْ؛ يَسْعَي‌ بِذِمَّتِهِمْ مَنْ وَالاَهُمْ؛ وَهُمْ يَدٌ عَلَی‌ مَنْ سِوَاهُمْ.

 وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لاَ يَزَالُ الاَمْرُ فِي‌ أُمَّتِي‌ مَا لَمْ يَتَخَلَّقُوا بِأَخْلاَقِ الفُرْسِ. وَأَشْبَاهُ هَذِهِ الغُرَرِ الزَّاهِرَةِ الَّتِي‌ تَضْمَنُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا سَعَادَةَ الاُمَمِ كُلِّهَا. وَالسَّلاَمُ عَلَيْكُم‌ وَرَحْمَةُ اللَهِ وَبَرَكَاتُهُ.

 الرجوع الي الفهرس

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[85] ـ يقول‌ في‌ المعجم‌ اللغوي‌ّ الفارسي‌ّ «لغت‌ نامه‌ دهخدا» ما ترجمته‌: تُطلق‌ كلمة‌ الحلفاء في‌ الحرب‌ العالميّة‌ الاولي‌ والثانية‌ علی‌ دول‌ انجلترا وفرنسا وأمريكا والدول‌ الاُخري‌ التي‌ حاربت‌ ألمانيا وحلفاءها، مقابل‌ المتّحدين‌ في‌ الحرب‌ العالميّة‌ الاُولي‌، ودول‌ المحور في‌ الثانية‌.

[86] ـ قال‌ أحمد أمين‌ المصري‌ّ في‌ كتاب‌ «يوم‌ الاءسلام‌» ص‌ 147 و 148:

 ولمّا قامت‌ الحرب‌ العالميّة‌ الاُولي‌ أحسّت‌ أُوروبّا بالقلق‌ واحتمال‌ الهزيمة‌، فاستنصرت‌ بالمبادي‌ الاءنسانيّة‌ الاخلاقيّة‌ القويمة‌، من‌ مثل‌ حقّ الاُمم‌ الصغيرة‌ في‌ حكم‌ نفسها بنفسها وإطلاق‌ حرّيّتها ونحو ذلك‌. وصرّحت‌ عشرات‌ التصريحات‌ في‌ هذا المعني‌، فاعتقد العالَم‌ الاءسلامي‌ّ صحّة‌ هذه‌ الاقوال‌ ومنّوا أنفسهم‌ أماني‌ بعيدة‌، وتداول‌ المسلمون‌ في‌ جميع‌ الاقطار هذه‌ الاقوال‌ بل‌ حفظوها حفظاً، فلمّا انعقد مؤتمر فرسايل‌ تبخّرت‌ كلّ هذه‌ الاقوال‌ وعاد الاُوروبّيّون‌ إلی مسلكهم‌ الاوّل‌، وانفجر العالَم‌ الاءسلامي‌ّ في‌ كلّ مكان‌، واشتعلت‌ الثورة‌ في‌ مصر وفي‌ طرابلس‌ وفي‌ المغرب‌ وفي‌ الهند، تطلب‌ كلّها إبرار الاُوروبّيّون‌ بوعودهم‌، وافتتح‌ العالَم‌ الاءسلامي‌ّ عهداً جديداً، عهداً مؤسَّساً علی‌ خيبة‌ الامل‌ والانخداع‌ بالوعود الاُوروبّيّة‌، ممّا حمل‌ الاُوروبّيّين‌ علی‌ أن‌ يغيّروا موقفهم‌ تجاه‌ هذه‌ الحركات‌ العنيفة‌، فغيّروا كلمة‌ الاستعمار بكلمة‌ الانتداب‌ ومنحوا بعض‌ الاقطار الاستقلال‌ كاملاً أو ناقصاً، و علی‌ العموم‌ فقد خطت‌ البلاد الاءسلاميّة‌ خطوة‌ جديدة‌ لم‌ تكن‌ معروفة‌ للعالم‌ الاُوروبّي‌ّ من‌ قبل‌.

 ولمّا جاءت‌ الحرب‌ العالميّة‌ الثانية‌ تكرّرت‌ نفس‌ المأساة‌، فكان‌ بعض‌ العقلاء يرون‌ أنّ وعود الاُوروبّيّين‌ والامريكيّين‌ وعود خلاّبة‌ لا تثبت‌ في‌ السلم‌، وأنّ السلم‌ إذا جاء يبخّرها، ولكن‌ أكثر الشعوب‌ الاءسلاميّة‌ انخدع‌ في‌ المرّة‌ الثانية‌ كما انخدع‌ في‌ المرة‌ الاُولي‌، وإذا كانت‌ الشعوب‌ الاءسلاميّة‌ قد لُدِغت‌ مرّة‌ من‌ قبل‌ فإنّها لم‌ تتأ لّم‌ من‌ اللدغة‌ الثانية‌ تأ لّمها من‌ اللدغة‌ الاُولي‌ ولكن‌ ظلّ حنقها كميناً.

[87] ـ كان‌ السيّد محمّد سعيد الحبّوبي‌ّ آيةً عظيمة‌ وحجّةً قويمة‌، وهو من‌ أعاظم‌ تلامذة‌ آية‌ الله‌ الاعظم‌ الآخوند الملاّ حسين‌ قلي‌ الهمداني‌ّ في‌ التوحيد والعرفان‌. وقد ذكر ترجمته‌ وشـرح‌ حاله‌ الشـيخ‌ أغا بزرگ‌ الطهراني‌ّ في‌ «أعلام‌ الشـيعة‌» وذكـره‌ الآخـرون‌ في‌ التراجم‌.

[88] ـ أورد المحدِّث‌ والمؤرِّخ‌ العظيم‌ الحاجّ الشيخ‌ ذبيح‌ الله‌ المحلاّتي‌ّ في‌ «تأريخ‌ سامرّاء» ج‌ 2، ص‌ 91 إلی 98، مطالب‌ مهمّة‌ عن‌ الثورة‌ والنهضة‌ في‌ العراق‌ ودور المجتهد الكبير الميرزا محمّد تقي‌ الشيرازي‌ّ أ علی‌ الله‌ مقامه‌ في‌ الثورة‌ واستقلال‌ العراق‌ من‌ أيادي‌ الاستعمار الاءنجليزي‌ّ؛ تجدر مطالعتها.

[89] ـ يقول‌ أحمد أمين‌ المصري‌ّ في‌ كتاب‌ «يوم‌ الاءسلام‌» ص‌ 150 و 151: لقد نفخ‌ مصطفي‌ كمال‌ في‌ الاُمّة‌ روحاً جديدة‌ ترمي‌ إلی الاعتزاز بقوميّتهم‌ بدل‌ الاعتزاز بدينهم‌، وبثّ في‌ قومه‌ العزّة‌ والافتخار بوصفهم‌ أحفاد الطورانيّين‌، كما كان‌ بعض‌ الدعاة‌ في‌ مصر يدعون‌ للاعتزاز بأ نّهم‌ أحفاد الفراعنة‌. وأيّد الفكرة‌ الضعيفة‌ التي‌ قال‌ بها بعض‌ علماء قليلين‌ من‌ الاُوروبّيّين‌ التي‌ تذهب‌ إلی أنّ لغة‌ السومريّين‌ ـ منشأ الحضارة‌ البابليّة‌ القديمة‌ كانت‌ ذات‌ صلة‌ بالتركيّة‌ والقائلة‌ بأنّ اكتشافات‌ حدثت‌ في‌ الاناضول‌ تدلّ علی‌ أنّ شعوب‌ آسيا الصغري‌ اقتبست‌ من‌ حضارة‌ الحيثيّين‌ التي‌ أخذت‌ من‌ البابليّين‌ ثمّ أخذتها شعوب‌ آسيا الصغري‌ وعنها أخذ الجنس‌ الاُوروبّي‌ّ، فأصل‌ الحضارات‌ كلّها إذن‌ في‌ زعمهم‌ هي‌ الحضارة‌ التركيّة‌.

 ثمّ قام‌ مصطفي‌ كمال‌ بتصفية‌ اللغة‌ التركيّة‌ من‌ كثير من‌ الكلمات‌ العربيّة‌ والفارسيّة‌ وبحث‌ مكانها عن‌ كلمات‌ طورانيّة‌ قديمة‌، حتّي‌ الاعلام‌ مثل‌ مصطفي‌ كمال‌ غُيرّت‌ بكلمات‌ أُخري‌ مثل‌ أتاتورك‌. وفي‌ سنة‌ 1928 م‌ دعا مصطفي‌ كمال‌ مؤلِّفاً موسيقيّاً نمسويّاً للتدريس‌ في‌ المعهد الموسيقي‌ّ باستنبول‌ لاءدخال‌ العنصر الاُوروبّي‌ّ في‌ الموسيقي‌ علی‌ العنصر التركي‌ّ.

[90] ـ كانت‌ المصادر التي‌ اعتمد علیها المؤرّخ‌ المذكور هي‌: «الحرب‌ العامّة‌ الاُولي‌ والثانية‌»، «خاطرات‌ مصطفي‌ كمال‌»، «قيام‌ عبد القادر بن‌ عبد الكريم‌ الجزائري‌ّ»، «سعد زغلول‌ باشا»، مجلّة‌ «المختار»، «النظرات‌» للشيخ‌ محمّد عبده‌، «العروة‌ الوثقي‌» للسيّد جمال‌ الدين‌ الاسدآبادي‌ّ، «تاريخ‌ الدولة‌ الصفويّة‌»، «قيام‌ مصطفي‌ أتاتورك‌»، «تمدّن‌ اسلام‌» غوستاف‌ لوبون‌، «كلّيّات‌ تاريخ‌ تمدّن‌ جديد» لعبّاس‌ إقبال‌ آشتياني‌، «تاريخ‌ روابط‌ سياسي‌ إنگليس‌ وإيران‌ در قرن‌ نوزدهم‌» تأليف‌ محمود محمود، ومشاهداته‌ في‌ ثورة‌ الشعب‌ الاءيراني‌ّ الشريف‌ في‌ العهد الاءسلامي‌ّ الجديد.

 ويقول‌ أحمد أمين‌ المصري‌ّ في‌ كتاب‌ «يوم‌ الاءسلام‌» ص‌ 95: وأمّا التفرّق‌ باختلاف‌ اللغة‌ والجنس‌ والوطن‌، فله‌ في‌ العصر الحاضر دعاة‌ من‌ المتفرنجين‌ هم‌ أشدّ آفة‌ من‌ دعاة‌ التفرقة‌ للمذاهب‌، فمنهم‌ من‌ يفتخر بالفراعنة‌ ومنهم‌ يفتخر بالفينيقيّين‌. وقد كان‌ هذا الخلاف‌ يُقبل‌ ويُحتمل‌ لو صحبته‌ الحرّيّة‌ والتسامح‌ ولكن‌ مُني‌ قوم‌ بالعصبيّة‌ فتعصّبوا لفرقتهم‌ ضدّ غيرهم‌ وأباحوا لانفسهم‌ ما لم‌ يُبيحوا لغيرهم‌، فكان‌ الخلاف‌ سبباً للنزاع‌ والفرقة‌.

[91] ـ قام‌ الاخوان‌ أُميدوار: عيسي‌ وعبد الله‌ في‌ زمننا هذا بسفر إلی دول‌ العالم‌ طافا فيه‌ علی‌ ما يزيد من‌ 84 دولة‌ وأ لّفا كتاباً حول‌ مشاهداتهما باسم‌ «سفرنامة‌ برادران‌ اميدوار» (= قصّة‌ رحلة‌ الاخوَينِ أُميدوار)؛ فكتبا في‌ ص‌ 436 ضمن‌ تعريفها لاوضاع‌ زنجبار:

 لقد اتّبع‌ الاءنجليز بعد تسلّطهم‌ علی‌ الاراضي‌ الافريقيّة‌ سياسة‌ خاصّة‌ هناك‌ لم‌ يحيدوا عنها ولم‌ يجدوا مناصاً عنها، فقد قسّموا هذه‌ الاراضي‌ إلی قطع‌ مختلفة‌ حسب‌ حدود أراضي‌ القبائل‌، ليمكنهـم‌ تركيـز قوّاتهم‌ بشـكل‌ أفضـل‌ وضمان‌ المحافظة‌ علی‌ سـلطتهم‌، وإذا حدث‌ أن‌ فقدوا أحد الامرين‌ حافظوا علی‌ الآخر، و علیه‌ فقد قاموا بتعيين‌ حاكم‌ في‌ كلّ منطقة‌، وشـكّلوا في‌ كلّ منطـقة‌ من‌ مناطق‌ الحكم‌ نظـاماً خاصّـاً جديداً. وقد منح‌ الاءنجليز هذه‌ القبائل‌، وخاصّة‌ رؤساءها نفوذاً وقدرة‌ أكبر ليصلوا من‌ خلال‌ ذلك‌ إلی تنفيذ مآربهم‌.

 وفي‌ ص‌ 447 عرض‌ الاخَوَان‌ صورة‌ لهما مع‌ سلطان‌ زنجبار ورجل‌ إنجليزي‌ّ، وكتبا أسفلها:

 خلال‌ لقائنا بسلطان‌ زنجبار لم‌ يدعنا المشاور الاءنجليزي‌ّ ـ الذي‌ هو في‌ الحقيقة‌ المسيّر لجميع‌ أُمور الجزيرة‌ أن‌ نبقي‌ مع‌ السلطان‌ لوحدنا ولو لحظةً واحدة‌!

 وكتبا في‌ ص‌ 535 حين‌ دخلا جمهوريّة‌ مالي‌ بدون‌ تصريح‌ في‌ جواز سفرهما: يا للحسرة‌! فليس‌ في‌ إمكاننا هنا بيان‌ الوضع‌ السياسي‌ّ والجغرافي‌ّ لهذا الجزء من‌ أفريقيا للقرّاء، وكلّ ما نقوله‌ إنّ الجزء قد قسّم‌ بشكل‌ يبعث‌ علی‌ السخرية‌، ولقد قامت‌ في‌ كلّ نقطة‌ منه‌ حكومة‌ مستقلّة‌ ويحصل‌ أن‌ تنهض‌ القبائل‌ الصغيرة‌ لتطالب‌ باستقلالها فلا تعمل‌ شيئاً ذا جدوي‌ لتحصل‌ علی‌ حرّيّتها. ولقد أصبحنا في‌ هذه‌ البلوي‌ والفتنة‌ ـ نحن‌ اللذان‌ لم‌ يكن‌ لنا من‌ هدف‌ سوي‌ السياحة‌ والطواف‌ حول‌ العالم‌ ضحيّة‌ الاوضاع‌ السيّئة‌ لهذه‌ الديار، وصرنا أشبه‌ بكرة‌ القدم‌، كلّما قربنا من‌ أحد الاهداف‌ تقاذفونا هنا وهناك‌.

[92] ـ يقول‌ الرجل‌ الواعي‌ والمحقّق‌ الاءسلامي‌ّ آية‌ الله‌ الحاجّ الشيخ‌ محمّد الحسين‌ كاشف‌ الغطاء، الذي‌ له‌ الحقّ العظيم‌ علی‌ الاءسلام‌ والمسلمين‌ في‌ خطاباته‌ في‌ المؤتمرات‌ الاءسلاميّة‌ وفي‌ قلمه‌ القاطع‌ الصريح‌ الجميل‌ في‌ بيانه‌ للمطالب‌ المفيدة‌، يقول‌ في‌ أشعار له‌ نقلها آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد محمّد علی‌ القاضي‌ الطباطبائي‌ّ في‌ مقدّمة‌ كتاب‌ «جنّة‌ المأوي‌» أحد تأليفات‌ الشيخ‌ كاشف‌ الغطاء، ضمن‌ ت علیقه‌ علیه‌، ص‌ 44، الطبعة‌ الاُولي‌:

 قَضَيْتُ شَبِيبَتِي‌ وَبَذَلْتُ جُهْدِي                         ‌ فَلَمْ تَكُنِ الحَيَاةُ كَمَا أُرِيدُ

 إلَي‌ كَمْ أَسْتَحِثُّ النَّفْسَ عَزْمَاً                         وَكَمْ أَسْعَي‌ وَغَيْرِي‌ يَسْتَفِيدُ

 نَهَضْتُ فَقِيلَ أَيُّ فَتَيً فَلَمَّا                              خَبَرْتُ القَوْمَ أَعْجَبَنِي‌ القُعُودُ

 وَإنِّي‌ بَعْدُ مُجْهِدَةٌ وَقَوْمِي‌                                كَضَارِبَةٍ وَقَدْ بَرَدَ الحَدِيدُ

 وَحِيدٌ بَيْنَهُمْ وَلَعَلَّ يَوْماً                      عَصِيباً فِيهِ يُفْتَقَدُ الوَحِيدُ

 لَنَا فِي‌ا لشَّرْقِ أَوْطَانٌ وَلَكِنْ          تَضِيقُ بِنَا كَمَا ضَاقَتْ لُحُودُ

 نُقِيمُ بِهَا عَلَی‌ ذُلٍّ وَفَقْرٍ                    وَنَظْماً لاَ يَسُوغُ لَنَا الوُرُودُ

 أَكَاذِيبُ السِّيَاسَةِ بَيِّنَاتٍ                  تَكِيدُ بِهَا الحُكُومَةُ مَا تَكِيدُ

 وَعُودٌ كُلَّهَا كِذْبٌ وَزُورٌ                        فَكَمْ وَإلَي‌ مَ تَخْدَعُنَا الوُعُودُ

 إذَا مَا المُلْكُ شِيدَ عَلَی‌ خِدَاعٍ                          فَلاَ يَبقَي‌ الخِدَاعُ وَلاَ المَشِيدُ

 وَمَنْ لَمْ يَتَّخِذْ مُلْكاً صَحِيحاً                               فَلاَ تُغْنِي‌ الجُيُوشُ وَلاَ البُنُودُ

 ويصحّ أن‌ نقول‌ هنا إنّ الاشعار المذكورة‌ من‌ التنبّؤات‌ التي‌ تبصِّر الاءنسان‌ ـ شأن‌ أقوال‌ الانبياء بواقع‌ أمره‌ وبأضرار التقاعس‌ والتثاقل‌ أمام‌ الاستعمار الاجنبي‌ّ. وقد نادي‌ صريحاً في‌ الاشعار التالية‌ بعلّة‌ وسبب‌ ذلّة‌ الاءسلام‌ والمسلمين‌:

 كَمْ نَكْبَةٍ تُحَطِّمُ الاءسْلاَمَ وَالعَرَب‌                                    وَالاءنْجِلِيزُ أَصْلُهَا فَتِّشْ تَجِدْهُمُ السَّبَبْ

 بَلْ كُلُّ مَا فِي‌ الاَرْضِ مِنْ وَيْلاَتِ حَرْبٍ وَحَرَب                  ‌ هُمْ أَشْعَلُوا نِيرَانَهَا وَصَيَّروا النَّاسَ حَطَب‌

 وَاسْتَخْدَمُوا مُلُوكَنَا لِضَرْبِنَا وَلاَ عَجَب                               ‌ فَمُلْكُهُمْ بِفَرْضِهِمْ كَانَ وَإلاَّ لاَنْقَلَبْ

 هُمْ نَصَبُوا عَرْشاً لَهُمْ فِي‌ كُلِّ شَعْبٍ فَانشَعَبْ                               وَاسَوْأَتَا إنْ حَدَّثَ التَّارِيخُ عَنْهُمْ وَكَتَبْ

 ولكاشف‌ الغطاء أشعار كثيرة‌ في‌ هذا الباب‌ ذكر بعضها في‌كتاب‌ «المُثُل‌ ال علیا في‌ الاءسلام‌ لا في‌ بحمدون‌» وفي‌ كتابه‌ الآخر «المحاورة‌ بين‌ السفيرين‌» ينبغي‌ مراجعتها فيهما.

[93] ـ من‌ كلام‌ مترجم‌ كتاب‌ «القانون‌ الاساسي‌ّ في‌ الاءسلام‌» تأليف‌ أبي‌ الا علی‌ المودودي‌ّ، المقدّمة‌، ص‌ 16.

[94] ـ صدر الآية‌ 13، من‌ السورة‌ 49: الحجرات‌.

[95] ـ كتاب‌ «تمدن‌ اسلام‌ وعرب‌» (= حضارة‌ الاءسلام‌ والعرب‌) ص‌ 13، مقدّمة‌ المؤلِّف‌، الطبعة‌ الثانية‌، يقول‌:

 إنّ الممالـك‌ التي‌ فتحهـا العرب‌ كانت‌ عبـارة‌ عن‌ أقـوام‌ مختلفة‌ قد سـخّرتها وفتحتها أقوام‌ أُخري‌ وأخرجتها من‌ أيديهم‌، لكنّ المدنيّة‌ التي‌ بنوها هناك‌ لم‌ يستطع‌ أي‌ قوم‌ فاتحين‌ أن‌ يقتلونها ويبدلونها بمدنيّة‌ أُخري‌. بل‌ إنّ جميع‌ تلك‌ الاقوام‌ كانت‌ تختار ذلك‌ الدين‌، القانون‌، الفنون‌ والصناعة‌ والمهن‌، وكان‌ الكثير منهم‌ يختارون‌ علی‌ الاخصّ لغتهم‌ العربيّة‌، وكأنّ شريعة‌ محمّد التي‌ انتشرت‌ في‌ تلك‌ الممالك‌ غير قابلة‌ للتغيير. حتّي‌ في‌ الهند، حيث‌ تغلّب‌ هذا الدين‌ علی‌ الاديان‌ القديمة‌ هناك‌. وقد بدّل‌ هذا الدين‌ مصر الفراعنة‌ التي‌ لم‌ تؤثِّر علیها إيران‌ والروم‌ واليونان‌ إلاّ قليلاً، بدّلها كلّيّاً إلی بلد عربي‌ّ... إلی آخره‌.

[96] ـ «تمدن‌ اسلام‌ و عرب‌» ص‌ 568 و 569، الباب‌ الخامس‌، المذهب‌ والاخلاق‌، الفصل‌ الثالث‌: أخلاق‌ الاءسلام‌.

[97] ـ كتاب‌ «وحي‌ يا شعور مرموز» (= الوحي‌ أو الشعور الخفي‌)، ص‌ 92.

[98] ـ كتاب‌ «وحي‌ يا شعور مرموز» ص‌ 91.

[99] ـ كتاب‌ «وحي‌ يا شعور مرموز» ص‌ 112 و 113.

 يقول‌ أحمد أمين‌ المصري‌ّ في‌ كتاب‌ يوم‌ الاءسلام‌ بعد شرح‌ مشبع‌ عن‌ أضرار المدنيّة‌ الغربيّة‌ في‌ الجانب‌ الاخلاقي‌ّ، ص‌ 220 و 221:

 ومع‌ الاسف‌ فقد جنت‌ المدنيّة‌ الحديثة‌ علی‌ العلوم‌ والآداب‌، فاستأصلت‌ هذه‌ العاطفة‌ الاءنسانيّة‌، ووضعت‌ مكانها العاطفة‌ الجامحة‌ الوطنيّة‌، كما ملاتها بحبّ النفع‌ المادّي‌ّ، ولم‌ تعبأ بحبّ المعاني‌ السامية‌ والاخلاق‌ الراقية‌ والجمال‌ المعنوي‌ّ. ولذلك‌ أخرجت‌ شباباً في‌ شكل‌ إنسان‌، وحقيقة‌ أحجار لا قلب‌ له‌ ولا شعور، ولا أمل‌ عنده‌ ولا ألم‌، سواء في‌ ذلك‌ الشباب‌ الاُوروبّي‌ّ والشباب‌ الشرقي‌ّ، وسواء في‌ ذلك‌ الفتيان‌ والفتيات‌.

 إنّنا لا نقوّم‌ العلم‌ والادب‌ إلاّ بمقدار خدمتهما للاءنسانيّة‌. وأكبر عيب‌ في‌ المدنيّة‌ الغربيّة‌ أ نّها جعلت‌ الشباب‌ كالاءنسان‌ المصاب‌ بالسرطان‌، تتضخّم‌ ناحيةٌ منه‌ ولا تتضخّم‌ الاُخري‌، فتضخّم‌ عقله‌ وضمر قلبه‌ فاختلّ توازنه‌.

 إنّ المدنيّة‌ الحديثة‌ جعلت‌ قلبه‌ فارغاً ظمآن‌، صقيل‌ الوجه‌، كاسف‌ الروح‌. مستنير العقل‌، كليل‌ البصر، ضعيف‌ اليقين‌، كثير اليأس‌، قد حاز كلّ أسباب‌ السعادة‌ إلاّ سعادة‌ قلبه‌، قد نزعت‌ منه‌ عاطفة‌ الدين‌ فساءت‌ حياته‌ في‌ الدنيا. والشباب‌ الشرقي‌ّ علی‌ الخصوص‌ شغفته‌ الحضارة‌ الغربيّة‌ فمدّ يده‌ إلی الاجانب‌ ليتصدّقوا علیه‌ بفتات‌ الموائد، قد باع‌ روحه‌ بثمن‌ رخيص‌ جدّاً، وهي‌ أعزّ شي‌ء في‌ الوجود. فاشتري‌ من‌ الغربيّين‌ عبادة‌ المادّة‌، وعبادة‌ الشهوات‌ والجاه‌، وأعطاهم‌ قلبه‌.

 لقد كانت‌ ـ والحقّ يُقال‌ ـ المدنيّة‌ الغربيّة‌ في‌ نعومتها وبرامجها وأفكارها أقسي‌ علی‌ الشرق‌ من‌ مدافعها وكلّ آلات‌ قتالها. فما فعلته‌ هذه‌ الآلات‌ أفسدت‌ الناس‌ بكلّ سهولة‌.

 لقد كنتُ في‌ الحجاز فرأيتُ بعض‌ سوّاقي‌ السيّارات‌ يسوقونها بعقليّة‌ الجمال‌، فكذلك‌ المعلّمون‌ اليوم‌ يربّون‌ الصقور تربية‌ الحدأة‌، وأشبال‌ الاُسود تربية‌ الغنم‌.

[100] ـ صاموئيل‌ رايت‌، مع‌ مقالات‌ أُخري‌ في‌ كتاب‌ « Slavery Defended ».

[101] ـ انظروا خطابات‌ هيتلر أيّام‌ شبابه‌، المجموعة‌ في‌ كتاب‌:

 H. R. Trevor - Raper , Hittler's Table Talk (London 1953)

[102] ـ R. Knox

[103] ـ Transcendental Anatomy

[104] ـ «فيليب‌ كورتين‌ (لندن‌ 1971)» ص‌ 12 إلی 14.

 P. Courtin Imperialism (London 1971)

 مطالب‌ منقولة‌ عن‌ كتاب‌ «دانش‌ وارزش‌» (= العلم‌ والقيم‌) ص‌ 17، 30، 32 و 33.

[105] ـ «سيري‌ در انديشه‌ سياسي‌ عرب‌» تأليف‌ السيّد حميد عنايت‌، قسم‌ الفكر والمجتمع‌، ص‌ 100 إلی 102، نقلاً عن‌ كتاب‌ «العروة‌ الوثقي‌» ص‌ 334 فصاعداً.

[106] ـ انظر: «سيري‌ در انديشه‌ سياسي‌ عرب‌» تأليف‌ السيّد حميد عنايت‌، قسم‌ الفكر والمجتمع‌، ص‌ 355 إلی 357.

[107] ـ انظر: «سيري‌ در انديشه‌ سياسي‌ عرب‌» تأليف‌ السيّد حميد عنايت‌، قسم‌ والفكر والمجتمع‌، ص‌ 202 و 219 و 225 و 243 و 248.

[108] ـ أورد أحمد أمين‌ المصري‌ّ في‌ كتاب‌ «يوم‌ الاءسلام‌» ص‌ 110 إلی 113: وجاء في‌ النشيد الاءيطالي‌ّ:

 أمّاه‌ صلّي‌ ولا تبكي‌ ـ بل‌ اضحكي‌ وتأمّلي‌ ألا تعلمين‌ أنّ إيطاليا تدعوني‌ وأنا ذاهب‌ إلی طرابلس‌ فرحاً مسروراً لابذل‌ دمي‌ في‌ سبيل‌ سحق‌ الاُمّة‌ الملعونة‌ ولاُحارب‌ الديانة‌ الاءسلاميّة‌ التي‌ تميّز البنات‌ الابكار للسلطان‌ سأقاتل‌ بكلّ قوّتي‌ لمحو القرآن‌. ليس‌ للمجد من‌ لم‌ يمت‌ لاءيطاليا حقّاً، تحمّسي‌ أيّتها الوالدة‌... تذكّري‌ كاروني‌ التي‌ جاءت‌ بأولادها في‌ سبيل‌ وطنها... وإن‌ سألك‌ أحد عن‌ عدم‌ حدادك‌ عَلَي‌ّ فأجيبيه‌: أ نّه‌ مات‌ في‌ محاربة‌ الاءسلام‌. الطبل‌ يقرع‌ يا أُمّاه‌، أنا ذاهب‌ أيضاً... ألا تسمعين‌ هرج‌ الحرب‌، دعيني‌ أُعانقك‌ وأذهب‌.

 وسيق‌ رجل‌ من‌ الثوّار في‌ حادثة‌ بنجاب‌ إلی مدفعيّة‌ كان‌ فيها بارود أكثر من‌ المعتاد فأُطلق‌ علیه‌ النار فطار جسمه‌ ممزّقاً كلّ ممزّق‌، وأشار الجنرال‌ نيكلسن‌ في‌ كتابٍ له‌ إلی إدوارد قائلاً: يجب‌ علینا أن‌ نسنّ قانوناً يُبيح‌ لنا أن‌ نحرق‌ أو نسلخ‌ جلود الثوّار وهم‌ أحياء، لانّ نار الانتقام‌ تتأجّج‌ في‌ صدورنا لا تخمد بالشنق‌ وحده‌، ثمّ إنّ الاُمم‌ الشرقيّة‌ اعتادت‌ ألاّ تحسب‌ للحكومات‌ حساباً ولا تخاف‌ جانبها إلاّ إذا كانت‌ ذات‌ سطوة‌ قاهرة‌.

 وكتب‌ مدير أتسار في‌ ذلك‌ العهد يقول‌: كان‌ جميع‌ الضبّاط‌ في‌ البنجاب‌ يبدأون‌ بالفضائع‌ لاءيقاع‌ الرعب‌ في‌ الاهالي‌ لكيلا يتجرّأوا علی‌ أخذ الثأر منهم‌.

 وذكر لاممسون‌ للسير هنري‌ كلتن‌ عن‌ بعض‌ المسجونين‌ المسلمين‌، قال‌: أتاني‌ ذات‌ ليلة‌ عسكري‌ّ فقال‌ ـ بعد التحيّة‌ العسكريّة‌ أرجو أن‌ تري‌ المسجونين‌؛ فقمت‌ حالاً إلی السجن‌ فرأيتهم‌ مربوطين‌ علی‌ الارض‌ يتنفّسون‌ آخر أنفاسهم‌ وكان‌ علی‌ أجسامهم‌ آثار الكي‌ّ بالنحاس‌ المحمي‌ّ علی‌ النار، فرقّ قلبي‌ لحالتهم‌ التعسة‌ فأخرجتُ المسدّس‌ وصرتُ أُطلق‌ النار علیهم‌ واحداً بعد آخر لاخلّصهم‌ من‌ هذا العذاب‌ الاليم‌.

 وقد ذكر اللفتنانت‌ ماجدن‌ حادثةً قال‌: رأيتُ ذات‌ يوم‌ الاءنجليز والسيخ‌ كان‌ يطعنون‌ عسكريّاً هنديّاً بالحراب‌ لكنّ طعنهم‌ لم‌ يقتله‌ فجمعوا الحطب‌ وأشعلوا النار فيه‌، فلمّا اشتدّت‌ النار ألقوا الهندي‌ّ المسكين‌ فيها، وصاروا ينظرون‌ إليه‌ بفرح‌ وسرور عظيمَين‌.

 وقال‌ المستر غلادستون‌ من‌ مشاهير الاءنجليز: يجب‌ إعدام‌ القرآن‌ وتطهير أُوروبّا من‌ المسلمين‌. وقال‌ اللورد سالسبري‌ من‌ عظماء الاءنجليز أيضاً: يجب‌ إعادة‌ ما أخذه‌ الهلال‌ من‌ الصليب‌ للصليب‌ دون‌ العكس‌. وكان‌ الفرنسيّون‌ يستنكفون‌ من‌ السفر مع‌ المسلمين‌ في‌ عربات‌ السكك‌ الحديديّة‌ في‌ تونس‌ والجزائر. ونادي‌ كيجون‌ اليوناني‌ّ: يجب‌ نسف‌ الكعبة‌ ونقل‌ القبر المعظّم‌ لرسول‌ الله‌ إلی متحف‌ اللوفر.

 وحدث‌ مرّة‌ أنّ أحد التجّار الفرنسيّين‌ عامل‌ أربعة‌ رجال‌ من‌ أهالي‌ غربي‌ّ أفريقيا بسلع‌ تجاريّة‌، ولمّا استحقّ له‌ عندهم‌ مبلغ‌ قليل‌ من‌ المال‌ ذهب‌ إلی هؤلاء وطالبهم‌ بذلك‌ فاستمهلوه‌ مدّة‌ ريثما يتمّ لهم‌ جمع‌ المال‌ فأبي‌ وشدّد علیهم‌ النكير بالطلب‌ وأخذ يؤنّبهم‌ ويشتمهم‌، ثمّ استلّ الفرنسي‌ّ مسدّساً وأطلق‌ رصاصة‌ علی‌ أحد الاربعة‌ فقتله‌، ولمّا رأي‌ الثلاثة‌ صاحبهم‌ يتخبّط‌ في‌ دمه‌ قبضوا علی‌ القاتل‌ الفرنسي‌ّ ونزعوا المسدّس‌ من‌ يده‌ وراموا وثاقه‌ وتسليمه‌ للحكومة‌ فلم‌ يستطيعوا ذلك‌، إذ فرّ من‌ بينهم‌ بواسطة‌، وبلغ‌ القاتل‌ مقرّ الحكومة‌ ما عمل‌ وشكا أُولئك‌ الثلاثة‌ فأرسلت‌ الحكومة‌ في‌ طلبهم‌، ولمّا حضر الثلاثة‌ لدي‌ المحكمة‌ الفرنسيّة‌ وأُحضر القاتل‌ وأقرّ الفاعل‌ بقتله‌، حكمت‌ المحكمة‌ الفرنسيّة‌ بقتل‌ الثلاثة‌ الذين‌ ضربوه‌ لقتل‌ رفيقهم‌، وفي‌ اليوم‌ التالي‌ سيق‌ هؤلاء الثلاثة‌ إلی فسحة‌ خارج‌ البلد ورُبطوا بالاشجار وأطلق‌ علیهم‌ الجندي‌ّ الفرنسي‌ّ الرصاص‌ حتّي‌ فارقوا الحياة‌ وتُركوا علی‌ حالتهم‌ دون‌ أن‌ يواروا التراب‌!

 [109] ـ «سيري‌ در انديشـه‌ سياسي‌ عرب‌» ص‌ 102 و 103، عن‌ «العـروة‌ الوثقي‌» ص‌ 39 إلی 48.

 ويقول‌ أحمد أمين‌ المصري‌ّ في‌ كتاب‌ «يوم‌ الاءسلام‌» ص‌ 109 و 110: وكما هدّد الصليبيّون‌ الشرق‌ بحملاتهم‌ المتوالية‌ علیه‌، فقد أفلحوا في‌ طرد المسلمين‌ من‌ الاندلس‌ بعد أن‌ أُصيب‌ المسلمون‌ بالتفرّق‌ والانحلال‌ وأنسحب‌ الصليبيّون‌ من‌ الشام‌ ليعودوا إليه‌ في‌ حملة‌ أُخري‌ إذا واتت‌ الظروف‌، فإنّ عداءهم‌ للمسلمين‌ لا يفتر.

 قال‌ صاحب‌ مجلّة‌ «العالَم‌ الاءسلامي‌ّ» الفرنسيّة‌: العالَم‌ النصراني‌ّ علی‌ اختلاف‌ أُممه‌ وشعوبه‌ عرقاً وجنسيّة‌ هو عدوّ مقاوم‌ مناهض‌ للشرق‌ علی‌ العموم‌ وللاءسلام‌ علی‌ الخصوص‌، فجميع‌ الدول‌ النصرانيّة‌ متّحدة‌ معاً علی‌ دكّ الممالك‌ الاءسلاميّة‌ ما استطاعت‌ إلی ذلك‌ سبيلاً؛ والروح‌ الصليبيّة‌ كامنة‌ في‌ صدور النصاري‌ كمون‌ النار في‌ الرماد، وروح‌ التعصّب‌ لم‌ تنفكّ حيّة‌ معتلجة‌ في‌ قلوبهم‌ حتّي‌ اليوم‌ كما كانت‌ في‌ يد بطرس‌ الناسك‌ من‌ قبل‌.

 فالنصرانيّة‌ لم‌ يزل‌ التعصّب‌ مستقرّاً في‌ عناصرها متغلغلاً في‌ أحشائها متمشّياً في‌ كلّ عرق‌ من‌ عروقها، وهي‌ أبداً ناظرة‌ إلی الاءسلام‌ نظرة‌ العداء والحقد والتعصّب‌ الديني‌ّ الممقوت‌، وحقيقة‌ هذا الامر ونتيجته‌ واقعتان‌ في‌ كثير من‌ الشؤون‌ الخطيرة‌ والمواضع‌ الكبري‌، حيث‌ القوانين‌ والشرائع‌ الدوليّة‌ لم‌ تعامل‌ فيها الاُمم‌ الاءسلاميّة‌ معاملة‌ السواء مع‌ الاُمم‌ النصرانيّة‌.

 تنتحل‌ الدول‌ النصرانيّة‌ أعذاراً لها في‌ كرهها وهجومها وعدوانها علی‌ الممالك‌ الاءسلاميّة‌ وإذلالها وإكراهها بقولها إنّ الممالك‌ الاءسلاميّة‌ هذه‌ إنّما هي‌ من‌ الانحطاط‌ والتدنّي‌ بحيث‌ لا تستطيع‌ أن‌ تكون‌ قوّامة‌ علی‌ شؤون‌ نفسها وفوق‌ جميع‌ هذا، فهذه‌ الدول‌ النصرانيّة‌ عينها لم‌ تفتـأ تعمل‌ هذا مـن‌ ناحية‌ وتتـذرّع‌ بأُلـوف‌ الذرائع‌ بنواح‌ أُخـري‌ حتّي‌ بالحـرب‌ والحديد والنار للقضاء علی‌ كلّ حركة‌ حاولها المسلمون‌ لبلادهم‌ وديارهم‌ في‌ سبيل‌ الاءصلاح‌ والنهضة‌. وجميع‌ الشعوب‌ النصرانيّة‌ مُجمعة‌ متّفقة‌ علی‌ عداء الاءسلام‌ وروح‌ هذا العداء متمثّلة‌ بجهد هذه‌ الشعوب‌ جهداً خفيّاً مستتراً متوالياً لسحق‌ الاءسلام‌ سحقاً. وتأخذ النصرانيّة‌ مشاعر كلّ مسلم‌ وآماله‌ ورغباته‌ التي‌ تجول‌ في‌ صدره‌ ثمّ تمثّلها بصور الهزء والسخرية‌ والعبث‌ والازدراء، وأنّ ما يدعوه‌ الفرنجة‌ عندنا في‌ الشرق‌ تعصّباً مذموماً محرّماً هو عندهم‌ في‌ بلادهم‌ وأوطانهم‌ العصبيّة‌ الجنسيّة‌ المباركة‌ والقوميّة‌ المقدّسة‌ والوطنيّة‌ المعبودة‌، وأنّ ما يدعونه‌ عندهم‌ في‌ الغرب‌ إباءً للنفس‌ وشمماً وشرفاً ووطنيّة‌ وعزّة‌ قوميّة‌، يعدّونه‌ في‌ الشرق‌ غلوّاً مكروهاً وإفراطاً في‌ حبّ الوطن‌ ضارّاً ومقتاً وشنآناً للاجنبي‌ّ الغربي‌ّ.

 منقول‌ من‌ مقال‌ تحت‌ عنوان‌ «الجامعة‌ الاءسلاميّة‌ والجامعة‌ التركيّة‌» نُشر في‌ مجلّة‌ «العالَم‌ الاءسلامي‌ّ» في‌ مارس‌ سنة‌ 1913 م‌، ويقول‌ كاتبه‌ إنّه‌ استفاده‌ من‌ مسلم‌ ثقة‌ كبير المنزلة‌ والشأن‌.

 [110] ـ الآية‌ 69، من‌ السورة‌ 29: العنكبوت‌.

[111] ـ الآية‌ 19، من‌ السورة‌ 59: الحشر. وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَهَ فَأَنسَب'هُمْ أَنفُسَهُمْ.

[112] ـ الآية‌ 11، من‌ السورة‌ 13: الرعد.

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com