بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب نورملكوت القرآن/ المجلد الاول / القسم التاسع: معنی الصراط المستقیم، معنی المجاهدة فی الله و فی سبیل الله، علة مزیة ال...

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

کلام العلاّمة الطباطبائيّ رضوان الله علیه في تفسیر الصراط المستقیم

 وقد بحثنا بحمد الله‌ ومنّه‌ في‌ سلسلة‌  « علوم‌ ومعارف‌ الإسلام‌ »  في‌ قسم‌ « معرفة‌ المعاد »  بحثاً كافياً ووافياً في‌ معني‌ الصراط‌ واستقامة‌ وكيفيّة‌ ظهوره‌ وبروزه‌ يوم‌ القيامة‌ ، وصراط‌ الجنّة‌ والنار ؛  [174] لكن‌ من‌ المناسب‌ كثيراً أن‌ لا نتعدّي‌ هنا بيانات‌ أُستاذنا الاكرم‌ وملاذنا الاعظم‌ آية‌ الله‌ العظمي‌ ، سند التحقيق‌ والبرهان‌ ، ومثل‌ التفريد والعرفان‌ ، الحاجّ السيّد محمّد حسين‌ الطباطبائيّ التبريزيّ أفاض‌ الله‌ علینا من‌ نفحات‌ نفسه‌ القدسيّة‌ ، ومن‌ بركات‌ تربته‌ المنيفة‌ ، فقد ذكر في‌ بيان‌ الآية‌ المباركة‌  اهْدِنَا الصِّرَ   طَ الْمُسْتَقِيمَ شرحاً مفيداً وعإلیاً حوي‌ مطالب‌ راقية‌ ومعارف‌ حقّة‌ حقيقيّة‌ ، نورده‌ هنا :

 أمّا الصراط‌ فهو والطريق‌ والسبيل‌ قريب‌ المعني‌ ، وقد وصف‌ تعإلی‌ الصراط‌ بالاستقامة‌ ، ثمّ بيّن‌ أنـّه‌ الصراط‌ الذي‌ يسلكه‌ الذين‌ أنعم‌ الله‌ تعإلی‌ علیهم‌ ، فالصراط‌ الذي‌ من‌ شأنه‌ ذلك‌ هو الذي‌ سُئل‌ الهداية‌ إلیه‌ ، وهو بمعني‌ الغاية‌ للعبادة‌ ، أي‌ أنّ العبد يسأل‌ ربّه‌ أن‌ تقع‌ عبادته‌ الخالصة‌ في‌ هذا الصراط‌ .

 بيان‌ ذلك‌ : أنّ الله‌ سبحانه‌ قرّر في‌ كلامه‌ لنوع‌ الإنسان‌ ، بل‌ لجميع‌ من‌ سواه‌ سبيلاً يسلكون‌ به‌ إلیه‌ سبحانه‌ ، فقال‌ تعإلی‌ :

 يَـ'´أَيـُّهَا الإنسَـ'نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلَی رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَـ'قِيهِ .  [175] وقال‌ تعإلی‌ : وَإلَیهِ الْمَصِيرُ ، [176]  وقال‌ :  أَلاَ´ إلَی‌ اللَهِ تَصِيرُ الاْمُورُ ؛ [177]  إلی‌ غير ذلك‌ من‌ الآيات‌ ، وهي‌ واضحة‌ الدلالة‌ علی‌ أنّ الجميع‌ سالكو سبيل‌ الله‌ ، وأنـّهم‌ سائرون‌ إلی‌ الله‌ سبحانه‌ .

 ثمّ بيّن‌ أنّ سبيل‌ ليس‌ سبيلاً واحداً ذا نعت‌ واحد ، بل‌ هو منشعب‌ إلی‌ شعبتين‌ منقسمٌ إلی‌ طريقتينِ ، فقال‌ :  أَلَمْ أَعْهَدْ إلَیكُمْ يَـ'بَنِي‌ ءَادَمَ أن‌ لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَـ'نَ إِنـَّهُ و  لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي‌ هَـ'ذَا صِرَ   طٌ مُّسْتَقِيمٌ . [178]

 فهناك‌ طريق‌ مستقيم‌ وطريق‌ آخر وراءه‌ ؛ وقال‌ تعإلی‌ :  فَإِنِّي‌ قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي‌ وَلْيُؤْمِنُوا بِي‌ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ . [179]

وقال‌ تعإلی‌ :  ادْعُونِي‌´ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَن‌ عِبَادَتِي‌ سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ . [180]

 فبيّن‌ تعإلی‌ أنـّه‌ قريب‌ من‌ عباده‌ ، وأنّ الطريق‌ الاقرب‌ إلیه‌ تعإلی‌ طريق‌ عبادته‌ ودعائه‌ ، ثمّ قال‌ في‌ وصف‌ الذين‌ لا يؤمنون‌ :  أُلَـ'´نءِكَ يُنَادَوْنَ مِن‌ مَّكانٍ بَعِيدٍ ، [181]  فبيّن‌ أنّ غاية‌ الذين‌ لا يؤمنون‌ في‌ مسيرهم‌ وسبيلهم‌ بعيدة‌ .

 فتبيّن‌ أنّ السبيل‌ إلی‌ الله‌ سبيلان‌ : سبيل‌ قريب‌ وهو سبيل‌ المؤمنني‌ ، وسبيل‌ بعيد وهو سبيل‌ غيرهم‌ ، فهذا نحو اختلافٍ في‌ السبيل‌ ؛ وهناك‌ نحو آخر من‌ الاختلاف‌ ، قال‌ تعإلی‌ :  إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـَايَـ'تِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَ   بُ السَّمَآءِ ، [182]  ولولا طروق‌ من‌ متطرّق‌ لم‌ يكن‌ للباب‌ معني‌ ، فهناك‌ طريق‌ من‌ السُّفْل‌ إلی‌ العلوّ .

 وقال‌ تعإلی‌ :  وَمَن‌ يَحْلِلْ عَلَیْهِ غَضَبِي‌ فَقَدْ هَوَي‌' ،  [183] والهوي‌ هو السقوط‌ إلی‌ أسفل‌ ، فهناك‌ طريق‌ آخر آخذٌ في‌ السفالة‌ والانحدار ، وقال‌ تعإلی‌ :  وَمَن‌ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَـ'نِ فَقَدو ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ ، [184]  فعرّف‌ الضلال‌ عن‌ سواء السبيل‌ بالشرك‌ لمكان‌ قوله‌ : فقد ضلَّ ...، وعند ذلك‌ تقسّم‌ الناس‌ في‌ طرقهم‌ ثلاثة‌ أقسام‌ :

 1 ـ من‌ طريقة‌ إلی‌ فوق‌ ، وهم‌ الذين‌ يؤمنون‌ بآيات‌ الله‌ ولايستكبرون‌ عن‌ عبادته‌ .

 2 ـ ومن‌ طريقة‌ إلی‌ السفل‌ ، وهم‌ المغضوب‌ علیهم‌ .

 3 ـ ومَن‌ ضلّ الطريق‌ وهو حيران‌ فيه‌ ، وهم‌ الضالّون‌ ؛ وربّما أشعر بهذا التقسيم‌ قوله‌ تعإلی‌ :  صِرَ   طَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ وَلاَ الضَّإلینَ . [185]

 والصراط‌ المستقيم‌ لا محالة‌ ليس‌ هو الطريقان‌ الآخران‌ من‌ الطرق‌ الثلاثة‌ ، أعني‌ طريق‌ المغضوب‌ علیهم‌ وطريق‌ الضإلین‌ ، فهو من‌ الطريق‌ الاوّل‌ الذي‌ هو طريق‌ المؤمنين‌ غير المستكبرين‌ ، إلاّ أنّ قوله‌ تعإلی‌ :  يَرْفَعِ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـ'تٍ ،  [186] يدلّ علی‌ أنّ نفس‌ الطريق‌ الاوّل‌ أيضاً يقع‌ فيه‌ انقسام‌ .

 وبيانه‌ أنّ كلّ ضلال‌ فهو شرك‌ ، كعكسه‌ علی‌ ما عرفت‌ من‌ قوله‌ تعإلی‌ : وَمَن‌ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَـ'نِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَبِيلِ ، [187]  وفي‌ هذا المعني‌ قوله‌ تعإلی‌ :  أَلَمْ أَعْهَدْ إلَیكُمْ يَـ'بَنِي‌´ ءَادَمَ أَن‌ لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَـ'نَ إِنـَّهُ و  لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي‌ هَـ'ذَا صِرَ   طٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا  [188]

 والقرآن‌ يَعُدّ الشرك‌ ظلماً وبالعكس‌ ، كما يدلّ علیه‌ قوله‌ تعإلی‌ حكايةً عن‌ الشيطان‌ لمّا قضي‌ الامر :  إِنِّي‌ كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن‌ قَبْلُ إِنَّ الظَّـ'لِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ إلیمٌ .  [189] كما يعدّ الظلم‌ ضلالاً في‌ قوله‌ تعإلی‌ :  الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُو´ا إِيمَـ'نَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَـ'´نءِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُم‌ مُّهْتَدُونَ ، [190]  وهو ظاهر من‌ ترتيب‌ الاهتداء والامن‌ من‌ الضلال‌ أو العذاب‌ الذي‌ يستتبعه‌ الضلال‌ ، علی‌ ارتفاع‌ الظلم‌ ولبس‌ الإيمان‌ به‌ .

 وبالجملة‌  الضلال‌ والشرك‌ والظلم‌  أمرها واحد وهي‌ متلازمة‌ صدقاً ، وهذا هو المراد من‌ قولنا إنّ كلّ واحد منها معرّف‌ بالآخر أو هو الآخر ، فالمراد الاتّحاد في‌ المصداق‌ دون‌ المفهوم‌ .

 الرجوع الي الفهرس

لاشرک و لا ظلم و لا ضلال في الصذاط المستقیم

 إذا عرفتَ علمتَ أنّ الصراط‌ المستقيم‌ الذي‌ هو صراط‌ غير الضإلین‌ صراطٌ لايقع‌ فيه‌ شرك‌ ولا ظلم‌ البتّة‌ ، كما لا يقع‌ فيه‌ ضلال‌ البتّة‌ ، لا في‌ باطن‌ الجنان‌ من‌ كفر أو خطور لايرضي‌ به‌ الله‌ سبحانه‌ ، ولا في‌ ظاهر الجوارح‌ والاركان‌ من‌ فعل‌ معصيةٍ أو قصورٍ في‌ طاعة‌ ، وهذا هو حقّ التوحيد علماً وعملاً ، إذ لا ثالث‌ لهما  فَمَا ذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلَـ'لِ ؟[191]

 وينطبق‌ علی‌ ذلك‌ قوله‌ تعإلی‌ :  الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُو´ا إِيمَـ'نَهُم‌ بِظُلْمٍ أُولَـ'´نءِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُم‌ مُّهْتَدُونَ ،[192]   وفيه‌ تثبيت‌ للامن‌ في‌ الطريق‌ ووعد بالاهتداء التامّ بناءً علی‌ ما ذكروه‌ من‌ كون‌ اسم‌ الفاعل‌  ( مهتدون‌ )  حقيقة‌ في‌ الاستقبال‌ ؛ فليفهم‌ فهذا نعت‌ من‌ نعوت‌ الصراط‌ المستقيم‌ .

 ثمّ إنئه‌ تعإلی‌ عرّف‌ هؤلاء المنعم‌ علیهم‌ ، الذين‌ نسب‌ الصراط‌ المستقيم‌ إلیهم‌ بقوله‌ تعإلی‌ :  وَمَن‌ يُطِعِ اللَهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَـ'´نءِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَهُ عَلَیْهِمْ مِّنَ النَّبِيِّــنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّـ'لِحِينَ وَحَسُنَ اُولَـ'نءِكَ رَفِيقًا . [193]

 وقد وصف‌ هذا الإيمان‌ والإطاعة‌ قبل‌ هذه‌ الآية‌ بقوله‌ :  فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي‌' يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي‌´ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا * وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَیْهِمْ أَنِ اقْتَلُو´ا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن‌ دِيَـ'رِكُم‌ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنهُمْ وَلَوْ أَنـَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لاَّيَنْنَـ'هُم‌ مِّن‌ لَّدُنَّآ أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنـ'هُمْ صِرَ   طًا مُّسْتَقِيمًا * وَمَن‌ يُطِعِ اللَهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَـ'´نءِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَهُ عَلَیْهِمْ مِّنَ النَّبِيِّــنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّـ'لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـ'´نءِكَ رَفِيقًا * ذَ   لِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَهِ وَكَفَي‌ بِاللَهِ علیمًا . [194]

 فوصفهم‌ بالثبات‌ التامّ قولاً وفعلاً وظاهراً وباطناً علی‌ العبوديّة‌ ، لايشذّ منهم‌ شاذّ من‌ هذه‌ الجهة‌ ، ومع‌ ذلك‌ جعل‌ هؤلاء المؤمنين‌ تبعاً لاُولئك‌ المنعم‌ علیهم‌ ، وفي‌ صفٍّ دون‌ صفّهم‌ لمكان‌  مَعَ  ولمكان‌ قوله‌  وَحَسُنَ أُولَـ'´نءِكَ رَفِيقًا، ولم‌ يقل‌  فَأُلئك‌ من‌ الَّذِينَ  بل‌ قال‌ :  فَأُولَـ'´نءِكَ مَعَ الَّذِينَ .

 ونظير هذه‌ الآية‌ قوله‌ تعإلی‌ :  وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَهِ وَرُسُلِهِ أُولَـ'´نءِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَآءِ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِـَايَـ'تِنَا أُولَـ'´نءِكَ أَصْحَـ'بُ الْجَحِيم‌ . [195]

 وهذا هو إلحاق‌ المؤمنين‌ بالشهداء والصدّيقين‌ في‌ الآخرة‌ ولمكان‌ قوله‌ :  عِندَ رَبِّهِمْ  ـ وقوله‌ :  لَهُم‌ أَجْرُهُمْ.

 فَأولئك‌  ( وهم‌ أصحاب‌ الصراط‌ المستقيم‌ )  أعلی‌ قدراً وأرفع‌ درجة‌ ومنزلة‌ من‌ هؤلاء وهم‌ المؤمنين‌ الذين‌ أخلصوا قلوبهم‌ وأعمالهم‌ من‌  الضلال‌ والشرك‌ والظلم‌ ،  فالتدبّر في‌ هذه‌ الآيات‌ يوجب‌ القطع‌ بأن‌ هؤلاء المؤمنين‌ ـ وشأنُهم‌ هذا الشأن‌ ـ فيهم‌ بقيّة‌ بعد لو تمّت‌ فيهم‌ كانوا  مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَهُ عَلَیْهِمْ ،  وارتقوا من‌ منزلة‌ المصاحبة‌  مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَهُ عَلَیْهِمْ  إلی‌ درجة‌ الدخول‌ فيهم‌ ، ولعلّه‌ نوع‌ من‌ العلم‌ بالله‌ ، ذكره‌ في‌ قوله‌ تعإلی‌ :  يَرْفَعِ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـ'تٍ .

 فالصراط‌ المستقيم‌ أصحابه‌ منعم‌ علیهم‌ بنعمة‌ هي‌ أرفع‌ النعم‌ قدراً ، يربو علی‌ نعمة‌ الإيمان‌ التامّ ، وهذا أيضاً نعت‌ من‌ نعوت‌ الصراط‌ المستقيم‌ . ثمّ إنّه‌ تعإلی‌ علی‌ أنـّه‌ كرّر في‌ كلامه‌ ذكر  الصراط‌ والسبيل‌  لم‌ ينسب‌ لنفسه‌ أزيد من‌ صراطٍ مستقيمٍ واحد ، وعدّ لنفسه‌ سُبلاً كثيرة‌ ، فقال‌ عزّ من‌ قائل‌ : وَالَّذِينَ جَـ'هَدُوا فِينَا لَنَهْدِينَّهُمْ سُبُلَنَا ، [196]  وكذا لم‌ ينسب‌ الصراط‌ المستقيم‌ إلی‌ أحدٍ من‌ خلقه‌ إلاّ ما في‌ هذه‌ الآية‌  صِرَ   طَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ ـ  الآية‌ ،[197]  ولكنّه‌ نسب‌ السبيل‌ إلی‌ غيره‌ من‌ خلقه‌ في‌ عدّة‌ مواضع‌ ، كنسبته‌ إلی‌ النبيّ :

 قُلْ هَـ'ذِهِ  سَبِيلِي‌ أَدْعُو´ إلَی‌ اللَهِ عَلَی‌' بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي‌ ، [198] وكنسبته‌ إلی‌ المنيب‌ للّه‌ :  وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَی ،  [199] وكنسبته‌ إلی‌ المؤمنين‌ :  وَمَن‌ يِشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن‌ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَي‌' وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُوْمِنِينَ نُوَلِّه‌ مَا تَوَلَّي‌' وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيرًا . [200]

 الرجوع الي الفهرس

الصراط المستقیم واحد مختصّ بالله؛ والسبل کثیرة وتنسب للغیر

 ويُعلم‌ منها أنّ  السبيل‌  غير  الصراط‌ المستقيم‌  فإنّه‌ يختلف‌ ويتعدّد ويتكثّر باختلاف‌ المتعبّدين‌ السالكين‌ سبيل‌ العبادة‌ بخلاف‌ الصراط‌ المستقيم‌ ، كما يشير إلیه‌ قوله‌ تعإلی‌ :  قَدْ جَآءَكُم‌ مِّنَ اللَهِ نُورٌ وَكِتَـ'بٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي‌ بِهِ اللَهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَ   نُهُ و   سُبُلَ السَّلَـ'مِ وَيُخْرِجُهُم‌ مِّنَ الظُّلُمَـ'تِ إلَی‌ النُّورِ بِإِذْنِهِ   وَيَهْدِيهِمْ إلَی‌' صِرَ   طٍ مُّسْتَقِيمٍ . [201]

 فعدّ السُبل‌ كثيرة‌ والصراط‌ واحداً ، وهذا الصراط‌ المستقيم‌ إمّا هو السبل‌ الكثيرة‌ وإمّا أنـّها تؤدّي‌ إلیه‌ باتّصال‌ بعضها إلی‌ بعض‌ واتّحادها منه‌ . وأيضاً قال‌ تعإلی‌ :  وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم‌ بِاللَهِ إِلاَّ وَهُم‌ مُّشْرِكُونَ ، [202]  فبيّن‌ أنّ من‌ الشرك‌  ( وهو ضلال‌ )  ما يجتمع‌ مع‌ الإيمان‌ وهو سبيل‌ ، ومنه‌ يعلم‌ أنّ السبيل‌ يجامع‌ الشرك‌ ، لكنَّ  الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمِ  لا يجامع‌ الضّلال‌ ، كما قال‌ : وَلاَ الضَّإلینَ.

 والتدبّر في‌ هذه‌ الآيات‌ يُعطي‌ أنّ كلّ واحد من‌ هذه‌ السُبل‌ يجامع‌ شيئاً من‌ النقص‌ أو الامتياز ، بخلاف‌ الصراط‌ المستقيم‌ ، وأنّ كلاًّ منها هو الصراط‌ المستقيم‌ لكنّه‌ غير الآخر ويفارقه‌ ، لكنّ الصراط‌ المستقيم‌ يتّحد مع‌ كلٍّ منها في‌ عين‌ أنـّه‌ يتّحد مع‌ ما يخالفه‌ ، كما يستفاد من‌ بعض‌ الآيات‌ المذكورة‌ وغيرها ، كقوله‌ :  وَأَنِ اعْبُدُونِي‌ هَـ'ذَا صِرَ   طٌ مُّسْتَقِيمٌ ، [203]  وقوله‌ تعإلی‌ :  قُلْ إِنَّنِي‌ هَدَ   نِي‌ رَبِّي‌´ إلَی‌' صِرَ   طٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفًا ، [204]  فسمّي‌ العبادة‌ صراطاً مستقيماً وسمّي‌ الدين‌ صراطاً مستقيماً وهما مشتركان‌ بين‌ السبل‌ جميعاً .

 الرجوع الي الفهرس

تمثیل المعارف الإلهیّة في الأفهام المختلفة بالصراط المستقیم والسبل إلی الله

 فمثل‌  الصراط‌ المستقيم‌  بالنسبة‌ إلی‌  سبل‌  الله‌ تعإلی‌ كمثل‌ الروح‌ بالنسبة‌ إلی‌ البدن‌ ، فكما أنّ للبدن‌ أطواراً في‌ حياته‌ هو عند كلّ طور غيره‌ عند طورٍ آخر ، كالصِّبا والطغواة‌ والمُراهقَة‌ والشباب‌ والكهولة‌ والهرم‌ ، لكنّ الروح‌ هي‌ الروح‌ وهي‌ متّحدة‌ بها ، والبدن‌ يمكن‌ أن‌ تطرأ علیه‌ أطوار تنافي‌ ما تحبّه‌ وتقتضيه‌ الروح‌ لو خلّيت‌ ونفسها بخلاف‌ الروح‌ ،  فِطْرَتَ اللَهِ الَّتِي‌ فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا ،[205]   والبدن‌ مع‌ ذلك‌ هو الروح‌ أعني‌ الإنسان‌ ، فكذلك‌ السبيل‌ إلی‌ الله‌ تعإلی‌ هو الصراط‌ المستقيم‌ ، إلاّ أنّ السبيل‌ كسبيل‌ المؤمنين‌ وسبيل‌ المنيبين‌ وسبيل‌ المتّبعين‌ للنبيّ أو غير ذلك‌ من‌ سبل‌ الله‌ تعإلی‌ ، ربّما اتّصلت‌ به‌ آفة‌ من‌ خارج‌ أو نقص‌ ، لكنّهما لايعرضان‌ الصراط‌ المستقيم‌ ، كما عرفت‌ أنّ الإيمان‌ وهو سبيل‌ ربّما يجامع‌ الشرك‌ والضلال‌ ولكن‌ لايجتمع‌ مع‌ شي‌ء من‌ ذلك‌ الصراط‌ المستقيم‌ ؛ فللسبيل‌ مراتب‌ كثيرة‌ من‌ جهة‌ خلوصه‌ وشوبه‌ وقربه‌ وبُعده‌ ، والجميع‌ علی‌ الصراط‌ المستقيم‌ أو هي‌ هو .

 وقد بيّن‌ الله‌ سبحانه‌ هذا المعني‌ ، أعني‌ اختلاف‌ السبيل‌ إلی‌ الله‌ مع‌ كون‌ الجميع‌ من‌ صراطه‌ المستقيم‌ في‌ مثلٍ ضربه‌ للحقّ والباطل‌ في‌ كلامه‌ فقال‌ تعإلی‌ :  أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَیْهِ فِي‌ النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَـ'عٍ زَّبَدٌ مِّثْلُهُ و  كَذَ   لِكَ يَضْرِبُ اللَهُ الْحَقَّ وَالْبَـ'طِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي‌ الاْرْضِ كَذَ   لِكَ يَضْرِبُ اللَهُ الاْمْثَالَ . [206]

 الرجوع الي الفهرس

صفات الصراط المستقیم وخصوصیّاته

 فبيّن‌ أنّ القلوب‌ والإفهام‌ في‌ تلقّي‌ المعارف‌ والكمال‌ مختلفة‌ ، مع‌ كون‌ الجميع‌ متّكئة‌ ومنتهيةً إلی‌ رزقٍ سماويّ واحد ، وبالجملة‌ فهذا أيضاً نعت‌ من‌ نعوت‌ الصراط‌ المستقيم‌ .

 وإذا تأمّلتَ ما تقدّم‌ من‌ نعوت‌ الصراط‌ المستقيم‌ تحصّل‌ لك‌ أنّ الصراط‌ المستقيم‌ مهيمن‌ علی‌ جميع‌ السبل‌ إلی‌ الله‌ والطريق‌ الهادية‌ إلیه‌ تعإلی‌ ، وبمعني‌ أنّ السبيل‌ إلی‌ الله‌ إنّما يكون‌ سبيلاً إلیه‌ موصلاً إلیه‌ بمقدار ما يتضمّنه‌ من‌ الصراط‌ المستقيم‌ حقيقةً ، مع‌ كون‌ الصراط‌ المستقيم‌ هادياً موصلاً إلیه‌ مطلقاً بدون‌ قيد أو شرط‌ ، ولذلك‌ سمّاه‌ الله‌ تعإلی‌ صراطاً مستقيماً ، فإنّ  الصراط‌  هو الواضح‌ من‌ الطريق‌ ، مأخوذ من‌  سرطت‌ سرطاً  إذا  بلعتَ بلعاً، كأنـّه‌ يبلع‌ سالكيه‌ فلا يدعهم‌ يخرجون‌ عنه‌ ولا يدفعهم‌ عن‌ بطنه‌ ، والمستقيم‌  هو الذي‌ يريد أن‌ يقوم‌ علی‌ ساق‌ فيتسلّط‌ علی‌ نفسه‌ وما لنفسه‌ ، كالقائم‌ الذي‌ هو مسلّط‌ علی‌ أمره‌ ، ويرجع‌ المعني‌ إلی‌ أنـّه‌ الذي‌ لايتغيّر أمره‌ ولا يختلف‌ شأنه‌ . ف  الصراط‌ المستقيم‌  ما لايتخلّف‌ حكمه‌ في‌ هدايته‌ وإيصاله‌ سالكيه‌ إلی‌ غايته‌ وقصدهم‌ ، قال‌ تعإلی‌: فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَاعْتَصَمُوا بِهِ  فَسَيدْخِلُهُمْ فِي‌ رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إلَیهِ صِرَ طًا مُّسْتَقِيمًا،  [207] أي‌ لايتخلّف‌ أمر هذه‌ الهداية‌ ، بل‌ هي‌ علی‌ حالها دائماً .

 وقال‌ تعإلی‌ :  وَمَن‌ يُرِدِ اللَهُ أَن‌ يَهْدِيَهُ و  يَشْرَحْ صَدْرَهُ و  لِلإسْلَـ'مِ وَمَن‌ يُرِدْ أَن‌ يُضِلَّهُ و  يَجْعَلْ صَدْرَهُ و  ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنـَّمَا يَصَّعَّدُ فِي‌ السَّمَآءِ كَذَ   لِكَ يَجْعَلُ اللَهُ الرِّجْسَ عَلَی‌ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا صِرَ   طُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ، [208] أي‌ هذه‌ طريقته‌ التي‌ تختلف‌ ولا تتخلّف‌ .

 وقال‌ تعإلی‌ :  قَالَ هَـ'ذَا صِرَ   طٌ عَلَیَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي‌ لَيْسَ لَكَ عَلَیْهِمْ سُلْطَـ'نٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ، [209] أي‌ هذه‌ سنّتي‌ وطريقتي‌ دائماً من‌ غير تغيير ، فهو يجري‌ مجري‌ قوله‌ :  فَلَن‌ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَهِ تَبْدِيلاً وَلَن‌ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَهِ تَحْوِيلاً .[210]

 وقد تبيّن‌ ممّا ذكرنا في‌ معني‌ الصراط‌ المستقيم‌ أُمور :

 أوّلها :   أنّ الطرق‌ إلی‌ الله‌ مختلفة‌ كمالاً ونقصاً وغلإاً ورخصاً ، في‌ جهة‌ قربها من‌ منبع‌ الحقيقة‌ والصراط‌ المستقيم‌ كالإسلام‌ والإيمان‌ والعبادة‌ والإخلاص‌ والإخبات‌ ، كما أنّ مقابلاتها من‌ الكفر والشرك‌ والجحود والطغيان‌ والمعصيته‌ كذلك‌ ، قال‌ سبحانه‌ :  وَلِكُلٍّ دَرَجَـ'تٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيَوَفِّيَهُمْ أَعْمَـ'لَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . [211]

 وهذا نظير المعارف‌ الإلهيّة‌ التي‌ تتلقّاها العقول‌ من‌ الله‌ فإنّها مختلفة‌ باختلاف‌ الاستعدادات‌ ومتلوّنة‌ بألوان‌ القابليّات‌ علی‌ ما يفيده‌ المثل‌ المضروب‌ في‌ قوله‌ تعإلی‌ :  أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا . [212]

 و ثانيها :  أنـّه‌ كما أنّ الصراط‌ المستقيم‌ مهمين‌ علی‌ جميع‌ السبل‌ ، فكذلك‌ أصحابه‌ الذين‌ مكّنهم‌ الله‌ تعإلی‌ فيه‌ وتولّي‌ أمرهم‌ وولاّهم‌ أمر هداية‌ عباده‌ حيث‌ قال‌ :  وَحَسُنَ أُولَـ'´نءِكَ رَفِيقًا ،[213]   وقال‌ تعإلی‌ :  إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَهُ وَرَسُولُهُ و  وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَـ'وةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـ'وةَ وَهُمْ رَ   كِعُونَ . [214]  والآية‌ نازلة‌ في‌  أميرالمؤمنين‌ علیّ بن‌ أبي‌ طالب‌ علیه‌ السلام‌ بالاخبار المتواترة‌ ، وهو علیه‌ السلام‌ أوّل‌ فاتحٍ لهذا الباب‌ من‌ الاُمّة‌ .

 وثالثها : أنّ الهداية‌ إلی‌ الصراط‌ يتعيّن‌ معناها بحسب‌ تعيّن‌ معناه‌ ، فالهداية‌ هي‌ الدلالة‌ وإراءة‌ الغاية‌ بإراءة‌ الطريق‌ ، وهي‌ نحو إيصال‌ إلی‌ المطلوب‌ ، وإنّما تكون‌ من‌ الله‌ سبحانه‌ ، وسنّته‌ سنّة‌ الاسباب‌ بإيجاد سبب‌ ينكشف‌ به‌ المطلوب‌ ويتحقّق‌ به‌ وصول‌ العبد إلی‌ غايته‌ في‌ سيره‌ ، وقد بيّنه‌ الله‌ سبحانه‌ بقوله‌ :  فَمَن‌ يُرِدِ اللَهُ أَن‌ يَهْدِيَهُ و  يَشْرَحْ صَدْرَهُ و  لِلإسْلَـ'مِ ، [215]  وقوله‌ :  ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَی‌' ذِكْرِ اللَهِ ذَ   لِكَ هُدَي‌ اللَهِ يَهْدِي‌ بِهِ مَن‌ يَشَآءُ . [216]  وتعدية‌ قوله‌  تلين‌  ب  إلَی‌'  لتضمين‌ معني‌ مثل‌ الميل‌ والاطمئنان‌ ، فهو إيجاده‌ تعإلی‌ وصفاً في‌ القلب‌ به‌ يقبل‌ ذكر الله‌ ويميل‌ ويطمئن‌ إلیه‌ .

 وكما أنّ  سبله‌ تعإلی‌  مختلفة‌ ، فكذلك‌ الهداية‌ تختلف‌ باختلاف‌  السبل‌ التي‌ تضاف‌ إلیه‌ ، فلكلّ سبيل‌ هداية‌ قبله‌ تختصّ به‌ ، وإلی‌ هذا الاختلاف‌ يشير قوله‌ تعإلی‌ :  وَالَّذِينَ جَـ'هَدُوا فِينَا لَنَهْدِينَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ، [217]

 الرجوع الي الفهرس

 معنی المجاهدة في الله وفي سبیل الله

إذ فرّق‌ بين‌ أن‌ يجاهد العبد في‌ سبيل‌ الله‌ ، وبين‌ أن‌ يُجاهد في‌ الله‌ ، فالمجاهد في‌ الاوّل‌  (جَاهَدُوا فِي‌ سَبِيلِ اللَهِ)  يريد سلامة‌ السبيل‌ ودفع‌ العوايق‌ عنه‌ ، بخلاف‌ المجاهد في‌ الثاني‌  (جَـ'هَدُوا فِينَا)  فإنّه‌ إنّما يريد وجه‌ الله‌ ، فيمدّه‌ الله‌ سبحانه‌ بالهداية‌ إلی‌ سبيلٍ بحسب‌ استعداده‌ الخاصّ به‌ ، وكذا يمدّه‌ الله‌ تعإلی‌ بالهداية‌ إلی‌ السبيل‌ بعد السبيل‌ حتّي‌ يختصّ بنفسه‌ جلّت‌ عظمتُه‌ .

 و رابعها: أنّ الصراط‌ المستقيم‌ لمّا كان‌ أمراً محفوظاً في‌ سبل‌ الله‌ تعإلی‌ علی‌ اختلاف‌ مراتبها ودرجاتها ، صحّ أن‌ يهدي‌ اللهُ الإنسان‌ إلیه‌ وهو مهديّ ، فيهديه‌ من‌ الصراط‌ إلی‌ صراط‌ ، بمعني‌ أن‌ يهديه‌ إلی‌ سبيلٍ من‌ سبله‌ ثمّ يزيد في‌ هدايته‌ فيهتدي‌ من‌ ذلك‌ السبيل‌ إلی‌ ما هو فوقها درجة‌ ، كما أنّ قوله‌ تعإلی‌ :  اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَ   طَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ وَلاَ الضَّإلینَ  ـ وهو تعاي‌ يحيه‌ عمّن‌ هداه‌ بالعبادة‌ ـ من‌ هذا القبيل‌ .

 ولا يرد علیه‌ أنّ سؤال‌ الهداية‌ ممّن‌ هو مهتد بالفعل‌ سؤالٌ لتحصيل‌ الحاصل‌ وهو محال‌ ، وكذا ركوب‌ الصراط‌ بعد فرض‌ ركوبه‌ تحصيل‌ للحاصل‌ ولا يتعلّق‌ به‌ سؤال‌ ، والجواب‌ ظاهر .

 وكذا الإيراد علیه‌ بأنّ شريعتنا أكمل‌ وأوسع‌ من‌ جميع‌ الجهات‌ من‌ شرائع‌ الاُمم‌ السابقة‌ ، فما معني‌ السؤال‌ من‌ الله‌ سبحانه‌ أن‌ يهدينا إلی‌ صراط‌ الذين‌ أنعم‌ الله‌ علیهم‌ منهم‌  ؟  وذلك‌ أنّ كون‌ شريعة‌ أكمل‌ من‌ شريعة‌ أمرٌ ، وكون‌ المتمسّك‌ بشريعة‌ أكمل‌ من‌ المتمسّك‌ بشريعةٍ أمرٌ آخر وراءه‌ ، فإنّ المؤمن‌ المتعارف‌ من‌ مؤمني‌ شريعة‌  محمّد  صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ ـ مع‌ كون‌ شريعته‌ أكمل‌ وأوسع‌ ـ ليس‌ بأكمل‌ من‌  نوح‌ وإبراهيم‌  علیهما السلام‌ مع‌ كون‌ شريعتهما أقدم‌ وأسبق‌ ، وليس‌ ذلك‌ إلاّ أنّ حكم‌ الشرائع‌ والعمل‌ بها غير حكم‌ الولاية‌ الحاصلة‌ من‌ التمكّن‌ فيها والتخلّق‌ بها .

 فصاحبُ مقام‌ التوحيد الخالص‌ ؛ وإن‌ كان‌ من‌ أهل‌ الشرائع‌ السابقة‌ ، أكمل‌ وأفضل‌ ممّن‌ لم‌ يتمكّن‌ من‌ مقام‌ التوحيد ولم‌ تستقرّ حياة‌ المعرفة‌ في‌ روحه‌ ولم‌ يتمكّن‌ نور الهداية‌ الإلهيّة‌ من‌ قلبه‌ ، وإن‌ كان‌ عاملاً بشريعد محمّد صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌ التي‌ هي‌ أكمل‌ الشرائع‌ وأوسعها ، فمن‌ الجائز أن‌ يستهدي‌ صاحب‌ المقام‌ الداني‌ من‌ أهل‌ الشريعة‌ الكاملة‌ ويسأل‌ الله‌ الهداية‌ إلی‌ مقام‌ صاحب‌ المقام‌ العإلی‌ من‌ أهل‌ الشريعة‌ التي‌ هي‌ دونها .

 الرجوع الي الفهرس

مزیّة الشریعة الإسلامیّة بعلوّ معارفها لابکثرة أحکامها

 ومن‌ أعجب‌ ما ذُكر في‌ هذا المقام‌ ما ذكره‌ بعض‌ المحقّقين‌ من‌ أهل‌ التفسير جواباً عن‌ هذه‌ الشبهة‌ : أنّ دين‌ الله‌ واحد وهو الإسلام‌ ، والمعارف‌ الاصليّة‌ وهي‌ التوحيد والنبوّة‌ والمعاد وما يتفرّع‌ علیها من‌ المعارف‌ الكلّيّد واحد في‌ الشرائع‌ ، وإنّما مزية‌ هذه‌ الشريعة‌ علی‌ ما سبقها من‌ الشرائع‌ هي‌ : أنّ الاحكام‌ الفرعيّة‌ فيها أوسع‌ وأشمل‌ لجميع‌ شؤون‌ الحياة‌ ، فهي‌ أكثر عنايةً بحفظ‌ مصالح‌ العباد وثانياً أنّ أساس‌ هذه‌ الشريعة‌ موضوع‌ علی‌ الاستدلال‌ بجميع‌ طرقها من‌ الحكمة‌ والموعظة‌ والجدال‌ الاحسن‌ ، وثالثاً أنّ الدين‌ وإن‌ كان‌ ديناً واحداً والمعارف‌ الكلّيّة‌ في‌ الجميع‌ علی‌ السواء غير أنـّهم‌ سلكوا سبيل‌ ربّهم‌ قبل‌ سلوكنا ، وتقدّموا في‌ ذلك‌ علینا ، فأمرنا الله‌ النظر فيما كانوا علیه‌ والاعتبار بما صاروا إلیه‌ .

 وقد ردّ العلاّمة‌ علی‌ هذا القول‌ بهذا الشكل‌ :

 هذا الكلام‌ مبنيّ علی‌ أُصول‌ في‌ مسلك‌ التفسير مخالفة‌ للاُصول‌ التي‌ يجب‌ أن‌ يبتني‌ مسلك‌ التفسير علیها ، فإنّه‌ مبني‌ علی‌ أنّ حقايق‌ المعارف‌ الاصليّة‌ واحدة‌ من‌ حيث‌ الواقع‌ من‌ غير اختلاف‌ في‌ المراتب‌ والدرجات‌ وكذا ساير الكمالات‌ الباطنيّة‌ المعنويّة‌ ، فأفضل‌ الانبياء المقرّبين‌ مع‌ أحسن‌ المؤمنين‌ من‌ حيث‌ الوجود وكماله‌ الخارجيّ التكوينيّ علی‌ حدٍّ سواء ، وإنّما التفاضل‌ بحسب‌ المقامات‌ المجعولة‌ بالجعل‌ الشتريعيّ من‌ غير أن‌ يتّكي‌ علی‌ تكوين‌ ، كما أنّ التفاضل‌ بين‌ الملك‌ والرعية‌ إنّما هو بحسب‌ المقام‌ الجعلیّ الوضعيّ من‌ غير تفاوت‌ من‌ حيث‌ الوجود الإنسانيّ .

 ولهذا الاصل‌ أصلٌ آخر يبني‌ علیه‌ ، وهو القول‌  بإصالة‌ المادّة‌  ونفي‌ الاصالة‌ عمّا ورائها والتوقّف‌ فيه‌ إلاّ في‌ الله‌ سبحانه‌ بطريق‌ الاستثناء بالدليل‌ ، وقد وقع‌ في‌ هذه‌ الورطة‌ مَن‌ وقع‌ لاحد أمرين‌ : إمّا  القول‌ بالاكتفاء بالحسّ اعتماداً علی‌ العلوم‌ المادّيّة‌ ، وإمّا  إلغاء التدبّر  في‌ القرآن‌ بالاكتفاء بالتفسير بالفهم‌ العامّيّ .

 و خامسها: أنّ مزية‌ أصحاب‌ الصراط‌ المستقيم‌ علی‌ غيرهم‌ ، وكذا صراطهم‌ علی‌ سبيل‌ غيرهم‌ ، إنّما هو بالعلم‌ لابالعمل‌ ، فلهم‌ من‌ العلم‌ بمقام‌ ربّم‌ ما ليس‌ بغيرهم‌ ، إذ قد تبيّن‌ ممّا مرّ أنّ العمل‌ التامّ موجود في‌ بعض‌ السبل‌ التي‌ دون‌ صراطهم‌ ، فلا يبقي‌ لمزيّتهم‌ إلاّ العلم‌ ، وأمّا ما هذا العلم‌  ؟  وكيف‌ هو ؟  فنبحث‌ عنه‌ إن‌ شاء الله‌ في‌ قوله‌ تعإلی‌ :  أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا . [218]

 ويُشعر بهذا المعني‌ قوله‌ تعإلی‌ :  يَرْفَعِ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـ'تٍ ، [219]  وكذا قوله‌ :  إلَیهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلَ الصَّـ'لِحُ يَرْفَعُهُ ، [220]  فالذي‌ يصعد إلیه‌ تعإلی‌ هو الكلم‌ الطيّب‌ وهو الاعتقاد والعلم‌ ، وأمّا العمل‌ الصالح‌ فشأنه‌ رفع‌ الكلم‌ الطيّب‌ والإمداد ، دون‌ الصعود إلیه‌ تعإلی‌ . [221] 

 إلی‌ هنا تنتهي‌ إفادات‌ أُستاذنا الاعظم‌ قدّس‌ الله‌ نفسه‌ في‌ التفسير ، وقد نُقلت‌ بعينها لاحتوائها مطالب‌ عميقة‌ دقيقة‌ وإفاضات‌ رشيقة‌ ، ليصل‌ المطالعون‌ الكرام‌ ؛ بصرف‌ الوقت‌ والتأمّل‌ في‌ مضامينها ؛ إلی‌ نكاتها الفلسفيّة‌ والعرفانيّة‌ ، وأن‌ يدعوا الله‌ سبحانه‌ جادّين‌ ليرزقهم‌ توفيق‌ العمل‌ بالقرآن‌ ، وتوفيق‌ الاهتداء وسلوك‌ الصراط‌ المستقيم‌ ، وأن‌ يجعلهم‌ في‌ معيّة‌ أوليائه‌ المهيمنين‌ علی‌ السبل‌ ، وأن‌ يفيدهم‌ ويمتّعهم‌ بمزايا الصراط‌ المستقيم‌ وفوائده‌ التي‌ تضيق‌ عن‌ الحصر ؛ أي‌ أن‌ يرفعهم‌ من‌ الكثرة‌ إلی‌ الوحدة‌ ، ومن‌ الثنويّة‌ إلی‌ التوحيد ، ومن‌ رؤية‌ الوجه‌ الخلقيّ للموجودات‌ إلی‌ زيارة‌ ولقاء وجه‌ الله‌ ، وخلاصة‌ القول‌ يوصلهم‌ بالطريق‌ والسبيل‌ والنهج‌ إلی‌ الصراط‌ المستقيم‌ .

 ولإيضاح‌ هذا المختصر نقول‌ : إنّ كل‌ موجود من‌ الموجودات‌ ، وكلّ ظاهرة‌ في‌ عالم‌ الخلق‌ تخضع‌ لقانون‌ وبرنامج‌ منظّم‌ لاتتخطّي‌ عنه‌ أبدا ، فهي‌ تتحرّك‌ علی‌ الدوام‌ في‌ الطريق‌ والمسير الذي‌ خطّه‌ لها خالقها ، كلٌّ تحت‌ خصوصيّة‌ من‌ الخصوصيّات‌ وماهيةٍ من‌ الماهيّات‌ ، بلا إفراطٍ وتجاوز وسبق‌ وتعدّي‌ ، وبلا تفريط‌ وقصور وفطور ، مع‌ شروط‌ معيّنة‌ ومعدّات‌ خاصّة‌ إلی‌ المقصد والغاية‌ الطبعيّة‌ والطبيعيّة‌ وكمال‌ الحياة‌ المادّيّة‌ ، كلٌّ ينشد هدفه‌ ويتوجّه‌ نحوه‌ ويطمئنّ إلیه‌ ويسكن‌ .

 هذا من‌ الجهة‌ الظاهريّة‌ ، وهي‌ تختلف‌ في‌ هذه‌ الحالة‌ عن‌ بعضها في‌ البداية‌ والمنتهي‌ ، وفي‌ السير والمسير ، وفي‌ الظروف‌ والعقبات‌ ، وفي‌ الغاية‌ والنتيجة‌ ، وفي‌ الرزق‌ والتحمّل‌ ، وأخيراً فهي‌ تختلف‌ في‌ كلّ شي‌ء وفي‌ جميع‌ الاعراض‌ التسعة‌ التي‌ تطرأ علی‌ الجوهر .

 لكنّ جميع‌ هذه‌ الموجودات‌ ، بلا اختلاف‌ في‌ النهاية‌ ، تتحرّك‌ معاً في‌ توحدّ واتّفاق‌ ، وفي‌ منتهي‌ الاُنس‌ والاُلفة‌ إلی‌ مقصدٍ واحد وهو الله‌ سبحانه‌ ، فهو الذي‌ يمسك‌ بزمام‌ حركتها في‌ الباطن‌ ، كلاًّ علی‌ انفراد ، فيسوقها إلیه‌ .

 فالنملة‌ تختلف‌ عن‌ النحلة‌ وتتفاوت‌ من‌ جميع‌ الجهات‌ ، فكنّهما يتّحدان‌ من‌ هذه‌ الجهة‌ ولا ينفصلان‌ ؛ وبالرغم‌ من‌ اختلاف‌ الإنسان‌ عن‌ الحيوان‌ ، واختلاف‌ أصناف‌ الحيوانات‌ البرّيّة‌ والبحريّة‌ والطائرة‌ عن‌ بعضها ، لكنّها تتّفق‌ وتتّحد جميعاً في‌ سيرها إلی‌ الله‌ ، ذلك‌ السير الذي‌ لا تتوقّف‌ عنه‌ لحظة‌ ولا تبطي‌ في‌ سرعتها واندفاعها فيه‌ .

 فهي‌ دوماً في‌ حالة‌ حركةٍ إلی‌ الله‌ ، في‌ نومها ويقظتها ، وفي‌ حال‌ علمها وجهلها ، وفي‌ حال‌ سقمها وصحّتها ، وفي‌ حال‌ موتها وحياتها ، تتحرّك‌ إلی‌ الله‌ وتبحث‌ عنه‌ بلا وعي‌ٍ منها أو شعور بهذه‌ المسألة‌ . هذه‌ الحركات‌ المختلفة‌ التي‌ لا تنتهي‌ ولا تنحصر باختلافهم‌ فقط‌ في‌ الجنس‌ والنوع‌ والصنف‌ ، بل‌ إنّ كلّ فرد من‌ أفراد الموجودات‌ ، وكلّ ذرّة‌ من‌ الذّرات‌ لها اختلاف‌ فيما بينها ، لا تتّحد مع‌ بعضها ولن‌ تتّحد أبداً ، وذلك‌ ما يُعبّر عنه‌ بالسُبل‌، فتبارك‌ الخالق‌ الحقّ الذي‌ خلق‌ بقدرته‌ وعظمته‌ التي‌ لاينقضي‌ منها العجب‌ هذه‌ الموجودات‌ التي‌ تضيق‌ عن‌ الحصر والإحصاء .

 إنّ الاتّحاد ووحدة‌ الحركة‌ باتّجاه‌ مقر عزّ الله‌ ، التي‌ هي‌ غاية‌ في‌ الاتّحاد بل‌ هي‌ الوحدة‌ ، يعبّر عنها  بالصراط‌ المستقيم‌، حيث‌ إنّ كلّ موجود ، وإن‌ افترق‌ كلّ بسبيله‌ وظاهر خلقته‌ ، لكنّه‌ في‌ باطنه‌ وقرارد نفسه‌ يجد الصراط‌ المستقيم‌ الذي‌ كان‌ السبيل‌ علیه‌ أشبه‌ بالستارة‌ المسدلة‌ التي‌ تخفيه‌ وتغطّيه‌ ، فمن‌ نظر الظاهر رأي‌ سبيلاً مفترقاً منعزلاً مختصّاً بذلك‌ ، ومن‌ التفت‌ إلی‌ الباطن‌ شاهد الكلّ في‌ صراطٍ مستقيمٍ واحد ، ويتّضح‌ له‌ أنّ :

 وَإِن‌ مِّن‌ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ  [222]  كالشمس‌ الطالعة‌  وَلَـ'كِن‌ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، [223]  تُبدَّل‌ إلی‌ تَفْقهون‌ وتَعلمون‌ وتُبصرون‌ وتُشاهدون‌ .

 الرجوع الي الفهرس

تفسیر آیة : مَا مِن‌ دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي‌ عَلَی‌' صِرَ   طٍ مُّسْتَقِيمٌ

 وستتضّح‌ وتتبيّن‌ هذه‌ الآية‌ ونظائرها من‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ الكثيرة‌ الحسنة‌ الجميلة‌ ، كالآية‌ الشريفة‌ :

 مَا مِن‌ دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي‌ عَلَی‌' صِرَ   طٍ مُّسْتَقِيمٌ ، [224]  لانّ المراد من‌ أخذ الناصية‌ سوقها وتحريكها في‌ طريق‌ وأُسلوب‌ معيّن‌ ومقدّر ، والمراد من‌ الصراط‌ المستقيم‌ هو السُّنّة‌ الإلهيّة‌ الواحدة‌ التي‌ تضع‌ جميع‌ الموجودات‌ في‌ هذا الصراط‌ وتهيمن‌ علیها . وقد كان‌ هذا هو قول‌ النبيّ هود علی‌ نبيّنا وآله‌ وعلیه‌ الصلاة‌ والسلام‌ لقومه‌ بعد أن‌ قال‌ :  إِنِّي‌ تَوَكَّلْتُ عَلَی‌ اللَهِ رَبِّي‌ وَرَبِّكُمْ ، [225]  ومن‌ هنا يُعلم‌ أنّ حقيقة‌ التوكّل‌ تعني‌ الخروج‌ والتنصّل‌ من‌ حول‌ النفس‌ وقوّتها واتّخاذ الله‌ وكيلاً وكفيلاً ، وعبارة‌ عن‌ ورود الصراط‌ المستقيم‌ ومشاهدة‌ أنّ زمام‌ المخلوقات‌ جميعاً بِيَدِ الحقّ تعإلی‌ ، لا يُستثني‌ من‌ هذا الحكم‌ حتّي‌ ذرّة‌ واحدة‌ ، فالكلّ قد خضعت‌ رقابهم‌ في‌ مقام‌ العبوديّة‌ ، المؤمن‌ والكافر ، والعادل‌ والفاسق‌ ، يتفّقون‌ ويتّحدون‌ بدون‌ أدني‌ اختلاف‌ واتغيير من‌ جهة‌ أمر التكوين‌ ومن‌ جهة‌ وجه‌ ربّي‌ ومن‌ جهة‌ الوجه‌ الامريّ ، هذه‌ الموجودات‌ نفسها التي‌ كانت‌ تختلف‌ وتتغاير من‌ جهة‌ أمر التشريع‌ والاعتبار ، ومن‌ جهة‌ الوجه‌ الخلقيّ ، ومن‌ جهة‌ جنبة‌ العالم‌ هذه‌ ، لا ينحصر اختلافها ومغايرتها في‌ أُصول‌ وفروع‌ الهيّة‌ والتركيب‌ ، بل‌ يتعدّي‌ ذلك‌ إلی‌ أدقّ مراحل‌ تشخّصها ، فكان‌ كلٌّ يسلك‌ سبيلاً يتحرك‌ فيه‌ غير سبيل‌ الآخر .

 وسرّ ذلك‌ أنّ الله‌ سبحانه‌ واحد ، وجميع‌ الموجودات‌ مخلوقاته‌ هو فحسب‌ ، وبالرغم‌ من‌ أنّ الله‌ قد أوجدها كثيرة‌ الاختلاف‌ ـ وإلاّ لم‌ يكن‌ لها هذه‌ الكثرة‌ والتعدّد ـ ومع‌ ذلك‌ فهي‌ متّصلة‌ به‌ ومرتبطة‌ ، وهي‌ من‌ جهة‌ المخلوقيّة‌ سواء ، فكلّها ظهورات‌ وتجليّات‌ الواحد الذي‌ هو الله‌ ، والتكرار في‌ التجليّ محال‌ غير ممكن‌ ، فقد نشأت‌ كلّها من‌ مبدأ واحد ، وتتحرّك‌ في‌ مسير واحد ، وتنتهي‌ إلی‌ غايةٍ واحدة‌ .

 وكم‌ كان‌ جميلاً بيان‌ العارف‌ الجليل‌ الشيخ‌ محمود الشبستريّ رحمة‌ الله‌ علیه‌ لهذا الامر :

 تو آن‌ واحد كه‌ عين‌ كثرت‌ آمد                      تو آن‌ جمعي‌ كه‌ عين‌ وحدت‌ آمد

 در اين‌ مشهد يكي‌ شد جمع‌ و أفراد                        چو واحد ساري‌ اندر عين‌ أعداد[226]

 كسي‌ اين‌ سِر شناسد كو گذر كرد              ز جزوي‌ سوي‌ كلّي‌ يك‌ سفر كرد [227]

 أي‌ أنّ هذا الربط‌ بين‌ الحادث‌ والقديم‌ ، وبين‌ الخلائق‌ والمخلوق‌ ، ووحدة‌ الذات‌ والصفات‌ والافعال‌ هذه‌ في‌ كثرة‌ الظهورات‌ والمخلوقات‌ ، سيمّكن‌ للإنسان‌ الذي‌ جاوز الطرق‌ السبليّة‌ ووصل‌ إلی‌ الصراط‌ المستقيم‌ ويخطو وفق‌ منهجه‌ وينصرف‌ من‌ رؤية‌ الكثرات‌ الجزئيّد إلی‌ التطلّع‌ إلی‌ جمال‌ المحبوب‌ الواحد الاحد الفرد الصّمد ، أي‌ يسافر من‌ عالم‌ الجزئيّات‌ إلی‌ عالم‌ الكلّيّات‌ والبسائط‌ والانوار ، فيري‌ النور المطلق‌ للحقّ الواحد في‌ جميع‌ ما سواه‌ ، من‌ الذرّة‌ إلی‌ الذروة‌ ، ومن‌ المُلك‌ إلی‌ المَلَكُوت‌ ، ومن‌ أدني‌ إلی‌ أعلی‌ مقام‌ ودرجة‌ الهويّات‌ .

 وهذا هو مقام‌ الإنسان‌ الكامل‌ ، أي‌ الصراط‌ المستقيم‌ ؛ كما قال‌ صادقُ آل‌ محمّد علیه‌ السلام‌ :

 إنَّ الصُّورَةَ الإنْسَانِيَةَ   هِيَ الطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ إلَی‌ كُلِّ خَيْرٍ وَالجِسْرُ المَمْدُودُ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ . [228]

 الرجوع الي الفهرس

خطبة سیّّد الشهداء علیه السلام صبح عاشوراء

 لقد كان‌ سيّد الشهداء علیه‌ السلام‌ حقيقة‌ القرآن‌ الناطق‌ ، [229]  وحقيقة‌ الصراط‌ المستقيم‌ حيث‌ دعا براحلته‌ ـ وفق‌ رواية‌ الطبريّ ـ فركبها ونادي‌ بأعلی‌ صوته‌ بصوتٍ عالٍ دعاءً يسمع‌ جلّ الناس‌ :

 أَيـُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي‌ وَلاَ تَعْجَلُوا حَتَّي‌' أَعَظُمُمْ بِمَا هُوَ حَقٌّ لَكُمْ عَلَیَّ ؛ وَحَتَّي‌ أعْتَذِرُ إلَیكُمْ مِنْ مَقْدَمِي‌ عَلَیْكُمْ !

 فَإن‌ قَبِلْتُمْ عُذْرِي‌ ، وَصَدَّقْتُمْ قَوْلِي‌ ، وَأَعْطَيْتُمونِي‌ النِّصْفَ  [230]   مِنْ أَنْفُسِكُمْ كُنْتُمْ بِذَلِكَ أَسْعَدَ ؛ وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ عَلَیَّ سَبِيلٌ . وَإنْ لَمْ تَقْبَلُوا مِنِّي‌ العُذْرَ وَلَمْ تُعْطُوا النِّصْفَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ؛ فَاجْمَعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَیْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إلَی وَلاَ تُنْظِرُونِ . إنَّ وَلِيِّيَ اللَهُ الَّذِي‌ نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي‌ الصَّالِحِينَ .

 فلمّا أخواته‌ كلامه‌ هذا صحن‌ وبكين‌ ، وبكت‌ بناته‌ فارتفعت‌ أصواتهنّ ، فأرسل‌ إلیهنّ أخاه‌ العبّاس‌ بن‌ علیّ علیهما السلام‌ وعلیّاً ابنه‌ وقال‌ لهما : سكّتاهنّ فلعمري‌ ليكثر بكاؤهنّ .

 فلمّا سكتنَ حَمِدَ الله‌ وأثني‌ علیه‌ ، وذكر الله‌ بما هو أهله‌ ، وصلّي‌ علی‌ النبيّ محمّد ، وعلی‌ ملائكة‌ الله‌ وأنبيائه‌ ، فلم‌ يُسمع‌ متكلّم‌ قطّ قبله‌ ولا بعده‌ أبلغَ في‌ منطقٍ منه‌ . [231]

 ثمّ قال‌ :  الحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي‌ خَلَقَ الدُّنْيَا فَجَعَلَهَا دَارَ فَنَاءٍ وَزَوَالٍ ، مُتَصَرِّفَةً بِأهْلِهَا حَالاً بَعْدَ حَالٍ ، فَالمَغْرُورُ مَنْ غَرَّتْهُ ؛ وَالشَّقِيُّ مَنْ فَتَنَتْهُ .

 فَلاَ تَغُرَّنَكُمْ هَذِهِ الدُّنْيَا فَإنَّهَا تَقْطَعُ رَجَاءَ مَنْ رَكَنَ إلَیهَا ؛ وَتُخَيِّبُ طَمَعَ مَن‌ طَمَعَ فِيهَا ؛ وَأَرَاكُمْ قَدْ اجْتَمَعْتُمْ عَلَی‌ أَمْرٍ قَدْ أَسْخَطْتُمُ اللَهَ فِيهِ عَلَیْكُمْ ؛ وَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ الكَرِيمِ عَنْكُمْ ، وَأَحَلَّ بِكُمْ نِقْمَتَهُ وَجَنَّبَكُمْ رَحْمَتَهُ .

 فَنِعْمَ الرَّبُّ رَبُّنَا ، وَبِئْسَ العَبِيدُ أَنْتُمْ ! أَقْرَرْتُمْ بِالطَّاعَةِ وَآمَنْتُمْ بِالرَّسُولِ مُحَمَّةٍ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ؛ ثُمَّ إنَّكُمْ َحَفْتُمْ إلَی‌ ذُرِّيَّتِهِ وَعِتْرَتِهِ تُرِيدُونَ قَتْلَهُمْ .

 لَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَیْكُمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاكُمْ ذِكْرَ اللَهِ العَظِيمِ ! فَتَبَّاً لَكُمْ وَلِمَا تُرِيدُونَ . إنَّا لِلّهِ وَإنَّا إلَیهِ رَاجِعُونَ . هَؤْلاَءِ قَوْمٌ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ فَبُعْدَاً لِلقَوْمِ الظَّالِمِينَ . [232]

 الرجوع الي الفهرس

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[174]  ـ انظر: «معاد شناسي‌» (=معرفة‌ المعاد) ج‌  8، المجلس‌  51  إلی‌  53، ص‌  13  إلی‌  113.

[175]  ـ الآية‌  6، من‌ السورة‌  84: الانشقاق‌ .

[176]  ـ الآية‌  3، من‌ السورة‌  64: التغابن‌ .

[177]  ـ الآية‌  53، من‌ السورة‌  42: الشوري‌ .

[178]  ـ الآيتان‌  60  و  61، من‌ السورة‌  36: يس‌ .

[179]  ـ الآية‌  186، من‌ السورة‌  2: البقرة‌ .

[180]  ـ الآية‌  60، من‌ السورة‌  40: غافر .

[181]  ـ الآية‌  44، من‌ السورة‌  41: السجدة‌ .

[182]  ـ الآية‌  40، من‌ السورة‌  7: الاعراف‌ .

[183]  ـ الآية‌  81، من‌ السورة‌  20: طه‌ .

[184]  ـ الآية‌  108، من‌ السورة‌  2: البقرة‌ .

[185]  ـ الآيتان‌  6  و  7، من‌ السورة‌  1: الفاتحة‌ .

[186]  ـ الآية‌  11، من‌ السورة‌  58: المجادلة‌ .

[187]  ـ الآية‌  108، من‌ السورة‌  2: البقرة‌ .

[188]  ـ الآيات‌  60  إلی‌  62: من‌ السورة‌  36: يس‌ .

[189]  ـ الآية‌  22، من‌ السورة‌  14: إبراهيم‌ .

[190]  ـ الآية‌  82، من‌ السورة‌  6: الانعام‌ .

[191]  ـ الآية‌  32، من‌ السورة‌  10: يونس‌ .

[192]  ـ الآية‌  82، من‌ السورة‌  6: الانعام‌ .

[193]  ـ الآية‌  69، من‌ السورة‌  4: النساء .

[194]  ـ الآيات‌  65  إلی‌  70، من‌ السورة‌  4: النساء .

[195]  ـ آية‌  19، من‌ السورة‌  57: الحديد .

[196]  ـ الآية‌  69، من‌ السورة‌  29: العنكبوت‌ .

[197]  ـ و سببه‌ أنّ المراد من‌ «الذين‌ أنعمت‌ عليهم‌» خصوص‌ أولياء الله‌ الذين‌ نالوا فوز الوصول‌ إلی‌ الولاية‌ الكلّيّة‌ ، لانّ المراد من‌ النعمة‌ أينما وردت‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌ كان‌ خصوص‌ نعمة‌ الولاية‌ . و علي‌ هذا فإنّ إضافة‌ و نسبة‌ الصراط‌ إلی‌ المنعم‌ عليهم‌ لايختلف‌ عن‌ إضافته‌ إلی‌ الله‌ ، لانّ شرط‌ الولاية‌ الفناء المحض‌ لوليّ الله‌ في‌ ذاته‌ القدسيّة‌ ، و المؤثّر هو وحدة‌ الفاني‌ و المفنيّ فيه‌ ، فصراط‌ الله‌ و صراط‌ وليّ الله‌ صراط‌ واحد حقّاً و حقيقةً .

[198]  ـ الآية‌  108، من‌ السورة‌  12: يوسف‌ .

[199]  ـ الآية‌  15، من‌ السورة‌  31: لقمان‌ .

[200]  ـ الآية‌  115، من‌ السورة‌  4: النساء .

[201]  ـ الآيتان‌  15  و  16، من‌ السورة‌  5: المائدة‌ .

[202]  ـ الآية‌  106، من‌ السورة‌  12: يوسف‌ .

[203]  ـ الآية‌  61، من‌ السورة‌  36: يس‌ .

[204]  ـ الآية‌  116، من‌ السورة‌  6: الانعام‌ .

[205]  ـ الآية‌  30، من‌ السورة‌  30: الروم‌ .

[206]  ـ الآية‌  17، من‌ السورة‌  13: الرعد .

[207]  ـ الآية‌  175، من‌ السورة‌  4: النساء .

[208]  ـ الآيتان‌  126  و  127، من‌ السورة‌  6: الانعام‌ .

[209]  ـ الآيتان‌  42، من‌ السورة‌  15: الحجر .

[210]  ـ الآية‌  43، من‌ السورة‌  35: فاطر .

[211]  ـ الآية‌  19، من‌ السورة‌  46: الاحقاف‌

[212]  ـ الآية‌  17، من‌ السورة‌  13: الرعد .

[213]  ـ الآية‌  69، من‌ السورة‌  4: النساء .

[214]  ـ الآية‌  55، من‌ السورة‌  5: المائدة‌ .

[215]  ـ الآية‌  125، من‌ السورة‌  6: الانعام‌ .

[216]  ـ الآية‌  23، من‌ السورة‌  39: الزمر .

[217]  ـ الآية‌  69، من‌ السورة‌  29: العنكبوت‌ .

[218]  ـ الآية‌  17، من‌ السورة‌  13: الرعد .

[219]  ـ الآية‌  11، من‌ السورة‌  58: المجادلة‌ .

[220]  ـ الآية‌  10، من‌ السورة‌  35: فاطر .

[221]  ـ «الميزان‌ في‌ تفسير القرآن‌» ، ج‌  1، ص‌  26  إلی‌  35  مع‌ حذف‌ بعض‌ المسائل‌ الجزئيّة‌ غير الضروريّة‌ .

[222]  - ‌ قسم‌ من‌ الآية‌  44، من‌ السورة‌  17: الإسرآء .

[223]- قسم‌ من‌ الآية‌  44، من‌ السورة‌  17: الإسرآء .

 الرجوع الي الفهرس

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com