|
|
الصفحة السابقةکلام العلاّمة الطباطبائيّ رضوان الله علیه في تفسیر الصراط المستقیموقد بحثنا بحمد الله ومنّه في سلسلة « علوم ومعارف الإسلام » في قسم « معرفة المعاد » بحثاً كافياً ووافياً في معني الصراط واستقامة وكيفيّة ظهوره وبروزه يوم القيامة ، وصراط الجنّة والنار ؛ [174] لكن من المناسب كثيراً أن لا نتعدّي هنا بيانات أُستاذنا الاكرم وملاذنا الاعظم آية الله العظمي ، سند التحقيق والبرهان ، ومثل التفريد والعرفان ، الحاجّ السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ التبريزيّ أفاض الله علینا من نفحات نفسه القدسيّة ، ومن بركات تربته المنيفة ، فقد ذكر في بيان الآية المباركة اهْدِنَا الصِّرَ طَ الْمُسْتَقِيمَ شرحاً مفيداً وعإلیاً حوي مطالب راقية ومعارف حقّة حقيقيّة ، نورده هنا : أمّا الصراط فهو والطريق والسبيل قريب المعني ، وقد وصف تعإلی الصراط بالاستقامة ، ثمّ بيّن أنـّه الصراط الذي يسلكه الذين أنعم الله تعإلی علیهم ، فالصراط الذي من شأنه ذلك هو الذي سُئل الهداية إلیه ، وهو بمعني الغاية للعبادة ، أي أنّ العبد يسأل ربّه أن تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط . بيان ذلك : أنّ الله سبحانه قرّر في كلامه لنوع الإنسان ، بل لجميع من سواه سبيلاً يسلكون به إلیه سبحانه ، فقال تعإلی : يَـ'´أَيـُّهَا الإنسَـ'نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلَی رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَـ'قِيهِ . [175] وقال تعإلی : وَإلَیهِ الْمَصِيرُ ، [176] وقال : أَلاَ´ إلَی اللَهِ تَصِيرُ الاْمُورُ ؛ [177] إلی غير ذلك من الآيات ، وهي واضحة الدلالة علی أنّ الجميع سالكو سبيل الله ، وأنـّهم سائرون إلی الله سبحانه . ثمّ بيّن أنّ سبيل ليس سبيلاً واحداً ذا نعت واحد ، بل هو منشعب إلی شعبتين منقسمٌ إلی طريقتينِ ، فقال : أَلَمْ أَعْهَدْ إلَیكُمْ يَـ'بَنِي ءَادَمَ أن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَـ'نَ إِنـَّهُ و لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـ'ذَا صِرَ طٌ مُّسْتَقِيمٌ . [178] فهناك طريق مستقيم وطريق آخر وراءه ؛ وقال تعإلی : فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ . [179] وقال تعإلی : ادْعُونِي´ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ . [180] فبيّن تعإلی أنـّه قريب من عباده ، وأنّ الطريق الاقرب إلیه تعإلی طريق عبادته ودعائه ، ثمّ قال في وصف الذين لا يؤمنون : أُلَـ'´نءِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكانٍ بَعِيدٍ ، [181] فبيّن أنّ غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم وسبيلهم بعيدة . فتبيّن أنّ السبيل إلی الله سبيلان : سبيل قريب وهو سبيل المؤمنني ، وسبيل بعيد وهو سبيل غيرهم ، فهذا نحو اختلافٍ في السبيل ؛ وهناك نحو آخر من الاختلاف ، قال تعإلی : إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـَايَـ'تِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَ بُ السَّمَآءِ ، [182] ولولا طروق من متطرّق لم يكن للباب معني ، فهناك طريق من السُّفْل إلی العلوّ . وقال تعإلی : وَمَن يَحْلِلْ عَلَیْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَي' ، [183] والهوي هو السقوط إلی أسفل ، فهناك طريق آخر آخذٌ في السفالة والانحدار ، وقال تعإلی : وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَـ'نِ فَقَدو ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ ، [184] فعرّف الضلال عن سواء السبيل بالشرك لمكان قوله : فقد ضلَّ ...، وعند ذلك تقسّم الناس في طرقهم ثلاثة أقسام : 1 ـ من طريقة إلی فوق ، وهم الذين يؤمنون بآيات الله ولايستكبرون عن عبادته . 2 ـ ومن طريقة إلی السفل ، وهم المغضوب علیهم . 3 ـ ومَن ضلّ الطريق وهو حيران فيه ، وهم الضالّون ؛ وربّما أشعر بهذا التقسيم قوله تعإلی : صِرَ طَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ وَلاَ الضَّإلینَ . [185] والصراط المستقيم لا محالة ليس هو الطريقان الآخران من الطرق الثلاثة ، أعني طريق المغضوب علیهم وطريق الضإلین ، فهو من الطريق الاوّل الذي هو طريق المؤمنين غير المستكبرين ، إلاّ أنّ قوله تعإلی : يَرْفَعِ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـ'تٍ ، [186] يدلّ علی أنّ نفس الطريق الاوّل أيضاً يقع فيه انقسام . وبيانه أنّ كلّ ضلال فهو شرك ، كعكسه علی ما عرفت من قوله تعإلی : وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَـ'نِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَبِيلِ ، [187] وفي هذا المعني قوله تعإلی : أَلَمْ أَعْهَدْ إلَیكُمْ يَـ'بَنِي´ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَـ'نَ إِنـَّهُ و لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـ'ذَا صِرَ طٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا [188] والقرآن يَعُدّ الشرك ظلماً وبالعكس ، كما يدلّ علیه قوله تعإلی حكايةً عن الشيطان لمّا قضي الامر : إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّـ'لِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ إلیمٌ . [189] كما يعدّ الظلم ضلالاً في قوله تعإلی : الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُو´ا إِيمَـ'نَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَـ'´نءِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ، [190] وهو ظاهر من ترتيب الاهتداء والامن من الضلال أو العذاب الذي يستتبعه الضلال ، علی ارتفاع الظلم ولبس الإيمان به . وبالجملة الضلال والشرك والظلم أمرها واحد وهي متلازمة صدقاً ، وهذا هو المراد من قولنا إنّ كلّ واحد منها معرّف بالآخر أو هو الآخر ، فالمراد الاتّحاد في المصداق دون المفهوم . لاشرک و لا ظلم و لا ضلال في الصذاط المستقیمإذا عرفتَ علمتَ أنّ الصراط المستقيم الذي هو صراط غير الضإلین صراطٌ لايقع فيه شرك ولا ظلم البتّة ، كما لا يقع فيه ضلال البتّة ، لا في باطن الجنان من كفر أو خطور لايرضي به الله سبحانه ، ولا في ظاهر الجوارح والاركان من فعل معصيةٍ أو قصورٍ في طاعة ، وهذا هو حقّ التوحيد علماً وعملاً ، إذ لا ثالث لهما فَمَا ذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلَـ'لِ ؟[191] وينطبق علی ذلك قوله تعإلی : الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُو´ا إِيمَـ'نَهُم بِظُلْمٍ أُولَـ'´نءِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ،[192] وفيه تثبيت للامن في الطريق ووعد بالاهتداء التامّ بناءً علی ما ذكروه من كون اسم الفاعل ( مهتدون ) حقيقة في الاستقبال ؛ فليفهم فهذا نعت من نعوت الصراط المستقيم . ثمّ إنئه تعإلی عرّف هؤلاء المنعم علیهم ، الذين نسب الصراط المستقيم إلیهم بقوله تعإلی : وَمَن يُطِعِ اللَهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَـ'´نءِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَهُ عَلَیْهِمْ مِّنَ النَّبِيِّــنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّـ'لِحِينَ وَحَسُنَ اُولَـ'نءِكَ رَفِيقًا . [193] وقد وصف هذا الإيمان والإطاعة قبل هذه الآية بقوله : فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي' يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي´ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا * وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَیْهِمْ أَنِ اقْتَلُو´ا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَـ'رِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنهُمْ وَلَوْ أَنـَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لاَّيَنْنَـ'هُم مِّن لَّدُنَّآ أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنـ'هُمْ صِرَ طًا مُّسْتَقِيمًا * وَمَن يُطِعِ اللَهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَـ'´نءِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَهُ عَلَیْهِمْ مِّنَ النَّبِيِّــنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّـ'لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـ'´نءِكَ رَفِيقًا * ذَ لِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَهِ وَكَفَي بِاللَهِ علیمًا . [194] فوصفهم بالثبات التامّ قولاً وفعلاً وظاهراً وباطناً علی العبوديّة ، لايشذّ منهم شاذّ من هذه الجهة ، ومع ذلك جعل هؤلاء المؤمنين تبعاً لاُولئك المنعم علیهم ، وفي صفٍّ دون صفّهم لمكان مَعَ ولمكان قوله وَحَسُنَ أُولَـ'´نءِكَ رَفِيقًا، ولم يقل فَأُلئك من الَّذِينَ بل قال : فَأُولَـ'´نءِكَ مَعَ الَّذِينَ . ونظير هذه الآية قوله تعإلی : وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَهِ وَرُسُلِهِ أُولَـ'´نءِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَآءِ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِـَايَـ'تِنَا أُولَـ'´نءِكَ أَصْحَـ'بُ الْجَحِيم . [195] وهذا هو إلحاق المؤمنين بالشهداء والصدّيقين في الآخرة ولمكان قوله : عِندَ رَبِّهِمْ ـ وقوله : لَهُم أَجْرُهُمْ. فَأولئك ( وهم أصحاب الصراط المستقيم ) أعلی قدراً وأرفع درجة ومنزلة من هؤلاء وهم المؤمنين الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم من الضلال والشرك والظلم ، فالتدبّر في هذه الآيات يوجب القطع بأن هؤلاء المؤمنين ـ وشأنُهم هذا الشأن ـ فيهم بقيّة بعد لو تمّت فيهم كانوا مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَهُ عَلَیْهِمْ ، وارتقوا من منزلة المصاحبة مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَهُ عَلَیْهِمْ إلی درجة الدخول فيهم ، ولعلّه نوع من العلم بالله ، ذكره في قوله تعإلی : يَرْفَعِ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـ'تٍ . فالصراط المستقيم أصحابه منعم علیهم بنعمة هي أرفع النعم قدراً ، يربو علی نعمة الإيمان التامّ ، وهذا أيضاً نعت من نعوت الصراط المستقيم . ثمّ إنّه تعإلی علی أنـّه كرّر في كلامه ذكر الصراط والسبيل لم ينسب لنفسه أزيد من صراطٍ مستقيمٍ واحد ، وعدّ لنفسه سُبلاً كثيرة ، فقال عزّ من قائل : وَالَّذِينَ جَـ'هَدُوا فِينَا لَنَهْدِينَّهُمْ سُبُلَنَا ، [196] وكذا لم ينسب الصراط المستقيم إلی أحدٍ من خلقه إلاّ ما في هذه الآية صِرَ طَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ ـ الآية ،[197] ولكنّه نسب السبيل إلی غيره من خلقه في عدّة مواضع ، كنسبته إلی النبيّ : قُلْ هَـ'ذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو´ إلَی اللَهِ عَلَی' بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ، [198] وكنسبته إلی المنيب للّه : وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَی ، [199] وكنسبته إلی المؤمنين : وَمَن يِشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَي' وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُوْمِنِينَ نُوَلِّه مَا تَوَلَّي' وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيرًا . [200] الصراط المستقیم واحد مختصّ بالله؛ والسبل کثیرة وتنسب للغیرويُعلم منها أنّ السبيل غير الصراط المستقيم فإنّه يختلف ويتعدّد ويتكثّر باختلاف المتعبّدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط المستقيم ، كما يشير إلیه قوله تعإلی : قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَهِ نُورٌ وَكِتَـ'بٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَ نُهُ و سُبُلَ السَّلَـ'مِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـ'تِ إلَی النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَی' صِرَ طٍ مُّسْتَقِيمٍ . [201] فعدّ السُبل كثيرة والصراط واحداً ، وهذا الصراط المستقيم إمّا هو السبل الكثيرة وإمّا أنـّها تؤدّي إلیه باتّصال بعضها إلی بعض واتّحادها منه . وأيضاً قال تعإلی : وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ، [202] فبيّن أنّ من الشرك ( وهو ضلال ) ما يجتمع مع الإيمان وهو سبيل ، ومنه يعلم أنّ السبيل يجامع الشرك ، لكنَّ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمِ لا يجامع الضّلال ، كما قال : وَلاَ الضَّإلینَ. والتدبّر في هذه الآيات يُعطي أنّ كلّ واحد من هذه السُبل يجامع شيئاً من النقص أو الامتياز ، بخلاف الصراط المستقيم ، وأنّ كلاًّ منها هو الصراط المستقيم لكنّه غير الآخر ويفارقه ، لكنّ الصراط المستقيم يتّحد مع كلٍّ منها في عين أنـّه يتّحد مع ما يخالفه ، كما يستفاد من بعض الآيات المذكورة وغيرها ، كقوله : وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـ'ذَا صِرَ طٌ مُّسْتَقِيمٌ ، [203] وقوله تعإلی : قُلْ إِنَّنِي هَدَ نِي رَبِّي´ إلَی' صِرَ طٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفًا ، [204] فسمّي العبادة صراطاً مستقيماً وسمّي الدين صراطاً مستقيماً وهما مشتركان بين السبل جميعاً . تمثیل المعارف الإلهیّة في الأفهام المختلفة بالصراط المستقیم والسبل إلی اللهفمثل الصراط المستقيم بالنسبة إلی سبل الله تعإلی كمثل الروح بالنسبة إلی البدن ، فكما أنّ للبدن أطواراً في حياته هو عند كلّ طور غيره عند طورٍ آخر ، كالصِّبا والطغواة والمُراهقَة والشباب والكهولة والهرم ، لكنّ الروح هي الروح وهي متّحدة بها ، والبدن يمكن أن تطرأ علیه أطوار تنافي ما تحبّه وتقتضيه الروح لو خلّيت ونفسها بخلاف الروح ، فِطْرَتَ اللَهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا ،[205] والبدن مع ذلك هو الروح أعني الإنسان ، فكذلك السبيل إلی الله تعإلی هو الصراط المستقيم ، إلاّ أنّ السبيل كسبيل المؤمنين وسبيل المنيبين وسبيل المتّبعين للنبيّ أو غير ذلك من سبل الله تعإلی ، ربّما اتّصلت به آفة من خارج أو نقص ، لكنّهما لايعرضان الصراط المستقيم ، كما عرفت أنّ الإيمان وهو سبيل ربّما يجامع الشرك والضلال ولكن لايجتمع مع شيء من ذلك الصراط المستقيم ؛ فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه وشوبه وقربه وبُعده ، والجميع علی الصراط المستقيم أو هي هو . وقد بيّن الله سبحانه هذا المعني ، أعني اختلاف السبيل إلی الله مع كون الجميع من صراطه المستقيم في مثلٍ ضربه للحقّ والباطل في كلامه فقال تعإلی : أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَیْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَـ'عٍ زَّبَدٌ مِّثْلُهُ و كَذَ لِكَ يَضْرِبُ اللَهُ الْحَقَّ وَالْبَـ'طِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الاْرْضِ كَذَ لِكَ يَضْرِبُ اللَهُ الاْمْثَالَ . [206] صفات الصراط المستقیم وخصوصیّاتهفبيّن أنّ القلوب والإفهام في تلقّي المعارف والكمال مختلفة ، مع كون الجميع متّكئة ومنتهيةً إلی رزقٍ سماويّ واحد ، وبالجملة فهذا أيضاً نعت من نعوت الصراط المستقيم . وإذا تأمّلتَ ما تقدّم من نعوت الصراط المستقيم تحصّل لك أنّ الصراط المستقيم مهيمن علی جميع السبل إلی الله والطريق الهادية إلیه تعإلی ، وبمعني أنّ السبيل إلی الله إنّما يكون سبيلاً إلیه موصلاً إلیه بمقدار ما يتضمّنه من الصراط المستقيم حقيقةً ، مع كون الصراط المستقيم هادياً موصلاً إلیه مطلقاً بدون قيد أو شرط ، ولذلك سمّاه الله تعإلی صراطاً مستقيماً ، فإنّ الصراط هو الواضح من الطريق ، مأخوذ من سرطت سرطاً إذا بلعتَ بلعاً، كأنـّه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجون عنه ولا يدفعهم عن بطنه ، والمستقيم هو الذي يريد أن يقوم علی ساق فيتسلّط علی نفسه وما لنفسه ، كالقائم الذي هو مسلّط علی أمره ، ويرجع المعني إلی أنـّه الذي لايتغيّر أمره ولا يختلف شأنه . ف الصراط المستقيم ما لايتخلّف حكمه في هدايته وإيصاله سالكيه إلی غايته وقصدهم ، قال تعإلی: فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إلَیهِ صِرَ طًا مُّسْتَقِيمًا، [207] أي لايتخلّف أمر هذه الهداية ، بل هي علی حالها دائماً . وقال تعإلی : وَمَن يُرِدِ اللَهُ أَن يَهْدِيَهُ و يَشْرَحْ صَدْرَهُ و لِلإسْلَـ'مِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ و يَجْعَلْ صَدْرَهُ و ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنـَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ كَذَ لِكَ يَجْعَلُ اللَهُ الرِّجْسَ عَلَی الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا صِرَ طُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ، [208] أي هذه طريقته التي تختلف ولا تتخلّف . وقال تعإلی : قَالَ هَـ'ذَا صِرَ طٌ عَلَیَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَیْهِمْ سُلْطَـ'نٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ، [209] أي هذه سنّتي وطريقتي دائماً من غير تغيير ، فهو يجري مجري قوله : فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَهِ تَحْوِيلاً .[210] وقد تبيّن ممّا ذكرنا في معني الصراط المستقيم أُمور : أوّلها : أنّ الطرق إلی الله مختلفة كمالاً ونقصاً وغلإاً ورخصاً ، في جهة قربها من منبع الحقيقة والصراط المستقيم كالإسلام والإيمان والعبادة والإخلاص والإخبات ، كما أنّ مقابلاتها من الكفر والشرك والجحود والطغيان والمعصيته كذلك ، قال سبحانه : وَلِكُلٍّ دَرَجَـ'تٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيَوَفِّيَهُمْ أَعْمَـ'لَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . [211] وهذا نظير المعارف الإلهيّة التي تتلقّاها العقول من الله فإنّها مختلفة باختلاف الاستعدادات ومتلوّنة بألوان القابليّات علی ما يفيده المثل المضروب في قوله تعإلی : أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا . [212] و ثانيها : أنـّه كما أنّ الصراط المستقيم مهمين علی جميع السبل ، فكذلك أصحابه الذين مكّنهم الله تعإلی فيه وتولّي أمرهم وولاّهم أمر هداية عباده حيث قال : وَحَسُنَ أُولَـ'´نءِكَ رَفِيقًا ،[213] وقال تعإلی : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَهُ وَرَسُولُهُ و وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَـ'وةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـ'وةَ وَهُمْ رَ كِعُونَ . [214] والآية نازلة في أميرالمؤمنين علیّ بن أبي طالب علیه السلام بالاخبار المتواترة ، وهو علیه السلام أوّل فاتحٍ لهذا الباب من الاُمّة . وثالثها : أنّ الهداية إلی الصراط يتعيّن معناها بحسب تعيّن معناه ، فالهداية هي الدلالة وإراءة الغاية بإراءة الطريق ، وهي نحو إيصال إلی المطلوب ، وإنّما تكون من الله سبحانه ، وسنّته سنّة الاسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب ويتحقّق به وصول العبد إلی غايته في سيره ، وقد بيّنه الله سبحانه بقوله : فَمَن يُرِدِ اللَهُ أَن يَهْدِيَهُ و يَشْرَحْ صَدْرَهُ و لِلإسْلَـ'مِ ، [215] وقوله : ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَی' ذِكْرِ اللَهِ ذَ لِكَ هُدَي اللَهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ . [216] وتعدية قوله تلين ب إلَی' لتضمين معني مثل الميل والاطمئنان ، فهو إيجاده تعإلی وصفاً في القلب به يقبل ذكر الله ويميل ويطمئن إلیه . وكما أنّ سبله تعإلی مختلفة ، فكذلك الهداية تختلف باختلاف السبل التي تضاف إلیه ، فلكلّ سبيل هداية قبله تختصّ به ، وإلی هذا الاختلاف يشير قوله تعإلی : وَالَّذِينَ جَـ'هَدُوا فِينَا لَنَهْدِينَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ، [217] معنی المجاهدة في الله وفي سبیل اللهإذ فرّق بين أن يجاهد العبد في سبيل الله ، وبين أن يُجاهد في الله ، فالمجاهد في الاوّل (جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَهِ) يريد سلامة السبيل ودفع العوايق عنه ، بخلاف المجاهد في الثاني (جَـ'هَدُوا فِينَا) فإنّه إنّما يريد وجه الله ، فيمدّه الله سبحانه بالهداية إلی سبيلٍ بحسب استعداده الخاصّ به ، وكذا يمدّه الله تعإلی بالهداية إلی السبيل بعد السبيل حتّي يختصّ بنفسه جلّت عظمتُه . و رابعها: أنّ الصراط المستقيم لمّا كان أمراً محفوظاً في سبل الله تعإلی علی اختلاف مراتبها ودرجاتها ، صحّ أن يهدي اللهُ الإنسان إلیه وهو مهديّ ، فيهديه من الصراط إلی صراط ، بمعني أن يهديه إلی سبيلٍ من سبله ثمّ يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلی ما هو فوقها درجة ، كما أنّ قوله تعإلی : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَ طَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ وَلاَ الضَّإلینَ ـ وهو تعاي يحيه عمّن هداه بالعبادة ـ من هذا القبيل . ولا يرد علیه أنّ سؤال الهداية ممّن هو مهتد بالفعل سؤالٌ لتحصيل الحاصل وهو محال ، وكذا ركوب الصراط بعد فرض ركوبه تحصيل للحاصل ولا يتعلّق به سؤال ، والجواب ظاهر . وكذا الإيراد علیه بأنّ شريعتنا أكمل وأوسع من جميع الجهات من شرائع الاُمم السابقة ، فما معني السؤال من الله سبحانه أن يهدينا إلی صراط الذين أنعم الله علیهم منهم ؟ وذلك أنّ كون شريعة أكمل من شريعة أمرٌ ، وكون المتمسّك بشريعة أكمل من المتمسّك بشريعةٍ أمرٌ آخر وراءه ، فإنّ المؤمن المتعارف من مؤمني شريعة محمّد صلّي الله علیه وآله ـ مع كون شريعته أكمل وأوسع ـ ليس بأكمل من نوح وإبراهيم علیهما السلام مع كون شريعتهما أقدم وأسبق ، وليس ذلك إلاّ أنّ حكم الشرائع والعمل بها غير حكم الولاية الحاصلة من التمكّن فيها والتخلّق بها . فصاحبُ مقام التوحيد الخالص ؛ وإن كان من أهل الشرائع السابقة ، أكمل وأفضل ممّن لم يتمكّن من مقام التوحيد ولم تستقرّ حياة المعرفة في روحه ولم يتمكّن نور الهداية الإلهيّة من قلبه ، وإن كان عاملاً بشريعد محمّد صلّي الله علیه وآله وسلّم التي هي أكمل الشرائع وأوسعها ، فمن الجائز أن يستهدي صاحب المقام الداني من أهل الشريعة الكاملة ويسأل الله الهداية إلی مقام صاحب المقام العإلی من أهل الشريعة التي هي دونها . مزیّة الشریعة الإسلامیّة بعلوّ معارفها لابکثرة أحکامهاومن أعجب ما ذُكر في هذا المقام ما ذكره بعض المحقّقين من أهل التفسير جواباً عن هذه الشبهة : أنّ دين الله واحد وهو الإسلام ، والمعارف الاصليّة وهي التوحيد والنبوّة والمعاد وما يتفرّع علیها من المعارف الكلّيّد واحد في الشرائع ، وإنّما مزية هذه الشريعة علی ما سبقها من الشرائع هي : أنّ الاحكام الفرعيّة فيها أوسع وأشمل لجميع شؤون الحياة ، فهي أكثر عنايةً بحفظ مصالح العباد وثانياً أنّ أساس هذه الشريعة موضوع علی الاستدلال بجميع طرقها من الحكمة والموعظة والجدال الاحسن ، وثالثاً أنّ الدين وإن كان ديناً واحداً والمعارف الكلّيّة في الجميع علی السواء غير أنـّهم سلكوا سبيل ربّهم قبل سلوكنا ، وتقدّموا في ذلك علینا ، فأمرنا الله النظر فيما كانوا علیه والاعتبار بما صاروا إلیه . وقد ردّ العلاّمة علی هذا القول بهذا الشكل : هذا الكلام مبنيّ علی أُصول في مسلك التفسير مخالفة للاُصول التي يجب أن يبتني مسلك التفسير علیها ، فإنّه مبني علی أنّ حقايق المعارف الاصليّة واحدة من حيث الواقع من غير اختلاف في المراتب والدرجات وكذا ساير الكمالات الباطنيّة المعنويّة ، فأفضل الانبياء المقرّبين مع أحسن المؤمنين من حيث الوجود وكماله الخارجيّ التكوينيّ علی حدٍّ سواء ، وإنّما التفاضل بحسب المقامات المجعولة بالجعل الشتريعيّ من غير أن يتّكي علی تكوين ، كما أنّ التفاضل بين الملك والرعية إنّما هو بحسب المقام الجعلیّ الوضعيّ من غير تفاوت من حيث الوجود الإنسانيّ . ولهذا الاصل أصلٌ آخر يبني علیه ، وهو القول بإصالة المادّة ونفي الاصالة عمّا ورائها والتوقّف فيه إلاّ في الله سبحانه بطريق الاستثناء بالدليل ، وقد وقع في هذه الورطة مَن وقع لاحد أمرين : إمّا القول بالاكتفاء بالحسّ اعتماداً علی العلوم المادّيّة ، وإمّا إلغاء التدبّر في القرآن بالاكتفاء بالتفسير بالفهم العامّيّ . و خامسها: أنّ مزية أصحاب الصراط المستقيم علی غيرهم ، وكذا صراطهم علی سبيل غيرهم ، إنّما هو بالعلم لابالعمل ، فلهم من العلم بمقام ربّم ما ليس بغيرهم ، إذ قد تبيّن ممّا مرّ أنّ العمل التامّ موجود في بعض السبل التي دون صراطهم ، فلا يبقي لمزيّتهم إلاّ العلم ، وأمّا ما هذا العلم ؟ وكيف هو ؟ فنبحث عنه إن شاء الله في قوله تعإلی : أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا . [218] ويُشعر بهذا المعني قوله تعإلی : يَرْفَعِ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـ'تٍ ، [219] وكذا قوله : إلَیهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلَ الصَّـ'لِحُ يَرْفَعُهُ ، [220] فالذي يصعد إلیه تعإلی هو الكلم الطيّب وهو الاعتقاد والعلم ، وأمّا العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيّب والإمداد ، دون الصعود إلیه تعإلی . [221] إلی هنا تنتهي إفادات أُستاذنا الاعظم قدّس الله نفسه في التفسير ، وقد نُقلت بعينها لاحتوائها مطالب عميقة دقيقة وإفاضات رشيقة ، ليصل المطالعون الكرام ؛ بصرف الوقت والتأمّل في مضامينها ؛ إلی نكاتها الفلسفيّة والعرفانيّة ، وأن يدعوا الله سبحانه جادّين ليرزقهم توفيق العمل بالقرآن ، وتوفيق الاهتداء وسلوك الصراط المستقيم ، وأن يجعلهم في معيّة أوليائه المهيمنين علی السبل ، وأن يفيدهم ويمتّعهم بمزايا الصراط المستقيم وفوائده التي تضيق عن الحصر ؛ أي أن يرفعهم من الكثرة إلی الوحدة ، ومن الثنويّة إلی التوحيد ، ومن رؤية الوجه الخلقيّ للموجودات إلی زيارة ولقاء وجه الله ، وخلاصة القول يوصلهم بالطريق والسبيل والنهج إلی الصراط المستقيم . ولإيضاح هذا المختصر نقول : إنّ كل موجود من الموجودات ، وكلّ ظاهرة في عالم الخلق تخضع لقانون وبرنامج منظّم لاتتخطّي عنه أبدا ، فهي تتحرّك علی الدوام في الطريق والمسير الذي خطّه لها خالقها ، كلٌّ تحت خصوصيّة من الخصوصيّات وماهيةٍ من الماهيّات ، بلا إفراطٍ وتجاوز وسبق وتعدّي ، وبلا تفريط وقصور وفطور ، مع شروط معيّنة ومعدّات خاصّة إلی المقصد والغاية الطبعيّة والطبيعيّة وكمال الحياة المادّيّة ، كلٌّ ينشد هدفه ويتوجّه نحوه ويطمئنّ إلیه ويسكن . هذا من الجهة الظاهريّة ، وهي تختلف في هذه الحالة عن بعضها في البداية والمنتهي ، وفي السير والمسير ، وفي الظروف والعقبات ، وفي الغاية والنتيجة ، وفي الرزق والتحمّل ، وأخيراً فهي تختلف في كلّ شيء وفي جميع الاعراض التسعة التي تطرأ علی الجوهر . لكنّ جميع هذه الموجودات ، بلا اختلاف في النهاية ، تتحرّك معاً في توحدّ واتّفاق ، وفي منتهي الاُنس والاُلفة إلی مقصدٍ واحد وهو الله سبحانه ، فهو الذي يمسك بزمام حركتها في الباطن ، كلاًّ علی انفراد ، فيسوقها إلیه . فالنملة تختلف عن النحلة وتتفاوت من جميع الجهات ، فكنّهما يتّحدان من هذه الجهة ولا ينفصلان ؛ وبالرغم من اختلاف الإنسان عن الحيوان ، واختلاف أصناف الحيوانات البرّيّة والبحريّة والطائرة عن بعضها ، لكنّها تتّفق وتتّحد جميعاً في سيرها إلی الله ، ذلك السير الذي لا تتوقّف عنه لحظة ولا تبطي في سرعتها واندفاعها فيه . فهي دوماً في حالة حركةٍ إلی الله ، في نومها ويقظتها ، وفي حال علمها وجهلها ، وفي حال سقمها وصحّتها ، وفي حال موتها وحياتها ، تتحرّك إلی الله وتبحث عنه بلا وعيٍ منها أو شعور بهذه المسألة . هذه الحركات المختلفة التي لا تنتهي ولا تنحصر باختلافهم فقط في الجنس والنوع والصنف ، بل إنّ كلّ فرد من أفراد الموجودات ، وكلّ ذرّة من الذّرات لها اختلاف فيما بينها ، لا تتّحد مع بعضها ولن تتّحد أبداً ، وذلك ما يُعبّر عنه بالسُبل، فتبارك الخالق الحقّ الذي خلق بقدرته وعظمته التي لاينقضي منها العجب هذه الموجودات التي تضيق عن الحصر والإحصاء . إنّ الاتّحاد ووحدة الحركة باتّجاه مقر عزّ الله ، التي هي غاية في الاتّحاد بل هي الوحدة ، يعبّر عنها بالصراط المستقيم، حيث إنّ كلّ موجود ، وإن افترق كلّ بسبيله وظاهر خلقته ، لكنّه في باطنه وقرارد نفسه يجد الصراط المستقيم الذي كان السبيل علیه أشبه بالستارة المسدلة التي تخفيه وتغطّيه ، فمن نظر الظاهر رأي سبيلاً مفترقاً منعزلاً مختصّاً بذلك ، ومن التفت إلی الباطن شاهد الكلّ في صراطٍ مستقيمٍ واحد ، ويتّضح له أنّ : وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [222] كالشمس الطالعة وَلَـ'كِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، [223] تُبدَّل إلی تَفْقهون وتَعلمون وتُبصرون وتُشاهدون . تفسیر آیة : مَا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَی' صِرَ طٍ مُّسْتَقِيمٌوستتضّح وتتبيّن هذه الآية ونظائرها من الآيات القرآنيّة الكثيرة الحسنة الجميلة ، كالآية الشريفة : مَا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَی' صِرَ طٍ مُّسْتَقِيمٌ ، [224] لانّ المراد من أخذ الناصية سوقها وتحريكها في طريق وأُسلوب معيّن ومقدّر ، والمراد من الصراط المستقيم هو السُّنّة الإلهيّة الواحدة التي تضع جميع الموجودات في هذا الصراط وتهيمن علیها . وقد كان هذا هو قول النبيّ هود علی نبيّنا وآله وعلیه الصلاة والسلام لقومه بعد أن قال : إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَی اللَهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، [225] ومن هنا يُعلم أنّ حقيقة التوكّل تعني الخروج والتنصّل من حول النفس وقوّتها واتّخاذ الله وكيلاً وكفيلاً ، وعبارة عن ورود الصراط المستقيم ومشاهدة أنّ زمام المخلوقات جميعاً بِيَدِ الحقّ تعإلی ، لا يُستثني من هذا الحكم حتّي ذرّة واحدة ، فالكلّ قد خضعت رقابهم في مقام العبوديّة ، المؤمن والكافر ، والعادل والفاسق ، يتفّقون ويتّحدون بدون أدني اختلاف واتغيير من جهة أمر التكوين ومن جهة وجه ربّي ومن جهة الوجه الامريّ ، هذه الموجودات نفسها التي كانت تختلف وتتغاير من جهة أمر التشريع والاعتبار ، ومن جهة الوجه الخلقيّ ، ومن جهة جنبة العالم هذه ، لا ينحصر اختلافها ومغايرتها في أُصول وفروع الهيّة والتركيب ، بل يتعدّي ذلك إلی أدقّ مراحل تشخّصها ، فكان كلٌّ يسلك سبيلاً يتحرك فيه غير سبيل الآخر . وسرّ ذلك أنّ الله سبحانه واحد ، وجميع الموجودات مخلوقاته هو فحسب ، وبالرغم من أنّ الله قد أوجدها كثيرة الاختلاف ـ وإلاّ لم يكن لها هذه الكثرة والتعدّد ـ ومع ذلك فهي متّصلة به ومرتبطة ، وهي من جهة المخلوقيّة سواء ، فكلّها ظهورات وتجليّات الواحد الذي هو الله ، والتكرار في التجليّ محال غير ممكن ، فقد نشأت كلّها من مبدأ واحد ، وتتحرّك في مسير واحد ، وتنتهي إلی غايةٍ واحدة . وكم كان جميلاً بيان العارف الجليل الشيخ محمود الشبستريّ رحمة الله علیه لهذا الامر : تو آن واحد كه عين كثرت آمد تو آن جمعي كه عين وحدت آمد در اين مشهد يكي شد جمع و أفراد چو واحد ساري اندر عين أعداد[226] كسي اين سِر شناسد كو گذر كرد ز جزوي سوي كلّي يك سفر كرد [227] أي أنّ هذا الربط بين الحادث والقديم ، وبين الخلائق والمخلوق ، ووحدة الذات والصفات والافعال هذه في كثرة الظهورات والمخلوقات ، سيمّكن للإنسان الذي جاوز الطرق السبليّة ووصل إلی الصراط المستقيم ويخطو وفق منهجه وينصرف من رؤية الكثرات الجزئيّد إلی التطلّع إلی جمال المحبوب الواحد الاحد الفرد الصّمد ، أي يسافر من عالم الجزئيّات إلی عالم الكلّيّات والبسائط والانوار ، فيري النور المطلق للحقّ الواحد في جميع ما سواه ، من الذرّة إلی الذروة ، ومن المُلك إلی المَلَكُوت ، ومن أدني إلی أعلی مقام ودرجة الهويّات . وهذا هو مقام الإنسان الكامل ، أي الصراط المستقيم ؛ كما قال صادقُ آل محمّد علیه السلام : إنَّ الصُّورَةَ الإنْسَانِيَةَ هِيَ الطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ إلَی كُلِّ خَيْرٍ وَالجِسْرُ المَمْدُودُ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ . [228] خطبة سیّّد الشهداء علیه السلام صبح عاشوراءلقد كان سيّد الشهداء علیه السلام حقيقة القرآن الناطق ، [229] وحقيقة الصراط المستقيم حيث دعا براحلته ـ وفق رواية الطبريّ ـ فركبها ونادي بأعلی صوته بصوتٍ عالٍ دعاءً يسمع جلّ الناس : أَيـُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي وَلاَ تَعْجَلُوا حَتَّي' أَعَظُمُمْ بِمَا هُوَ حَقٌّ لَكُمْ عَلَیَّ ؛ وَحَتَّي أعْتَذِرُ إلَیكُمْ مِنْ مَقْدَمِي عَلَیْكُمْ ! فَإن قَبِلْتُمْ عُذْرِي ، وَصَدَّقْتُمْ قَوْلِي ، وَأَعْطَيْتُمونِي النِّصْفَ [230] مِنْ أَنْفُسِكُمْ كُنْتُمْ بِذَلِكَ أَسْعَدَ ؛ وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ عَلَیَّ سَبِيلٌ . وَإنْ لَمْ تَقْبَلُوا مِنِّي العُذْرَ وَلَمْ تُعْطُوا النِّصْفَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ؛ فَاجْمَعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَیْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إلَی وَلاَ تُنْظِرُونِ . إنَّ وَلِيِّيَ اللَهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ . فلمّا أخواته كلامه هذا صحن وبكين ، وبكت بناته فارتفعت أصواتهنّ ، فأرسل إلیهنّ أخاه العبّاس بن علیّ علیهما السلام وعلیّاً ابنه وقال لهما : سكّتاهنّ فلعمري ليكثر بكاؤهنّ . فلمّا سكتنَ حَمِدَ الله وأثني علیه ، وذكر الله بما هو أهله ، وصلّي علی النبيّ محمّد ، وعلی ملائكة الله وأنبيائه ، فلم يُسمع متكلّم قطّ قبله ولا بعده أبلغَ في منطقٍ منه . [231] ثمّ قال : الحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ الدُّنْيَا فَجَعَلَهَا دَارَ فَنَاءٍ وَزَوَالٍ ، مُتَصَرِّفَةً بِأهْلِهَا حَالاً بَعْدَ حَالٍ ، فَالمَغْرُورُ مَنْ غَرَّتْهُ ؛ وَالشَّقِيُّ مَنْ فَتَنَتْهُ . فَلاَ تَغُرَّنَكُمْ هَذِهِ الدُّنْيَا فَإنَّهَا تَقْطَعُ رَجَاءَ مَنْ رَكَنَ إلَیهَا ؛ وَتُخَيِّبُ طَمَعَ مَن طَمَعَ فِيهَا ؛ وَأَرَاكُمْ قَدْ اجْتَمَعْتُمْ عَلَی أَمْرٍ قَدْ أَسْخَطْتُمُ اللَهَ فِيهِ عَلَیْكُمْ ؛ وَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ الكَرِيمِ عَنْكُمْ ، وَأَحَلَّ بِكُمْ نِقْمَتَهُ وَجَنَّبَكُمْ رَحْمَتَهُ . فَنِعْمَ الرَّبُّ رَبُّنَا ، وَبِئْسَ العَبِيدُ أَنْتُمْ ! أَقْرَرْتُمْ بِالطَّاعَةِ وَآمَنْتُمْ بِالرَّسُولِ مُحَمَّةٍ صَلَّي اللَهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ؛ ثُمَّ إنَّكُمْ َحَفْتُمْ إلَی ذُرِّيَّتِهِ وَعِتْرَتِهِ تُرِيدُونَ قَتْلَهُمْ . لَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَیْكُمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاكُمْ ذِكْرَ اللَهِ العَظِيمِ ! فَتَبَّاً لَكُمْ وَلِمَا تُرِيدُونَ . إنَّا لِلّهِ وَإنَّا إلَیهِ رَاجِعُونَ . هَؤْلاَءِ قَوْمٌ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ فَبُعْدَاً لِلقَوْمِ الظَّالِمِينَ . [232] ارجاعات [174] ـ انظر: «معاد شناسي» (=معرفة المعاد) ج 8، المجلس 51 إلی 53، ص 13 إلی 113. [175] ـ الآية 6، من السورة 84: الانشقاق . [176] ـ الآية 3، من السورة 64: التغابن . [177] ـ الآية 53، من السورة 42: الشوري . [178] ـ الآيتان 60 و 61، من السورة 36: يس . [179] ـ الآية 186، من السورة 2: البقرة . [180] ـ الآية 60، من السورة 40: غافر . [181] ـ الآية 44، من السورة 41: السجدة . [182] ـ الآية 40، من السورة 7: الاعراف . [183] ـ الآية 81، من السورة 20: طه . [184] ـ الآية 108، من السورة 2: البقرة . [185] ـ الآيتان 6 و 7، من السورة 1: الفاتحة . [186] ـ الآية 11، من السورة 58: المجادلة . [187] ـ الآية 108، من السورة 2: البقرة . [188] ـ الآيات 60 إلی 62: من السورة 36: يس . [189] ـ الآية 22، من السورة 14: إبراهيم . [190] ـ الآية 82، من السورة 6: الانعام . [191] ـ الآية 32، من السورة 10: يونس . [192] ـ الآية 82، من السورة 6: الانعام . [193] ـ الآية 69، من السورة 4: النساء . [194] ـ الآيات 65 إلی 70، من السورة 4: النساء . [195] ـ آية 19، من السورة 57: الحديد . [196] ـ الآية 69، من السورة 29: العنكبوت . [197] ـ و سببه أنّ المراد من «الذين أنعمت عليهم» خصوص أولياء الله الذين نالوا فوز الوصول إلی الولاية الكلّيّة ، لانّ المراد من النعمة أينما وردت في القرآن الكريم كان خصوص نعمة الولاية . و علي هذا فإنّ إضافة و نسبة الصراط إلی المنعم عليهم لايختلف عن إضافته إلی الله ، لانّ شرط الولاية الفناء المحض لوليّ الله في ذاته القدسيّة ، و المؤثّر هو وحدة الفاني و المفنيّ فيه ، فصراط الله و صراط وليّ الله صراط واحد حقّاً و حقيقةً . [198] ـ الآية 108، من السورة 12: يوسف . [199] ـ الآية 15، من السورة 31: لقمان . [200] ـ الآية 115، من السورة 4: النساء . [201] ـ الآيتان 15 و 16، من السورة 5: المائدة . [202] ـ الآية 106، من السورة 12: يوسف . [203] ـ الآية 61، من السورة 36: يس . [204] ـ الآية 116، من السورة 6: الانعام . [205] ـ الآية 30، من السورة 30: الروم . [206] ـ الآية 17، من السورة 13: الرعد . [207] ـ الآية 175، من السورة 4: النساء . [208] ـ الآيتان 126 و 127، من السورة 6: الانعام . [209] ـ الآيتان 42، من السورة 15: الحجر . [210] ـ الآية 43، من السورة 35: فاطر . [211] ـ الآية 19، من السورة 46: الاحقاف [212] ـ الآية 17، من السورة 13: الرعد . [213] ـ الآية 69، من السورة 4: النساء . [214] ـ الآية 55، من السورة 5: المائدة . [215] ـ الآية 125، من السورة 6: الانعام . [216] ـ الآية 23، من السورة 39: الزمر . [217] ـ الآية 69، من السورة 29: العنكبوت . [218] ـ الآية 17، من السورة 13: الرعد . [219] ـ الآية 11، من السورة 58: المجادلة . [220] ـ الآية 10، من السورة 35: فاطر . [221] ـ «الميزان في تفسير القرآن» ، ج 1، ص 26 إلی 35 مع حذف بعض المسائل الجزئيّة غير الضروريّة . [222] - قسم من الآية 44، من السورة 17: الإسرآء . |
|
|