بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة المعاد / المجلد السابع / القسم الثالث: الشهادة علی الاعمال، مواصفات الشهود علی الاعمال

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

الدرس‌ الرابع‌ والاربعون‌:

 الشهادة‌ علی الاعمال‌؛ ومواصفات‌ الشهود

 

بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد للَّه‌ ربّ العالمين‌ ولا حول‌ ولا قوّة‌ إلاّ بالله‌ العلی العظيم‌

وصلَّي‌ الله‌ علی محمّد وآله‌ الطاهرين‌

ولعنة‌ الله‌ علی أعدائهم‌ أجمعين‌ من‌ الآن‌ إلی قيام‌ يوم‌ الدين‌

 

 قال‌ الله‌ الحكيم‌ في‌ كتابه‌ الكريم‌:

 وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَـ'بُ وَجِاْي‌´ءَ بِالنَّبِيِّـــنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ. [1]

 لقد انتهي‌ بحثنا حول‌ الكتاب‌ وصحيفة‌ العمل‌، ونتحدّث‌ الآن‌ حول‌ موقف‌ آخر من‌ مواقف‌ القيامة‌، وهو موقف‌ الشهادة‌، حيث‌ تدلّ آيات‌ القرآن‌ الكريم‌ والروايات‌ الواردة‌ من‌ مصادر النبوّة‌ والإمامة‌ علی أنّ من‌ مواقف‌ القيامة‌ موقفاً يُشهد فيه‌ علی أعمال‌ الإنسان‌ وينبغي‌ أن‌ نري‌ أوّلاً ما معني‌ الشهادة‌، وكيفيّتها؛ ـ وثانياًـ ما هي‌ الاُمور التي‌ تجري‌ الشهادة‌ في‌ شـأنها، ـ وثالثاًـ مَن‌ هم‌ الشـهداء وما هي‌ الشـروط‌ التي‌ يجب‌ أن‌ تتوفّر فيهم‌.

 يستفاد من‌ الآية‌ التي‌ مرّت‌ في‌ مطلع‌ البحث‌ أنّ الكتاب‌ يُوضَع‌ فيؤتي‌ بالانبياء والشهداء للشهادة‌، بينما تكون‌ الارض‌ قد خرجت‌ من‌ ظُلمتها وعتمتها فأشرقت‌. ثمّ يُقضي‌ بين‌ الناس‌ في‌ حضور الانبياء والشهداء ومع‌ وجود الكتاب‌، دون‌ أن‌ يلحق‌ بأحد حيف‌ أو جور.

 وكما ذكرنا سابقاً فإنّ ذلك‌ سيحصل‌: يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ،[2] أي‌ يوم‌ تُبدّل‌ الارض‌ بأرض‌ أُخري‌ فتظهر روحها وحقيقتها مشرقة‌ مضيئة‌، ثمّ تُنشر مجدّداً الاعمال‌ التي‌ فعلها الإنسان‌ علی هذه‌ الارض‌ فطويت‌ الواحد تلو الآخر، وخُيّل‌ للإنسان‌ يومذاك‌ أ نّها ضاعت‌.

 فيتبدّل‌ يومئذٍ ذلك‌ الخفاء والعتمة‌ نوراً وإضاءة‌ وإشراقاً. أي‌ أنّ ذلك‌ الكتاب‌ وتلك‌ الاعمال‌ التي‌ فعلها الإنسان‌ علی الارض‌ ستظهر وتشرق‌ وتتجلّي‌.

 ثمّ يؤتي‌ بالانبياء والشهداء للشهادة‌ علی أعمال‌ الإنسان‌، فُيقضي‌ بينهم‌. أي‌ يُقضي‌ علی الإنسان‌ بالحكم‌ الذي‌ يجسّد نتيجة‌ أعماله‌ التي‌ ارتكبها، ثمّ يُعرّض‌ للجزاء المنسجم‌، مع‌ ذلك‌ الحكم‌.

 الرجوع الي الفهرس

الشهادة‌ تعني‌ الحضور، ولها مرحلتان‌

 والشهادة‌ تعني‌ الحضور؛ والشهيد والشاهد بمعنيً واحد، ويُقال‌ للشهيد في‌ المعركة‌ شهيداً لا نّه‌ يحضر حين‌ يرحل‌ عن‌ الدنيا فيصبح‌ حيّاً مخلّداً في‌ محضر الحقّ تعالي‌؛ أو أ نّه‌ بمعني‌ اسم‌ المفعول‌ ـلانّ القتيل‌ بمعني‌ المقتول‌ـ أي‌ أنّ الملائكة‌ تحضره‌ عند موته‌، فهو مشهود أمام‌ صفوف‌ ملائكة‌ الرحمة‌، وهذا هو معني‌ الشهادة‌.

 عَـ'لِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. [3]

 وتدعي‌ الشهادة‌ شهادةً لانّ الشاهد يحضر فيشهد؛ لذا يقال‌ للشاهد شهيداً. وللشهادة‌ مرحلتان‌: مرحلة‌ التحمّل‌، ومرحلة‌ الاداء.

 الرجوع الي الفهرس

شرائط‌ تحمّل‌ الشهادة‌ ثمّ أدائها

 فإن‌ أراد المرء الشهادةَ في‌ أمر معيّن‌، فعليه‌ ـ أوّلاًـ أن‌ يذهب‌ فيري‌ ذلك‌ الامر ويشاهد عياناً خصوصيّاته‌ التي‌ يريد الشهادة‌ بشأنها، ثمّ عليه‌ بعد ذلك‌ أداء الشهادة‌ عند القاضي‌. ويُدعي‌ الذهاب‌ والرؤية‌ والاطّلاع‌ علی تلك‌ القضيّة‌ تحمّلاً للشهادة‌، بينما تدعي‌ الشهادة‌ عند القاضي‌ أداءً للشهادة‌.

 وإذا شاء شخص‌ ما الشهادة‌ في‌ الموضوعات‌ المختلفة‌، فالواجب‌ أن‌ يكون‌ مطّلعاً علی حقيقة‌ تلك‌ الموضوعات‌، فإن‌ شاء ـ مثلاًـ الشهادة‌ عند القاضي‌ أ نّه‌ رأي‌ زيداً في‌ الساعة‌ الفلانيّة‌ وفي‌ المكان‌ الفلاني‌ّ، فينبغي‌ له‌ أن‌ يكون‌ قد رأي‌ زيداً في‌ تلك‌ الساعة‌ وذلك‌ المكان‌. وسيدعي‌ ذهابه‌ إلی ذلك‌ المكان‌ ورؤيته‌ زيداً هناك‌ في‌ تلك‌ الساعة‌ تحمّلاً للشهادة‌، لا نّه‌ حصل‌ من‌ خلال‌ ذلك‌ علی علم‌ واطّلاع‌ في‌ ذلك‌ الشأن‌، ثمّ إنّه‌ يأتي‌ إلی القاضي‌ فيشهد بما رأي‌، لانّ الرؤية‌ هي‌ موضوع‌ الشهادة‌.

 أمّا لو أراد أداء الشهادة‌ بأ نّه‌ رأي‌ زيداً يصلّي‌، فإنّ قيداً قد أُضيف‌ في‌ هذه‌ الحال‌ إلی أساس‌ الرؤية‌. وينبغي‌ أن‌ يكون‌ قد تحمّل‌ الشهادة‌ علی هذه‌ الكيفيّة‌. أي‌ ينبغي‌ أن‌ يكون‌ قد ذهب‌ فرأي‌ زيداً يصلّي‌، ليأتي‌ ـمن‌ ثمّـ فيشهد بذلك‌، فإن‌ كان‌ قد رأي‌ زيداً في‌ غيرحال‌ الصلاة‌، عجز عن‌ الشهادة‌ بأ نّه‌ رآه‌ يصلّي‌.

 ولو أراد كذلك‌ أداء الشهادة‌ عند القاضي‌ بأنّه‌ رأي‌ زيداً يصلّي‌ مؤدّياً مستحبّات‌ الصلاة‌؛ كأن‌ يكون‌ قد ارتدي‌ عمامةً وبسط‌ سجّادة‌ يصلّي‌ عليها، وتختّم‌ في‌ يده‌ اليمني‌ بخاتم‌ من‌ عقيق‌، وكان‌ نظره‌ في‌ صلاته‌ إلی موضع‌ سجوده‌، وغير ذلك‌ من‌ المستحبّات‌، فينبغي‌ أن‌ يكون‌ قد شاهد زيداً يصلّي‌ مع‌ جميع‌ هذه‌ الاوصاف‌ والخصوصيّات‌. فيمكنه‌ ـ بعد ذلك‌ـ الشهادة‌ بكلّ واحد من‌ الخصوصيّات‌ التي‌ عاينها، من‌ التعطّر ولبس‌ الخاتم‌ وغير ذلك‌. فإن‌ لم‌يكن‌ قد عاين‌ واحداً من‌ تلك‌ الخصوصيّات‌، تعذّرت‌ عليه‌ الشهادة‌ في‌ تلك‌ الخصوصيّة‌.

 ولو شاء ـ مثلاً ـ أن‌ يشهد عند القاضي‌ بأنّ زيداً كان‌ يصلّي‌ مؤدّياً جميع‌ الآداب‌ المستحبّة‌ والخصوصيّات‌ المذكورة‌ بحضور قلب‌ والتفات‌ كامل‌ إلی الحقّ تعالي‌، بحيث‌ إنّ فكره‌ وذهنه‌ ملتفتان‌ إلی الله‌ تعالي‌، وأ نّه‌ نوي‌ بعمله‌ ذاك‌ القُربة‌ إليه‌ سبحانه‌، لارياءً وسمعةً ولاخدعة‌ وتصنّعاً، وأ نّه‌ كان‌ يصلّي‌ للّه‌ وفي‌ سبيل‌ الله‌ بحضور قلب‌ والتفات‌ ذهن‌؛ فإنّ عليه‌ أن‌ يري‌ زيداً حال‌ الصلاة‌ مع‌ تلك‌ المستحبّات‌، ويري‌ ـ كذلك‌ـ أنّ لزيد حضور قلب‌ والتفات‌ ذهن‌ إلی الله‌ تعالي‌ وفي‌ سبيل‌ الله‌، ليأتي‌ ـ في‌ المرحلة‌ اللاحقة‌ـ فيشهد عند القاضي‌، وإلاّ تعذّرت‌ عليه‌ الشهادة‌.

 ومن‌ الجلي‌ّ ـ بطبيعة‌ الحال‌ ـ أنّ مثل‌ هذه‌ الشهادة‌ علی حضور قلب‌ زيد في‌ الصلاة‌ لاتتيسّر لاي‌ٍّ كان‌. فأ نّي‌ للمرء أن‌ يعلم‌ أنّ زيداً كان‌ يصلّي‌ بحضور قلب‌؟! إذ لو كان‌ زيد قد أصلح‌ ظاهره‌ ووقف‌ تجاه‌ القبلة‌ للصلاة‌، ناظراً إلی محلّ سجوده‌؛ فإنّ ظاهره‌ الحسن‌ لا يدلّ علی التفات‌ ذهنه‌ وحضور قلبه‌. فقد يخضع‌ البدن‌ وتسكن‌ الحواسّ، إلاّ أنّ الذهن‌ يبقي‌ مضطرباً مشوّشاً.

 ويجب‌ علی من‌ يريد الشهادة‌ علی حضور قلب‌ زيد في‌ الصلاة‌ أن‌ يكون‌ مطّلعاً علی قلب‌ زيد، عالماً بالخطرات‌ المارّة‌ علی ذهنه‌، وإلاّ تعذّرت‌ عليه‌ الشهادة‌ بذلك‌.

 وبعد أن‌ اتّضح‌ هذا الامر نشرع‌ بالكلام‌ عن‌ شهادة‌ الانبياء والشهداء يوم‌ القيامة‌ حين‌ يريدون‌ الشهادة‌ علی أعمال‌ الناس‌. فأيّ شهادة‌ هي‌ ياتري‌؟

 أيشهدون‌ بأنّ زيداً وقف‌ للصلاة‌ متّجهاً إلی القبلة‌؟ أم‌ يشهدون‌ بأ نّه‌ صلّي‌ صلاة‌ صحيحة‌ بحضور قلب‌ والتفات‌ ذهن‌ وقصد قربة‌؟

 من‌ الواضح‌ أنّ الامر الاخير هو المقصود، إذ لاقيمة‌ لنفس‌ الصلاة‌ لو جُرّدت‌ من‌ روحها وشرائطها المعنويّة‌. فصلاة‌ الرياء صلاة‌ مرفوضة‌ وغيرمقبولة‌. فالصلاة‌ التي‌ يضطرب‌ الذهن‌ خلال‌ جميع‌ حركاتها وسكناتها وأقوالها وأفعالها، حتّي‌ خلال‌ تكبيرة‌ الإحرام‌ فيها، والتي‌ يكون‌ المرء خلالها هدفاً لهجوم‌ الافكار والخواطر المشّوشة‌ مرفوضة‌ وباطلة‌.

 وعلی هذا الاساس‌ فإنّ الخصوصيّات‌ الواقعيّة‌ لهذه‌ الصلاة‌ ولهذا الصيام‌ والحجّ والجهاد ولكلّ عمل‌ يفعله‌ الإنسان‌ يجب‌ أن‌ تكون‌ مشهودة‌ للشاهد، وأن‌ يكون‌ الشاهد حاضراً أثناء وقوع‌ الواقعة‌ ليتحمّل‌ الشهادة‌ قبل‌ أدائها. ويتوجّب‌ أن‌ يتحلّي‌ بهذه‌ الخصوصيّة‌ من‌ يتحمّل‌ الشهادة‌ علی أعمال‌ الإنسان‌ يوم‌ القيامة‌.

 ونلحظ‌ ـ من‌ جهة‌ أُخري‌ ـ أنّ القرآن‌ الكريم‌ يقول‌ بأنّ الشهداء والنبيّين‌ يشهدون‌ علی عمل‌ الإنسان‌، فيجب‌ ـ إذاًـ أن‌ يكونوا حاضرين‌ معه‌.

 وحين‌ يشهد الانبياء والشهداء علی كلّ واحد من‌ أفراد الاُمّة‌، فيتّضح‌ أنّهم‌ حاضرون‌ مع‌ كلّ فرد في‌ كلّ لحظة‌ من‌ حياته‌، الحاضر والغائب‌، الموجود والمعدوم‌. وأ نّهم‌ حاضرون‌ في‌ الخلوة‌ والجلوة‌، والنوم‌ واليقظة‌، والحركة‌ والسكون‌، وفي‌ الكسب‌ والعمل‌، خارج‌ البيت‌ وداخله‌، وأ نّهم‌ مطّلعون‌ علی جميع‌ خصوصيّات‌ أعمال‌ الإنسان‌. وهذا الامر لايختصّ بفرد واحد أو فردين‌، بل‌ يشمل‌ جميع‌ أفراد الاُمّة‌، الغائب‌ منهم‌ والحاضر.

 إنّنا نري‌ أنّ الافراد العاديّين‌ عاجزون‌ عن‌ الشهادة‌ في‌ جميع‌ شؤون‌ الحاضرين‌ حولهم‌ وخصوصيّاتهم‌ فضلاً عن‌ الغائبين‌، وكذلك‌ عاجزون‌ عن‌ بيان‌ خصوصيّات‌ الشهادة‌ علی النوايا القلبيّة‌ والوجه‌ الباطني‌ والحقيقي‌ّ للاعمال‌ خلال‌ الازمنة‌ والامكنة‌ القريبة‌، فضلاً عن‌ الازمنة‌ والامكنة‌ المتباعدة‌.

 إذاً فشهادة‌ الانبياء والشهداء علی أعمال‌ أُممهم‌، بما فيهم‌ الحاضر والغائب‌، القريب‌ والبعيد، شهادةً علی حقيقة‌ أعمالهم‌ لاظاهرها، وذلك‌ ممّا لايتيسّر لكلّ أحد.

 الرجوع الي الفهرس

الشهداء علی الاعمال‌ مطلّعون‌ علی النوايا

 ويجب‌ أن‌ يكون‌ الشهود ممّن‌ يستوي‌ لديهم‌ الغيب‌ والحضور، والخفيّ والظاهر، والقريب‌ والبعيد، والظاهر والباطن‌ ليمكنهم‌ تحمّل‌ الشهادة‌ وأداءها في‌ المرحلة‌ اللاحقة‌. أي‌ أن‌ يكونوا ممّن‌ لهم‌ اطّلاع‌ علی الضمائر والسرائر، وعلی الاسرار والافهام‌، مثل‌ اطّلاع‌ الإنسان‌ علی نفسه‌.

 إنّنا مطّلعون‌ علی أنفسنا وعلی نوايانا وأعمالنا، ونعلم‌ ماذا فعلنا في‌ الساعة‌ الفلانيّة‌ والمحلّ الفلانيّ، وماذا كانت‌ نيّتنا، وقصدنا من‌ ذلك‌ العمل‌، ونعلم‌ مدي‌ حضور قلبنا أثناء الصلاة‌ التي‌ صلّيناها، وهل‌ كان‌ سلامنا علی زيد للّه‌ تعالي‌ أو لقصد دنيويّ، ونعلم‌ قصدنا من‌ الاحترام‌ والتبجيل‌ الذي‌ أبديناه‌ لفلان‌، ولو خفي‌ ذلك‌ علی أصحابنا ورفقائنا.

 بَلِ الإنسَـ'نُ علی' نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَي‌' مَعَاذِيرَهُ. [4]

 ويجب‌ أن‌ يكون‌ أُولئك‌ الشهداء المقتدرون‌ الذين‌ يشهدون‌ يوم‌ القيامة‌ مطّلعين‌ علی أعمال‌ كلّ فرد من‌ أفراد الاُمّة‌ الذين‌ يريدون‌ الشهادة‌ عليه‌، أكثر من‌ اطّلاع‌ ذلك‌ الفرد علی نفسه‌.

 وتتّضح‌ أجوبة‌ هذه‌ المسائل‌ تلقائيّاً من‌ المطالب‌ التي‌ أوردناها سابقاً وذكرنا فيها أحوال‌ المقرّبين‌ والمخلَصين‌ وخروجهم‌ عن‌ حدود الزمان‌ والمكان‌ وبلوغهم‌ مقام‌ التجرّد، وأن‌ لاسبيل‌ للشيطان‌ عليهم‌، وأن‌ ليس‌لهم‌ حساب‌ ولاكتاب‌ ولا عرض‌ وحضور، وأ نّهم‌ يجدون‌ سيطرة‌ علميّة‌ وحقيقيّة‌ علی عالم‌ الإمكان‌ وعالم‌ الخلقة‌.

 أي‌ أنّ الذين‌ يمكنهم‌ الشهادة‌ هم‌ الذين‌ تخطّوا مضيق‌ الجهات‌ وعالم‌ الطبع‌ والنزعة‌ المادّيّة‌ وحبّ الدنيا، والذين‌ تجاوزوا الاُمور التي‌ تحجب‌ النفس‌ وتحصر مدركاتها بالاُمور التي‌ تربط‌ الإنسان‌ بالخارج‌ عن‌ طريق‌ الحواسّ الظاهريّة‌، حيث‌ لا تنحصر حواسّهم‌ بالحواسّ الخمس‌ الظاهرة‌، فقد صارت‌ حاسّتهم‌ السادسة‌ يقظة‌ فعّالة‌، وتفتّحت‌ بصائرهم‌ وأصبحت‌ أرواحهم‌ ذات‌ سيطرة‌ وهيمنة‌.

 وبعبارة‌ أُخري‌ فإنّهم‌ يمثّلون‌ موجودات‌ تعيش‌ في‌ هذا العالم‌ أو ارتحلت‌ عنه‌، إلاّ أ نّها تمتلك‌ إحاطة‌ علميّة‌ بجميع‌ الموجودات‌؛ ولو لم‌تكن‌ كذلك‌ لتعذّرت‌ عليها الشهادة‌ بهذه‌ الكيفيّة‌. وينبغي‌ أن‌ يكون‌ الامر كذلك‌، لانّ الافراد الذين‌ يشهدون‌ يوم‌ القيامة‌، إنّما يشهدون‌ بإذن‌ الله‌ تعالي‌، إذ لاحقّ لاحد في‌ الكلام‌ ذلك‌ اليوم‌ إلاّ بإذن‌ الحقّ تعالي‌ وتقدّس‌:

 يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي‌ النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَـ'لِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَـ'وَ ' تُ وَالاْرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي‌ الْجَنَّةِ خَـ'لِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَـ'وَ ' تُ وَالاْرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَمَجْذُوذٍ. [5]

 ومن‌ هنا فمن‌ المسلّم‌ أنّ أُولئك‌ الشهداء الذين‌ يريدون‌ الشهادة‌، إنّما يشهدون‌ بإذن‌ الله‌ تعالي‌، وهذا الإذن‌ ليس‌ إذناً شكليّاً. بل‌ ينبغي‌ ـ إضافة‌ إلی الشرف‌ الحاصل‌ للمأذون‌ بالكلام‌ بإذن‌ الله‌ سبحانه‌ـ أن‌ يكون‌ له‌ قدرة‌ علی الكلام‌ بصورة‌ صحيحة‌ في‌ عالم‌ التكوين‌ والحقيقة‌، وينبغي‌ له‌ ـ إذ يريد الشهادة‌ـ أن‌ يكون‌ قد سبق‌ له‌ تحمّل‌ الشهادة‌. أمّا من‌ لم‌يتحمّل‌ الشهادة‌ ولم‌يتحمّل‌ أعمال‌ العباد بالكيفيّة‌ التي‌ ذُكرت‌ بجميع‌ وقائعها وخصوصيّاتها وسرائرها وبواطنها، فكيف‌ سيمكنه‌ أداء الشهادة‌؟ لانّ الشهادة‌ في‌ ذلك‌ العالم‌ هي‌ الشهادة‌ بالحقّ.

 يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـ'ئِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـ'نُ وَقَالَ صَوَابًا. [6]

 وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن‌ دُونِهِ الشَّفَـ'عَةُ إِلاَّ مَن‌ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. [7]

 الرجوع الي الفهرس

الشهداء يجب‌ أن‌ يكونوا صادقين‌ في‌ شهادتهم‌

 وسيأتي‌ إن‌ شاء الله‌ تعالي‌ في‌ بحث‌ الشفاعة‌ اللاحق‌ أنّ أصحاب‌ حقّ الشفاعة‌ هم‌ الذين‌ يشهدون‌ بالحقّ. ومن‌ هنا فينبغي‌ أن‌ تكون‌ هذه‌ الشهادة‌ بالحقّ عن‌ علم‌، ويلزم‌ أن‌ تكون‌ شهادةً عن‌ علم‌ لتتبعها الشفاعة‌.

 وعلی هذا الاساس‌ فإنّ الذين‌ يشفعون‌ عند الله‌ تعالي‌ هم‌ أصحاب‌ الشهادة‌ أي‌ الذين‌ يشهدون‌ بالحقّ، والذين‌ لهم‌ علم‌ واطّلاع‌ علی حقيقة‌ ما يشهدون‌ به‌. وربّما يعسر بداية‌ الامر تصوّر كيفيّة‌ مجي‌ء شخص‌ واحد وشهادته‌ علی أعمال‌ ملايين‌ البشر؟ أي‌ ذهن‌ هذا؟ أيصبح‌ ذهن‌ الإنسان‌ ماكنة‌ حساب‌ إلكترونيّة‌ ( الحاسوب‌ ) ليمكنه‌ يوم‌ القيامة‌ الشهادة‌ علی أعمال‌ جميع‌ البشر من‌ زمن‌ آدم‌ إلی يوم‌ القيامة‌ في‌ كلّ لحظة‌ وكلّ مكان‌ وبهذه‌ الخصوصيّات‌.

 إنّ أجهزة‌ الحاسوب‌ تعجز عن‌ إنجاز هذا العمل‌، لا نّها قادرة‌ علی حلّ بعض‌ المسائل‌ الرياضيّة‌، أمّا الإخبار عن‌ البواطن‌ والضمائر فأمرٌ خارج‌ عن‌ عهدتها إذ لاشأن‌ لها إطلاقاً بالبواطن‌، لا نّها ماكنات‌ مادّيّة‌ وستتّضح‌ هذه‌ المسألة‌ بمثال‌ واحد إن‌ شاء الله‌ تعالي‌.

 عندما يذهب‌ الطفل‌ إلی المدرسة‌ فتعطونه‌ كتاباً وتقولون‌ له‌: اقرأ هذا الكتاب‌! فإن‌ كان‌ يعرف‌ القراءة‌، فإنّه‌ سيقرأه‌ سطراً فسطراً بتأنٍ وتأخير، ينظر إلی السطر الاوّل‌ فيقرأه‌، ثمّ السطر الثاني‌ والثالث‌ والرابع‌، وربّما يصل‌ إلی السطر الرابع‌ أو الخامس‌ فينسي‌ مطالب‌ السطر الاوّل‌، إذ لايمكن‌ لذهنه‌ احتواء جميع‌ المطالب‌.

 وحين‌ يريد حفظ‌ شعر معيّن‌ ـ مثلاً ـ فإنّه‌ يحفظ‌ البيت‌ الاوّل‌، ثمّ يصل‌ إلی البيت‌ الثاني‌ فينقطع‌ ارتباطه‌ مع‌ البيت‌ الاوّل‌، ثمّ يحفظ‌ البيت‌ الثالث‌ فيزول‌ ارتباطه‌ مع‌ البيت‌ الثاني‌. ثمّ يتوجّب‌ عليه‌ أن‌ يتذكّر الشعر من‌ القرائن‌ والاشباه‌ وبالترتيب‌، فإن‌ شاء قراءة‌ البيت‌ الخامس‌ ـ مثلاًـ فعليه‌ قراءة‌ البيت‌ الاوّل‌ حتّي‌ يصل‌ إلی البيت‌ الخامس‌.

 وعلی هذا الاساس‌ فإنّ الاطفال‌ الذين‌ يحفظون‌ قصيدة‌ طويلة‌ لايمكنهم‌ تلقّي‌ المعني‌ والمفهوم‌ الموجودان‌ في‌ تلك‌ القصيدة‌، ولاإدراك‌ خلاصة‌ المطالب‌ وإجمالها. أمّا الكبار فليسوا علی هذه‌ الشاكلة‌. إذ إنّهم‌ لو قرأوا قصيدة‌ من‌ ألف‌ بيت‌، كتائيّة‌ ابن‌ الفارض‌، ثمّ سُئلوا بعد ذلك‌ عن‌ مضمون‌ القصيدة‌، لقالوا إنّ المضمون‌ كذا وكذا، وإنّ القصيدة‌ تدور حول‌ الموضوع‌ الفلاني‌ّ. كما أ نّكم‌ لو قرأتم‌ كتاباً خلال‌ ليلة‌ واحدة‌ ثمّ سُئلتم‌ عن‌ محتويات‌ الكتاب‌ لذكرتموها بالتفصيل‌. ولو وُضعت‌ أمامكم‌ صفحة‌ مكتوبة‌ فنظرتم‌ فيها من‌ أعلاها إلی أسفلها، لذكرتم‌ ما كُتب‌ فيها؛ ولو سُئلتم‌ ماذا كان‌ في‌ الجريدة‌ المسائيّة‌ لاجبتم‌ عمّا فيها إجمالاً.

 وكلّ ذلك‌ بواسطة‌ سعة‌ الذهن‌ وإحاطته‌ التي‌ تمكّنه‌ من‌ ضمّ المطالب‌ المتفرّقة‌ بسرعة‌، ثمّ الحكم‌ عليها. أمّا الطفل‌ فيفتقر إلی مثل‌ هذه‌ السعة‌ والإحاطة‌.

 وهذا الامر ينطبق‌ كذلك‌ علی العلوم‌ الإلهيّة‌ التي‌ يستلزم‌ تحصيلها بذل‌ الجهود، ومن‌ ثمّ فإنّ الافراد الذين‌ لم‌ يضعوا أقدامهم‌ علی هذا المضمار ستبقي‌ علومهم‌ محدودة‌ ضمن‌ دائرة‌ إدراكاتهم‌ العاديّة‌، أمّا حين‌ يتعرّفون‌ علی الحكمة‌ العمليّة‌ ويسيرون‌ في‌ ميدان‌ الرياضات‌ الشرعيّة‌ ويخطُون‌ ـ بحول‌ الله‌ وقوّته‌ـ في‌ طريق‌ السير والسلوك‌ إلی الله‌ تعالي‌ بقدم‌ صدق‌ وعزم‌ راسخ‌ متين‌، فإنّ علومهم‌ ستقترن‌ بالتقوي‌ والنور، وسيوجب‌ ذلك‌ نشأة‌ العلوم‌ الخفيّة‌ والاسرار الكامنة‌.

 قال‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌: مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَهُ عِلْمَ مَالَمْ يَعْلَمْ. [8]

 ومن‌ هنا فإنّ العمل‌ والتهذيب‌ وتزكية‌ النفس‌ وتنزيه‌ القلب‌ من‌ صدأ حبّ الدنيا والعلائق‌ والعوائق‌ المانعة‌ من‌ إشعاع‌ نور الاحديّة‌ في‌ القلب‌، وتصفية‌ الباطن‌ وغسل‌ صفحة‌ الضمير والذهن‌ من‌ غير الله‌ تعالي‌ سيؤدّي‌ لتجلّي‌ نور الله‌ سبحانه‌.

 جاء في‌ الرواية‌: اتَّقُوا فَرَاسَةَ المُؤْمِنِ فَإنَّ المُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَهِ. [9]

 أفهل‌ من‌ العسـير، إذا ما شـاء الله‌ سـبحانه‌، إيجاد علم‌ معرفة‌ أعمال‌ العباد والاطّلاع‌ علی سرائرهم‌ وضمائرهم‌؟ كلاّ؛ إنّ الله‌ تعالي‌ عالم‌ بخفايا ومكنونات‌ كلّ موجود من‌ الموجودات‌، كما أنّ من‌ ساروا في‌ طريق‌ رضاالله‌ تعالي‌ وبلغوا مقام‌ القربة‌ إليه‌، فصاروا من‌ المقرّبين‌ والمخلصين‌ والمنزّهين‌، صاروا يرون‌ بنور الله‌ وبإذنه‌، وصار علمهم‌ علم‌ الله‌ سبحانه‌، لاعلماً منفصلاً عن‌ علمه‌ سبحانه‌.

 لقد صقل‌ هؤلاء قلوبهم‌، وأناروا بنور المجاهدة‌ أرواحهم‌، فصفت‌ عن‌ الغلّ والغش‌ والظلمة‌. وحين‌ يشرق‌ نور الله‌ فيهم‌، فإنّ كلّ صفحة‌ من‌ الموجودات‌ والكائنات‌ الخفيّة‌ والظاهرة‌ ستتصوّر وتتجلّي‌ فيهم‌ كما تنعكس‌ الشمس‌ في‌ المرآة‌ الصقيلة‌ وفي‌ الماء الصافي‌ الساكن‌ بلاموج‌. لكأنّ فيهم‌ شمساً لاتتفاوت‌ بلحاظ‌ الجمال‌ والتلالؤ والإشراق‌ مع‌ الشمس‌ الحقيقيّة‌، شمساً من‌ آثارها بعث‌ الحرارة‌ والنور والدف‌ء.

 وحين‌ ينجلي‌ القلب‌ وينصقل‌ فسيتجلّي‌ فيه‌ الجلال‌ والجمال‌ الإلهيّ والاسماء الملكيّة‌ والملكوتيّة‌ الإلهيّة‌. فالمؤمن‌ ـإذاًـ يري‌ وينظر به‌ بالنور ويتحمّل‌ الشهادة‌ ويؤدّيها. وكذلك‌ المخلَصون‌ والمقرّبون‌ الذين‌ لهم‌ هذه‌ الصفات‌، وحتّي‌ البعض‌ ممّن‌ خطي‌ خطوات‌ في‌ طريق‌ معرفة‌ الحقّ تبارك‌ وتعالي‌ واكتسب‌ صفاءً يتناسب‌ مع‌ مسافة‌ الطريق‌ الذي‌ طواه‌ والإخلاص‌ الذي‌ اكتسبه‌، إلاّ أ نّه‌ لم‌ يصل‌ مقام‌ المخلَصين‌، فإنّه‌ سيتمكّن‌ من‌ تحمّل‌ الشهادة‌ وأدائها بنفس‌ القدر الذي‌ اكتسب‌ والحدود التي‌ طوي‌.

 كَلآ إِنَّ كِتَـ'بَ الاْبْرَارِ لَفِي‌ عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَب'كَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَـ'بٌ مَّرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ.[10]

 كَلآ إِنَّ كِتَـ'بَ الْفُجَّارِ لَفِي‌ سِجِّينٍ * وَمَآ أَدْرَب'كَ مَا سِجِّينٌ* كِتَـ'بٌ مَّرْقُومٌ. [11]

 وقد ذكرنا أنّ الكتاب‌ ليس‌ ورقة‌ مكتوبة‌ تُعطي‌ للإنسان‌ في‌ يده‌، بل‌ هو عبارة‌ عن‌ حقيقة‌ أعمال‌ الإنسان‌ التي‌ قام‌ بها في‌ عالم‌ الوجود فدوّنها عالم‌ الخلقة‌ وكتاب‌ التكوين‌، حيث‌ يُستنسخ‌ منه‌ ذلك‌ القدر المتعلّق‌ بالإنسان‌ فتصبح‌ تلك‌ الاعمال‌ الخاصّة‌ بكلّ شخص‌ مشهودةً لديه‌، سواءً كان‌ ذلك‌ الفرد مؤمناً أم‌ كافراً. كتاب‌ المؤمنين‌ يأتيهم‌ من‌ قِبل‌ أئمّة‌ الحقّ، أي‌ أنّ أئمّة‌ الحقّ يدعون‌ المؤمنين‌ بكتبهم‌، كما أن‌ كتب‌ الفجّار والكفّار تأتيهم‌ من‌ قِبل‌ أئمّة‌ الباطل‌، حيث‌ يدعو أُولئك‌ الائمّة‌ مأموميهم‌ إلی كتبهم‌ من‌ جهة‌ الشقاء.

 وقد ذُكر أنّ جميع‌ ذلك‌ منطوٍ في‌ الإمام‌ المبين‌، وأنّ جميع‌ الكتب‌ التي‌ تصل‌ من‌ قِبَلِ أئمّة‌ الحقّ ومن‌ قبل‌ أئمّة‌ الباطل‌ تنطوي‌ تحت‌ هيمنة‌ مقام‌ الولاية‌ الكبري‌ الإلهيّة‌ وإشرافها.

 الرجوع الي الفهرس

أئمّة‌ الباطل‌ لا قدرة‌ لهم‌ علی الشهادة‌

 وينبغي‌ العلم‌ بأنّ مقام‌ الشهادة‌ مختصّ بأئمّة‌ الحقّ، وأنّ أئمّة‌ الباطل‌ لاقدرة‌ لهم‌ علی الشهادة‌، ويمكنهم‌ فقط‌ دعوة‌ أُممهم‌ إلی كتبهم‌. والعلّة‌ في‌ ذلك‌ أنّ أئمّة‌ الحقّ في‌ جهة‌ النور والإشراق‌ والعلم‌ والحياة‌:

 اللَهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَـ'تِ إلی النُّورِ. [12]

 أمّا أئمّة‌ الباطل‌ فليس‌ في‌ جهتهم‌ إلاّ الظُّلمة‌ والعمي‌ والجهل‌ والبلاء والضيق‌:

 وَالَّذِينَ كَفَرُو´ا أَوْلِيَآؤُهُمْ الطَّـ'غُوتُ يُخْرِجُونَهُم‌ مِّنَ النُّورِ إلی الظُّلُمَـ'تِ.[13]

 وَمَن‌ كَانَ فِي‌ هَـ'ذِهِ أعْمَي‌' فَهُوَ فِي‌ الاْخِرَةِ أَعْمَي‌' وَأَضَلُّ سَبِيلاً [14]

 وحين‌ يكون‌ أئمّة‌ الباطل‌ عمياناً، فكيف‌ يشهدون‌ علی أعمال‌ أتباعهم‌؟ مثلهم‌ كمثل‌ أعمي‌ يقود أعمي‌ آخر، ثمّ يأتي‌ ثالث‌ فيقودهما معاً، ويأتي‌ رابع‌ فيقود الثلاثة‌ وهكذا...

 ظُلُمَـ'تٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ و لَمْ يَكَدْ يَرَي'هَا وَمَن‌ لَّمْ يَجْعَلِ اللَهُ لَهُ و نُورًا فَمَا لَهُ و مِن‌ نُّورٍ. [15]

 ومطلع‌ هذه‌ الآية‌ كالتالي‌: أَوْ كَظُلُمَـ'تٍ فِي‌ بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَب'هُ مَوْجٌ مِّن‌ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن‌ فَوْقِهِ سَحَابٌ.

 وشتّان‌ بين‌ من‌ يحلّق‌ بالطائرة‌ في‌ عنان‌ السماء فوق‌ الغيوم‌، متحرّكاً في‌ هدي‌ ضوء الشمس‌ الساطع‌، ينظر إلی العالم‌ فيري‌ مشرقه‌ ومغربه‌ وفضاءه‌ المشرق‌ وأرضه‌، وبين‌ مَن‌ يغوص‌ تحت‌ الماء في‌ عمق‌ عشرة‌ آلاف‌ متر، قد أطبقت‌ عليه‌ اللجج‌ المتراكمة‌، وتلاطم‌ فوق‌ رأسه‌ الموج‌ والطوفان‌، وحجبت‌ الغيوم‌ السوداء الكثيفة‌ السماء فأظلم‌ منها البحر! وأ نّي‌ له‌ أن‌ يري‌ سبيله‌ في‌ أعماق‌ ذلك‌ البحر الخضمّ المظلم‌!

 إنّ الاسماك‌ التي‌ تعيش‌ في‌ أعماق‌ البحر لا أعين‌ لها، إذ ليس‌هناك‌ من‌ نور لتحتاج‌ إلی أعين‌ للإبصار. ولو فرضنا أنّ سمكة‌ من‌ أسماك‌ السطح‌ ذهبت‌ إلی أعماق‌ البحر وتمكّنت‌ من‌ مقاومة‌ ضغط‌ الماء مدّة‌ من‌ الزمن‌، فإنّها ستفقد بصرها في‌ النتيجة‌. ويُقال‌ إنّ الإنسان‌ لو بقي‌ ستّة‌ أشهر في‌ موضع‌ لامنفذ فيه‌ للنور، فإنّ من‌ المسلّم‌ أنّ عينه‌ ستفقد إبصارها ويصاب‌ بالعمي‌.

 بلي‌، هذه‌ هي‌ نتيجة‌ الظلمات‌ وثمرتها. يقول‌ القرآن‌ الكريم‌: إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ و لَمْ يَكَدْ يَرَي'هَا.

 وإذا كان‌ أئمّة‌ الباطل‌ بلا نور، وكانت‌ أُممهم‌ ـ بدورهاـ بلانور، فبأي‌ّ شي‌ء سيشهدون‌ يا تري‌؟ وحين‌ يُغلق‌ في‌ وجوههم‌ سبيل‌ العلم‌، فلن‌يكون‌ لهم‌ اطّلاع‌ علی باطن‌ أحد ولامعرفة‌ لسرّ أحد، إذ ليس‌ هناك‌ إلاّ الظُّلمة‌ فوق‌ الظُّلمة‌.

 ومن‌ هنّا فإنّ المقرّبين‌ ذوي‌ النور والعلم‌ والدراية‌ هم‌ الذين‌ يمكنهم‌ تحمّل‌ الشهادة‌ وأداءها. وقد ورد في‌ الآية‌ القرآنيّة‌ الكريمة‌:

 وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي‌ اللَهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ و وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلی عَـ'لِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـ'دَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. [16]

 إنّ أعمالنا ليست‌ خافية‌ علی الله‌ عزّ وجلّ، إلاّ أنّ العجيب‌ أ نّها ليست‌أيضاًخافية‌ علی النبيّ وعلی المؤمنين‌. فكيف‌ ـياتري‌ـ يرافق‌ النبيّ والمؤمنون‌ عمل‌ الإنسان‌ ويسايرونه‌ في‌ الزمان‌ والمكان‌ بحيث‌ يرون‌ ذلك‌ العمل‌ ويشهدون‌ عليه‌؟

 الرجوع الي الفهرس

المؤمنون‌ الحقيقيّون‌ واقفون‌ علی أعمال‌ الإنسان‌

 نعم‌، إنّ المؤمنين‌ الحقيقيّين‌ يتبعون‌ سنّة‌ رسول‌الله‌ وسيرته‌، فيرون‌ الإنسان‌ ويطّلعون‌ علی أعماله‌ في‌ الغيب‌ والشهود.

 ولم‌ يكن‌ أصحاب‌ رسول‌ الله‌ بأجمعهم‌ ذوي‌ صفاء ووفاء، بل‌ كان‌ فيهم‌ منافقون‌ مردوا علی النفاق‌، وكانوا يحذرون‌ من‌ إثارة‌ الفتن‌ وإفشاء الكثير من‌ الاسرار التي‌ لديهم‌ خوفاً من‌ أن‌ ينزل‌ الوحي‌ في‌ اليوم‌ التالي‌ فيُخبر رسـول‌الله‌، وكذلك‌ خوفاً من‌ أن‌ يفضحهم‌ رسول‌الله‌. وحين‌ كان‌ الوحي‌ ينزل‌ فيكشف‌ لرسول‌ الله‌ بعض‌ أعمالهم‌، فكانوا يتساءلون‌: مَن‌ أخبرك‌ بهذا؟ فيقول‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌: أَخبرني‌ ربّي‌، أنبأني‌ ربّي‌!

 وقد جاء في‌ سورة‌ التحريم‌ أنّ بعض‌ نساء رسول‌ الله‌ كنّ يفشين‌ بعض‌ أسراره‌ إلی خارج‌ بيته‌، مع‌ أن‌ رسول‌ الله‌ أخذ عليهنّ عهداً بأن‌ لايُبحن‌ بذلك‌ لاحد.

 وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَي‌' بَعْضِ أَزْوَ ' جِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ و وَأَعْرَضَ عَن‌ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـ'ذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ. [17]

 ولقد تعاونت‌ تلك‌ المرأة‌ مع‌ إحدي‌ أزواج‌ رسول‌ الله‌ علی إفشاء سرّه‌، فنزلت‌ هذه‌ الآية‌: إِن‌ تَتُوبَآ إلی اللَهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن‌ تَظَـ'هَرَا عَلَيْهِ فَإِنَ اللَهَ هُوَ مَوْلَیـ'هُ وَجِبْرِيلُ وَصَـ'لِحُ الْمُوْمِنِينَ [18] وَالْمَلَـ'ئِكَةُ بَعْدَ ذَ ' لِكَ ظَهِيرٌ. [19]

 وقد أورد الزمخشري‌ّ في‌ تفسيره‌ « الكشّاف‌ »: «إِن‌ تَتَوْبَآ إلی اللَهِ» خِطَابٌ لِحَفْصَةَ وَعَائِشَةَ علی طَرِيقَةِ الالْتِفَاتِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي‌ مُعَاتَبَتِهِمَا. وَعَن‌ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْأَزَلْ حَرِيصَاً علی أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنْهُمَا حَتَّي‌ حَجَّ وَحَجَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالإدَاوَةِ فَسَكَبْتُ المَاءَ علی يَدِهِ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: «مَنْ هُمَا»؟ فَقَالَ: «عَجَباً يَا ابْنَ عَبَّاسٍ»! كَأَ نَّهُ كَرِهَ مَا سَأَلْتُهُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: «هُمَا حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ». [20]

 الرجوع الي الفهرس

قلوب‌ أولياء الله‌ يقظة‌ علی الدوام‌

 إنّ الناس‌ يتصوّرون‌ عندما يذهب‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم‌ إلی البيت‌ ويأوي‌ إلی فراشه‌ فإنّه‌ يرقد كمثل‌ أي‌ّ إنسان‌ معدني‌ّ جامد، وأنَّ جميع‌ حواسّه‌ وإدراكاته‌ وإحساساته‌ تعتمد علی جسمه‌ المادّي‌ّ وتتعامل‌ مع‌ العالم‌ الخارجي‌ّ حين‌ يكون‌ مستيقظاً فقط‌، بينما الامر ليس‌ كذلك‌، لانّ النبي‌ّ صلّي‌الله‌ عليه‌ وآله‌ يقول‌ بأنّ عينه‌ تنام‌ إلاّ أنّ قلبه‌ لاينام‌. أي‌ لافرق‌ بالنسبة‌ إليه‌ بين‌ اليقظة‌ والنوم‌، وبين‌ الغيب‌ والشهادة‌، ولافرق‌ بين‌ وجوده‌ في‌ المنزل‌ أو في‌ المسجد، ولابين‌ حياته‌ أو موته‌، لانّ كلّ ذلك‌ بالنسبة‌ إليه‌ يقظة‌ وشعور وعلم‌ وإدراك‌ وحياة‌.

 مَيِّتُنَا لَمْ يَمُتْ وَمَقْبُورُنَا لَمْ يُقْبَرْ.

 أي‌ صاحب‌ وحي‌ و قلب‌ آگاه‌                        داراي‌ مقام‌ لِي‌ مَعَ الله‌

 اي‌ محرم‌ بارگاه‌ لاهوت‌                  وي‌ در ملكوت‌ حقّ شهنشاه‌

 اي‌ برشده‌ از حضيض‌ ناسوت‌                      بر رفرف‌ عزّ و شوكت‌ و جاه‌

 وانگه‌ ز سُرادقات‌ عزّت‌                   بگذشتي‌ و ماند امين‌ درگاه‌

 اي‌ پاية‌ قدر چاكرانت‌                     بالاتر از اين‌ بلند خرگاه‌

 از شرم‌ تو زرد شد چهرة‌ مهر                      وز بيم‌ تو دل‌ دو نيم‌ شد ماه‌

 اين‌ بوي‌ بهشت‌ عنبرين‌ است‌                    يا ذكر جميل‌ تو در افواه‌ [21]

 از نيل‌ تو پاي‌ وهم‌ لنگ‌ است                     ‌ وز ديل‌ تو دست‌ فهم‌ كوتاه‌

 فرموده‌ به‌ شأنت‌ ايزد پاك               ‌ لَوْلاَك‌ لَمَا خَلَقْتُ الاَفْلاَك‌ [22]

 وسواء للإمام‌ موته‌ وحياته‌، لا نّه‌ ليس‌ موجوداً مادّيّاً. ولانرمي‌ بذلك‌ أ نّه‌ مَلَك‌ لابَشَر، بل‌ الشي‌ء المهمّ أ نّه‌ ـمع‌ بشريّته‌ـ قد نال‌ هذا المقام‌ وهذه‌ الدرجة‌. ولو كان‌ مَلَكاً لجعل‌ الله‌ تعالي‌ حسابنا حساباً منفصلاً، ولتمّت‌ لنا الحجّة‌ علی الله‌ تعالي‌ يوم‌ القيامة‌. إذ سنحتجّ لديه‌ قائلين‌: ياإلهنا! لقد خلقتَ أفراداً ملكوتيّين‌ عالمين‌ بالغيب‌، وخلقتنا عباداً مبتلين‌ بالمادّة‌ والطعام‌ والاهل‌ والولد والعيال‌، فنحن‌ عاجزون‌ عن‌ متابعة‌ الانبياء في‌ أفعالهم‌.

 يقول‌ تعالي‌ إنّ هؤلاء الانبياء بشر مثلكم‌، لهم‌ أبدان‌ وحواسّ، فهم‌ يحسّون‌ بالابتلاءات‌، ويعانون‌ من‌ أذي‌ أُممهم‌، ويذوقون‌ ألم‌ الفقر والفاقة‌، كما يدركون‌ طعم‌ اللذائذ، بَيدَ أ نّهم‌ تخطّوا جميع‌ هذه‌ الاُمور بقوّة‌ التوكّل‌ والصبر والمصابرة‌، وتحرّكوا في‌ هذه‌ المسيرة‌ الصعبة‌ فبلغوا مقصودهم‌.

 أمّا أنتم‌ فجلستم‌ وتسمّرتم‌ في‌ أماكنكم‌ وتعللتم‌ بـ « ليتَ ولعلّ ولِمَ وبِمَ وسوف‌ وأنّ وأمثالها ». ولقد كانوا أهل‌ المجاهدة‌ والمثابرة‌، وكنتم‌ أهل‌ الكسل‌ والفشل‌ والتثاقل‌ والتواكل‌.

 وخلاصة‌ القول‌: وَقُلِ اعْمَلُوا، أي‌ اعملوا ما شئتم‌ أن‌ تعملوا فلن‌يجبركم‌ اليوم‌ أحد علی ترك‌ أعمالكم‌، فأنتم‌ مختارون‌. واعلموا: فَسَيَرَي‌ اللَهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ و وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلی عَـ'لِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـ'دَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.

 الرجوع الي الفهرس

شهادة‌ رسول‌ الله‌ والمؤمنين‌ هي‌ شهادة‌ الله‌ عزّ وجلّ

 انتبهوا فإنّ الله‌ سـينبّئكم‌ بأعمالكم‌، بأي‌ّ لحاظ‌؟ بلحاظ‌ أنّ الرسول‌ والمؤمنين‌ يطّلعون‌ علی أعمالكم‌. وهذا يعني‌ أنّ من‌ طرق‌ إخبارالله‌ الإنسان بعمله‌، تحمّل‌ الشهادات‌ التي‌ لرسول‌الله‌ والمؤمنين‌ علی أعمال‌ الإنسان‌. فعلم‌ رسول‌الله‌ وعلم‌ المؤمنين‌ ـ إذاًـ قد اندكّ في‌ علم‌الله‌ عزّ وجلّ، وهو أمر ينطوي‌ علی لطائف‌ تبيّن‌ إعجاز القرآن‌ في‌ بيان‌المعارف‌ الإلهيّة‌ وكيفيّة‌ ذكره‌ ـ بكلمات‌ قصار معدودة‌ـ كتاباً من‌ الحكمة‌ والحقيقة‌.

 وعندما تشرّفت‌ في‌ الصيف‌ الماضي‌ بزيارة‌ مشهد المقدّسة‌، التقيت‌ بأحد علماء الحوزة‌ العلميّة‌ في‌ قم‌، وكان‌ قد قدم‌ للزيارة‌، فتلوتُ له‌ آية‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌ تتحدّث‌ عن‌ النهي‌ عن‌ ولاية‌ الكفّار ومودّتهم‌. وكانت‌ فيها نكتة‌ ذكرتها له‌، فتعجّب‌ كثيراً وقال‌: ما أعجب‌ إعجاز القرآن‌! لقد قرأت‌ هذه‌ الآية‌ من‌ قبل‌ مائة‌ مرّة‌، بل‌ ألف‌ مرّة‌ ومرّة‌ دون‌ أن‌ ألتفتُ إلی هذا المعني‌.

 وكنتُ ـ بدوري‌ ـ لم‌ ألتفت‌ إلی هذه‌ النكتة‌ سابقاً، وصادف‌ أن‌ حللتُ في‌ أحد الفنادق‌، وكان‌ معي‌ كرّاسة‌ صغيرة‌ أُطالع‌ فيها، فلاحت‌ أمامي‌ هذه‌ الآية‌ الكريمة‌، فأحسست‌ عند رؤيتها بالعجب‌ من‌ معناها. وهي‌:

 يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَـ'فِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن‌ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن‌ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَـ'نًا مُّبِينًا. [23]

 أي‌ أ نّكم‌ إذا تولّيتم‌ الكفّار فإنّهم‌ سيُسلّطون‌ عليكم‌ ويصبحون‌ ذوي‌ قدرة‌ ومَنَعة‌ فيجعلون‌ أرواحكم‌ وأموالكم‌ ونواميسكم‌ وأعراضكم‌ في‌ معرض‌ الهلاك‌ والبوار، ويسترقّونكم‌ ويستعبدونكم‌ ويذلّونكم‌ ويقضون‌ عليكم‌.

 والملفت‌ للنظر هنا قوله‌ إنّ قدرتهم‌ وسلطتهم‌ التي‌ وردت‌ عليكم‌ هي‌ قدرة‌ الله‌ تعالي‌. أَفَتُرِيدُونَ أَن‌ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَـ'نًا؟ إنّ قدرة‌ الكفّار وتسلّطهم‌ عليكم‌ هي‌ عين‌ قدرة‌ الله‌ وسلطته‌، فلاتعتبروا حولهم‌ وقوّتهم‌ من‌ قِبل‌ أنفسهم‌، بل‌ الحول‌ والقوّة‌ والقدرة‌ مختصّة‌ بالله‌ تعالي‌، فأنتم‌ ـ بمودّتكم‌ للكفّار وتولّيكم‌ لهم‌ـ قد جعلتم‌ قدرة‌ الله‌ وسلطته‌ عليكم‌، وجعلتم‌ أنفسكم‌ منكوبين‌ مخذولين‌ باختياركم‌ الوقوع‌ تحت‌ ضربات‌ القدرة‌ الجلاليّة‌ الإلهيّة‌ بأيدي‌ الكفّار الذين‌ ليسوا إلاّ آلة‌ مسخّرة‌.

 وقد ورد شبيه‌ لهذه‌ النكتة‌ في‌ الآية‌ مورد البحث‌، وهي‌ أنّ رسول‌الله‌ والمؤمنين‌ يتحمّلون‌ الشهادة‌ عن‌ الناس‌، الذين‌ يُساقون‌ إلی ربّهم‌ فيكون‌ إنباؤه‌ إيّاهم‌ بأعمالهم‌ بواسطة‌ شهادة‌ هؤلاء الشهداء كإنبائه‌ هو بنفسه‌ لهم‌؛ كما أنّ تحمّل‌ الشهادة‌ وأداءها من‌ قِبل‌ رسول‌ الله‌ والمؤمنين‌ هي‌ عين‌ شهادة‌ الله‌.

 يروي‌ عليّ بن‌ إبراهيم‌ القمّيّ ( المقدّم‌ علی محمّدبن‌ يعقوب‌ الكلينيّ ) في‌ تفسيره‌ ( وهو من‌ نفائس‌ التفاسير ) عن‌ الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌:

 إِنَّ أَعْمَالَ العِبَادِ تُعْرَضُ علی رَسُولِ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ أَبْرَارِهَا وَفُجَّارِهَا، فَاحْذَرُوا وَلْيَسْتَحِي‌ أَحَدُكُمْ أَنْ يَعْرِضَ علی نَبِيِّهِ العَمَلَ القَبِيحَ. [24]

 وأورد العيّاشيّ في‌ تفسيره‌ عن‌ الإمام‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ أ نّه‌ سئل‌ عن‌ المراد بالمؤمنين‌ في‌ الآية‌: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَري‌ اللَهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ و وَالْمُؤْمِنُونَ، فقال‌: هُمُ الاَئِمَّةُ. [25]

 والاخبار الواردة‌ في‌ هذا المجال‌ تفوق‌ حدّ الاستفاضة‌، وتغصّ بها كتب‌ الحديث‌ والتفسير.

 فلا تتصوّروا أنّ كلّ من‌ فاه‌ بالشهادتينِ، ثمّ انساق‌ وراء الفسق‌ والفجور سيتمكّن‌ ـ بانتحال‌ الإيمان‌ـ من‌ الإخبار عن‌ بواطن‌ الاعمال‌، لانّ المراد بالمؤمنين‌ في‌ الآية‌ هم‌ الذين‌ بلغوا مقام‌ الإيمان‌ الحقيقيّ ونالوا درجة‌ اليقين‌ وارتقوا سلّم‌ الإنسانيّة‌ وبلغوا مقام‌ الكمال‌ فصاروا من‌ المقرّبين‌.

 وقد جاء في‌ العديد من‌ الروايات‌ أنّ الاعمال‌ تُعرض‌ علی إمام‌ العصر عجلّالله‌ تعالي‌ فَرَجه‌ كلّ أُسبوع‌، فيفرح‌ بصالح‌ أعمال‌ الناس‌، ويحزن‌ علی سيّئها وطالحها.

 وبطبيعة‌ الحال‌ فقد شوهد بين‌ المؤمنين‌ المتّقين‌ العارفين‌ بالله‌، مَن‌ له‌ اطّلاع‌ علی الغيوب‌ والضمائر والسرائر، ولكن‌ بالطبع‌ ليس‌بالدرجة‌ الموجودة‌ لدي‌ الإمام‌ عليه‌ السلام‌، بل‌ بمراتب‌ أدني‌ وأقلّ.

 الرجوع الي الفهرس

قصّة‌ الحاجّ عبد الزهراء الگرعاوي

 وقد كان‌ لي‌ صديق‌ من‌ أهالي‌ النجف‌ الاشرف‌ يُدعي‌ الحاجّ عبدالزهراء الگرعاوي‌ّ النجفي‌ّ، وهو ينتمي‌ إلی قبيلة‌ الگرعاوي‌ّ بَيدَ أ نّه‌ عاش‌ في‌ النجف‌ منذ صباه‌ وترعرع‌ فيها. وكان‌ رجلاً فطناً سريع‌ الانتقال‌، حاضر البديهة‌، وكان‌ ـفي‌ الوقت‌ نفسه‌ـ متديّناً وعاشقاً من‌ عشّاق‌ أبي‌ عبدالله‌ الحسين‌ عليه‌ السلام‌. وكان‌ كثير البكاء والتضرّع‌، لذا كانت‌ له‌ مكاشفات‌ صوريّة‌ ومثاليّة‌.

 وكان‌ مقرّ عمله‌ في‌ بغداد، أمّا منزله‌ ففي‌ مدينة‌ الكاظميّة‌. وكان‌ يمتلك‌سيّارة‌ شخصيّة‌ يقودها بنفسه‌. وقد اعتاد هذا الصديق‌ علی الذهاب‌ إلی كربلاء للزيارة‌ كلّ ليلة‌ جمعة‌، وفي‌ كثير من‌ الاوقات‌ يذهب‌ إلی النجف‌ لزيارة‌ القبر المطهّر لاميرالمؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ والقيام‌ بصلة‌ أرحامه‌ في‌ النجف‌.

 وقد امتدت‌ سوابق‌ معرفتي‌ به‌ إلی ثلاث‌ وعشرين‌ سنة‌، وقد انتقل‌ إلی رحمة‌الله‌ تعالي‌ منذ سنة‌ تقريباً، رحمه‌ الله‌.

 وقد حصل‌ في‌ أوائل‌ معرفتي‌ به‌ أن‌ سافرتُ ذات‌ صيف‌ مع‌ جميع‌ العائلة‌ وولدي‌ّ للقيام‌ برحلة‌ نزور فيها المراقد المقدّسة‌، فتشرّفنا بزيارة‌ سامراء لعدّة‌ أيّام‌، ثمّ قدمنا إلی الكاظمين‌ عليهما السلام‌، وقد كان‌ الحاجّ عبدالزهراء مسافراً آنذاك‌ بسيّارته‌ إلی النجف‌ الاشرف‌، فلم‌يكن‌ موجوداً في‌ الكاظميّة‌ حين‌ وصلناها.

 وفي‌ اليوم‌ التالي‌ لوصولنا، تشرّفت‌ حسب‌ العادة‌ بالذهاب‌ إلی الحرم‌ المطهّر للكاظمين‌ عليهما السلام‌ عند طلوع‌ الشمس‌، وأثناء عودتنا من‌ الزيارة‌ لمح‌ ولدي‌ الاكبر ـوكان‌ آنذاك‌ في‌ الرابعة‌ من‌ عمره‌ـ بائع‌ خضروات‌ يبيع‌ خياراً في‌ أوّل‌ أوانه‌، فبكي‌ وطلب‌ منّي‌ أن‌ أشتري‌ له‌، فامتنعت‌ لا نّه‌ كانت‌ لديه‌ حالة‌ تقيّؤ وإسهال‌، وكان‌ تناول‌ الخيار مضرّاً له‌، فبكي‌ وأصرّ علی طلبه‌، فلم‌ألقِ إلی بكائه‌ بالاً، فضربتُه‌ علی يده‌ وانصرفنا.

 وعند غروب‌ الشمس‌ جاءني‌ إلی الفندق‌ أحد الاصدقاء الكربلائيّين‌، فأخبرني‌ أنّ الحاجّ عبدالزهراء قد عاد من‌ النجف‌ الاشرف‌ ذلك‌ اليوم‌، وسألني‌ إن‌ كنتُ راغباً بمرافقته‌ لزيارة‌ الحاجّ والصلاة‌ معه‌ في‌ بيته‌، فقبلتُ وذهبنا مشياً علی الاقدام‌ إلی منزل‌ الحاجّ الذي‌ كان‌ يقع‌ آنذاك‌ خارج‌ الكاظميّة‌ في‌ الضواحي‌ الجديدة‌ الملحقة‌ بالمدينة‌. فشاهدت‌ في‌ الطريق‌ حشداً من‌ الناس‌ وقد تجّمعوا حول‌ شي‌ءٍ ما، فاستفسرت‌ من‌ صاحبي‌ عن‌ الامر، فقال‌ إنّهم‌ يتفرّجون‌ علی التلفزيون‌، وكان‌ قد دخل‌ حديثاً إلی الكاظميّة‌. نظرت‌ إليه‌ من‌ بعيد، فشاهدتُ صوراً تتحرّك‌ علی صفحة‌ مضيئة‌، فأخذت‌ أُحدِّث‌ نفسي‌ مندهشاً من‌ هذا التقدّم‌ الذي‌ بلغه‌ البشر بحيث‌ صار يأتي‌ بصور الاشخاص‌ وأصواتهم‌ من‌ المناطق‌ البعيدة‌، فيعرضها أمام‌ الانظار في‌ نفس‌ اللحظة‌.

 ثمّ دخلنا إلی منزل‌ الحاجّ فإذا هو قد فرش‌ سجّادته‌ في‌ زاوية‌ حديقة‌ الدار وقد انشغل‌ بالصلاة‌، فصلّينا بدورنا. وبعد السلام‌ والاستفسار عن‌ الاحوال‌، قال‌ الحاجّ بعد أن‌ مكث‌ هنيئة‌: إنّ الحقّ لايمتزج‌ بالباطل‌، وفي‌ النهاية‌ سينفصل‌ الحقّ إلی جانب‌ والباطل‌ إلی جانب‌ آخر.

 قلتُ: نعم‌، هذا صحيح‌.

 قال‌: الحقّ والباطل‌ كالماء والزيت‌، فلو مزجناهما معاً وخلطناهما لانفصلا من‌ جديد، بحيث‌ يصبح‌ الماء في‌ الاسفل‌ والزيت‌ في‌ الاعلی.

 قلتُ: نعم‌، هذا صحيح‌.

 قال‌: أيّها السيّد محمّد الحسين‌! أنت‌ تعلم‌ أنّ بإمكان‌ الإنسان‌ أن‌ يصل‌ بالتدبير والحيلة‌ والمكر إلی جميع‌ المناصب‌ والمقامات‌، فيصبح‌ تاجراً، ويصبح‌ ثريّاً، ويصبح‌ عالماً ومرجعاً، وسلطاناً ورئيس‌ جمهوريّة‌، إلاّ أنّ طريق‌ الله‌ عزّ وجلّ لا مجال‌ فيه‌ للحيلة‌ أبداً.

 قلتُ: نعم‌، هذا صحيح‌.

 فقال‌: لقد غادرتُ النجف‌ صباح‌ هذا اليوم‌، وكنت‌ أسير بسيّارتي‌ متّجهاً إلی الكاظميّة‌، فرأيتُ فجأة‌ أنّ من‌ الممكن‌ أن‌ يكون‌ المرء في‌ الطابق‌ العاشر من‌ عمارةٍ ما، لكنّه‌ قد يسقط‌ ـبأدني‌ غفلة‌ـ ويهوي‌ إلی الطابق‌ الاسفل‌ دفعةً واحدة‌.

 فأدركتُ أنّ جميع‌ هذا الكلام‌ والحوار كان‌ من‌ أجل‌ إبلاغي‌ أنّ الضرب‌ علی يد الطفل‌ الذي‌ أراد الخيار لم‌ يكن‌ أمراً صحيحاً، وأ نّه‌ كان‌ ينبغي‌ تهدئة‌ الطفل‌ بصبر وتأنٍّ، وأ نّه‌ كان‌ مطّلعاً علی أحوالنا وعلی طلب‌ الطفل‌ وضربي‌ إيّاه‌، بينما كان‌ جالساً في‌ سيّارته‌ في‌ الصحراء الممتدّة‌ بين‌ الحلّة‌ وبغداد، إلاّ أ نّه‌ لم‌ يكن‌ يريد القول‌ لي‌ بصراحة‌ « لقد فعلتَ كذا».

 فخاطبتُه‌ في‌ أعماقي‌ دونما اختيار: وَاللَهِ لَقِصَّتُكَ أَعْجَبُ!

 واللهِ إنّ رؤيتك‌ ما فعلته‌ ـوأنت‌ في‌ صحراء النجف‌ـ وأنا في‌ موضع‌ يبعد عنك‌ بأكثر من‌ مائة‌ كيلومتر أعجب‌ عندي‌ من‌ قصّة‌ التلفزيون‌ وأدعي‌ للدهشة‌ والاستغراب‌.

 وَجِاي‌´ءَ بِالنَّبِيِّـــنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَيُظْلَمُونَ* وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ. [26]

 ويستفاد من‌ هذه‌ الآية‌ الكريمة‌ أ نّه‌ لمّا يؤتي‌ بالنبيّين‌ والشهداء يوم‌ القيامة‌ فيشهدون‌ علی أعمال‌ الإنسان‌، فإنّ الله‌ تعالي‌ يجعل‌ نفس‌ العمل‌ جزاءً لذلك‌ العمل‌.

 فشهادة‌ هؤلاء ـ إذاً ـ ليست‌ شهادة‌ لسانيّة‌ ولفظيّة‌، بل‌ إنّ كيفيّة‌ أدائهم‌ لها تتجسّد في‌ جعل‌ عمل‌ الإنسان‌ مشهوداً أمامه‌. ومن‌ هنا فإنّ تحمّل‌ الشهادة‌ ينبغي‌ أن‌ يكون‌ هكذا. أي‌ أنّ النبيّين‌ والشهداء لايحملون‌ المطلب‌ في‌ أذهانهم‌ فيتصوّرونه‌ ويصدّقونه‌ بالشكل‌ والوصف‌ والكتابة‌، بل‌ إنّهم‌ يحفظون‌ في‌ وجودهم‌ في‌ مقام‌ التحمّل‌ حقائق‌ الاعمال‌، ثمّ يعرضون‌ يوم‌ القيامة‌ هذا الامر المتحمَّل‌ ويخرجونه‌ للانظار ويُطلعون‌ الإنسان‌ عليه‌، كما أنّ الجزاء المُعطي‌ للإنسان‌ إنّما هو عين‌ عمله‌: وَوُفِّيَّتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ.

 كلّ ما في‌ الامر أن‌ العمل‌ يكون‌ في‌ صورته‌ الحقيقيّة‌ الملكوتيّة‌، سواءً كانت‌ صورةً للجنّة‌: رِضْوَ ' نٌ مِّنَ اللَهِ؛ جَنَّاتٍ تَجْرِي‌ مِن‌ تَحْتِهَا الاْنْهَـ'ر؛ لِقَاءِ اللَهِ؛ أو كانت‌ صورةً للجحيم‌ والعقارب‌ والحيّات‌ والمناظر المخوفة‌ المهولة‌ والمنازل‌ المرعبة‌؛ ثُمَّ فِي‌ سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوُه‌. وخُلاصة‌ المطلب‌: وَهُمْ لاَيُظْلَمُونَ.

 وليس‌ هناك‌ في‌ عالم‌ التكوين‌ ذرّة‌ من‌ الظلم‌، فكلُّ سيُجزي‌ بأعماله‌ فيراها مجبولةً بنفسه‌ وروحه‌، فيعتنقها لتأخذه‌ إلی الجنّة‌ أو إلی النار.

 إنّ الله‌ تعالي‌ ينبّهنا ـ قبل‌ فوات‌ الاوان‌ ـ إلی مقامات‌ المقرّبين‌ والصدّيقين‌ والواصلين‌ إلی حريمه‌، لانّ الإنسان‌ لايري‌ عيَبه‌ أبداً، بل‌ يعتبر نفسه‌ محوراً للكمال‌، فيقيس‌ عليها جميع‌ الاُمور الواقعيّة‌، ويجعلها محوراً للواقعيّة‌ والحقيقة‌، ثمّ يقيس‌ مقدار الحقائق‌ وفق‌ هذا المعيار، وليس‌ ذلك‌ بالاُسلوب‌ الصحيح‌.

 وبالالتجاء إلی الله‌ والإنابة‌ إليه‌، وبالبكاء والابتهال‌ والتضرّع‌ إليه‌ عزّ وجلّ، فإنّه‌ تعالي‌ سيوقف‌ الإنسان‌ علی عيوبه‌ ويبصّره‌ بها، والسلام‌ عليكم‌ ورحمة‌ الله‌ وبركاته‌. 

 الرجوع الي الفهرس

 

الدرس‌ الخامس‌ والاربعون‌:

 شرط‌ الشهادة‌: الإحاطة‌ العلميّة‌ بالمخفيّات‌

 

بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد للَّه‌ ربّ العالمين‌ ولا حول‌ ولا قوّة‌ إلاّ بالله‌ العلی العظيم‌

وصلَّي‌ الله‌ علی محمّد وآله‌ الطاهرين‌

ولعنة‌ الله‌ علی أعدائهم‌ أجمعين‌ من‌ الآن‌ إلی قيام‌ يوم‌ الدين‌

 

 قال‌ الله‌ الحكيم‌ في‌ كتابه‌ الكريم‌:

 وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن‌ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلاَهُمْ يُسْتَعْتَبُونَ.[27]

 العُتبي‌ بمعني‌ الرضا؛ استعتب‌ يستعتب‌: طلب‌ الرضا؛ لذا فإنّ تعبير وَلاَهُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يعني‌ أنّ الكفّار سيطلبون‌ الرضا فلايُقبل‌ منهم‌، وسيعتذرون‌ فلايُجديهم‌ اعتذارهم‌، وسيتكلّمون‌ فلا يجد كلامهم‌ أُذناً صاغية‌. وكلامنا يتعلّق‌ بالكفّار الذين‌ لايؤذن‌ لهم‌ بالكلام‌.

 وهناك‌ ـ في‌ المقابل‌ ـ طائفة‌ شاهدة‌ علی الاعمال‌، وذات‌ مزايا وخصائص‌ تتحمّل‌ من‌ خلالها الشهادة‌ وتؤدّيها.

 والاُمّة‌ بمعني‌ الجماعة‌، فإن‌ لم‌ تُضف‌ إلی شي‌ء آخر، صار معناها عامّاً، أمّا لو أُضيفت‌ إلی شخص‌ معروف‌ أو إلی زمان‌ أو مكان‌ معيّنين‌، فسيصبح‌ المراد بها خصوص‌ ذلك‌ الامر المضاف‌. كأُمّة‌ محمّد الدالّة‌ علی الجماعة‌ المرتبطة‌ بالنبيّ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌، وكأُمّة‌ آخر الزمان‌، وأُمّة‌ الحجاز الدالّتين‌ علی خصوص‌ أُولئك‌ الافراد.

 وقوله‌ تعالي‌: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن‌ كُلِّ أُمَّةٍ يفيد أنّ شاهداً سيُبعث‌ من‌ كلّ طائفة‌ وجماعة‌، دونما استثناء لزمان‌ أو مكان‌ أو نبيّ معيّنين‌.

 وينبغي‌ أن‌ نري‌ المزايا التي‌ يتحلّي‌ بها ذلك‌ الشاهد المبعوث‌ من‌ كلّ أُمّة‌. وقد ذكرنا في‌ المجلس‌ السابق‌ أنّ العلم‌ والاطّلاع‌ يعدّان‌ أمراً لازماً في‌ الشهادة‌، وأنّ شهادة‌ الشخص‌ الذي‌ يشهد علی أمرٍ ما دون‌ علم‌ واطّلاع‌ تُعدّ شهادة‌ باطلة‌، وأ نّه‌ سيُدعي‌ ـتبعاً لذلك‌ـ شاهد زور، أي‌ شاهداً بالباطل‌. فلو دُعي‌ امري‌ لم‌يطّلع‌ علی واقعة‌ معيّنة‌ إلی الشهادة‌ علی تلك‌ الواقعة‌، فجاء وشهد لدي‌ الحاكم‌، كانت‌ شهادته‌ شهادة‌ زور وشهادةً بالباطل‌، وسيكون‌ قد ارتكب‌ معصية‌ كبيرة‌ بأدائه‌ تلك‌ الشهادة‌.

 وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِالْلَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا.[28]

 ويقال‌ للشهادة‌ شهادةً ـ أساساً ـ لا نّها تستلزم‌ الحضور؛ إذ تعني‌ الشهادة‌: الحضور. ومن‌ هنا فإنّ الشهادة‌ علی الاعمال‌ في‌ يوم‌ القيامة‌ تتوقّف‌ علی كون‌ الشاهد قد تحمّل‌ أعمال‌ الافراد في‌ الدنيا واطّلع‌ عليها وعلم‌ بها، ثمّ إنّه‌ يؤدّي‌ يوم‌ الجزاء ما تحمّله‌.

 علی أنّ الحكم‌ بكون‌ العمل‌ حسناً أو سيّئاً يحتاج‌ إلی علم‌ واطّلاع‌ علی كيفيّة‌ ذلك‌ العمل‌ بما يتضّمنه‌ من‌ قصدٍ للقُربة‌ أو الخيانة‌، ومن‌ قصدٍ حسن‌ أو سيّي‌، ومن‌ فعله‌ في‌ سبيل‌ الله‌ أو وصولاً للذّة‌ النفسانيّة‌ وهو أمر يتعذّر علی الافراد العاديّين‌ الذين‌ يعجزون‌ عن‌ أداء الشهادة‌ في‌ الاُمور المعلومة‌ المشهودة‌ لديهم‌، فضلاً عن‌ الافراد البعيدين‌ والغائبين‌.

 وبناءً علی هذا فينبغي‌ للشاهد ـ حتماً ـ أن‌ يستوي‌ لديه‌ أمر الغياب‌ والحضور، القُرب‌ والبعد، والمكان‌ والزمان‌؛ وأن‌ ينظر علی حدٍّ سواء إلی الماضي‌ والمستقبل‌، وإلي‌ الامكنة‌ المختلفة‌، وأن‌ يعلم‌ بالبواطن‌ والسرائر، ناهيك‌ عن‌ علمه‌ بظواهر الاعمال‌، ليمكنه‌ تحمّل‌ الشهادة‌ وأدائها علی النحو المطلوب‌، وإلاّ كانت‌ الشهادة‌ خارجة‌ عن‌ دائرة‌ وجوده‌ وإحاطة‌ علمه‌.

 الرجوع الي الفهرس

في‌ تفسير آلآية‌ الشريفة‌: وَكَذَ ' لِكَ جَعَلْنَـ'كُمْ أُمَّةً وَسَطًا

 وَكَذَ ' لِكَ جَعَلْنَـ'كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ علی النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا. [29]

 والمخاطَب‌ في‌ هذه‌ الآية‌ هم‌ المسلمون‌، حيث‌ يقول‌ لهم‌ الله‌: إنّنا جعلناكم‌ جماعة‌ معتدلة‌ ذات‌ سيرة‌ معتدلة‌ جميلة‌ لاإفراط‌ فيها ولاتفريط‌، وجعلنا أُموركم‌ علی أساس‌ الاعتدال‌ والقسط‌ والعدل‌، لتكونوا رقباء وشهداء علی الناس‌، ناظرين‌ إلی أعمالهم‌، شاهدين‌ عليها. وليكون‌ النبي‌ّ الاكرم‌ ـ بدوره‌ـ ناظراً إلی أعمالكم‌ رقيباً عليكم‌ وشاهداً.

 وقد بحثنا مفصّلاً في‌ أنّ هناك‌ مزايا وخصوصيّات‌ لازمة‌ في‌ الشهادة‌ ومعدودة‌ من‌ شرائطها. فكيف‌ ـ إذاً ـ يتوجّه‌ الخطاب‌ في‌ هذه‌ الآية‌ إلی جميع‌ الاُمّة‌ الإسلاميّة‌، أُمّة‌ رسول‌ الله‌، مع‌ علمنا أنّ من‌ بين‌ هذه‌ الاُمّة‌ يوجد القليل‌ فقط‌ ممّن‌ لهم‌ علم‌ واطّلاع‌ علی حقائق‌ الاعمال‌ ووقوف‌ علی السرائر والضمائر، ومع‌ علمنا بأنّ غالبيّة‌ الاُمّة‌ تفتقر إلی الاطّلاع‌ علی مثل‌ هذه‌ الاُمور؟ يُضاف‌ إلی ذلك‌ أنّ من‌ بين‌ هذه‌ الاُمّة‌ الفاجر والفاسق‌. فكيف‌ يخاطبهم‌ الله‌ تعالي‌: أ نّا جعلناكم‌ أُمّة‌ وسطاً ذات‌ سيرة‌ معتدلة‌ حسنة‌ وجعلناكم‌ شهداء علی الناس‌؟

 لقد كان‌ من‌ هذه‌ الاُمّة‌ الضالّ والمضلّ والمنافق‌، وكان‌ يزيدبن‌ معاوية‌ وأبوه‌ معاوية‌ بن‌ أبي‌ سفيان‌ يعدّان‌ أنفسهما من‌ هذه‌ الاُمّة‌. أفيمكن‌ أن‌ يخاطب‌ الله‌ تعالي‌ أُمّةً من‌ بين‌ أفرادها نماذج‌ كهؤلاء، فيمتدحها بأ نّها أُمّة‌ وسط‌، ويجعلها شاهدة‌ علی أعمال‌ الناس‌ رقيبة‌ عليهم‌؟ أيمكن‌ قبول‌ هذا الامر؟ كلاّ بطبيعة‌ الحال‌.

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ الآية‌ 69، من‌ السورة‌ 39: الزمر.

[2] ـ الآية‌ 48، من‌ السورة‌ 14: إبراهيم‌.

[3] ـ مقطع‌ من‌ الآية‌ 46، من‌ السورة‌ 39: الزمر.

[4] ـ الآيتان‌ 14 و 15، من‌ السورة‌ 75: القيامة‌.

[5] ـ الآيات‌ 105 إلی 108، من‌ السورة‌ 11: هود.

[6] ـ الآية‌ 38، من‌ السورة‌ 78: النبأ.

[7] ـ الآية‌ 86، من‌ السورة‌ 43: الزخرف‌.

[8] ـ «بحار الانوار» ج‌ 92، ص‌ 172.

[9] ـ «بحار الانوار» ج‌ 67، ص‌ 74.

[10] ـ الآيات‌ 18 إلی 21، من‌ السورة‌ 83: المطفّفين‌.

[11] ـ الآيات‌ 7 إلی 9، من‌ السورة‌ 83: المطفّفين‌.

[12] ـ صدر الآية‌ 257، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[13] ـ مقطع‌ من‌ الآية‌ 257، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[14] ـ الآية‌ 72، من‌ السورة‌ 17: الاءسراء.

[15] ـ النصف‌ الثاني‌ من‌ الآية‌ 40، من‌ السورة‌ 24: النور.

[16] ـ الآية‌ 105، من‌ السورة‌ 9: التوبة‌.

[17] ـ الآية‌ 3، من‌ السورة‌ 66: التحريم‌.

[18] ـ المقصود به‌ عليّ بن‌ أبي‌ طالب‌ عليه‌ السلام‌ وفقاً لروايات‌ العامّة‌ والشيعة‌.

[19] ـ الآية‌ 4، من‌ السورة‌ 66: التحريم‌.

[20] ـ «تفسير الكشّاف‌» ص‌ 1501 من‌ الجزء الثاني‌. طبعة‌ كلكتا، سنة‌ 1276 هجريّة‌، وهي‌ أقدم‌ طبعة‌ لـ«الكشّاف‌» مطبعة‌ ليسي‌؛ وص‌ 471 في‌ الطبعة‌ الاُولي‌ للمطبعة‌ الشرفيّة‌ سنة‌ 1307؛ وص‌ 566 في‌ طبعة‌ دار الكتاب‌ الإسلامي‌ ـ بيروت‌، لبنان‌، سنة‌ 1366. وقال‌ ابن‌ حجر العسقلانيّ في‌ كتاب‌ «الكافي‌ الشاف‌ في‌ تخريج‌ أحاديث‌ الكشّاف‌» ذيل‌ الحديث‌: هذا حديث‌ مُتّفق‌ عليه‌.

[21] ـ «ديوان‌ كمباني‌» للمرحوم‌ آية‌ الله‌ الشيخ‌ محمّد حسين‌ الاءصفهانيّ، ص‌ 9 و 10.

 يقول‌: «يا صاحب‌ الوحي‌ والقلب‌ اليقظ‌ الخبير، ومَن‌ له‌ مقام‌ «لي‌ مع‌ الله‌».

 أيّها المؤتمن‌علی حريم‌ اللاهوت‌، والمَلِك‌ في‌ ملكوت‌ الحقّ.

 أيّها الخارج‌ من‌ حضيض‌ الناسوت‌، والمتربّع‌علی رفرف‌ العزّ والجاه‌ والشوكة‌.

 يا من‌ تخطّي‌ سرادقات‌ العزّ، بينما توقّف‌ عندها أمين‌ الحرم‌ الإلهي‌ّ.

 ويا من‌ أدني‌ خدّامك‌ قدْراً، أعلي‌ من‌ ذروة‌ هذا الكون‌.

 طلعة‌ الشمس‌ صفراء خجلاً منك‌، وقلبُ القمر منشقّ نصفين‌ هلعاً منك‌.

 أهذا عطر عنبر الجنّة‌ أم‌ جميلُ ذِكرك‌ في‌ الافواه‌؟».

[22] ـ يقول‌: «قدم‌ الوهم‌ عرجاء من‌ أن‌ تنالك‌ أو ترقي‌ إليك‌، ويد الفهم‌ قاصرة‌ عن‌ نيل‌ أذيالك‌.

 وقد قال‌ * بشأنك‌ الخالق‌ المنزّه‌: لولاك‌ لما خلقتُ الافلاك‌».

 * ـ إشارة‌ إلی حديث‌: «لي‌ مع‌ الله‌ حالات‌ لا يسعها ملك‌ مقرّب‌ ولا نبيّ مُرسل‌».(م‌)

[23] ـ الآية‌ 144، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[24] ـ «تفسير القميّ» ص‌ 279؛ و «المعاد» للعلاّمة‌ الطباطبائيّ، نسخة‌ خطّيّة‌، ص‌ 40.

[25] ـ «تفسير العيّاشي‌ّ» ج‌ 2، ص‌ 109.

[26] ـ النصف‌ الثاني‌ من‌ الآية‌ 69، والآية‌ 70، من‌ السورة‌ 39: الزمر.

[27] ـ الآية‌ 84، من‌ السورة‌ 16: النحل‌.

[28] ـ الآية‌ 72، من‌ السورة‌ 25: الفرقان‌.

[29] ـ مطلع‌ الآية‌ 143، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com