بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة المعاد / المجلد الثانی / القسم الاول: النجاة فی الایمان تعبدا، قصة قارون، التوبة المردودة، المستضعف، کیفیة قبض ...

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الرجوع إلی المجلد الاول

 

بِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ

الحمد لله‌ ربّ العالمين‌ و لا حول‌ و لا قوة‌ إلاّ باللَه‌ العليّ العظيم‌

و صلَّي‌ اللهُ علی محمّد و آله‌ الطَّاهرين‌

و لعنة‌ اللَه‌ علی أعدائهم‌ أجمعين‌ من‌ الآن‌ إلی‌ قيام‌ يوم‌ الدين‌

(مطالب‌ أُلقيت‌ في‌ اليوم‌ الثامن‌ من‌ شهر رمضان‌ المبارك‌)

 

 قال‌ اللهُ الحكيم‌ في‌ كتابه‌ الكريم‌:

 هَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ أن‌ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَـ'´ئِكَةُ أَوْ يَأتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَـ'تِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي‌ بَعْضُ ءَايَـ'تِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَـ'نُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن‌ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي‌´ إيمَـ'نِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُو´ا إِنَّا مُنتَظِرُونَ. [1]

 يتفرّد الإنسان‌ من‌ بين‌ جميع‌ الموجودات‌ التي‌ خلقها الله‌ تبارك‌ وتعإلی‌ العلويّة‌ منها و السفليّة‌، من‌ طائفة‌ الملائكة‌ المقرّبين‌ و سائر موجودات‌ عالم‌ الطبع‌ والمادّة‌ التي‌ أوجدها مثل‌ الحيوانات‌؛ بامتلاكه‌ خاصّيّة‌ و ميزة‌ تختصّ به‌، و هي‌ خضوعه‌ لغرائز متباينة‌ و صفات‌ متضادّة‌، وبامتلاكه‌ الاختيار و العقل‌ الذي‌ يمكّنه‌ من‌ انتهاج‌ أيِّ سبيلٍ و منحيً يشاء، وبناءً علی هذا الاساس‌ فقد خضع‌ الإنسان‌ للتكليف‌ من‌ قبل‌ الله‌ تعالي‌.[2]

 إنّ الملائكة‌ السماويين‌ الذين‌ أوجدهم‌ الباري‌ و منح‌ كلاّ منهم‌ قدرةً وعلماً و وظيفةً خاصّة‌، لا يمكنهم‌ تخطّي‌ حدود الوظائف‌ المسندة‌ إليهم‌، ولذلك‌ فلا يوجد فيهم‌ أيّ مجال‌ للرقي‌ّ و الكمال‌، و هذا الامر ينطبق‌ علی سائر الموجودات‌ الاخري‌ سوي‌ الإنسان‌.

 أمّا الإنسان‌ فإنّه‌ مكلّف‌ بتكاليف‌، و يمتلك‌ إرادة‌ و اختياراً، و قابليّة‌ و استعداداً، و لذا يستطيع‌ عند ما يخضع‌ لتربية‌ صحيحة‌ أن‌ يتأدّب‌ بالادب‌ الحقيقيّ و أن‌ يطوي‌ مقام‌ الكمال‌. و عدم‌ انصياعه‌ لتلك‌ التربية‌ سيؤدّي‌ إلی‌ هدر ذلك‌ الاستعداد و إضاعة‌ تلك‌ الجوهرة‌، و بقائه‌ متحجّراً في‌ النقصان‌، متسمّراً لا يستطيع‌ حراكاً.

 إنّ أصل‌ وجود الإنسان‌ يكمن‌ في‌ قابليّة‌ الحركة‌ نحو السعادة‌ أو الوقوف‌ و التهالك‌ بين‌ أنقاض‌ الشقاء، و علی هذا الاساس‌، فإنّ الجنّة‌ أو النار التي‌ خلقها الله‌ سبحانه‌ و تعالی‌ إنـّما هي‌ للإنسان‌ الذي‌ يمتلك‌ الإرادة‌ والاختيار، و الذي‌ يتمكّن‌ من‌ تحويل‌ استعداداته‌ إلی‌ مرحلة‌ الفعلية‌ من‌ أجل‌ الوصول‌ إلی‌ كماله‌، أو أن‌ يُضيعها و يُفسدها باختياره‌ و يُغرقها في‌ مستنقع‌ الشهوات‌ والاوهام‌، لتصبح‌ مُنتنةً عفنةً.

 الرجوع الي الفهرس

 الإیمان بالله‌ طوعاً و اختياراً هو الذي‌ ينفع‌ الإنسان‌

 مادام‌ الإنسان‌ يمتلك‌ ناصية‌ الاختيار فإنّ باب‌ التوبة‌ مشرع‌ أمامه‌، فإنّ إيمانه‌ سيكون‌ مؤثّراً و أعماله‌ له‌ صحيحةً مقبولة‌، أمّا حين‌ يُغلِق‌ سبيل‌ الاختيار فسيجد الإنسان‌ نفسه‌ مضطرّاً مُجبراً علی اختيار سبيلٍ و منحيً معيّن‌، فإنّ التكليف‌ سيسقط‌ ءانذاك‌ و  الإیمان الذي‌ سيحصل‌ لديه‌ لن‌ يُثمر شيئاً، و لن‌ يكون‌ له‌ دور و لا أثر إيجابي‌ّ تكميل‌ في‌ النفس‌ و ترقّيها.

 الرجوع الي الفهرس

لا فائدة‌ من‌  الإیمان عند معاينة‌ سكرات‌ الموت‌ و ارتفاع‌ حُجب‌ الغيب‌

 إنّ الإنسان‌ يمتلك‌ طيلة‌ أيّام‌ حياته‌ الاختيار في‌ أن‌ يؤمن‌ أو لا يؤمن‌، و في‌ أن‌ يعمل‌ صالحاً أو لا يعمل‌، و أن‌ يرتقي‌ درجات‌ معيّنة‌ و يخطو نحو الفعلية‌ الحسنة‌ و الجنّة‌، أو أن‌ يحبس‌ نفسه‌ في‌ دركات‌ الجهل‌ و يوقفها علی الغرائز و الصفات‌ البهيميّة‌ فيبقي‌ مخلّداً في‌ جهنّم‌. ولكن‌ في‌ ساعة‌ عمره‌ الاخيرة‌، حين‌ يغرق‌ في‌ سَكَرات‌ الموت‌، حيث‌ تُعدّ تلك‌ الساعة‌ هي‌ الساعة‌ الاخيرة‌ من‌ ساعات‌ الدنيا و الاُولي‌ من‌ ساعات‌ الآخرة‌، و في‌ تلك‌ اللحظة‌ ترفع‌ الحجب‌ عن‌ عينيه‌ فيري‌ الحقائق‌ جليّة‌ ببصيرته‌ الملكوتيّة‌، فإنّ الاختيار سيُسلب‌ منه‌ آنذاك‌، و لن‌ ينفعه‌ إيمانه‌ بالله‌ و برسله‌ و بيوم‌ الجزاء، ولن‌ يضيره‌ ذلك‌ شيئاً، لانّ إيمانه‌ عندئذٍ اضطراريّ و خارج‌ عن‌ الاختيار، كما أنّ توبته‌ غير مقبولة‌.

 يقول‌ سبحانه‌ في‌ الآية‌ الشريفة‌ التي‌ تُليت‌ في‌ مطلع‌ الحديث‌، و هي‌ الآية‌ 158 من‌ سورة‌ الانعام‌، السورة‌ السادسة‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌:

 لماذا لا يؤمن‌ الناس‌ و لا يعملون‌ الصالحات‌ بالرغم‌ من‌ أنـّهم‌ يمتلكون‌ الاختيار و الإرادة‌ الآن‌؟ أينتظرون‌ مجي‌ء ملائكةِ السماء ليؤمنوا؟ أو ينتظرون‌ أن‌ يأتي‌ ربّك‌، أو يظهر لهم‌ بعض‌ آيات‌ غضبه‌ وقهره‌ كي‌ يؤمنوا؟

 فحين‌ تأتي‌ بعض‌ آيات‌ عذاب‌ الله‌ و غضبه‌ من‌ عالم‌ الغيب‌، لن‌ ينفع‌  الإیمان عندئذٍ أولئك‌ الذين‌ لم‌ يؤمنوا من‌ قبل‌ أو يكتسبوا في‌ إيمانهم‌ خيراً، لانّ إيمانهم‌ ذلك‌ سيكون‌ إيماناً صوريّاً و اضطراريّاً، و سيكون‌ إيماناً بعد تصرّم‌ الدنيا و فقدان‌ الاختيار، و إيماناً بعد تلف‌ البدن‌ و تحطّم‌ الغرائز وفقدان‌ الإرادة‌.

بلي‌، إنّ هؤلاء القوم‌ لا يؤمنون‌ حتّي‌ يروا شيئاً من‌ عالَم‌ الغيب‌، بَيدَ أنّ إيمانهم‌ هذا لا فائدة‌ له‌ وقت‌ المشاهدة‌. قُلِ انتَظِرُو´ا إِنَّا مُنتَظِرُونَ.

إنّكم‌ لم‌ تؤمنوا و لم‌ تعملوا صالحاً، فانتظروا حتّي‌ تروا أشياء من‌ عالم‌ الغيب‌، و سننتظر نحن‌ أيضاً ذلك‌ الوقت‌ الذي‌ سترون‌ فيه‌ أشياء من‌ عالم‌ الغيب‌، لنراكم‌ و أنتم‌ تدركون‌ عدم‌ جدوي‌ إيمانكم‌ ذلك‌ و عجزه‌ عن‌ الاخذ بأيديكم‌ إلی‌ النجاة‌ و السلامة‌.

 لقد بيّن‌ الله‌ سبحانه‌ في‌ أواخر سورة‌ غافر (المؤمن‌) سيرة‌ الاُمم‌ السابقة‌ التي‌ أعرضت‌ عن‌ دعوة‌ أنبيائها و المرسلين‌ إليها، فكلّما أبلغهم‌ الانبياء رسالات‌ ربّهم‌ و وصفوا لهم‌ سبيله‌ و دعوهم‌ إلی‌ الاعمال‌ الحسنة‌ ردّوا عليهم‌ بقولهم‌: إنّ كلامكم‌ هذا لا ينفعنا بشي‌ء، فنحن‌ نريد أن‌ نري‌ شيئاً ما عياناً لنؤمن‌ به‌ و يجب‌ أن‌ يكون‌ شيئاً غيبيّاً يُري‌ بالعين‌، يجب‌ أن‌ نري‌ العذاب‌ مثلاً، و أن‌ نري‌ المَلَك‌، و يجب‌ أن‌ نري‌ الله‌ تعالي‌، وإلاّ فإنّنا لن‌ نؤمن‌ أبداً، إذ سيتنافي‌ مع‌ علمنا إيمانُنا بشي‌ء لا نراه‌، و إقامتُنا عقائدَنا علی أساس‌ أقوال‌ نبيّ من‌ الانبياء.

و مهما أثبت‌ الانبياء لتلكم‌ الاُمم‌ بالمنطق‌ و البرهان‌ أنّ الامر ليس‌ كما تتصوّرون‌ لم‌ يدعنوا، و مهما قالوا لهم‌: إنّ الله‌ عَزَّ شأنه‌ قد منحكم‌ الوجدان‌ و الفطرة‌، و منّ عليكم‌ بالعقل‌ و التفكير، فزِنوا أقوالنا و دعوتنا بهذه‌ الموازين‌ التي‌ منحكم‌ الله‌ إيّاها و شخّصوا بأنفسكم‌ صحّة‌ كلامنا؛ فإنـّهم‌ لم‌ يعيروا لكلام‌ أنبيائهم‌ آذاناً صاغية‌، حتّي‌ جاءهم‌ عذاب‌ الله‌ و هم‌ في‌ كفرهم‌ و إنكارهم‌، فأبادهم‌ و أنهي‌ وجودهم‌.

 لقد كانت‌ تلك‌ الاُمم‌ تؤذي‌ الانبياء و تخرجهم‌ من‌ ديارهم‌. و تعذّبهم‌ و تقتلهم‌ و تنشرهم‌ وسط‌ الاشجار بالمناشير، و تجعلهم‌ يفرّون‌ هائمين‌ في‌ البراري‌ والجبال‌، و تُلحق‌ بهم‌ أنواع‌ الاذي‌، و لم‌ تكن‌ تلك‌ الاُمم‌ مستعدّة‌ أبداً للتسليم‌ أمام‌ أمر الحقّ، و لا للتأمّل‌ و التفكير في‌ أقوال‌ الانبياء وعرضها علی منطق‌ العقل‌ و ميزانه‌.

 و كان‌ الانبياء يدعون‌ ربّهم‌ أن‌: اللّهم‌ سئمنا هؤلاء الطُغاة‌ والمتمرّدين‌ و عيل‌ صبرنا منهم‌، فأنزِل‌ بهم‌ اللّهم‌ أمرك‌ و قضاءك‌. فكان‌ الله‌ يُنزل‌ عذابه‌ آنذاك‌ علی هيئة‌ الريح‌ العاتية‌ و الطوفان‌ و المرض‌ والموت‌ والزلازل‌ الشديدة‌ و الخسف‌ و انشقاق‌ الارض‌ و الغرق‌ و المسخ‌ و سائر أنواع‌ العذاب‌ المذكورة‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌.

 علی أنّ العذاب‌ رُفع‌ عن‌ أُمّة‌ نبيّنا من‌ بين‌ جميع‌ الاُمم‌، فصارت‌ ببركة‌ وجوده‌ المقدّس‌ مصونة‌ من‌ العذاب‌ السماويّ و الارضيّ. فقد ورد في‌ الآية‌33 من‌ سورة‌ الانفال‌:

 وَ مَا كَانَ اللَهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.

 فلقد كان‌ الانبياء في‌ حال‌ مواجهة‌ و صراع‌ و جدال‌ دائم‌ مع‌ أُممهم‌، وكانوا يدعونهم‌ إلی‌ عالم‌ الغيب‌ و الحقّ، بينما كانت‌ أُممهم‌ تعتمد علی المال‌ و الثروة‌ و القدرة‌ و علی علومهم‌ الغرور وا لباطل‌، و كانوا يعوّلون‌ علی هذه‌ الاُمور و يمتنعون‌ عن‌ التسليم‌ و الانقياد للحقّ.

 فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَـ'تِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حَاقَ بِهِم‌ مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُو´ا ءَامَنَّا بِاللَهِ وَحْدَهُ و وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمـ'نُهُمْ لَمَّا رَأوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَهِ الَّتِي‌ قَدْ خَلَتْ فِي‌ عِبَادِهِ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ الْكَـ'فِرُونَ [3].

 لقد كانوا يمتلكون‌ الإرادة‌ و الاختيار، و كان‌ الانبياء عليهم‌ السلام‌ يذهبون‌ إليهم‌ فينصحونهم‌ برفيق‌ القول‌ و ليّنه‌ و يعظونهم‌، إلاّ أنـّهم‌ لم‌ يُصغوا إليهم‌ أبداً، وكانوا يعوّلون‌ علی علمهم‌، و كما وصفهم‌ القرآن‌: فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم‌ مِّنَ الْعِلْمِ، و كانوا يخاطبون‌ الانبياء: إنّ كلامكم‌ لاينفع‌ شيئاً، فأنتم‌ تقولون‌ إنـّكم‌ تخبرون‌ عن‌ الغيب‌ و عن‌ الله‌، فأين‌ هو عالم‌ الغيب‌ يا تري‌؟ و من‌ هوالله‌؟ إنـّنا نمتلك‌ علماً و منهجاً، و قد درسنا في‌ الجامعة‌ و تخصّصنا في‌ فنون‌ و فروع‌ معيّنة‌، و لقد فجّرنا الذرّة‌، و تفحّصنا جميع‌ الامراض‌ واكتشفنا حقيقة‌ الميكروب‌، و لقد توصّلنا إلی‌ حلّ المعادلات‌ من‌ الدرجة‌ الثالثة‌، فنحن‌ نعوّل‌ علی قدراتنا و علومنا التي‌ نمتلكها. و هكذا فقد كان‌ أُولئك‌ مغرورين‌ بعلومهم‌ هذه‌ التي‌ يمتلكونها، فرحين‌ جذلين‌ بها لدرجة‌ أن‌ لا يتصوروا وراءها شيئاً، و لم‌ يكن‌ غرورهم‌ واستكبارهم‌ ليسمح‌ لهم‌ أن‌ يُدركوا أنّ هناك‌ علماً أرقي‌ و أسمي‌ و هو علم‌ الانبياء.

 الرجوع الي الفهرس

 تعاليم‌ الانبياء و الاحكام‌ الإلهيّة‌ ينبغي‌ قبولها تعبّداً لا بالدليل‌ و الفلسفة‌

 إنّ هؤلاء المساكين‌ لايدركون‌ أنّ علومهم‌ قياساً للعلوم‌ الحضوريّة‌ والشهوديّة‌ للانبياء عليهم‌ السلام‌ ليست‌ إلاّ قطرة‌ في‌ مقابل‌ البحر، بل‌ ينبغي‌ عدّ تلك‌ العلوم‌ أمام‌ علوم‌ الانبياء كالصفر مقابل‌ العدد غير المتناهي‌. لذا يجب‌ التسليم‌ أمام‌ الحقّ، و يجب‌ التسليم‌ أمام‌ علوم‌ النبي‌ّ و السير في‌ مقام‌ العبوديّة‌ و نهجه‌.

 إنّ هذه‌ العلوم‌ التي‌ يعتمد عليها البشر هي‌ العلوم‌ الظاهريّة‌ و الطبيعيّة‌ و المادّيّة‌ التي‌ اكتسبها بحواسّ العين‌ و الاُذن‌ و عن‌ طريق‌ قابليّاته‌ الذهنيّة‌ والفكريّة‌؛ لكنّ العلوم‌ التي‌ جاء بها الانبياء من‌ عالم‌ الغيب‌ و السرّ فهي‌ علوم‌ مجرّدة‌ و لها السيطرة‌ و الغلبة‌ علی العلوم‌ الطبيعيّة‌، كما أنّ الافعال‌ التي‌ يقوم‌ بها الانبياء لايمكن‌ قياسها إلی‌ أفعال‌ الآخرين‌.

لذا يجب‌ علی البشر أن‌ يكون‌ خاضعاً و خاشعاً أمام‌ الانبياء، لا أن‌ يتساءل‌: ما هي‌ فلسفة‌ هذه‌ الآية‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌؟ إن‌ علمتُ ذلك‌ قبلتُها و إلاّ رفضتُها. فهذا المنطق‌ خاطي‌ و غير صحيح‌.

لانـّك‌ إذا فهمتَ فلسفتَها فقبلتَها فإنـّك‌ لم‌ تقبل‌ الآية‌، و لم‌ تقبل‌ كلام‌ رسول‌ الله‌، بل‌ قبلتَ فهمك‌ أنت‌، و كنت‌ معتمداً علی نفسك‌ معوّلاً عليها، و لم‌ تكن‌ إذ ذاك‌ قد استمددت‌ القوّة‌ من‌ سرّ النبي‌ّ و قلبه‌، كما لم‌ تكن‌ قد صافح‌ أنفاسك‌ أريج‌ فاحَ من‌ عطر العلوم‌ الباطنيّة.

أمّا من‌ يتّبع‌ النبي‌ّ و يؤمن‌ بأنـّه‌ رجل‌ إلـ'هي‌ يرتبط‌ قلبه‌ بالعالم‌ العلوي‌ّ، و أنّ كلّ ما يلفظه‌ صدق‌ يمثّل‌ عين‌ الحقيقة‌ و الواقع‌، فهم‌ ذلك‌ منه‌ أم‌ لم‌ يفهمه‌، فإنّ مثل‌ هذا الشخص‌ سيتقدّم‌ في‌ مسيرته‌ مستلهماً القوّة‌ من‌ باطن‌ النبي‌ّ.

و هكذا فإنّ أساس‌ تعاليم‌ الدين‌ يقوم‌ علی التعبّد، حتّي‌ لو أدرك‌ الإنسان‌ فلسفة‌ تلك‌ المطالب‌ و حكمتها، لكنّه‌ قبلها من‌ الانبياء بعنوان‌ التعبّد لكان‌ ذلك‌ أفضل‌ له‌ و أمثل‌.

 و أساساً فإنّ مدرسة‌ الانبياء و منهجهم‌ يقومان‌ علی النزوع‌ إلی‌ الحقائق‌، و الاستفاضة‌ من‌ عالم‌ الباطن‌ و الغيب‌، و الدعوة‌ إلی‌ الحقائق‌ والواقعيات‌، و علی أساس‌ الخروج‌ من‌ الذّات‌ و النفس‌ و الارتباط‌ بالله‌ والحقّ.

و لو تقرّر أن‌ يقايس‌ الإنسان‌ جميع‌ علوم‌ الانبياء بعلومه‌ و فكره‌ وذوقه‌، فيقبل‌ منها ما يعجبه‌ و يرفض‌ ما يعجبه‌، فيا للويل‌ عندئذٍ!

ذوقاً و أُسلوباً و فكراً و طريقة‌ عمل‌ و علی هذا ينبغي‌ أن‌ يكون‌ هناك‌ بعددهم‌ وعدد أفكارهم‌ فلسفات‌ مختلفة‌ في‌ متناول‌ أيديهم‌ تتّفق‌ و فهم‌ كلٍّ منهم‌، و هو أمر محال‌. و إجمالاً فإنّ جميع‌ أُولئك‌ الذين‌ أرادوا قياس‌ التعاليم‌ الإلهيّة‌ بفكرهم‌ و وزنها بعلمهم‌ قد بقوا مخلّدين‌ في‌ عالم‌ الغرور والاستكبار، و احترقوا في‌ جهنّم‌ العاجلة‌ بنار آرائهم‌ الباطلة‌.

 أمّا الذين‌ اعترفوا بنورانيّة‌ تعاليم‌ الانبياء و سلّموا إليهم‌ و صاروا من‌ أتباعهم‌ المخلصين‌ المقتفين‌ لآثارهم‌، فقد انكشفت‌ الحقائق‌ لهم‌ فأدركوا أسرار الاحكام‌ و فلسفتها و حكمتها من‌ مبدأ العالم‌.

 الرجوع الي الفهرس

مَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا

 و للمرحوم‌ صدر المتألّهين‌ كلام‌ شيّق‌ في‌ أنّ الاحكام‌ الشرعيّة‌ تعبّديّة‌ ينبغي‌ قبولها بلا مناقشة‌ و بلا إدراك‌ لفلسفتها و أسبابها، يقول‌ في‌ مقدّمة‌ «الاسفار»:

 «وَ إِنِّي‌ لاَستَغفرُ الله‌ كثيراً ممّا ضيّعتُ شطراً مِن‌ عمري‌ في‌ تَتَبّعِ آراء المتفلسفةِ و المُجادلين‌ من‌ أهل‌ الكلام‌ و تدقيقاتهم‌ و تعلّم‌ جَربزتهم‌ في‌ القول‌ و تفنّنهم‌ في‌ البحث‌ حتي‌ تبيّنَ لي‌ آخرَ الامر بنورِ  الإیمان و تأييد اللهِ المنّانِ أنَّ قياسَهم‌ عقيمٌ و صراطَهم‌ غيرُ مستقيمٍ، فألقينا زمامَ أمرنا إليه‌ وإلی‌ رسولِه‌ النذيرِ المنذر، فكلّ ما بَلَغَنا منه‌ أمنّا به‌ و صدّقناه‌ و لم‌ نحتلْ أن‌ نخيّلَ له‌ وَجهاً عقليّاً و مَسلكاً بحثيّاً، بل‌ اقتدينا بهداه‌ و انتهينا بنهيه‌، امتثالاً لقوله‌ تعالي‌: مَآ ءَاتَب'كُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَب'كُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [4]. حتّي‌ فتح‌ الله‌ علی قلبنا ما فتح‌، فأفلح‌ ببركة‌ متابعتة‌ و أنجح‌.»[5]

 و كذلك‌ قال‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ مدّ ظلّه‌[6] في‌ المجلّد الثامن‌ من‌ تفسير «الميزان‌»، ص‌ 24، ذيل‌ الآية‌ الشريفة‌ من‌ سورة‌ الاعراف‌: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي‌ مِن‌ نَّارٍ وَ خَلَقْتَهُ و مِن‌ طِينٍ:[7]

 «و بالجملة‌ هو سبحانه‌ الله‌ الذي‌ منه‌ يبتدي‌ كلّ شي‌ء، و إليه‌ يرجع‌ كلّ شي‌ء، فإذا خلق‌ شيئاً و حكم‌ عليه‌ بالفضل‌ كان‌ له‌ الفضل‌ و الشرف‌ واقعاً و بحسب‌ الوجود الخارجيّ، و إذا خلق‌ شيئاً ثانياً وأمره‌ بالخضوع‌ للاوّل‌ كان‌ وجوده‌ ناقصاً مفضولاً بالنسبة‌ إلی‌ ذلك‌ الاوّل‌، فإنّ المفروض‌ أنّ أمره‌ إمّا نفس‌ التكوين‌ الحقّ أو ينتهي‌ إلی‌ التكوين‌، فقوله‌ الحقّ و الواجب‌ في‌ امتثال‌ أمره‌ أن‌ يُمتثل‌ لانـّه‌ أمره‌، لا لانـّه‌ مشتمل‌ علی مصلحة‌ أو جهة‌ من‌ جهات‌ الخير و النفع‌ حتي‌ يعزل‌ عن‌ ربوبيّته‌ و مولويّته‌ و يعود زمام‌ الامر والتأثير إلی‌ المصالح‌ و الجهات‌، و هي‌ التي‌ تنتهي‌ إلی‌ خلقه‌ و جعله‌ كسائر الاشياء من‌ غير فرق‌.»

 و إجمالاً فقد كانت‌ الاُمم‌ السابقة‌ تقول‌ لانبيائها كهذا القول‌ (قول‌ إبليس‌): إنـّنا نمتلك‌ علماً و فكراً نعتمد عليه‌ و نفرح‌ به‌، فما حاجتنا لكم‌؟

 و كانوا يسخرون‌ بما جاء به‌ الانبياء عليهم‌ السلام‌ و يتصوّرون‌ اتّباع‌ الآراء و الافكار المرتبطة‌ بعالم‌ الغيب‌ و التي‌ كان‌ يأتي‌ بها أُولئك‌ الانبياء أمراً صبيانيّاً وجهلاً.

 وَ حَاقَ بِهِم‌ مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءونَ. لقد أحاطت‌ بهم‌ تلك‌ التهديدات‌ والوعيد الذي‌ طالما سخروا به‌، و شملتهم‌ نتيجة‌ أعمالهم‌ و صاروا مورد سخط‌ الله‌ و عذابه‌.

 لقد جاءهم‌ عذاب‌ الله‌ فخاطبهم‌ سبحانه‌ أن‌ تعالوا و ارفعوا عنكم‌ هذا العذاب‌ بعلمكم‌ و غروركم‌ القومي‌ّ و خلّصوا أنفسكم‌ منه‌! و أنـّي‌ لكم‌ الخلاص‌، فقد غشيكم‌ العذاب‌ و أخذ بتلابيبكم‌، تلك‌ الريح‌ المسخّرة‌ من‌ قبل‌ الله‌ تعإلی‌ و المأمورة‌ بإهلاك‌ قوم‌ عاد الذين‌ أنكروا علی نبيّهم‌ هود علی نبيّنا و آله‌ و عليه‌ الصلاة‌ و السلام‌ ما جاءهم‌ به‌ من‌ عندالله‌ سبحانه‌.

 سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَ ثَمَـ'نِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومَاً فَتَرَي‌ الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَي‌' كَأَنـَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَي‌' لَهُم‌ مِّنْ بَاقِيَةٍ.[8]

 و أنـّي‌ لهؤلاء الناس‌ أن‌ يحذروا بعلمهم‌ من‌ تلك‌ الريح‌ المسمومة‌ المهلكة‌ التي‌ تعصف‌ متتابعة‌ فتبيد مَن‌ تصيبُه‌؟ تلك‌ الريح‌ المسخّرة‌ من‌ قِبَلِ الله‌ علی قوم‌ عاد لوحدهم‌ دون‌ غيرهم‌. و كيف‌ يمكنهم‌ المواجهة‌؟ وما نفعهم‌ التحفّظ‌ علی أنفسهم‌ و حفظها؟

 الرجوع الي الفهرس

قصّة‌ قارون‌ و غروره‌ بالعلم‌؛ و عدم‌ جدوي‌ توبة‌ فرعون‌ عند الغرق‌

 و لقد كان‌ قارون‌ من‌ قوم‌ موسي‌ علی نبيّنا و آله‌ و عليه‌ الصّلاة‌ والسلام‌، فمنّ الله‌ عليه‌ بالاموال‌ و الذخائر ممّا تَنوء بحمل‌ مفاتح‌ كنوزه‌ العصبة‌ و الجماعة‌ القوّية‌، بيد أنـّه‌ ظلم‌ قومه‌، و أعرض‌ صفحاً عمّن‌ نصحه‌ منهم‌ بالابتعاد عن‌ الغرور و العُجب‌، و بالإحسان‌ إلی‌ الناس‌ و الرفق‌ بهم‌، وبأن‌ لا يفسد في‌ الارض‌؛ و أشاح‌ بوجهه‌ عمّن‌ وعظه‌ بالإنفاق‌ علی الضعفاء و اليتامي‌ و المساكين‌ و الرفق‌ بهم‌، و كان‌ ردّه‌ عليهم‌ أن‌:

 قَالَ إنـّما أُوتِيتُهُ و علی' عِلْمٍ عِنْدِي‌´.[9]

 و لم‌ يكن‌ في‌ علمه‌ أنّ علماً و قدرةً كهذين‌ لا يزنان‌ عندالله‌ جناح‌ بعوضة‌، و لم‌ يَدُرْ في‌ خلده‌ انّ الله‌ مهلك‌ المستكبرين‌:

 أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن‌ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لاَ يُسْئَلُ عَن‌ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ.[10]

 حتّي‌ وصل‌ في‌ تكبّره‌ و بَطَره‌ و نعمته‌ و قدرته‌ إلی‌ حيث‌ صار قومه‌ يحسدونه‌ و يغبطونه‌، و إلی‌ حيث‌ صار عامّة‌ الناس‌ يحسدون‌ جاهه‌ و جلاله‌ و مقامه‌ و عظمته‌، ثمّ نزل‌ عليه‌ عذاب‌ الله‌ فجأة‌ فخُسف‌ به‌ و بثروته‌ وقصره‌ جميعاً، فلم‌ يستطع‌ أحد أن‌ ينصره‌ أو يستخرجه‌ من‌ الارض‌ التي‌ ابتلعته‌، لاعلمهُ و لا قدرتُه‌ و لا أعوانه‌ و لا أنصاره‌.

 فَخَسَفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ الاْرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ و مِن‌ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ و مِن‌ دُونِ اللَهِ وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ.[11]

 و لقد عمّه‌ الهلاك‌ و الشقاء حتّي‌ صار الذين‌ يحسدونه‌ بالامس‌ يقولون‌ الحمد لله‌ إنـّنا لم‌ نكن‌ مكان‌ قارون‌.

 و لقد تحرّك‌ فرعون‌ خلف‌ موسي‌ و أتباعه‌ و لاحقهم‌، و قال‌ إنّ النيل‌ قد انشقّ لموسي‌ و أُمّته‌ فعبر هو و أتباعه‌، و سينشقّ أيضاً لي‌ و لجيشي‌ كي‌ أعبره‌ أنا الآخر فأبيد موسي‌ و قومه‌. و لم‌ يعلم‌ أنّ الماء كان‌ مسخّراً مأموراً بالانشقاق‌ لموسي‌ و أتباعه‌ لا لفرعون‌ و جيشه‌. فقد كانت‌ مأموريّة‌ الماء ووظيفته‌ أن‌ ينعقد عليهم‌ و ينطبق‌، و هكذا ابتلعه‌ المائ هو و جُنده‌ فأُغرقوا أجمعين‌.

 الرجوع الي الفهرس

عدم‌ جدوي‌ توبة‌ المتمرّدين‌ عند نزول‌ العذاب‌

 فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُو´ا ءَامَنَّا بِاللَهِ وَحْدَهُ. حين‌ كان‌ العذاب‌ و البأس‌ والشدّة‌ تنصبّ من‌ قِبَلِ الله‌ تعإلی‌ فتُغلق‌ عليهم‌ سبيل‌ الفرار، و حين‌ كان‌ الامر يصبح‌ مقضيّاً لاخيار فيه‌، ليس‌ فيه‌ اختيار لفعل‌ الشي‌ء أو تركه‌، ولاللطاعة‌ أو المعصية‌، و لا للكفر أو  الإیمان؛ فإنّهم‌ كانوا يرون‌ أنفسهم‌ مضطرّين‌ للقبول‌ فيقولون‌: ءَامَنَّا بِاللَهِ وَحْدَهُ و وَ كَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ.

 لقد كفرنا بما كنّا نعتقد فيه‌ مقابل‌ الله‌، كفرنا بقوّتنا و عِلمِنا و قدرتنا، و جعلناها جميعاً تحت‌ أقدامنا، بيد أنّ هذا  الإیمان إيمان‌ لا طائل‌ وراءه‌. فَلَمْ يَكُ يَنفَعَهُمْ إيمَـ'نُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا.

 فلم‌ يكن‌ هناك‌ مفرّ آنذاك‌ من‌  الإیمان، و لم‌ يكن‌ هناك‌ من‌ ملجأ غيره‌، و حين‌ تُغلق‌ في‌ وجه‌ الإنسان‌ جميع‌ السُبل‌ فيجد نفسه‌ مضطرّاً بائساً، فإنّ ذلك‌  الإیمان الاضطراريّ لن‌ يسوقه‌ إلی‌ الجنّة‌، و لن‌ يجعله‌ مؤمناً، كما لن‌ يجعل‌ قواه‌ الوجوديّة‌ معتدلة‌ متّزنة‌، أو يُدخله‌ في‌ المدينة‌ الفاضلة‌ ثم‌ ينزل‌ به‌ عذاب‌ الله‌ جزاءً وفاقاً لعمله‌ فيصيبه‌ بالهلاك‌ و البوار.

 سُنَّتَ اللهِ الَّتِي‌ قَدْ خَلَتْ فِي‌ عِبَادِهِ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ.

 إنّ اختيار الإنسان‌ سيُسلب‌ منه‌ في‌ آخر ساعات‌ حياته‌، كما أنـّه‌ سيفقد إرادته‌، و آنذاك‌ سيزاح‌ الستار جانباً و لن‌ ينفع‌ الإنسان‌ إيمانه‌ النابع‌ من‌ البؤس‌ و الهلاك‌.

 حينما ترفع‌ الحجب‌ و يري‌ الإنسان‌ عاقبة‌ أعماله‌، فذاك‌ وقت‌ الفعليّة‌ و موعد انتهاء مرحلة‌ الاستعداد و القابليّة‌، تلك‌ هي‌ لحظة‌ ابتداء الظهور والعلن‌ و انتهاء مرحلة‌ الخفاء و الكتمان‌.

 سيري‌ الإنسان‌ في‌ تلك‌ اللحظة‌ أعماله‌ مجسّمة‌ أمام‌ ناظريه‌، فيلحظ‌ الجنايات‌ التي‌ اقترفها، و الجرائم‌ التي‌ ارتكبها، و القبائح‌ التي‌ بدرت‌ منه‌، وسيري‌ العصيان‌ و التمرّد و المواجهات‌ التي‌ قام‌ بها مقابل‌ النبي‌ّ، و سينظر المظالم‌ و الاعتداءات‌ التي‌ اجترحها فأعقبت‌ له‌ الانغماس‌ في‌ الظلمات‌ والغرق‌ في‌ الطوامير، و كلّفته‌ اجتياز العقبات‌ و المتاهات‌ و عبور المنعطفات‌ الموحشة‌ الوخيمة‌، آنذاك‌ سيجد ملائكة‌ الغضب‌ مستعدّين‌ متأهّبين‌ لقبض‌ روحه‌ بأشقّ الوسائل‌، ثمّ يسوقونه‌ معهم‌ إلی‌ أسوأ الاماكن‌ غريباً وحيداً عاجزاً.

 آنذاك‌ سيري‌ الإنسان‌ المجرم‌ المختار ـ الذي‌ لم‌ ينتفع‌ بكلّ ماقيل‌ له‌ في‌ الدنيا ـ نفسَه‌ في‌ يد قدرة‌ الخالق‌ و في‌ قبضةِ قهرِ و ظهورِ مقامِ الجلال‌، وسيقول‌: لقد آمنتُ، آمنتُ بالله‌ و أشهد أن‌ لا شريك‌ له‌ و لا عديل‌، بيده‌ المُلك‌ و هو علی كلّ شي‌ء قدير. فينهال‌ الملائكة‌ المحشودون‌ المراقبون‌ علی رأسه‌ بدبابيس‌ الحديد قائلين‌ له‌:

 أجنايةٌ هناك‌ و إيمانٌ هنا؟! أخيانة‌ هناك‌ و إيمانٌ هنا؟! أكفرٌ و شركٌ و زندقةٌ هناك‌ و إيمانٌ هنا؟! هيهات‌، إنّك‌ لم‌ تؤمن‌ حين‌ امتلكتَ الوسائل‌، و الاثاث‌ و الاسباب‌، و حين‌ امتلكت‌ البدن‌ و العلم‌ و القدرة‌ و سلامة‌ المزاج‌ و الامان‌ و فراغ‌ البال‌، أفتريد الآن‌ أن‌ تؤمن‌ بعد أن‌ تعطّلت‌ الوسائل‌ و صار البدن‌ كالخشب‌ المسنّد إليابس‌، و بعد أن‌ حلّ النسيان‌ مكان‌ العلم‌، وتبدّلت‌ القوّة‌ عجزاً، و بعد أن‌ داهمتك‌ الامراض‌ من‌ كلّ صوب‌ فرأيتَ نفسك‌ أمام‌ الغضب‌ و القهر وجهاً لوجه‌؟!

 لا فائدة‌ من‌ هذا  الإیمان، و لن‌ يحلّ لك‌ من‌ أمرك‌ ما أشكل‌، و لن‌ يضيرك‌ نفعاً أو تأثيراً في‌ رفع‌ العذاب‌ أو الخلاص‌ من‌ العواقب‌ الوخيمة‌ لسوء فِعالك‌.

تا ز دستت‌ ميرسد كاري‌ بكن‌                                  پيش‌ از آن‌ كز تو نيايد هيچ‌ كار[12]

هَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ أن‌ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَـ'ئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَـ'تِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي‌ بَعْضُ ءَايَـ'تِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَ'نُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن‌ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي‌´ إيمَـ'نِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُو´ا إِنَّا مُنتَظِرُونَ. [13]

 حين‌ لاحق‌ فرعون‌ و جنده‌ موسي‌ و من‌ معه‌ ليستأصلوهم‌ بسيف‌ الحقد، وصل‌ موسي‌ إلی‌ شاطي‌ النيل‌، و لم‌ يكن‌ له‌ مفرّ يلجأ إليه‌ من‌ جند فرعون‌ المحدقين‌ به‌ من‌ كلّ صوب‌ و حَدب‌ إلاّ أن‌ يتقدّم‌ إلی‌ الامام‌، أي‌ إلی‌ نهر النيل‌، فانشقّ له‌ الماء بأمر الله‌ عن‌ طريق‌ يَبَس‌ تحيطه‌ الامواج‌ العإلية‌ من‌ جانبيه‌، فألقي‌ موسي‌ و أتباعه‌ بأنفسهم‌ في‌ النيل‌ فسلكوا فيه‌، و آنذاك‌ وصل‌ فرعون‌ و جنده‌ و شاهدوا ـ و ياللعجب‌ ـ موسي‌ و قومه‌ يعبرون‌ وسط‌ النهر، فقالوا: لا عجبَ في‌ الامر، فسنعبر كما عبروا فندركهم‌، و ما أن‌ اقتحموا النهر حتي‌ انطبق‌ الماء عليهم‌.

 حَتَّي‌'´ إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنْتُ أَنـَّه‌ و لآ إلَـ'هَ إلاَّ الَّذِي‌´ ءَامَنَتْ بِهِ بَنُو´ا إِسْرَ ' ءِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.[14]

 فوضع‌ جبرئيل‌ شيئاً من‌ حمأ البحر في‌ فمه‌ و قال‌:

 ءَآلْـ'نَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. [15]

 فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ ءَايَـ'تِنَا لَغَـ'فِلُونَ. [16]

 اليوم‌ سنخطف‌ نفسك‌ و ننتزعها و نصطحبها إلی‌ حيث‌ محلّ فعلية‌ أعمالك‌ التي‌ سبقتْ منك‌ و إلی‌ حيث‌ عاقبتها، كي‌ تري‌ بعينك‌ ما سيحلّ بك‌، لكنّنا سنخرج‌ بدنك‌ من‌ الماء فنلقيه‌ إلی‌ الساحل‌، فيأتي‌ الناس‌ ويشاهدوا بدنك‌ المتعفّن‌ كيف‌ اكتنفته‌ الذلّة‌ و الحقارة‌، فلا يقولنّ أحدٌ إنّ فرعون‌ التحق‌ برجال‌ الغيب‌ في‌ وسط‌ إليمّ أو إنـّه‌ عرج‌ إلی‌ السماء.

 الرجوع الي الفهرس

كيفيّة‌ قبض‌ أرواح‌ الظالمين‌ و استثناء المستضعفين‌

 يقول‌ الله‌ سبحانه‌ في‌ قرآنه‌ الكريم‌ في‌ الآية‌ 97 من‌ سورة‌ النّساء في‌ كيفيّة‌ قبض‌ أرواح‌ الظالمين‌:

 إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّـ'يهُمُ الْمَلَـ'ئِكَةُ ظَالِمِي‌´ أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي‌ الاْرْضِ قَالُو´ا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَهِ وَ ' سِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيها فَأُولَـ'ئِكَ مَأْوَيـ'هُمْ جَهَنَّمُ وَ سَآءَتْ مَصِيراً.

يقول‌ ملائكة‌ قبض‌ الارواح‌ لاُولئك‌ الذين‌ ظلموا أنفسهم‌ حين‌ يقبضون‌ أرواحهم‌: فيم‌ كنتم‌؟ فيُجبيون‌: كنّا مستضعفين‌ في‌ الارض‌، يتسلّط‌ علينا طغاة‌ زماننا، و لم‌ نكن‌ نمتلك‌ اختياراً و إرادة‌ لنسعي‌ لكسب‌ المعارف‌ الإلهيّة‌ و العلوم‌ الحقّة‌، و لنحصل‌ علی العلوم‌ الحقيقيّة‌ لنكفّ بذلك‌ عن‌ ظلمنا لانفسنا و للآخرين‌.

 فيردّ عليهم‌ ملائكة‌ قبض‌ الارواح‌: ألم‌ تكن‌ أرض‌ الله‌ واسعة‌ فتهاجروا من‌ أماكنكم‌ التي‌ كنتم‌ فيها تحت‌ سيطرة‌ الظالمين‌ و تعدّيهم‌، وتسكنوا في‌ أماكن‌ و منازل‌ بعيدة‌ عن‌ تسلّط‌ أُولئك‌ الطغاة‌، فتُشغلوا أنفسكم‌ باكتساب‌ المعارف‌ إلالـ'هيّة‌ و بالعبادة‌ و السير في‌ المدارج‌ والمعارج‌ الروحيّة‌ لانفسكم‌؟ لِمَ لَمْ تخرجوا من‌ دياركم‌ و تهاجروا إلی‌ حيث‌ يمكنكم‌ حفظ‌ دينكم‌؟ ولانـّهم‌ لن‌ يجيروا جواباً، ولانـّهم‌ سيُحكمون‌ بمنطق‌ الملائكة‌، فإنّ مأواهم‌ سيكون‌ جهنّم‌، و ساءت‌ منزلاً ومصيراً.

 إِلاَّ الْمُسّتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَ'نِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَـ'´ئِكَ عَسَي‌' اللَهُ أن‌ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كَانَ اللَهُ عَفُوًّا غَفُوراً. [17]

 إلاّ المستضعفين‌ الذين‌ يفتقدون‌ قوّة‌ الإدراك‌ حقيقة‌. فلا يهتدون‌ سبيلاً، أو لايمكنهم‌ الخروج‌ و التمرّد علی سيطرة‌ الاب‌ و الاُمّ، ولايمتلكون‌ قدرة‌ الخروج‌ علی تعليم‌ الاُستاذ أو علی مخالفة‌ سلوك‌ الجوّ السائد و القوي‌ الحاكمة‌، أو أُولئك‌ النساء و الاطفال‌ الذين‌ يخضعون‌ لسيطرة‌ الازواج‌ و المربّين‌ الذين‌ يعلّمونهم‌ ما أرادوا و يوجّهونهم‌ حيث‌ شاءوا، فلا عقل‌ و لا دراية‌ لهم‌ يمكنهم‌ بها التمييز بين‌ السقيم‌ و الصحيح‌ والتخلّص‌ من‌ التقليد الخاطي‌ء، لانّ هؤلاء لا يدركون‌ مسألة‌ احتمال‌ خطأ المنهج‌ الذي‌ ينهجونه‌ ليكونوا في‌ صدد إصلاحه‌ و تقويمه‌.

 الرجوع الي الفهرس

المراد بالمستضعف‌

 هؤلاء الافراد يُدعون‌ في‌ المنطق‌ القرآني‌ بالمستضعفين‌، و عسي‌ أن‌ يعفو الله‌ سبحانه‌ عنهم‌ و يتجاوز عن‌ ذنوبهم‌ إن‌ لم‌ تخالف‌ العقل‌ و لم‌ تكن‌ من‌ قبيل‌ الظلم‌ و الاعتداء و الجرائم‌ بحقّ الآخرين‌ أو خيانتهم‌.

 و هؤلاء المستضعفون‌ هم‌ أُولئك‌ الذين‌ لم‌ يمتلكوا بأنفسهم‌ القدرة‌ علی تشخيص‌ دين‌ الحقّ، و الذين‌ لم‌ يفيدوا شيئاً و لم‌ ينتفعوا من‌ مطالعة‌ الكتب‌ الحقّة‌، كما أنـّهم‌ لم‌ يلتقوا بالعلماء الربّانيّين‌ و الزهّاد الحقيقيّين‌ ذوي‌ الضمير الصافي‌ إليقظ‌ الذين‌ تخطّوا حيقيقةً هوي‌ أنفسهم‌، ليحرّكهم‌ نهج‌ أُولئكم‌ و سلوكهم‌، و لتهزّهم‌ أرواحهم‌ المتعالية‌ فيضعوا أقدامهم‌ علی الصراط‌ المستقيم‌ و يفوزوا بالمقصود الاصيل‌.

 أمّا أُولئك‌ الذين‌ يمتلكون‌ القابليّة‌ و الاستعداد لمعرفة‌ الصراط‌ المستقيم‌ و لِلقاءِ العالم‌ الربّاني‌ و المربّي‌ إلالـ'هي‌، و القدرة‌ علی المطالعة‌ والتدبّر في‌ القرآن‌ الكريم‌ و السنّة‌ النبويّة‌ و منهج‌ الائمّة‌ الطاهرين‌، والذين‌ يمتلكون‌ إمكانية‌ الخروج‌ علی لجام‌ الطاعة‌ و العبوديّة‌ لطواغيت‌ زمانهم‌ وظالميه‌، و علی كسر طوق‌ التقليد الاعمي‌، و علی الالتحاق‌ بمقام‌ العِلم‌ الحقيقي‌، و التبعيّة‌ و التقليد لعالِمٍ و معلّمٍ إلهي‌ّ، إلاّ أَنّ غرورهم‌ و غفلتهم‌ ونوازعهم‌ الشهويّة‌ و الماديّة‌ أبعدتهم‌ عن‌ عالم‌ المعني‌ و سلكت‌ بهم‌ لذلك‌ سبيلَ الضلال‌.

 فليسوا من‌ المستضعفين‌، بل‌ هم‌ من‌ الظالمين‌ و من‌ أهل‌ جهنّم‌، وسيؤاخذون‌ و يعاقبون‌ علی عقائدهم‌ الباطلة‌ و صفاتهم‌ الرذيلة‌ و أعمالهم‌ الظالمة‌ غير المقبولة‌، و لن‌ يقبل‌ ملائكة‌ قبضِ الارواح‌ لهم‌ عذراً مهما حاولوا جعل‌ أنفسهم‌ في‌ مصاف‌ المستضعفين‌، و سيسوقونهم‌ إلی‌ جهنّم‌ زُمرا.

 ثمّ يقول‌ سبحانه‌ بعد هذه‌ الآيات‌، أي‌ في‌ الآية‌ 100 من‌ هذه‌ السورة‌: وَ مَن‌ يُهَاجِرْ فِي‌ سَبِيلِ اللَهِ يَجِدْ فِي‌ الاْرْضِ مُرَ ' غَمًا كَثِيرًا وَ سَعَةً وَ مَن‌ يَخْرُجْ مِن‌ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إلَي‌' اللَهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ و علی' اللَهِ وَ كَانَ اللَهُ غَفُوراً رَّحِيماً.

 فلا يقولَنّ أحد إنـّني‌ لا أستطيع‌ الهجرة‌ لانـّني‌ ولدت‌ هناك‌ وترعرعتُ، و لانّ هناك‌ قومي‌ و عشيرتي‌ و أصدقائي‌ و عملي‌ و منزلي‌ وحديقتي‌ و تجارتي‌ و زراعتي‌ و زوجتي‌ و أولادي‌ و سائر شؤوني‌، لذا فإنّ إقامتي‌ هناك‌ حيث‌ تُرتكب‌ المنكرات‌ و الفحشاء و حيث‌ يطغي‌ الإعلامُ السي‌ّء و تطبّق‌ الاحكام‌ الظالمة‌ و الجائرة‌ أمرٌ له‌ حكم‌ الضرورة‌، و عليه‌ فإنّ الامر خارج‌ من‌ عُهدتي‌ و لستُ مسؤولاً عن‌ عدم‌ تطبيق‌ الاحكام‌ الإلهيّة‌.

 و هذا المنطق‌ خاطي‌، لانّ الإنسان‌ الملتزم‌ و الحامل‌ للمسؤوليّة‌، والواعي‌ و النبيه‌ الذي‌ يري‌ سعادته‌ في‌ الكمال‌ الروحي‌ و في‌ الارتقاء إلی‌ أعلی درجات‌ الإنسانيّة‌، أن‌ يتحمّل‌ المشاكل‌ و الصعاب‌ التي‌ تعترضه‌ أوّل‌ الطريق‌ بعزمه‌ الراسخ‌ و إرادته‌ التي‌ لا تتزعزع‌، و أن‌ يختار لنفسه‌ مكاناً مناسباً يضمن‌ إمكان‌ السير الروحي‌ و اقتناء الكمال‌ المعنوي‌ و حفظ‌ وحراسة‌ نفسه‌ و متعلّقيه‌ و أولاده‌ من‌ الفساد و الضياع، و أن‌ لايُعني‌ بموانع‌ و صوارف‌ الخوف‌ و الهلع‌ التي‌ قد تصرفه‌ عن‌ غايته‌.

 و إذا ما تحقّق‌ في‌ داخله‌ عزمٌ كهذا فإنّ الله‌ سبحانه‌ سيهديه‌ إلی‌ أمكنة‌ تناسبه‌ و سيُخرجه‌ من‌ حيرته‌. و لو افترضنا أنـّه‌ لن‌ يصل‌ إلی‌ هدفه‌ فإنّه‌ سيكفيه‌ أنـّه‌ خرج‌ من‌ بيته‌ مهاجراً لله‌، و أنـّه‌ قد تخطّي‌ نفسه‌ و صار في‌ المسير و الحركة‌ و البحث‌ و السعي‌ في‌ سبيل‌ التعلّم‌، و صُهر في‌ بوتقة‌ شوق‌ و محبّة‌ الوصول‌، هذه‌ المطالب‌ يبيّنها ملائكة‌ قبض‌ الارواح‌ للافراد الظالمين‌، ثمّ إنّهم‌ يسوقونهم‌ ولكن‌ بأي‌ّ وضع‌ و كيفيّة‌ و هيئة‌؟

 ورد في‌ رواية‌ في‌ «عيون‌ أخبار الرضا» عن‌ تفسير الإمام‌ العسكريّ عليه‌ السلام‌ يروي‌ فيها الإمام‌ عن‌ آبائه‌ عن‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ أنّ قبض‌ أرواح‌ الكفّار هو:

 كَلَسْعِ الافاعِي‌ وَلَدْغِ الْعَقَارِبِ أوْ أَشَدَّ. قِيلَ: فَإنَّ قَوْمَاً يَقُولُونَ: إنـّه‌ أَشَدُّ مِنْ نَشْرٍ بِالْمَنَاشِيرِ وَ قَرْضٍ بِالْمَقَارِيضِ، وَ رَضْخٍ بِالاحْجَارِ، وَ تَدْوِيرِ قُطْبِ الارْحِيَةِ علی' الاحْدَاقِ، قَالَ: كَذَلِكَ هُوَ علی' بَعْضِ الْكَافِرينَ وَالْفَاجِرِينَ أَلاَ تَرَوْنَ مِنْهُمْ مَنْ يُعَايِنُ [18] تِلكَ الشَّدائِدِ. فَذَلِكُمُ الَّذِي‌ هُوَ أَشَدٌّ مِنْ هَذَا إلاّ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ فَإنّه‌ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنيا. [19]

 بلي‌ إنّ هذا القسم‌ من‌ أنواع‌ العذاب‌ في‌ سكرات‌ الموت‌ مُختصّ بالظالمين‌ و الحكّام‌ الجائرين‌ و الكفّار من‌ ذوي‌ القلوب‌ المتحجّرة‌ القاسية‌ والبعيدين‌ عن‌ الإنصاف‌ و العدالة‌.

 الرجوع الي الفهرس

إرسال‌ الحقّ تعإلی‌ ريحانتين‌ باسم‌ المُسخية‌ و المُنسية‌ لقبض‌ روح‌ المؤمن‌

 أمّا المؤمنون‌ الذين‌ اعتقدوا بالله‌ و سلّموا لامره‌ و عمروا لانفسهم‌ عالَم‌ الوجدان‌ و الآخرة‌، و لم‌ يتخطّوا دائرة‌ الإنصاف‌ قدماً واحداً، و لم‌ يتعدّوا علی حقوق‌ الآخرين‌. و الذين‌ سعوا و جاهدوا لاءعلاء كلمة‌ الحقّ والتوحيد المقدّسة‌ ما وسعهم‌، فصاروا في‌ زمرة‌ أولياء الله‌ و محبّيه‌، و في‌ مصاف‌ المنزّهين‌ و المخلصين‌، فإنّ قبض‌ أرواحهم‌ سهلٌ يسير لاحدّ ليُسره‌ و سهولته‌.

 الرجوع الي الفهرس

الروايات‌ الوارده‌ في‌ كيفيّة‌ قبض‌ روح‌ المؤمن‌

تأمّل‌ الخالق‌ تعإلی‌ في‌ قبض‌ روح‌ العبد المؤمن‌

 يروي‌ الشيخ‌ الطوسيّ في‌ كتاب‌ «الامالي‌» عن‌ الشيخ‌ المفيد، عن‌ عمروبن‌ محمّد الصيرفيّ، عن‌ محمّد بن‌ همام‌، عن‌ الفزاريّ، عن‌ سعيد بن‌ عمر، عن‌ الحسن‌ بن‌ ضوء، عن‌ الإمام‌ جعفر الصادق‌ عليه‌ السلام‌ قال‌:

 قالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ العابِدينَ عليه‌ السلام‌: قَالَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ: مَا مِنْ شَي‌ءٍ أَتَرَدَّدُ عَنْهُ تَرَدُّدِي‌ عَنْ قَبْضِ رُوحِ الْمُؤمِنِ يَكْرَهُ الْمَوتَ وَ أَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، فَإذَا حَضَرَهُ أَجَلُهُ الَّذِي‌ لاَ يُؤَخَّرُ فِيه‌ بَعَثْتُ إلَيْهِ بِرَيْحَانَتَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ تُسَمَّي‌' إحْدَاهُمَا الْمُسْخِيَةَ وَالاُخْرَي‌' المُنْسِيَةَ؛ فَأمَّا الْمُسْخِيَةُ فَتُسْخِيهِ عَنْ مَالِهِ، وَ أَمّا الْمُنْسِيَةُ فَتُنْسِيه‌ أَمْرَ الدُّنْيَا.[20]

 و يروي‌ متن‌ هذه‌ الرواية‌ في‌ كتاب‌ «الكافي‌» و «معاني‌ الاخبار» بسنديهما المتّصل‌ عن‌ الصادق‌ عليه‌ السلام‌ عن‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌:

 قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌: لَوْ أَنَّ مُؤمِنًا أَقْسَمَ علی' رَبِّهِ عَزَّوَجَلَّ أَن‌ لاَ يُمِيتَهُ مَا أَماتَهُ أَبَدَاً، وَلَـ'كِنْ إذَا حَضَرَ أَجَلُهُ بَعَثَ اللَهُ عَزَّوَجَلَّ رِيْحَيْنِ اِلَيْهِ. [21]

 أمّا المراد بالتردّد و التأخير في‌ هذه‌ الرواية‌ فهو تردّد الله‌ في‌ مراتب‌ الاسماء الجزئيّة‌، و إلاّ فإنّ الترديد في‌ ذاته‌ المقدّسة‌ جلّ و عزّ ليس‌ معقولاً، كما أنّ الترديد في‌ الاسماء الجزئيّة‌ هو الإبطاء في‌ مقام‌ العمل‌ و في‌ مقام‌ التغيير إلی‌ الفعليّة‌. و بإجمال‌ فإنّ هذا المؤمن‌ لا يرغب‌ في‌ الرحيل‌ عن‌ الدنيا، و الله‌ سبحانه‌ لا يرغب‌ أن‌ يقبض‌ روحه‌ بلا رضاه‌ و خلافاً لرغبته‌ واختياره‌.

 يقول‌ سبحانه‌: إذا حضر أجل‌ المؤمن‌ بعثتُ إليه‌ بيد ملك‌ الموت‌ ريحانتين‌، تسمّي‌ إحداهما المسخية‌، مشتقّة‌ من‌ مادّة‌ «السخاء»، و حين‌ يمسكها المؤمن‌ في‌ يده‌ يعبق‌ عطرها في‌ أنفه‌ فيُسكره‌ فيسخو عن‌ جميع‌ ماله‌، و يخلو وجوده‌ من‌ أي‌ّ علاقة‌ بالمال‌؛ و الاُخري‌ المُنسية‌، مشتقة‌ من‌ مادة‌ «النسيان‌»، و حين‌ يُعطاها المؤمن‌ فإنّ أريج‌ عطرها يُنسيه‌ كلَّ ما عدا الله‌ من‌ الاُمور الدنيويّة‌، كالزوجة‌ و الولد و العشيرة‌ و الاعوان‌ و الانصار والخدم‌ و الحشم‌ و الاعتبار و الجاه‌ و غير ذلك‌.

 هاتان‌ الريحانتان‌ تعبقان‌ و تتضوّعان‌ برائحة‌ الله‌، فيسكرُ من‌ يعبق‌ عطرُ حرمِ الله‌ في‌ مشامه‌ و يدهش‌ فلا يُقيم‌ وزناً في‌ كيانه‌ و وجوده‌ لاي‌ّ شي‌ء في‌ مقابل‌ جمال‌ الحضرة‌ الاحديّة‌، فيفدي‌ كلّ ذلك‌ فداء قدم‌ المحبوب‌.

اگر زكوي‌ تو بوئي‌ بمن‌ رساند باد                 بمژده‌ جان‌ گرامي‌ به‌ باد خواهم‌ داد[22]

و قد وردت‌ رواية‌ «الكافي‌» و «معاني‌ الاخبار» بلفظ‌ ريحيْن‌ بدل‌ ريحانتيْن‌؛ أي‌ أنّ هناك‌ نسيمين‌ يهبّان‌ من‌ الجنّة‌، و أي‌ّ نسيمين‌؟ نيسمان‌ منعشان‌ مُبهجان‌ يبعثان‌ النشاط‌، ينمحي‌ كلّ شي‌ء بوجودهما و هبوبهما علی مشام‌ الروح‌.

هماي‌ اوج‌ سعادت‌ به‌ دام‌ ما اُفتد                             اگر ترا گذري‌ بر مقام‌ ما افتد

حباب‌ وار براندازم‌ از نشاط‌ كلاه‌                                اگر ز روي‌ تو عكسي‌ به‌ جام‌ ما افتد

شبي‌ كه‌ ماه‌ مراد از افق‌ شود طالع                         ‌ بود كه‌ پرتو نوري‌ به‌ بام‌ ما افتد

ز خاك‌ كوي‌ تو هر دم‌ كه‌ دم‌ زند حافظ‌                                    نسيم‌ گلشن‌ جان‌ در شام‌ ما افتد[23]

هذا و قد روي‌ البرقيّ في‌ كتابه‌ «المحاسن‌» هذه‌ الرواية‌ الشريفة‌ بسندين‌ آخرين‌ باختلاف‌ يسير في‌ المتن‌. الاوّل‌ عن‌ ابن‌ فضّال‌ عن‌ ابن‌ فضيل‌، عن‌ أبي‌ حمزة‌ الثماليّ:

 قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاللهِ عليه‌ السّلام‌ يَقولُ: قَالَ اللهُ تَبَاركَ و تعالي: مَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَي‌ءٍ أَنا فَاعِلُهُ كَتَرَدُّدِي‌ عَنِ الْمُؤمِنِ فَإنِّي‌ أُحِبُّ لِقَاءَهُ وَ يَكْرَهُ الْمَوتَ فَأَزْوِيهِ عَنْهُ، وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي‌ الاْرْضِ إلاَّ مُؤْمِنٌ وَاحِدٌ لاَكْتَفَيْتُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِي‌ وَ لَجَعَلْتُ لَهُ مِنْ إيمانه‌ أُنْسَاً لاَ يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَي‌' أَحَدٍ.[24]

 و الثاني‌ عن‌ ابن‌ فضّال‌، عن‌ أبي‌ جميلة‌، عن‌ محمّد بن‌ علی الحلبيّ قال‌: قال‌ أبو عبدالله‌ عليه‌ السلام‌:

 قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَي‌': لِيَأذَنْ بِحَرْبٍ مِنِّي‌ مُسْتَذِلُّ عَبْدِيَ الْمُؤمِنِ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَي‌ءٍ كَتَرَدُّدِي‌ فِي‌ مَوْتِ المُؤْمِنِ، إِنِّي‌ لاَحِبُّ لِقاءَهُ وَ يَكْرَهُ المَوْتَ، فَأَصْرِفُهُ عَنْهُ، وَ إِنـَّهُ لَيَدْعُونِي‌ فِي‌ الاَمْرِ فَأَسْتَجِيبُ لَهُ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَأَجْعَلُ لَهُ مِنْ إِيمانِهِ أُنْسَاً لاَ يَسْتَوْحِشُ فِيهِ إِلي‌' أَحَدٍ. [25]

 و هذه‌ الرواية‌ تشابه‌ في‌ مفادها و مضمونها الرواية‌ السابقة‌، إلاّ أنّ في‌ مطلعها عبارة‌:

 «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَي‌: لِيَأذَنْ بِحَرْبٍ مِنِّي‌ مُسْتَذِلُّ عَبْدِيَ الْمُؤمِنِ» ويقول‌ في‌ الجملة‌ قبل‌ الاخيرة‌: «وَ إنـَّهُ لَيَدْعُونِي‌ فِي‌ الاْمْرِ فَأسْتَجِيبُ لَهُ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ».

 و هذه‌ الرواية‌ في‌ غاية‌ الاهميّة‌ من‌ جهة‌ سندها و متنها، فهي‌ أوّلاً ـ من‌ جهة‌ السند ـ قد رويت‌ بأسانيد مختلفة‌ عن‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ و عن‌ زين‌ العابدين‌ و جعفر الصادق‌ عليهما السّلام‌ في‌ مثل‌ «المحاسن‌» و «الكافي‌» و «معاني‌ الاخبار».

 و ثانياً: فهي‌ من‌ جهة‌ متنها و قوّة‌ دلالتها علی جلالة‌ مقام‌ المؤمن‌ ومنزلته‌؛ تلك‌ الدلالة‌ التي‌ صِيغت‌ بأحلي‌ لحن‌ و أرقّ عبارة‌؛ حاكية‌ عن‌ المعاني‌ الدقيقة‌ و الاسرار الخفيّة‌، فعبارة‌ «لِيَأذَنْ بِحَرْبٍ مِنِّي‌» لها دلالة‌ علی أنّ إهانة‌ المؤمن‌ هي‌ إهانة‌ لله‌، تلك‌ الإهانة‌ التي‌ لا تُغتفر و التي‌ تُعدّ من‌ أكبر الذنوب‌، لانـّها إعلان‌ الحرب‌ مع‌ الله‌. سبحانه‌، و تدلّ عبارة‌ «وَ إنّه‌ لَيَدْعُونِي‌ فِي‌ الاْمْرِ» علی أنّ دعاء المؤمن‌ لا يردّ أبداً، و أنّ له‌ مقاماً عندالله‌ تبارك‌ و تعإلی‌ بحيث‌ أنـّه‌ مهما أراد من‌ ربّه‌ و في‌ أيّ حال‌ و تحت‌ أيّ شرائط‌ و بأيّ كيفيّة‌ و مقدار، فإنّ المعبود سبحانه‌ يمنّ عليه‌ بما طلبه‌ أو بأفضل‌ منه‌.

 كما أنّ عبارة‌ «مَا تَرَدَّدْتُ عن‌ شَي‌ءٍ أَنَا فَاعِلُهُ» من‌ العبارات‌ البديعة‌ والتعبيرات‌ الظريفة‌ التي‌ لم‌ تنقل‌ عن‌ الله‌ عزّ وجلّ في‌ غير هذا المورد، ويصعب‌ تصوّر الحدّ الذي‌ يظهر فيه‌ مقام‌ لطف‌ الله‌ بالمؤمن‌ و رحمته‌ له‌، و أنّ تردّد الله‌ و تفقّده‌ لحال‌ المؤمن‌ يماثل‌ تماماً حال‌ العاشق‌ الذي‌ يتفقّد علی الدوام‌ حال‌ المعشوق‌ و لا يرضي‌ أن‌ يلحقه‌ أدني‌ أذي‌، كما يسعي‌ في‌ الوقت‌ نفسه‌ أن‌ لا يصيبه‌ أيسر أنزعاج‌، فيجد نفسه‌ متردّداً بين‌ هذين‌ الامرين‌ فهو يبحث‌ عن‌ منفذ و طريق‌ للحلِّ.

 إنّ المؤمن‌ الذي‌ يخوض‌ علی الدوام‌ مُعتركَ المناجاة‌ و التضرّع‌ والابتهال‌ في‌ مسير لقاء الله‌ عزّ وجلّ، و الذي‌ وضع‌ أقدامه‌ ضمن‌ دائرة‌ المحبّة‌ وا لعشق‌، فرضي‌َ بآثار العشق‌ الشديد و الوله‌ و الهيام‌ والتحيّر عن‌ كلّ شي‌ء غير زيارة‌ حبيبه‌ و لقائه‌، و الذي‌ صارت‌ له‌ علاقة‌ خاصّة‌ تربطه‌ بخالقه‌ في‌ مرحلة‌ الخلوة‌ و الصفاء، قد صار محبوباً عزيزاً عند الله‌ سبحانه‌ حتّي‌ عَشِقه‌ اللهُ فصار يعامله‌ وفق‌ أدقّ أسرار المحبّة‌ و خفاياها.

 و ما أقرب‌ هذه‌ العبارة‌ للحديث‌ القدسي‌ّ الآخر القائل‌:

 أَنَا جَلِيسُ مَنْ جَالَسَني‌، أَنَا ذَاكِرُ مَنْ ذَكَرَني‌، أَنَا غَافِرُ مَنِ اسْتَغْفَرَنِي‌، أَنَا مُطِيعُ مَنْ أَطَاعَنِي‌. [26]

ستاره‌اي‌ بدرخشيد و ماه‌ مجلس‌ شد                                   دل‌ رميدة‌ ما را أنيس‌ و مؤنس‌ شد

نگار من‌ كه‌ بمكتب‌ نرفت‌ و خط‌ ننوشت‌                                 به‌ غمزه‌ مسئله‌ آموز صد مدرّس‌ شد

طرب‌ سراي‌ محبّت‌ كنون‌ شود معمور                                    كه‌ طاق‌ ابروي‌ يار مَنَش‌ مهندس‌ شد

بصدر مصطبه‌ام‌ مي‌نشاند اكنون‌ دوست‌                                گداي‌ شهر نگه‌ كن‌ كه‌ مير مجلس‌ شد[27]

 و تدلّ عبارة‌ «رَيْحَانَتَيْن‌ أو رِيْحَيْن‌: المُسْخِيَة‌ و المُنْسِيَة‌» علی أنّ هناك‌ نسيميْن‌ يهبّان‌ عليه‌ من‌ جذبات‌ الجمال‌ و الجلال‌ فيُدخلانه‌ مباشرة‌ في‌ جزائر الرحمة‌ و الاُنس‌ الخالدة‌؛ فالمُسخية‌ هي‌ جذبة‌ الجمال‌ التي‌ لايبقي‌ عند المؤمن‌ بطلوعها أثرٌ لايّ شي‌ء، فستتلاشي‌ بظهور تلك‌ الجذبة‌ علائق‌ جميع‌ أمواله‌ و ثروته‌ التي‌ كان‌ يعوّل‌ عليها.

 أمّا المُنسية‌ فهي‌ جذبة‌ الجلال‌ التي‌ لايبقي‌ عند ظهورها قدر وقيمة‌ للدنيا و آثارها من‌ التعلّق‌ القلبي‌ و الارتباط‌ بشؤون‌ الحياة‌.

 تَبَـ'رَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي‌ الْجَلَـ'لِ وَالإكْرَامِ. [28]

 و قد صرّح‌ المرحوم‌ المولي‌ صدرا في‌ كتاب‌ «الاسفار» أنّ المراد من‌ الإكرام‌ في‌ هذه‌ الآية‌ الشريفة‌ مقام‌ الجمال‌ الذي‌ هو عِدْل‌ الجلال‌، و يشمل‌ العطاء و الرحمة‌. [29]

 الرجوع الي الفهرس

 حضور الارواح‌ المقدّسة‌ لرسول‌ الله‌ و الائمّة‌ الطاهرين‌ عند المحتضر

 روي‌ عن‌ «تفسير فرات‌ بن‌ إبراهيم‌»، عن‌ أبي‌ القاسم‌ العلويّ، معنعناً عن‌ أبي‌ بصير قال‌: قُلتُ لابي‌ عبد الله‌ عليه‌ السلام‌: جُعلتُ فداك‌ يُستكره‌ المؤمنُ علی خروجِ نفسه‌؟

 قال‌: لا واللهِ.

 قال‌: قلتُ: و كيفَ ذاك‌؟

 قال‌: إنّ المؤمنَ إذا حضرتْه‌ الوفاةُ حضرَ رسولُ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ و أهلُ بيته‌: أميرالمؤمنين‌ عليُّ بن‌ أبي‌ طالب‌ و فاطمة‌ و الحسنُ والحسينُ و جميعُ الائمّةِ عليهم‌ الصلاة‌ و السلام‌ ـ ولكنْ أَكِنُّوا [30] عن‌ اسمِ فاطمة‌ ـ و يحضره‌ جبرئيل‌ و ميكائيلُ و إسرافيلُ و عزرائيلُ عليهم‌ السلام‌.

 قالَ: فيقولُ أميرُالمؤمنين‌ عليُّ بن‌ أبي‌ طالب‌ عليه‌ السلام‌: يارسولَالله‌ إنّه‌ كانَ ممّنْ يحبّنا و يتولاّنا فأحِبَّهْ. قال‌: فيقولُ رسولُ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌:

 يا جبرئيل‌ إنّه‌ ممّنْ كانَ يحبُّ علياً و ذرّيَّتَهُ فأحبّهُ، و قالَ جبرئيلُ لميكائيل‌ و إسرافيل‌ عليهم‌ السلامّ مثلَ ذلك‌. ثمَّ يقولون‌ جميعاً لملكِ الموتِ: أنـّه‌ ممّن‌ كانَ يحبّ محمّداً و آله‌ و يتولّي‌ عليّاً و ذرّيّتَهُ فارفقْ به‌.

 قال‌: فيقولُ مَلَكُ الموتِ: والّذِي‌ اختاركم‌ و كَرّمكم‌ و اصطفي‌ محمّداً صلّي‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ بالنبوّةِ و خَصّهُ بالرِّسالةِ لاَنَا أَرفقُ بِهِ من‌ والدٍ رفيقٍ، وأشفقُ عليه‌ من‌ أخٍ شفيقٍ. ثمّ قامَ إليه‌ ملكُ الموتِ فيقول: ياعبدَالله‌ أخذتَ فكاك‌ رقبتكَ؟ أَخَذْتَ رَهْنَ أَمانِكَ؟

 فيقولُ: نَعَم‌. فيقولُ ملكُ الموتِ: فبماذا؟ فيقول‌: بحبّي‌ محمّداً وآله، و بولايتي‌ علی بن‌ أبي‌ طالب‌ و ذرّيّته‌.

 فيقول‌: أمّا ما كنتَ تحذرُ فقد آمنك‌ اللهُ منه‌، و أمّا ما كنتَ تَرجو فقد أتاكَ اللهُ به‌. افتحْ عينيكَ فانظرْ إلی‌ ما عندك‌.

 قال‌: فيفتح‌ عينيه‌ فينظرُ إليهم‌ واحداً واحداً، و يُفتحُ له‌ بابٌ إلی‌ الجنّةِ فينظر إليها. فيقولُ له‌: هذا ما أعَدَّ اللهُ لكَ، و هؤلاءِ رفقاؤك‌، أفَتحبّ اللحاقَ بهم‌ أو الرجوعَ إلی‌ الدنيا؟ قال‌: فقال‌ أبوعبد الله‌ عليه‌ السلام‌: أمَا رَأيتَ شُخوصَهُ وَ رَفْعَ حاجبيْه‌ إلی‌ فوق‌ مِن‌ قوله‌:

 لاَ حاجةَ لي‌ إلی‌ الدُّنيا و لا الرجوع‌ إليها. و يناديه‌ منادٍ من‌ بطنانِ العرش‌ يسمعه‌ و يسمع‌ من‌ بحضرته‌: «يَـ'´أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ» [31] إلي‌' مُحَمَّدٍ وَ وَصِيِّهِ وَالائِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ «ارْجِعِي‌´ إلَي‌' رَبِّكِ رَاضِيَّةً»[32] بالْوِلاَيَةِ، «مَّرْضِيَّةً»[33] بِالثَّوَابِ، «فَادْخُلِي‌ فِي‌ عِبَـ'دِي‌» [34] مَعَ مُحَمَّدٍ وَ أَهْلِ بَيْتِهِ «وَادْخُلِي‌ جَنَّتِي‌» [35] غَيْرَ مَشُوبَةٍ.[36]

 الرجوع الي الفهرس

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ الآية‌ 158، من‌ السورة‌ 6: الانعام‌.

[2] ـ انّ طائفة‌ الجنْ بالرغم‌ من‌ خضوعهم‌ للتكليف‌ و امتلاكهم‌ للاختيار و إمكان‌ العصيان‌، إلاّ أنّ وجودهم‌ ضعيف‌ جدّاً قياساً إلی‌ وجود الإنسان‌، و يمكن‌ اعتبارهم‌ في‌ الحقيقة‌ تابعين‌ للإنسان‌ و خاضعين‌ له‌.

[3] ـ الآيات‌ 83 إلی‌ 85، من‌ السورة‌ 40: غافر.

[4] ـ الآية‌ 7، من‌ السورة‌ 59: الحشر.

[5] ـ الاسفار، الطبعة‌ الحجريّة‌، ج‌ 1، ص‌ 4؛ والطبعة‌ الحروفيّة‌، ج‌ 1، ص‌ 11 و 12.

[6] ـ الكتاب‌ مؤلّف‌ زمنَ حياة‌ العلاّمة‌ (ره‌)، و قد آثرنا المحافظة‌ علی تعبير المؤلّف‌.

[7] ـ الآية‌ 12، من‌ السورة‌ 7: الاعراف‌.

[8] ـ الآيتان‌ 7 و 8، من‌ السورة‌ 69: الحاقّة‌.

[9] ـ الآية‌ 78، من‌ السورة‌ 28: القصص‌.

[10] ـ نفس‌ الآية‌ السابقة‌.

[11] ـ الآية‌ 81، من‌ السورة‌ 28: القصص‌.

[12] ـ يقول‌: فَلتُقْدِمْ مادَامَ بإمكانكَ أن‌ تفعلَ شيئاً، قبلَ أن‌ تقصر يداك‌ عن‌ فعلِ أي‌ّ شي‌ء.

[13] ـ الآية‌ 158، من‌ السورة‌ 6: الانعام‌.

[14] ـ الآية‌ 90، من‌ السورة‌ 10: يونس‌.

[15] ـ الآية‌ 91، من‌ السورة‌ 10: يونس‌.

[16] ـ الآية‌ 92، من‌ السورة‌ 10: يونس‌.

[17] ـ الآيتان‌ 98 و 99، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[18] ـ أوردها في‌ نسخة‌ «بحار الانوار» بلفظ‌ «يُعاني‌».

[19] ـ «العيون‌»، الطبعة‌ الحجريّة‌، ص‌ 178؛ و يروي‌ الصدوق‌ ص‌ 178 عن‌ محمّد بن‌ القاسم‌ المفسّر المعروف‌ بأبي‌ الحسن‌ الجرجانيّ قال‌: حدّثنا أحمد بن‌ الحسن‌ الحسينيّ، عن‌ الحسن‌ بن‌ علی، ] عن‌ أبيه‌ الجواد [ عن‌ أبيه‌ الرضا، عن‌ أبيه‌ موسي‌ بن‌ جعفر عليهما السلام‌ قال‌: قيل‌ للصادق‌ عليه‌ السلام‌: صف‌ لنا الموت‌. قال‌: للمؤمن‌ كأطيب‌ ريحٍ يشمّه‌ فينعس‌ لطيبه‌ و ينقطع‌ التعب‌ و الالم‌ كلّه‌ عنه‌، و للكافر كلسع‌ الافاعي‌.

[20] ـ «بحار الانوار»، طبعة‌ الآخوند، ج‌ 6، ص‌ 152. أمّا في‌ نفس‌ «أمإلی‌ الطوسيّ»، طبع‌ النجف‌ 1384 هجريّة‌، المجلّد الثاني‌، ص‌ 29 فقد وردت‌ الرواية‌ بهذا اللفظ‌: ما من‌ شي‌ءٍ أَتردّد فيه‌ مثل‌ تردّدي‌ عند قبض‌ روح‌ المؤمن‌...

[21] ـ «فروع‌ الكافي‌»، كتاب‌ الجنائز، الطبعة‌ الحيدريّة‌، ج‌ 3، ص‌ 127؛ و «معاني‌ الاخبار»، الطبعة‌ الحيدريّة‌، ص‌ 142.

[22] ـ يقول‌: «إذا هبّت‌ علی الصَّبا بنسائم‌ معطّرة‌ من‌ حَيِّك‌، فسأهبها ـ لبشارتها بك‌ ـ روحي‌ الغالية‌».

[23] ـ يقول‌: «لو مرّ خيالك‌ علينا فإنّ طائر اليُمن‌ و السعادة‌ سيسقط‌ أسير حبائلنا.

 و لو انعكس‌ خيالك‌ في‌ كأسنا لقذفتُ من‌ الجذل‌ قبّعتي‌ في‌ الهواء كما تتصاعد الفقاعة‌.

 و الليلة‌ التي‌ يطلع‌ فيها قمر المراد من‌ الاُفق‌، هي‌ الليلة‌ التي‌ سيُشرق‌ شعاع‌ نوره‌ علی شرفه‌ دارنا.

 و كلّ آن‌ تحدّث‌ فيه‌ حافظ‌ عن‌ تراب‌ حَيِّك‌، عبقت‌ نسائم‌ الحياة‌ و عبير رياضها في‌ مشامّنا».

[24] ـ «محاسن‌ البرقيّ»، كتاب‌ «الصفوة‌ و النور و الرحمة‌ من‌ المحاسن‌»، باب‌ الانفراد، في‌ طبعة‌ رنگين‌ ج‌ 1 ص‌ 159 و 160.

[25] ـ نفس‌ المصدر السابق‌.

[26] ـ «أسرار الصلوة‌» للحاج‌ الميرزا جواد آقا الملكيّ التبريزيّ، الطبعة‌ الحجريّة‌، ص‌ 10؛ والطبعة‌ بالحروف‌ ص‌ 19. ولكن‌ يبدو في‌ الظاهر أنّ ذلك‌ المرحوم‌ قد نقل‌ هذا الحديث‌ علی لسان‌ المَلَك‌ الداعي‌. كما أنّ المرحوم‌ قد ذكر هذا الحديث‌ في‌ كتابه‌ «المراقبات‌ أو أعمال‌ السنَة‌»، ص‌ 36 في‌ مراقبات‌ شهر رجب‌. و أورد السيّد ابن‌ طاووس‌ في‌ «الإقبال‌» أصل‌ الحديث‌، كما أورده‌ ذلك‌ المرحوم‌ في‌ أعمال‌ شهر رجب‌ ص‌ 628 إلاّ أنـّه‌ لم‌ يذكر عبارة‌ «أنا ذاكر من‌ ذكرني‌». و أصل‌ الحديث‌ طبقاً لرواية‌ الإقبال‌ هو: من‌ كتب‌ العبادات‌ عن‌ النبيّ صلوات‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ قال‌: «إنّ الله‌ تعإلی‌ نصب‌ في‌ السماء السابعة‌ ملكاً يقال‌ له‌ الداعي‌، فإذا دخل‌ شهر رجب‌ ينادي‌ ذلك‌ الملك‌ كلّ ليلة‌ منه‌ إلی‌ الصباح‌: طوبي‌ للذاكرين‌ طوبي‌ للطائعين‌، ويقول‌ الله‌ تعالي‌: أنا جليس‌ من‌ جالسني‌ ومطيع‌ من‌ أطاعني‌ وغافر من‌ استغفرني‌.»

[27] ـ يقول‌: «تألّق‌ نجم‌ الحبيب‌ وتوهّج‌ فصار شمع‌ مجلسنا و أنيس‌ قلبي‌ النافر الجفول‌.

 لقد صار حبيبي‌ الذي‌ ما يمّم‌ قطّ صوب‌ مدرسة‌ و ما خطّ حرفاً ـ معلّماً بغنجه‌ الفاتن‌ لمائة‌ مدرّس‌.

 و غدا فناء طرب‌ المحبّة‌ معموراً حين‌ صار محراب‌ حاجب‌ الحبيب‌ مهندساً له‌.

 لقد صار الحبيب‌ يُجلسني‌ الآن‌ في‌ صدر المنصّة‌، فانظر كيف‌ استحال‌ شحّاذ المدينة‌ أمير المجلس‌!».

[28] ـ الآية‌ 78، من‌ السورة‌ 55: الرحمن‌.

[29] ـ «الاسفار»، الطبعة‌ الحجريّة‌، ج‌ 3، ص‌ 24 و 25. و عبارته‌: «الصفة‌ إمّا إيجابيّة‌ ثبوتيّة‌ و إمّا سلبيّة‌ تقديسيّة‌، و قد عبّر الكتاب‌ عن‌ هاتين‌ بقوله‌: تبارك‌ اسم‌ ربّك‌ ذي‌ الجلال‌ و الإكرام‌...».

[30] ـ «أكِنُّوا عن‌ اسم‌ فاطمة‌ عليها السلام‌»، أي‌ لا تصرّحوا باسمها لئلاّ يصير سبباً لاءنكار الضعفاء من‌ الناس‌ بسبب‌ حضورها عند أجنبيّ.

[31] ـ الآية‌ 27، من‌ السورة‌ 89: الفجر.

[32] ـ الآية‌ 28، من‌ السورة‌ 89: الفجر.

[33] ـ الآية‌ 28، من‌ السورة‌ 89: الفجر.

[34] ـ الآية‌ 29، من‌ السورة‌: 89: الفجر.

[35] ـ الآية‌ 30، من‌ السورة‌ 89: الفجر.

[36] ـ «بحار الانوار»، طبعة‌ الآخوند، المجلّد السادس‌، ص‌ 162 و 163.

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com