بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة المعاد / المجلد العاشر / القسم الثامن: عذاب النساء العاصیات، الطوائف الذین تطحنهم جهنم، الدلیل العقلی علی الخلو...

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

حديث‌ المعراج‌ وكيفيّة‌ عذاب‌ النساء العاصيات‌

 يروي‌ الصدوق‌ عن‌ الورّاق‌، عن‌ الاسديّ، عن‌ سَهْل‌، عن‌ عبدالعظيم‌ الحسني‌ّ، عن‌ محمّد بن‌ علی‌ّ، عن‌ أبيه‌ الرضا، عن‌ آبائه‌، عن‌ أميرالمؤمنين‌ صلوات‌الله‌ علیهم‌ أجمعين‌، قال‌:

 دخلتُ أنا وفاطمة‌ علی‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌ فوجدته‌ يبكي‌ بكاءً شديداً. فقلتُ: بأبي‌ أنتَ وأُمّي‌ يا رسول‌ الله‌، ما الذي‌ أبكاك‌؟ قال‌: ياعلی‌ّ؛ ليلة‌ أُسري‌ بي‌ إلی السماء رأيتُ نساءً من‌ أُمّتي‌ في‌ عذابٍ شديد، فأنكرتُ شأنهنّ فبكيتُ لما رأيتُ من‌ شدّة‌ عذابهن‌. ورأيتُ امرأةً معلّقةً بشعرها. يغلي‌ دماغ‌ رأسها؛ ورأيتُ امرأةً معلّقة‌ بلسانها والحميم‌ يُصبّ في‌ حلقها؛ ورأيتُ امرأةً معلّقة‌ بثديها؛ ورأيت‌ امرأة‌ تأكل‌ لحم‌ جسدها والنار تُوقد من‌ تحتها؛ ورأيتُ امرأةً قد شُدّ رجلاها إلی يديها وقد سُلّط‌ علیها الحيّات‌ والعقارب‌؛ ورأيتُ امرأةً صمّاء عمياء خرساء في‌ تابوتٍ من‌ نار يخرج‌ دماغ‌ رأسها من‌ منخرها، وبدنها متقطّع‌ من‌ الجذام‌ والبرص‌؛ ورأيتُ امرأةً معلّقة‌ برجليها في‌ تنّور من‌ نار؛ ورأيت‌ امرأةً تقطّع‌ لحم‌ جسدها من‌ مقدّمها ومؤخّرها بمقاريض‌ من‌ نار؛ ورأيتُ امرأةً يُحرق‌ وجهها ويداها وهي‌ تأكل‌ أمعاءها؛ ورأيتُ امرأةً رأسُها رأس‌ خنزير، وبدنها بدن‌ الحمار، وعلیها ألف‌ ألف‌ لونٍ من‌ العذاب‌؛ ورأيتُ امرأةً علی‌ صورة‌ الكلب‌، والنار تدخل‌ في‌ دبرها وتخرج‌ من‌ فيها، والملائكة‌ يضربون‌ رأسها وبدنها بمقامع‌ من‌ نار.

 فقالت‌ فاطمة‌ علیها السلام‌: حبيبي‌ وقُرّة‌ عيني‌؟ أخبرني‌ ما كان‌ عملهنّ وسيرتهنّ، حتّي‌ وضع‌ الله‌ علیهنّ هذا العذاب‌؟

 فقال‌: يا بنتي‌! أمّا المعلّقة‌ بلسانها، فإنّها كانت‌ تُؤذي‌ زوجها؛ وأمّا المعلّقة‌ بثديها، فإنّها كانت‌ تمتنع‌ من‌ فراش‌ زوجها؛ وأمّا المعلّقة‌ برجليها، فإنّها كانت‌ تخرج‌ من‌ بيتها بغير إذن‌ زوجها؛ وأمّا التي‌ كانت‌ تأكل‌ لحم‌ جسدها، فإنّها كانت‌ تزيّن‌ بدنها للناس‌؛ وأمّا التي‌ شُدّت‌ يداها إلی رجليها وسُلِّط‌ علیها الحيّات‌ والعقارب‌، فإنّها كانت‌ قذرة‌ الوضوء قذرة‌ الثياب‌، وكانت‌ لاتغتسـل‌ من‌ الجنابة‌ والحيض‌ ولا تتنظّف‌، وكانت‌ تسـتهين‌ بالصلاة‌؛ وأمّا العمياء الصمّاء الخرساء، فإنّها كانت‌ تلد من‌ الزنا فتعلّقه‌ في‌ عنق‌ زوجها؛ وأمّا التي‌ تقرض‌ لحمها بالمقاريض‌، فإنّها كانت‌ تعرض‌ نفسها علی‌ الرجال‌؛ وأمّا التي‌ كانت‌ تحرق‌ وجهها وبدنها وهي‌ تأكل‌ أمعاءها، فإنّها كانت‌ قوّادة‌؛ وأمّا التي‌ كان‌ رأسها رأس‌ خنزير وبدنها بدن‌ الحمار، فإنّها كانت‌ نمّامة‌ كذّابة‌؛ وأمّا التي‌ كانت‌ علی‌ صورة‌ الكلب‌ والنار تدخل‌ في‌ دبرها وتخرج‌ من‌ فيها، فإنّها كانت‌ قَيْنة‌ نوّاحة‌ حاسدة‌.

 ثمّ قال‌ علیه‌ السلام‌: ويلٌ لامرأة‌ أغضبت‌ زوجها، وطوبي‌ لامرأة‌ رضي‌ عنها زوجها. [1]

 الرجوع الي الفهرس

الطوائف‌ الخمس‌ الذين‌ تطحنهم‌ جهنّم‌

 ويروي‌ الصدوق‌ في‌ « الخصال‌ » عن‌ أبيه‌، عن‌ الحِميري‌ّ، عن‌ هارون‌ ابن‌مسلم‌، عن‌ مسعدة‌ بن‌ زياد، عن‌ أبي‌ عبدالله‌ ( الصادق‌ ) علیه‌ السلام‌، عن‌ آبائه‌، عن‌ علی‌ّ علیهم‌ السلام‌، قال‌:

 إنَّ فِي‌ جَهَنَّمَ رَحيً تَطْحَنُ خَمْساً؛ أَفَلاَ تَسْأَلُونِي‌ مَا طِحْنُهَا؟!

 فَقِيلَ لَهُ: وَمَا طِحْنُهَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟!

 قَالَ: العُلَمَاءُ الفَجَرَةُ، وَالقُرَّاءُ الفَسَقَةُ، وَالجَبَابِرَةُ الظَّلَمَةُ، وَالوُزَرَاءُ الخَوَنَةُ، وَالعُرَفَاءُ الكَذَبَةُ.

 وَإنَّ فِي‌ النَّارِ لَمَدِينَةٌ يُقَالُ لَهَا: الحَصِينَةُ؛ أَفَلاَ تَسْأَلُونِي‌ مَا فِيهَا؟!

 فَقِيلَ لَهُ: وَمَا فِيهَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟

 فَقَالَ: فِيهَا أَيْدِي‌ النَّاكِثِينَ. [2]

 كما روي‌ الصدوق‌ في‌ « العيون‌ » بسنده‌ المتّصل‌ عن‌ الرضا علیه‌ السلام‌، قال‌: قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ علیهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: الوَيْلُ لِظَالِمِي‌ أَهْلِ بَيْتِي‌، كَأَ نِّي‌ بِهِمْ غَداً مَعَ المُنَافِقِينَ فِي‌ الدَّرْكِ الاَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. [3]

 وروي‌ في‌ « العيون‌ » بنفس‌ السند، قال‌: قال‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌:

 إنّ قاتلَ الحسين‌ بن‌ علی‌ّ علیهما السلام‌ في‌ تابوت‌ من‌ نار، علیه‌ نصف‌ عذاب‌ أهل‌ الدنيا، وقد شدّت‌ رجلاه‌ بسلاسل‌ من‌ نار، منكّس‌ في‌ النار، حتّي‌ يقع‌ في‌ قعر جهنّم‌، وله‌ ريح‌ يتعوّذ أهل‌ النار إلی ربّهم‌ من‌ شدّة‌ نتنه‌، وهو فيها ذائق‌ العذاب‌ الاليم‌ مع‌ جميع‌ من‌ شايع‌ علی‌ قتله‌، كلّما نضجت‌ جلـودهم‌ بدّل‌ الله‌ عزّ وجلّ علیهـم‌ الجلود حتّي‌ يذوقوا العذاب‌ الاليم‌، لايفتر عنهم‌ ساعةً ويُسقون‌ من‌ حميم‌ جهنّم‌، فالويلُ لهم‌ من‌ عذاب‌ الله‌ تعالي‌ في‌ النار. [4]

 وجاء في‌ التفسير المنسوب‌ إلی الإمام‌ العسكريّ علیه‌ السلام‌: ألا وإنّ الراضين‌ بقتل‌ الحسين‌ علیه‌ السلام‌ شركاء قتله‌. ألا وإنّ قتلته‌ وأعوانهم‌ وأشياعهم‌ والمقتدين‌ بهم‌ براء من‌ دين‌ الله‌، وإنّ الله‌ ليأمر ملائكته‌ المقرّبين‌ أن‌ يتلقّوا دموعهم‌ المصبوبة‌ لقتل‌ الحسين‌ إلی الخزّان‌ في‌ الجنان‌، فيمزجونها بماء الحَيَوَان‌ فتزيد عذوبتها ويلقونها في‌ الهاوية‌ ويمزجونها بحميمها وصديدها وغسّاقها وغِسلينها فتزيد في‌ شدّة‌ حرارتها وعظيم‌ عذابها ألف‌ ضِعفها، تشدّد علی‌ المنقولين‌ إليها من‌ أعداء آل‌محمّد وعذابهم‌. [5]

 الرجوع الي الفهرس

 

 

الدرس‌ الخامس‌ والسبعون‌:

 خلود الحياة‌ في‌ الجنّة‌ وجهنّم‌

 

 

بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد للَّه‌ ربّ العالمين‌ ولا حول‌ ولا قوّة‌ إلاّ بالله‌ العلی‌ّ العظيم‌

وصلَّي‌ الله‌ علی‌ محمّد وآله‌ الطاهرين‌

ولعنة‌ الله‌ علی‌ أعدائهم‌ أجمعين‌ من‌ الآن‌ إلی قيام‌ يوم‌ الدين‌

 

 قال‌ الله‌ الحكيم‌ في‌ كتابه‌ الكريم‌:

 يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي‌ النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَـ'لِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَـ'وَ ' تُ وَالاْرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي‌ الْجَنَّةِ خَـ'لِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَـ'وَ ' تُ وَالاْرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ. [6]

 نشاهد في‌ هذه‌ الآيات‌ المباركة‌ أنّ مكث‌ الاشقياء في‌ النار ومكث‌ أصحاب‌ الجنّة‌ فيها سيكونان‌ دائميينِ، وأنّ الآيات‌ قد صرّحت‌ في‌ خصوص‌ كلا الموردين‌ بأنّ هذا الخلود منوط‌ بمشيئة‌ الله‌ تعالي‌، وأ نّه‌ إذا شاء أخرج‌ الطائفة‌ التي‌ يشاء من‌ موضعها.

 ومن‌ الجلي‌ّ ـ عقلاً وشرعاً ـ أنّ أصحاب‌ الجنّة‌ لا يغادرونها أبداً، لذا فإنّ استثناء إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ في‌ شأن‌ السعداء لا يدلّ علی‌ تحقّق‌ خروجهم‌ ووقوعه‌ في‌ الخارج‌، بل‌ ينحصر مدلوله‌ في‌ بيان‌ قهّاريّة‌ الحقّ سبحانه‌ وغلبة‌ مشيئته‌. أي‌ أنّ إرادة‌ الله‌ المتعال‌ ومشيئته‌ مقدّمتان‌ علی‌ كلّ شي‌ء وحاكمتان‌ علیه‌ وأنّ أيّ قانون‌ أو قاعدة‌ لا يُحيطان‌ أبداً بمشيئة‌ الحقّ تعالي‌ ولايُخضعها لحكمهما، وأنّ إرادة‌ الحقّ واختياره‌ ممّا لايغلب‌ ولايُقهر أبداً.

 إنّ أصحاب‌ الجنّة‌ ماكثون‌ فيها أبداً، ولكن‌ بإرادة‌ الله‌ ومشيئته‌ وأصحاب‌ النار ماكثون‌ فيها أبداً، إلاّ أن‌ يشاء الله‌ سبحانه‌. أي‌ أنّ إرادة‌ الله‌ ومشيئته‌ في‌ حقّهم‌ أعلی‌ من‌ كلّ قانون‌ ووعد، وأ نّهم‌ ـ في‌ حال‌ خلودهم‌ـ خاضعون‌ لإرادة‌ الله‌ عزّ وجلّ، فإن‌ شاء أخرجهم‌ منها دون‌ أن‌ يصدّه‌ مانع‌ أو يردعه‌ رادع‌.

 وهذا الاستثناء الذي‌ يُعرف‌ في‌ تعبير أصحاب‌ التفسير والعرفان‌ باستثناء المشيئة‌ يفيد هذا المعني‌.

 وأمثال‌ هذا الاستثناء بقسميه‌ الاصطلاحي‌ّ والحقيقي‌ّ كثير في‌ القرآن‌ الكريم‌، كما في‌ الآيتين‌ 6 و7، من‌ السورة‌ 87: الاعلی‌، سَنُقْرِئُكَ ( والخطاب‌ للنبي‌ّ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌ ) فَلاَ تَنسَي‌'´ * إِلاَّ مَا شَآءَ اللَهُ.

 وكما في‌ الآية‌ 48، من‌ السورة‌ 5: المائدة‌: وَلَوْ شَآءَ اللَهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَ ' حِدَةً وَلَـ'كِن‌ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي‌ مَآ ءَاتَب'كُمْ.

 والآية‌ 35، من‌ السورة‌ 6: الانعام‌: وَلَوْ شَآءَ اللَهُ لَجَمَعَهُمْ علی‌ الْهُدَي‌' فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَـ'هِلِينَ.

 وعلی‌ أيّة‌ حال‌، فقد جاءت‌ نظير الآية‌ مورد البحث‌ آيات‌ كثيرة‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌ تتحدّث‌ عن‌ خلود أصحاب‌ الجنّة‌ والنار فيهما، كالآيات‌ 6 إلي‌8، من‌ السورة‌ 98: البيّنة‌. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـ'بِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي‌ نَارِ جَهَنَّمَ خَـ'لِدِينَ فِيهَآ أُولَـ'ئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـ'لِحَـ'تِ أُولَـ'ئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـ'تُ عَدْنٍ تَجْرِي‌ مِن‌ تَحْتِهَا الاْنْهَـ'رُ خَـ'لِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا رَّضِيَ اللَهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَ ' لِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ.

 والآية‌ 11، من‌ السورة‌ 65: الطلاق‌: وَمَن‌ يُؤْمِن‌ بِاللَهِ وَيَعْمَلْ صَـ'لِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّـ'تٍ تَجْرِي‌ مِن‌ تَحْتِهَا الاْنْهَـ'رُ خَـ'لِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَهُ لَهُ و رِزْقًا.

 والآية‌ 23، من‌ السورة‌ 72: الجنّ: وَمَن‌ يَعْصِ اللَهَ وَرَسُولَهُ و فَإِنَّ لَهُ و نَارَ جَهَنَّمَ خَـ'لِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا.

 وآيات‌ الخلود كثيرة‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌ كما نوّهنا، وإنّما ذكرنا بعضها من‌ باب‌ المثال‌ لاالحصر. ومضافاً إلی الآيات‌ القرآنيّة‌ فقد دلّت‌ الروايات‌ الواردة‌ عن‌ المعصومين‌ علیهم‌ السلام‌ علی‌ الخلود من‌ خلال‌ التواتر المعنوي‌ّ، كما ادُّعي‌ الإجماع‌ علی‌ خلود المحسنين‌ في‌ الجنّة‌ والكافرين‌ في‌ النار. وسنشرع‌ بحول‌ الله‌ وقوّته‌ في‌ إثبات‌ الخلود بالدليل‌ العقلي‌ّ، وذلك‌ يستلزم‌ منّا بيان‌ عدّة‌ مقدّمات‌.

 الرجوع الي الفهرس

بيان‌ أربع‌ مقدّمات‌ لإثبات‌ الدليل‌ العقلي‌ّ علی‌ الخلود

 المقدّمة‌ الاُولي‌: أنّ العالم‌ الذي‌ نعيش‌ فيه‌ هو عالم‌ الحركة‌ والقوّة‌ والقابليّة‌، الذي‌ يقود النفس‌ الإنسانيّة‌ الناطقة‌ إلی كمال‌ فعلیتها في‌ السعادة‌ أو الشقاء.

 وهذه‌ النفس‌ الإنسانيّة‌ ليست‌ جامدة‌ واقفة‌ في‌ مسيرتها التكامليّة‌، بل‌ هي‌ متحرّكة‌ علی‌ الدوام‌، كما في‌ البدن‌ المتحرّك‌ المتغيّر علی‌ الدوام‌. وهي‌ في‌ حركة‌ جوهريّة‌ دائبة‌ تقوم‌ فيها بإيصال‌ درجات‌ قوّتها وقابليّتها إلی مرحلة‌ الفعلیة‌؛ بخلاف‌ عالم‌ القيامة‌ الذي‌ هو عالم‌ التجرّد وعالم‌ نشأة‌ الفعلیة‌ المحضة‌، وعالم‌ الثبات‌ والاستقرار. وباعتبار طلوع‌ حقيقة‌ النفس‌ في‌ عالم‌ القيامة‌، فإنّها ستري‌ نفسها ثابتة‌ غير متحرّكة‌، لا نّها أضحت‌ روحاً مجرّدة‌.

 وستشاهد النفس‌ الناطقة‌ في‌ ذلك‌ العالم‌ كلّ ما اكتسبته‌ في‌ هذا العالم‌، بَيد أ نّها ستجده‌ يوم‌ القيامة‌ ثابتاً ومستقرّاً وحاضراً، مع‌ أ نّها قد اكتسبته‌ في‌ هذا العالم‌ بالتدريج‌. وهذا الامر من‌ لوازم‌ اختلاف‌ العالمينِ والنشأتينِ. إذ: اليَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابٌ، وَغَداً حِسَابٌ وَلاَ عَمَلٌ.

 وَمَنْ كَانَ فِي‌ هَـ'ذِهِ أَعْمَي‌' فَهُوَ فِي‌ الاْخِرَةِ أَعْمَي‌' وَأَضَلُّ سَبِيلاً. [7]

 فالدنيا ـ إذاً ـ هي‌ محلّ الكسب‌ والتجارة‌ والزراعة‌، أمّا الآخرة‌ فدار جني‌ المنافع‌ والعوائد.

 المقدّمة‌ الثانية‌: أنّ الآخرة‌ هي‌ باطن‌ الدنيا وحقيقتها، وأنّ الدنيا هي‌ ظاهر عالم‌ الآخرة‌. وهذان‌ العالمان‌ متداخلان‌، إلاّ أنّهما ليسا في‌ عرض‌ بعضهما، بل‌ في‌ طول‌ بعضهما؛ بل‌ هما في‌ واقع‌ الامر حقيقة‌ واحدة‌ قد تجلّت‌ في‌ هيئتينِ وصورتين‌ هما الدنيا والعقبي‌؛ وهاتان‌ الصورتان‌ متفاوتتان‌ بلحاظ‌ الإدراك‌ والتعقّل‌.

 فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ ( أيّها الإنسان‌ ) فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ. [8]

 هذا العالم‌ هو عالم‌ الظاهر المبتلي‌ بالغرور والزينة‌ والخداع‌ ورعاية‌ المظاهر، وبالحجاب‌ والغفلة‌ عن‌ الله‌ تعالي‌. أمّا ذلك‌ العالم‌ فهو عالم‌ الباطن‌ والحقيقة‌، وعالم‌ إزاحة‌ الستار وظهور نور التوحيد في‌ مظاهر عالم‌ الإمكان‌.

 ومن‌ هنا، فإنّ ذلك‌ العالم‌ يمثّل‌ تجسّد أعمال‌ هذا العالم‌ في‌ صورتها الحقيقيّة‌ الملكوتيّة‌ بلا زيادة‌ ولا نقصان‌. فما زرع‌ المرء سيحصده‌؛ وما فعل‌ في‌ هذا العالم‌ سيجده‌ هناك‌ في‌ صورته‌ الحقيقيّة‌. وسيجد الإنسان‌ المختار نفسه‌ واختياره‌ وجميع‌ أعماله‌ التي‌ فعلها بإرادته‌ في‌ هذه‌ الدنيا في‌ هيئة‌ ثابتة‌ مستقرّة‌.

 فَمَن‌ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن‌ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. [9]

 المقدّمة‌ الثالثة‌: أنّ جميع‌ الافراد في‌ حركةٍ باتّجاه‌ الله‌ تعالي‌. لايستثني‌ من‌ هذا الامر فقير أو غني‌ّ؛ ولا عالِم‌ أو جاهل‌؛ ولامؤمن‌ أو كافر؛ ولارجل‌ أو امرأة‌؛ ولا شيخ‌ أو شابّ؛ ولا عادل‌ أو فاسق‌، وما إلی ذلك‌؛ فسيرشف‌ الجميع‌ شراب‌ الموت‌ من‌ كأس‌ تجلّي‌ جلال‌ الله‌ تعالي‌ وقهّاريّته‌، فَهَنِيئاً لَهُمْ؛ ليحصلوا من‌ ثمّ علی‌ مقام‌ الفناء في‌ ذاته‌ عزّ وجلّ، وهذا الفَنَاءُ فِي‌ اللَهِ تَعَالَي‌ هو فناء لا يبقي‌ معه‌ اسم‌ ولا رسم‌؛ ولادنيا ولاآخرة‌؛ ولامادّة‌ ولا تجرّد، لانّ مقام‌ الفناء هو مقام‌ الانعدام‌ المحض‌. ومن‌ الواضح‌ أنّ كلّ شي‌ء يحتوي‌ علی‌ شائبة‌ من‌ التعيّن‌، ويُشَمّ منه‌ رائحة‌ من‌ وجود، فلاسبيل‌ له‌ إلی ذلك‌ المقام‌:

 لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَ ' حِدِ الْقَهَّارِ. [10]

 كُلٌّ إِلَيْنَا رَ ' جِعُونَ. [11]

 هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. [12]

 يُعَذِّبُ مَن‌ يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن‌ يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ. [13]

 وفي‌ هذا المقام‌ ينتفي‌ التعيّن‌ والتشخّص‌، إذ ليس‌ من‌ شي‌ء إلاّ الله‌ تعالي‌.

 المقدّمة‌ الرابعة‌: ثمّ يعقب‌ عالَم‌ الموت‌ والفناء المحض‌ في‌ ذات‌ الحضرة‌ الاحديّة‌ سبحانه‌ وتعالي‌ عالم‌ الوجود والحياة‌ والبقاء بعد الفناء، وهو عالم‌ يُعبّر عنه‌ بعالم‌ البَقَاءِ بِاللَهِ سبحانه‌.

 وفي‌ هذا العالم‌ تنزل‌ النفس‌ الناطقة‌ من‌ عالم‌ اللاهوت‌ إلی عالم‌ الجبروت‌، وتجد بالله‌ تعالي‌ كلّ ما امتلكته‌ سابقاً من‌ عقائد ومَلَكات‌ ونوايا وصفات‌ أعمال‌؛ تجده‌ في‌ نفسها وتدركه‌ بالوجدان‌، وتحسّ به‌ شهوداً وعياناً ملازماً لها وملاصقاً، بل‌ إنّها تشاهده‌ بأجمعه‌ من‌ شؤونها وتجلّياتها.

 سوف‌ يجد المؤمن‌ إيمانه‌، ويقترن‌ المحسن‌ بإحسانه‌؛ وكذلك‌ فسوف‌ يجد الكافر كفره‌، ويجد المسي‌ء إساءته‌ ممسكة‌ بتلابيبه‌.

 وكلٌّ منهم‌ سيخلّد مع‌ أعماله‌، لانّ تلك‌ الاعمال‌ أضحت‌ جزءاً منه‌، ولان‌ تغيّر الشخصيّة‌ والهويّة‌ والماهيّة‌ محال‌ وغير معقول‌ في‌ هذا المقام‌.

 لقد كانت‌ أعمال‌ المرء عبارة‌ عن‌ آثاره‌ المتولّدة‌ من‌ نفسه‌ وظهوره‌ وتجلّيه‌ ومعلوله‌ وما نشأ منه‌، ولذا ستكون‌ قرينه‌ الذي‌ لا ينفكّ عنه‌ أبداً، وهو ما يدعي‌ بالخلود.

 خَـ'لِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَـ'وَ ' تُ وَالاْرْضُ.

 فليس‌ الفناء في‌ ذات‌ الله‌ هنا، وليس‌ هذا العالم‌ عالَم‌ الفناء، ولانّ ذات‌ الله‌ سبحانه‌ غير محدودة‌ ولا متعيّنة‌ ببقاء السماوات‌ والارض‌، بل‌ هذا العالم‌ هو عالم‌ البقاء، المشتمل‌ للسماوات‌ والارض‌، والإيمان‌ والكفر، والضحك‌ والبكاء، والإحسان‌ والعدوان‌، والخير والشرّ.

 وستوجد جميع‌ الكثرات‌ في‌ هذا العالم‌ دون‌ زيادة‌ أو نقصان‌ قيد شعرة‌، لا نّها ستوجد بِاللَهِ تَعَالَي‌؛ أي‌ لايمكن‌ للنفس‌ الناطقة‌ أبداً أن‌ تشاهد نفسها في‌ حجاب‌ الغفلة‌ والوهم‌، أو أن‌ تلحظ‌ ذاتها محجوبة‌ عن‌ الحقّ عزّ وجلّ، بل‌ إنّها ثابتة‌ دائماً بجميع‌ جوانب‌ هويّتها الوجوديّة‌ وشخصيّتها وآثارها وأعمالها مع‌ شهود ولقاء حضرة‌ كبريائه‌ تعالي‌.

 ولو نُقل‌ شخص‌ ما إثر التوبة‌ أو الشفاعة‌ وأمثالهما إلی درجة‌ أعلی‌، فإنّ نفس‌ هذه‌ التوبة‌ أو الشفاعة‌ ستكون‌ مشهودة‌ أيضاً في‌ صورتها الملكوتيّة‌، وستظهر كستار يغطّي‌ الافعال‌ القبيحة‌ السابقة‌ أو يمحوها؛ ولذلك‌ فإنّ الخُلُودَ هو حقيقة‌ لايمكن‌ إنكارها أبداً.

 ويتبيّن‌ من‌ خلال‌ هذه‌ المقدّمات‌ أنّ الخلود هو أمر قهري‌ّ وتحقّق‌ عيني‌ّ، وأنّ ما ورد في‌ هذا الشأن‌ في‌ الآيات‌ المباركة‌ والروايات‌ قد كان‌ بياناً لهذه‌ الحقيقة‌.

 ونذكر مثالاً لإيضاح‌ هذا المعني‌: افرضوا أنّ هناك‌ عدّة‌ أشخاص‌ يمتهن‌ أحدهم‌ الخطّ ويمتهن‌ الثاني‌ الرسم‌، والثالث‌ النجارة‌، بينما يمتهن‌ الرابع‌ الحدادة‌؛ وهم‌ أحياء ويمتلكون‌ مَلَكات‌ الخطّ والرسم‌ والنجارة‌ والحدادة‌. وهنا، فاختلافهم‌ في‌ مَلَكات‌ هذه‌ الصناعات‌ أمر لاشكّ فيه‌.

 وافرضوا الآن‌ أنّ هؤلاء الاشخاص‌ الاربعة‌ قد تعرّضوا إلی حالة‌ إغماء أو تخدير، سواء عن‌ طريق‌ تناول‌ دواء مخدّر أو عن‌ طريق‌ تعرّض‌ القلب‌ لصدمة‌ ما، فسقطوا علی‌ الارض‌ فاقدي‌ الوعي‌.

 وحينها سـتجدون‌ أنّ ليـس‌ في‌ هؤلاء الاشـخاص‌ خطّاط‌ ولارسّـام‌ ولانجّار ولاحدّاد، وأنّ أيّاً منهم‌ لا يمتلك‌ الملكة‌ التي‌ سبق‌ له‌ امتلاكها، وأ نّهم‌ سيكونون‌ مغمورين‌ في‌ عالم‌ من‌ الفناء والعدم‌.

 وافرضوا ثالثاً أنّ هؤلاء الاشخاص‌ قد أفاقوا من‌ جديد، فستجدون‌ ملكاتهم‌ قد عادت‌ إليهم‌، فيصبح‌ للنجّار مَلَكة‌ النجارة‌، وللخطّاط‌ ملكة‌ الخطّ، وسـيعود كلّ منهم‌ إلی حالته‌ السـابقة‌، فلا يصبح‌ النجّار حداداً ولاالحداد نجّاراً، وكذا الحال‌ بالنسبة‌ للخطّاط‌ والرسام‌. نعم‌ سيرجع‌ كلّ منهم‌ إلی موضعه‌ السابق‌، ويزاول‌ خصوص‌ نوع‌ الفنّ الذي‌ اختصّ فيه‌ من‌ قبل‌. فخطّاط‌ خطّ الثُّلث‌ ـعلی‌ سبيل‌ المثال‌ـ لن‌يصبح‌ خطّاطاً لخطّ النستعلیق‌، كما أنّ الحدّاد لن‌ يتحوّل‌ إلی لحّام‌، وهكذا. وهذه‌ الحال‌ هي‌ حال‌ الوجود والبقاء الحاصل‌ بعد الفناء عموماً.

 ويمكنكم‌ ـ علی‌ أساس‌ هذه‌ المثال‌ ـ أن‌ تدركوا مثال‌ الفَنَاءِ فِي‌ اللَهِ و البَقَاءِ بِاللَهِ، فتعلموا أنّ عالم‌ الفناء هو عالم‌ ليس‌ فيه‌ من‌ شي‌ء سوي‌ الذات‌ الاحديّة‌، وهو عالم‌ لايمكن‌ لاحدٍ فيه‌ أن‌ يدّعي‌ الوجود وينفخ‌ في‌ بوق‌ الانا.

 أمّا في‌ عالم‌ البقاء، فإنّ جميع‌ الموجودات‌ تعود إلی مواضعها، فتخلّد في‌ ملكاتها وصفاتها وسيرتها.

 وقد أوردنا هذه‌ المقدّمات‌ بشكل‌ وافٍ في‌ بحث‌ المعاد الجسماني‌ّ مدعمة‌ ببعض‌ المقدّمات‌ الاُخري‌ ( انظر المجلس‌ 39، الجزء السادس‌ ) وعلمنا من‌ خلالها أن‌ العدم‌ سوف‌ لن‌ يصيب‌ أيّ موجود، لانّ الوجود مغاير في‌ ذاته‌ للعدم‌ والفناء. وأنّ التغيّر في‌ أوصاف‌ الموجود وأطواره‌ لايستوجب‌ فناء ذلك‌ الموجود في‌ ظرف‌ ذلك‌ الموجود ومع‌ تعيّناته‌ وتشخّصه‌. ومن‌ هنا، فما يوجد في‌ عالم‌ الوجود، ولو بقدر ذرّة‌ واحدة‌ وللحظة‌ واحدة‌، سوف‌ يستحيل‌ فناؤه‌ وبطلانه‌ في‌ تلك‌ اللحظة‌.

 نعم‌، يمكن‌ أن‌ تفني‌ تلك‌ الذرّة‌ في‌ لحظة‌ أُخري‌، إلاّ أنّ ذلك‌ الفناء سوف‌ لن‌يكون‌ فناء لحقيقة‌ تلك‌ الذرّة‌ في‌ الزمان‌ الاوّل‌. ومن‌ ثمّ فإنّ العمل‌ الحسن‌ أو السيّي‌ الذي‌ يفعله‌ الإنسان‌ سيبقي‌ ثابتاً في‌ عالم‌ الدهر وظرف‌ التكوين‌، ممتنعاً عن‌ الفناء والزوال‌.

 ولذلك‌، فكلّ عمل‌ يقوم‌ به‌ الإنسان‌ سيخلّد فيه‌، لا نّه‌ عمله‌ وقرينه‌ الذي‌ لايفني‌. وكلّ ما في‌ الامر أنّ ذلك‌ العمل‌ سيختفي‌ عن‌ أنظاره‌ خلال‌ الحركة‌ والتدرّج‌، علی‌ الرغم‌ من‌ بقائه‌ ثابتاً في‌ ظرف‌ الدهر وبعد فناء الإنسان‌ في‌ ذات‌ الله‌ تعالي‌، ذلك‌ الفناء الذي‌ يمثّل‌ غاية‌ سير الإنسان‌.

 وَأَنَّ إِلَي‌' رَبِّكَ الْمُنْتَهَي‌'. [14]

 وحين‌ يحصل‌ البقاء، ويعود الإنسان‌ من‌ الفناء إلی الوجود، فإنّه‌ سيشاهد تلك‌ الاعمال‌ في‌ صورها الملكوتيّة‌ الحقيقيّة‌. وستبقي‌ تلك‌ الاعمال‌ أبداً في‌ تلك‌ الصور الملكوتيّة‌، لانّ عالم‌ البقاء هو عالم‌ لا فناء فيه‌، ويبقي‌ الموجود فيه‌ موجوداً إلی الابد. وستتجلّي‌ الاعمال‌ في‌ صورها الملكوتيّة‌ الخاصّة‌ بالجنّة‌ أو النار، وستكون‌ قرينة‌ الإنسان‌ ورفيقه‌ الدائمي‌ّ، وستكون‌ ممتنعة‌ علی‌ التغيّر والتبدّل‌، ممتنعة‌ من‌ أن‌ يطرأ علیها ضعف‌ أو فتور، أو موت‌ أو فناء، لانّ الحياة‌ في‌ ذلك‌ العالم‌ دائميّة‌ أبديّة‌.

 وقد اتّضح‌ بما قيل‌ أنّ جميع‌ الإشكالات‌ التي‌ أوردها البعض‌ علی‌ أمر الخلود باطلة‌ بأجمعها بلا استثناء.

 وقد مرّ في‌ المجلس‌ السبعين‌ من‌ هذا الجزء كيف‌ أنّ النظام‌ المعتزلي‌ّ عدّ الخلود منافياً لبقاء الله‌ تعالي‌ في‌ مباحثته‌ مع‌ هشام‌ بن‌ الحكم‌، إذ قال‌ النظام‌: إنّ أهل‌ الجنّة‌ لا يبقون‌ في‌ الجنّة‌ بقاء الابد، فيكون‌ بقاؤهم‌ كبقاء الله‌، ومحال‌ أن‌ يبقوا كذلك‌.

 فردّ علیه‌ هشام‌ قائلاً: إنّ أهل‌ الجنّة‌ يبقون‌ بِمُبْقٍ لهم‌، والله‌ يبقي‌ بلامُبْقٍ؛[15] أي‌ أنّ بقاء الله‌ تعالي‌ ذاتي‌ّ، وبقاء الموجودات‌ بالله‌ تعالي‌. أي‌ أنّ بقاءه‌ تعالي‌ واجب‌، وبقاء الممكنات‌ ممكن‌، وهذا هو أكبر فرق‌، بل‌ الفرق‌ الاساسي‌ّ بين‌ ذات‌ واجب‌ الوجود وسائر الموجودات‌. وشاهدنا هو كيفيّة‌ ردّ هشام‌ علی‌ النظام‌ بمثال‌ بديع‌ فأبطل‌ إشكاله‌ وبرهن‌ له‌ علی‌ أمر الخلود.

 ومن‌ جملة‌ الإشكالات‌ التي‌ وردت‌ علی‌ أمر الخلود: أنّ الإنسان‌ يعمّر عادة‌ فيعيش‌ مائة‌ سنة‌ أو أكثر بقليل‌؛ ولو فُرض‌ أنّ شخصاً قضي‌ جميع‌ عمره‌ في‌ الكفر والشرك‌ والظلم‌ والفسق‌ والفجور، ثمّ مات‌، فبأي‌ّ علّة‌ سيُعذّب‌ إلی الابد؟ وهذا المقدار من‌ الزمان‌ الذي‌ يُدعي‌ عمراً إذا قيس‌ مع‌ طول‌ الدهر، فسيكون‌ كالذّرة‌ مقابل‌ الشمس‌، أو كالقطرة‌ مقابل‌ البحار والمحيطات‌. لذا، فسيكون‌ من‌ الظلم‌ إنزال‌ هذا العقاب‌ العظيم‌ علی‌ جناية‌ وخيانة‌ استغرقت‌ عمراً واحداً، فضلاً عن‌ الجناية‌ التي‌ لا تستغرق‌ العمر كلّه‌، أو عن‌ الكفر أو الشرك‌ أو الزندقة‌ أو الظلم‌ التي‌ قد تبدر من‌ المرء في‌ أواخر عمره‌، ثمّ يموت‌ ويرتحل‌ عن‌ الدنيا وهو علی‌ شركه‌ وظلمه‌.

 الرجوع الي الفهرس

الإجابة‌ علی‌ الإشكالات‌ الواردة‌ علی‌ أمر الخلود

 والإجابة‌ علی‌ ذلك‌: أوّلاً: علی‌ الرغم‌ من‌ كون‌ مدّة‌ عمر الإنسان‌ قصيرة‌، إلاّ أنّ الله‌ تعالي‌ سيُطلع‌ الإنسان‌ في‌ عالم‌ البقاء علی‌ الحقيقة‌ الملكوتيّة‌ لاعماله‌ بذات‌ قدر عمر الإنسان‌.

 وليست‌ الابديّة‌ هنا بمعني‌ امتداد الزمان‌ الموجود في‌ عرض‌ هذا العالم‌، بل‌ هي‌ في‌ طول‌ هذا العالم‌ وفي‌ باطن‌ النشأة‌. وهي‌ عوالم‌ متداخلة‌ وليست‌ في‌ عرض‌ بعضها، كحبّات‌ المسبحة‌ المنتظمة‌ في‌ سلسلة‌ واحدة‌. ولذلك‌، فسيجد الإنسان‌ أمامه‌ نفس‌ الاعمال‌ التي‌ فعلها خلال‌ مدّة‌ عمره‌ محضرة‌، وكلّ ما في‌ الامر أنّ تلك‌ الاعمال‌ تبدو في‌ هذه‌ العالم‌ بلباس‌ الفناء والانقراض‌ من‌ خلال‌ دوران‌ الزمان‌ وحركته‌، أمّا في‌ ذلك‌ العالم‌ سيواجه‌ الإنسان‌ هذا المقدار علی‌ نحو الثبات‌ والاستقرار أبداً. أي‌ أنّ ذلك‌ العالم‌ هو فوق‌ الزمان‌ والزمانيّات‌، وهو عالم‌ الثابتات‌.

 وعلی‌ هذا فإنّ الله‌ سبحانه‌ عدل‌ حكيم‌ لا يظلم‌ مثقال‌ ذرّة‌، ولايجزي‌ الإنسان‌ علی‌ أكثر من‌ أعماله‌ وصفاته‌ وأخلاقه‌. وهذا هو العدل‌ بعينه‌، لا نّه‌ عين‌ التحقّق‌ الخارجي‌ّ بدون‌ التصرّفات‌ الخارجيّة‌.

 ذَ ' لِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ( يا من‌ تذوقون‌ عذاب‌ الحريق‌ ) وَأَنَّ اللَهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لّـِلْعَبِيدِ. [16]

 ذَ ' لِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( أيّها المجادل‌ في‌ الله‌ ) وَأَنَّ اللَهَ لَيْسَ بِظَلَّـ'مٍ لِّلْعَبِيدِ. [17]

 مَنْ عَمِلَ صَـ'لِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعلیهَا وَمَا رَبُّكَ ( أيّها النبي‌ّ ) بِظَلَّـ'مٍ لّـِلْعَبِيدِ. [18]

 وثانياً: أنّ عالم‌ الآخرة‌ هو عالم‌ الحقيقة‌؛ ويحاسب‌ العباد علی‌ أساس‌ عقائدهم‌ ونواياهم‌. فمن‌ ترسّخت‌ نيّته‌ علی‌ السوء والشرّ، لاحبّ أن‌ يقضي‌ عمره‌ في‌ الاعتداء والظلم‌ والشرك‌ والغفلة‌ وإن‌ خُلِّد في‌ الدنيا. وسيُجزي‌ مثل‌ هذا الشخص‌ جزاء أبديّاً علی‌ أساس‌ هذه‌ السريرة‌ والطويّة‌ الخبيثة‌. وسيكون‌ جزاؤه‌ مماثلاً لرغبته‌ الباطنيّة‌ وشاكلته‌ وسريرته‌.

 علماً أنّ كثيراً من‌ الإشكالات‌ الواردة‌ علی‌ أمر الخلود راجعة‌ إلی أمر الخلود في‌ النار لا غير، لا إلی الخلود في‌ الجنّة‌. ولذا، لابدّ من‌ ذكر بحث‌ أمر الخلود في‌ الجنّة‌ منفصلاً عن‌ بحث‌ أمر الخلود في‌ النار. علی‌ الرغم‌ من‌ كون‌ إجاباتنا علی‌ هذه‌ الإشكالات‌ عامّة‌ وشاملة‌ لكلا الخلودين‌.

 ومن‌ جملة‌ الإشكالات‌ علی‌ أمر الخلود: أنّ جهنّم‌ قد وجدت‌ لتطهير العصاة‌ وتزكيتهم‌. لذا، ينبغي‌ أن‌ يخرج‌ أولئك‌ العصاة‌ منها بعد انتهاء مرحلة‌ تطهيرهم‌، لانّ الله‌ تبارك‌ وتعالي‌ لا يعذّب‌ عباده‌ انتقاماً، بل‌ يعذّبهم‌ علی‌ أساس‌ مجرّد تكميل‌ نفوسهم‌ ورفع‌ الغلّ والغش‌ من‌ بواطنهم‌، وهو ممّا يتحقّق‌ بالعقوبات‌ الحاصلة‌ يوم‌ القيامة‌.

 والإجابة‌ علی‌ ذلك‌: أنّ كثيراً من‌ الابتلاءات‌ التي‌ يتعرّض‌ لها المؤمنون‌ في‌ الدنيا إنّما تحصل‌ لتطهيرهم‌ وتزكيتهم‌. وهو ما تدلّ علیه‌ بعض‌ الآيات‌ القرآنيّة‌. [19] أمّا عذاب‌ القيامة‌، فبأيّ دليل‌ يمكننا أن‌ نقول‌ بأنّه‌ قد وجد للتطهير والتزكية‌؟

 أجل‌، إنّ بعض‌ المشاقّ والصعوبات‌ التي‌ تعترض‌ الإنسان‌ في‌ عالم‌ البرزخ‌، وعند قيامه‌ ومثوله‌ أمام‌ ساحة‌ الله‌ تعالي‌ عند الحشر، وطول‌ مدّة‌ زمن‌ الحساب‌، إنّما تكون‌ لتخطّي‌ هذه‌ المراحل‌ وصولاً إلی الجنّة‌. أمّا نفس‌ ورود جهنّم‌ والخلود فيها، فلا يمكن‌ عدّه‌ ـبأي‌ّ دليل‌ كان‌ـ علّة‌ للتطهير والتزكية‌.

 كما أنّ جهنّم‌ ـ كما سبق‌ أن‌ ذكرنا ـ هي‌ طلوع‌ حقيقة‌ أعمال‌ الإنسان‌ وتجلّيها في‌ صورها الملكوتيّة‌، بحيث‌ يتلازم‌ كلّ امري‌ مع‌ أعماله‌ تلازم‌ الاثر مع‌ المؤثّر، لان‌ سيرة‌ الإنسان‌ هي‌ أثره‌ الذي‌ يخلّفه‌.

 ومن‌ جملة‌ الإشكالات‌ علی‌ أمر الخلود: أنّ الجنّة‌ والنار هما معبران‌ إلی المنزل‌ والمقرّ. فالجنّة‌ معبر المطيع‌ السائر في‌ الصراط‌ المستقيم‌، والمخلّد فيها في‌ مرحلة‌ تعيّن‌ مَلَكات‌ الخير. أمّا جهنّم‌ فهي‌ معبر العاصي‌ في‌ الصراط‌ المعوج‌ للإفراط‌ أو التفريط‌، والمخلّد فيها في‌ مرحلة‌ تعيّن‌ مَلَكات‌ الشرّ. والخلود في‌ الجنّة‌ والنار محدود ببقاء السماوات‌ والارض‌، إلاّ أن‌ يخرج‌ المرء من‌ مقتضيات‌ تلك‌ الآثار، والمقرّ والمقصد منحصر فِي‌ مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ. [20]

 ولو تقرّر أن‌ تكون‌ جهنّم‌ منزلاً، لكان‌ عالم‌ الخلق‌ الذي‌ يمثل‌ الخالق‌ ذي‌الجلال‌ والعظمة‌ القادر العالِم‌ العادل‌ الحكيم‌، عالماً في‌ أدني‌ درجات‌ الضعة‌ والحقارة‌، وعالماً ضئيل‌ الفائدة‌ وتسوده‌ الفوضي‌، لا نّنا ندرك‌ بافتقار أغلب‌ الناس‌ إلی العلم‌ والبصيرة‌، وأنّ بعضهم‌ ممّن‌ يعلمون‌ بعض‌ العلم‌ يفعلون‌ ما لاينبغي‌ فعله‌، ويتركون‌ ما لا ينبغي‌ تركه‌، إلاّ القليل‌ منهم‌، كما في‌ قوله‌ تعالي‌: وَقَلِيلٌ مِّن‌ عِبَادِيَ الشَّكُورُ. [21]

 فتقرّر أن‌ يكون‌ أكثر سكّان‌ العالم‌ مخلّدين‌ في‌ عذاب‌ جهنّم‌. وقد شاهدنا قبل‌ قليل‌ أنّ كلّ مصنوع‌ هو ممثّل‌ لآثار صانعه‌. فيحصل‌ أنّ هذا المصنوع‌ الفاسد المخلَّد في‌ جهنّم‌ إلی الابد بالمعني‌ الذي‌ يقال‌: مادام‌ الله‌ حاكماً مريداً؛ بحيث‌ يتعذّر إصلاح‌ العبد ونجاته‌ وخلاصه‌، سيكون‌ والعياذ بالله‌ ممثلاً لظلم‌ الصانع‌ أو عجزه‌ أو جهله‌ أو عبثه‌: وَقَدْ تَعَالَي‌ اللَهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوَّاً كَبِيراً.

 فيكون‌ الخلود في‌ النار ـ كما قلنا ـ هو الخلود في‌ مرحلة‌ المَلَكات‌، وموافقاً لآثار تلك‌ التعيّنات‌.[22]

 وترد عدّة‌ أشكالات‌ علی‌ هذا المقولة‌ التي‌ اختلط‌ فيها علی‌ قائلها بعض‌ الاُمور:

 أوّلاً: أنّ أعمال‌ المؤمنين‌ الحسنة‌ هي‌ صراط‌ ومعبر يعبرونه‌ للوصول‌ إلی مقام‌ جمال‌ الحضرة‌ الاحديّة‌ ولقائه‌، وصراط‌ مستقيم‌ يوصلهم‌ لمقام‌ الفناء في‌ ذاته‌ الازليّة‌؛ وأنّ أعمال‌ الكافرين‌ القبيحة‌ هي‌ صراط‌ ومعبر ينتهي‌ بهم‌ إلی مقام‌ جلال‌ كبريائه‌، وصراط‌ معوج‌ للإفراط‌ والتفريط‌ ينتهي‌ إلی مقام‌ الفناء في‌ كبريائيّة‌ الحقّ سبحانه‌ وتعالي‌ وقهّاريّته‌. ثمّ يصل‌ الامر ـبعد حصول‌ الفناء المحض‌ بواسطة‌ الاعمال‌ الصالحة‌ أو الطالحة‌ـ إلی الجنّة‌ والنار اللتين‌ تحصل‌ فيهما حياة‌ ما بعد الموت‌ وحياة‌ عالم‌ البقاء. ولذا، فلن‌تكون‌ الجنّة‌ معبراً للمطيعين‌ أبداً، كما أنّ النار لن‌ تكون‌ معبراً للعاصين‌ أبداً.

 كما أنّ الجنّة‌ والنار هما تجسّم‌ الاعمال‌ الحسنة‌ والقبيحة‌، تلك‌ الاعمال‌ التي‌ كانت‌ معبراً في‌ عالم‌ الدنيا. إلاّ أنّ ذلك‌ التجسّم‌ الملكوتي‌ّ لمّا حصل‌ في‌ عالم‌ البقاء بعد مرحلة‌ الفناء والوصول‌، فإنّه‌ لن‌يدعي‌ معبراً حينذاك‌، لانّ المعبر يعني‌ المرحلة‌ الواقعة‌ في‌ طريق‌ الوصول‌، ولايعني‌ مرحلة‌ ما بعد الوصول‌. وينبغي‌ لذلك‌ أن‌ يكون‌ أيّاً من‌ الجنّة‌ والنار منزلاً ومقرّاً أساسيّاً.

 وثانياً: أنّ قول‌ القرآن‌ الكريم‌ فِي‌ مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ متعلّق‌ بمقرّ المتّقين‌ ومقصدهم‌ دون‌ غيرهم‌. فقد سبق‌ هذه‌ الآية‌ قوله‌ تعالي‌: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي‌ جَنَّـ'تٍ وَنَهَرٍ.

 فهذا المقرّ والمقصد لا يشمل‌ جميع‌ الفرق‌ والطوائف‌ علی‌ هذا النحو؛ إذ يستقرّ البعض‌ كالنفس‌ المطمئنة‌ في‌ عباد الله‌ وفي‌ جنّته‌ الخاصّة‌، ويستقرّ بعض‌ آخر كالمقرّبين‌ في‌ جنّات‌ النعيم‌، ويستقرّ آخرون‌ عند رؤوف‌ رحيم‌. وتستقرّ طائفة‌ رابعة‌ عند سلام‌ مؤمن‌. وخلاصة‌ الامر هي‌ أنّ كلّ طائفة‌ من‌ أصحاب‌ الجنّة‌ ستكون‌ مشمولة‌ باسم‌ معيّن‌.

 أمّا أصحاب‌ النار، فيقحمون‌ تحت‌ أسماء: القهّار و الجبّار و ذوالكبرياء و شديد العقاب‌ و خير الماكرين‌ و المنتقم‌ و شديد البطش‌ وغيرها، كلّ طائفة‌ منهم‌ تحت‌ اسم‌ معيّن‌.

 وثالثاً: أنّ موجودات‌ هذا العالم‌ الضعيفة‌ الحقيرة‌ من‌ المذنبين‌ والاشرار قد خُلقت‌ بأجمعها عن‌ حكمة‌ بالغة‌ ومصلحة‌ تامّة‌؛ وإلاّ كان‌ أساس‌ خلقهم‌ خطأً! وكما نعلم‌ فإنّ دائرة‌ التكوين‌ وعالم‌ الخلق‌ لايعتريهما خطأ ولاسهو، ولهذا فما يبدو في‌ نظرنا سيّئاً، إنّما هو سيّي‌ في‌ نظرنا نحن‌، لافي‌ أساس‌ التكوين‌ والمصلحة‌ العامّة‌ لعالم‌ الخلقة‌.

 پير ما گفت‌ خطا بر قلم‌ صُنع‌ نرفت‌               آفرين‌ بر نظر پاك‌ خطا پوشش‌ باد [23]

 إنّ جميع‌ هؤلاء العصاة‌ والجهلة‌ وضَعَفة‌ العقول‌ مظهراً لجلال‌ الحقّ سبحانه‌ وتعالي‌ وظهوره‌ وتجلّيه‌: وَلِلَّهِ الاْسْمَآءُ الْحُسْنَي‌'، [24] لافرق‌ في‌ هذا المقام‌ بين‌ الشمس‌ الساطعة‌ علی‌ العالم‌ وبين‌ ذرّة‌ بلا مقدار؛ ولافرق‌ فيه‌ بين‌ المحيطات‌ اللامتناهية‌ وبين‌ قطرة‌ واحدة‌؛ ولا بين‌ العالم‌ والجاهل‌؛ ولابين‌ السعيد والشقي‌ّ؛ ولا بين‌ مَن‌ في‌ الجنّة‌ ومَن‌ في‌ النار؛ فهم‌ جميعاً مخلوقاته‌ وتحت‌ إرادته‌ القاهرة‌. فأنّي‌ يعاب‌ علی‌ دائرة‌ الخلقة‌ من‌ هذه‌ الجهة‌؟

 لكلّ فرد من‌ الافراد سلوك‌ في‌ طريقه‌ الخاصّ، وله‌ سير يسيره‌ وصولاً إلی فنائه‌ تحت‌ اسم‌ خاصّ من‌ الاسماء الجماليّة‌ أو الجلاليّة‌ للحقّ سبحانه‌ وتعالي‌، وإلي‌ بقائه‌ ـ من‌ ثمّ ـ في‌ كينونة‌ هويّته‌. حيث‌ إنّ هذا العالم‌ الملي‌ء بالعظمة‌ والجلال‌ بما فيها من‌ أصحاب‌ الجنّة‌ وأصحاب‌ النار، ومن‌ الجنّة‌ والنار، قائم‌ في‌ أُبّهة‌ عجيبة‌ وثبات‌ متين‌. ثمّ إنّ الجنّة‌ والنار، وأصحاب‌ الجنّة‌ وأصحاب‌ النار، يمثلون‌ قبسين‌ من‌ ذات‌ الحقّ تعالي‌؛ قبسي‌ الجمال‌ والجلال‌.

 أنوار جمال‌ تست‌ در ديدة‌ هر مؤمن‌              آثار جلال‌ تست‌ در سينة‌ هر كافر [25]

 بَيد أنّ قبس‌ الجمال‌ هو الاصل‌ والاساس‌، أمّا قبس‌ الجلال‌، فباطل‌. ليس‌ ذلك‌ فحسب‌، بل‌ إنّ الله‌ تعالي‌ له‌ أسماء أُخري‌ غير اسمَي‌ المليك‌ والمقتدر، وقد ملات‌ العالم‌ من‌ جانب‌ الرحمة‌ والرحمانيّة‌ والرحيميّة‌، ومن‌ جانب‌ الجبروتيّة‌ والقهّاريّة‌؛ وكلّها أسماء حسني‌.

 فلماذا ـ إذاً ـ نعدُّ جهنّم‌ نقص‌ هذا العالم‌؟

 وبأي‌ّ علّةٍ نعدُّ أصحاب‌ النار نقصاناً في‌ بناء الوجود الشامخ‌؟

 وبأي‌ّ سبب‌ نحصر سير الموجودات‌ تحت‌ اسم‌ الرحمة‌ والرحيميّة‌؟

 ألا يمثّل‌ هذا الحصر بذاته‌ نسبة‌ للعيب‌ والنقصان‌؟

 وإضافة‌ إلی ذلك‌، إن‌ كان‌ المصنوع‌ ( وهو ممثّل‌ الصانع‌ وأُنموذجه‌ ) فاسداً ناقصاً، فلا فرق‌ حينئذٍ بين‌ خلوده‌ وعدم‌ خلوده‌.

 لا يمكن‌ للموجود الفاسد الناقص‌ أن‌ يكون‌ أثراً ليد الصانع‌ الحكيم‌ ولو للحظة‌ واحدة‌. فكيف‌ يمكن‌ القبول‌ بإمكان‌ وجود مصنوع‌ فاسد في‌ هذا العالم‌ بعنوان‌ فساد ونقص‌، وبإمكان‌ وجود ذلك‌ المصنوع‌ الفاسد في‌ الآخرة‌ أيضاً أيّاماً معدودات‌، ثمّ نقول‌ بأنّ خلوده‌ ودوامه‌ غير معقولينِ؟!

 ورابعاً: أنّ عنوان‌ قولهم‌ « مادام‌ الله‌ حاكماً » هو قول‌ منتزع‌ من‌ الابديّة‌، لانّ الابديّة‌ من‌ صفاته‌ سبحانه‌ وتعالي‌. وبلحاظ‌ ورود عنوان‌ الخلود المؤبّد في‌ القرآن‌ الكريم‌ بلفظ‌: خَـ'لِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، فيمكن‌ استفادة‌ أبديّة‌ الخلود بهذا المعني‌؛ كلّ ما في‌ الامر أنّ أبديّة‌ الله‌ قائمة‌ بذاته‌، وأبديّة‌ خلود أصحاب‌ الجنّة‌ وأصحاب‌ النار قائمة‌ بأبديّته‌ عزّ وجلّ. [26]

 الرجوع الي الفهرس

الآخرة‌ هي‌ منزل‌ الثبوت‌؛ وهي‌ لذلك‌ منزل‌ الخلود

 أجل‌، فأفضل‌ دليل‌ عقلي‌ّ علی‌ خلود أصحاب‌ الجنّة‌ والنار هو ما أورده‌ هشام‌بن‌ الحكم‌، ومحصّله‌ أ نّه‌ لمّا كانت‌ الآخرة‌ دار التجرّد ومحلّ الفعلیة‌ التامّة‌، فهي‌ إذاً دار الخلود والدوام‌، لانّ أيّ ثابت‌ ومستقرّ فهو خالددائم‌، ولانّ التغيّر ينافي‌ الثبوت‌ والاستقرار؛ وبما أنّ عدم‌الخلود يستلزم‌ التغيّر والتبدّل‌، فهو ممّا يتنافي‌ في‌ الآخرة‌ مع‌ فرض‌ التجرّد والعقليّة‌ التامّة‌.

 وإذا لم‌ يكن‌ أصحاب‌ الجنّة‌ مخلّدين‌ فيها، فما الذي‌ سيصيبهم‌ إذاً؟ ينبغي‌ إذاً أن‌ يُبتلوا بالضعف‌ والفتور والنقصان‌، وذلك‌ مخالف‌ للتجرّد، لانّ النشأة‌ الآخرة‌ ليست‌ عالم‌ الطبع‌ والطبيعة‌ والكون‌ والفساد ولا نّها عالم‌ لايعتريه‌ النقصان‌. أو ينبغي‌ أن‌ يُبتلوا بالموت‌ فيفنون‌ في‌ ذات‌ الله‌ تعالي‌ ويطوون‌ مراحل‌ الفناء. وهذا بدوره‌ خطأ بالفرض‌، لا نّهم‌ قد فنوا من‌ قبل‌ واكتنفتهم‌ الجذبات‌ الجلاليّة‌، ثمّ إنّهم‌ بلغوا مرحلة‌ البقاء بعد الفناء، فانشغلوا بالجذبات‌ الجماليّة‌ وبالسير في‌ آثار النشآت‌ والتفرّج‌ علیها.

 ولو لم‌ يكن‌ أصحاب‌ النار مخلّدين‌ فيها، فماذا سيصيبهم‌ إذاً؟ فلابد لهم‌ أن‌ يحصلوا علی‌ قدرة‌ وقوّة‌ يخرجون‌ بهما من‌ النار، وهذا خلاف‌ التجرّد وخلاف‌ فرض‌ بقائهم‌ في‌ تعيّنات‌ آثارهم‌. أو ينبغي‌ أن‌ يموتوا ويفنوا، وهذا أيضاً خلاف‌ الفرض‌، لانهم‌ سبق‌ أن‌ ماتوا وفنوا في‌ الله‌ وفي‌ الجذبات‌ القهّاريّة‌ والكبريائيّة‌ للحقّ تعالي‌، ثمّ عادوا فاكتسبوا حياة‌ وتعيّناً وابتلوا بآثارهم‌ وصفاتهم‌ وأخلاقهم‌ في‌ صورها الملكوتيّة‌ الناريّة‌ الجهنّميّة‌.

 أجل‌، هناك‌ طائفة‌ تخرج‌ من‌ نار جهنّم‌، وهي‌ طائفة‌ الذين‌ لم‌ يترسّخ‌ الكفر والشرك‌ في‌ أعماقهم‌، بل‌ تلوّثت‌ به‌ ظواهرهم‌ فقط‌. وهذه‌ الظواهر ستحترق‌ بالنار، فتبقي‌ البواطن‌ الطاهرة‌ المتعلّقة‌ بالجنّة‌. ثمّ تخرج‌ هذه‌ الطائفة‌ إلی الجنّة‌ عن‌ طريق‌ الشفاعة‌ وغيرها.

 وينبغي‌ العلم‌ بأنّ ذلك‌ الخروج‌ هو نوع‌ من‌ التجلّي‌ الملكوتي‌ّ والنوعي‌ّ لاعمالهم‌ وصفاتهم‌ ونواياهم‌.

 الرجوع الي الفهرس

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ «عيون‌ أخبار الرضا» ص‌ 213 و 214، الطبعة‌ الحجريّة‌؛ وج‌ 2، ص‌ 10 و 11، الطبعة‌ الحروفيّة‌.

[2] ـ «الخصال‌» للصدوق‌، ج‌ 1، ص‌ 142، باب‌ الخمسة‌، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[3] ـ «الخصال‌» للصدوق‌، ج‌ 1، ص‌ 142، باب‌ الخمسة‌، الطبعة‌ الحجريّة‌.

[4] ـ «عيون‌ أخبار الرضا» ص‌ 241، ب‌ 30، الطبعة‌ الحجريّة‌؛ وج‌ 2، ص‌ 47، الطبعة‌ الحروفيّة‌.

[5] ـ «بحار الانوار» ج‌ 8، ص‌ 311 و 312، عن‌ «تفسير الإمام‌ العسكري‌ّ عليه‌ السلام‌».

[6] ـ الآيات‌ 105 إلي‌ 108، من‌ السورة‌ 11: هود.

[7] ـ الآية‌ 72، من‌ السورة‌ 17: الاءسراء.

[8] ـ الآية‌ 22، من‌ السورة‌ 50: ق‌.

[9] ـ الآيتان‌ 7 و 8، من‌ السورة‌ 99: الزلزلة‌.

[10] ـ الآية‌ 16، من‌ السورة‌ 40: غافر.

[11] ـ الآية‌ 93، من‌ السورة‌ 21: الانبياء.

[12] ـ الآية‌ 56، من‌ السورة‌ 10: يونس‌.

[13] ـ الآية‌ 21، من‌ السورة‌ 29: العنكبوت‌.

[14] ـ الآية‌ 42، من‌ السورة‌ 53: النجم‌.

[15] ـ «رجال‌ الكشّي‌ّ» ص‌ 177، طبعة‌ بمبي‌؛ وج‌ 2، ص‌ 552، مؤسّسة‌ آل‌ البيت‌ عليهم‌ السلام‌.

[16] ـ الآية‌ 182، من‌ السورة‌ 3: آل‌ عمران‌؛ والآية‌ 51، من‌ السورة‌ 8: الانفال‌.

[17] ـ الآية‌ 10، من‌ السورة‌ 22: الحجّ.

[18] ـ الآية‌ 46، من‌ السورة‌ 41: فصّلت‌.

[19] ـ كالآية‌ 214، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن‌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم‌ مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن‌ قَبْلِكُمْ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزِلْزِلُوا حَتَّي‌' يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ و مَتَي‌' نَصْرُ اللَهِ أَلآ إِنَّ نَصْرَ اللَهِ قَرِيبٌ.

[20] ـ الآية‌ 55، من‌ السورة‌ 54: القمر.

[21] ـ الآية‌ 13، من‌ السورة‌ 34: سبأ.

[22] ـ «نهج‌ البصيرة‌ يا نامه‌هاي‌ حائري‌» (= نهج‌ البصيرة‌ أو رسائل‌ الحائري‌ّ) المقالة‌ الرابعة‌، ص‌ 26 و 27. وهي‌ أربع‌ مقالات‌ ورسائل‌ ألّفها العالم‌ الفقيد الشيخ‌ عبدالرحيم‌ صاحب‌ «الفصول‌». وقد جمعت‌ هذه‌ المقالات‌ والرسائل‌ وطبعت‌ من‌ قبل‌ أبوتراب‌ هدائي‌. ومؤلّف‌ الكتاب‌ المحترم‌: المرحوم‌ الشيخ‌ عبدالرحيم‌ الطهراني‌ّ هو نجل‌ المرحوم‌ الشيخ‌ ï ïعبدالحسين‌ نجل‌ المرحوم‌ الشيخ‌ محمّد حسين‌ صاحب‌ «الفصول‌». وقد دُعي‌ بصاحب‌ «الفصول‌» باعتباره‌ نجلاً لذلك‌ المرحوم‌.

[23] ـ «ديوان‌ حافظ‌» ص‌ 75، حرف‌ الدال‌، طبعة‌ پژمان‌.

 يقول‌: «قال‌ مرشدنا إنّ قلم‌ الصنع‌ لم‌ يخطي‌؛ فمرحي‌ للنظر النزيه‌ الذي‌ ينكر العيوب‌».

[24] ـ الآية‌ 180، من‌ السورة‌ 7: الاعراف‌.

[25] ـ «ديوان‌ مغربي‌» ص‌ 71.

 يقول‌: «أنوار جمالك‌ في‌ أعين‌ كلّ مؤمن‌، وآثار جلالك‌ في‌ صدر كلّ كافر».

[26] ـ ومن‌ هنا يمكن‌ الردّ علي‌ أهل‌ الظاهر الذين‌ ملاوا الدنيا صخباً بقولهم‌ بقِدَم‌ هذا العالم‌، وعدّهم‌ ذلك‌ منافياً لقدم‌ الله‌ عزّ وجلّ. فيقال‌ لهم‌: كيف‌ قلتم‌ بأبديّة‌ الزمان‌ وخلود أصحاب‌ الجنّة‌ وأصحاب‌ النار، ثمّ أثرتم‌ الصخبَ حول‌ قِدم‌ الزمان‌؟! أَوَ لست‌ الازليّة‌ والابديّة‌ كلاهما صفة‌ لذات‌ الحقّ المتعال‌؟ فكيف‌ تجيزون‌ الابديّة‌ لغيره‌ وتعدّون‌ الازليّة‌ له‌ محالة‌؟!

 الرجوع الي الفهرس

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com