بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة المعاد / المجلد العاشر / القسم السادس: الامر بین الامرین، سبع طبقات من العلماء فی جهنم، الاعتماد علی الدنیا جهنم

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

ختم‌ القلوب‌ بيد الله‌ تعالي‌

 ولدينا سلسلة‌ من‌ الآيات‌ الكريمة‌ التي‌ تسند الشقاء وعدم‌الإيمان‌ وعدم‌العلم‌، والخيانات‌ والجنايات‌ الصادرة‌ من‌ الكفّار والفسّاق‌ والمنافقين‌ والمتمرّدين‌ عن‌ اختيار، إلی طبع‌ الله‌ علی‌ قلوبهم‌، أو إلی ختمه‌ عزّ وجلّ علی‌ تلك‌ القلوب‌.

 فقد جاء في‌ الآيتين‌6 و7، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَآءٌ علیهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَهُ علی‌' قُلُوبِهِمْ وَعلی‌' سَمْعِهِمْ وَعلی‌'´ أَبْصَـ'رِهِمْ غِشَـ'وَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.

 ويقول‌ في‌ سورة‌ يس‌، في‌ الآيات‌ 5 إلی 10 بعد خطابه‌ للنبي‌ّ بأ نّه‌ من‌ المرسلين‌ علی‌ صراط‌ مستقيم‌، لينذر بهذا القرآن‌ النازل‌ من‌ ربّ عزيز رحيم‌ قوماً قد أنذر آباؤهم‌ من‌ قبل‌:

... فَهُمْ غَـ'فِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ علی‌'´ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي‌´ أَعْنَـ'قِهِمْ أَغْلَـ'لاً فَهِيَ إلی الاْذْقَانِ فَهُم‌ مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن‌ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَـ'هُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ علیهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ.

 ويقول‌ في‌ الآية‌ 16، من‌ السورة‌ 47: محمّد صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ وسلّم‌:

 أُولَـ'ئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَهُ علی‌' قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ.

 ويتحدّث‌ في‌ الآية‌ 155، من‌ السورة‌ 4: النساء عن‌ بني‌ إسرائيل‌ ونقضهم‌ العهود والمواثيق‌ وكفرهم‌ بآيات‌ الله‌ تعالي‌، وقتلهم‌ أنبياءه‌ بغير حقّ، وقولهم‌ بأنّ قلوبهم‌ غلف‌ عن‌ الحقّ والقبول‌ به‌، فيقول‌:

 بَلْ طَبَعَ اللَهُ علیهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً.

 ويتحدّث‌ في‌ الآية‌ 93، من‌ السورة‌ 9: التوبة‌ عن‌ المخالفين‌ والمتمرّدين‌ الذين‌ كانوا يتمرّدون‌ علی‌ أوامر النبيّللمشاركة‌ في‌ الجهاد في‌ سبيل‌ الله‌، مع‌ كونهم‌ قادرين‌ علی‌ الجهاد والقتال‌؛ فقد أحبّوا أن‌ يكونوا مع‌ مَن‌ تخلّف‌ من‌ المنافقين‌، وكانوا يستأذنون‌ رسول‌ الله‌ في‌ القعود عن‌ الجهاد معتذرين‌ بأعذار واهية‌. فيقول‌ تعالي‌:

 رَضُـوا بِأَن‌ يَكُـونُوا مَعَ الْخَـوَالِفِ وَطَبَـعَ اللَهُ علی‌' قُلُوبِهِـمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.

 وجاء في‌ الآية‌ 87، من‌ نفس‌ السورة‌: وَطُبِعَ علی‌' قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ.

 ويتحدّث‌ في‌ الآية‌ 74، من‌ السورة‌ 10: يونس‌ عن‌ قصّة‌ النبي‌ّ يونس‌ علی‌ نبيّنا وآله‌ وعلیه‌ السلام‌ فيذكر أنّ أنبياءً قد أُرسلوا من‌ بعد يونس‌، فجاءوا لاُممهم‌ بالبيّنات‌، فلم‌ تؤمن‌ تلك‌ الاُمم‌ كما كذّبت‌ من‌ قبل‌؛ ثمّ يقول‌: كَذَ' لِكَ نَطْبَعُ علی‌' قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ.

 ويقول‌ في‌ الآية‌ 35، من‌ السورة‌ 40: المؤمن‌:

 كَذَ ' لِكَ يَطْبَعُ اللَهُ علی‌' كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ.

 وقد وردت‌ كذلك‌ آيات‌ أُخري‌ علی‌ هذا السياق‌.

 أمّا عن‌ المنافقين‌، فقد جاء في‌ الآية‌ 3، من‌ السورة‌ 63: المنافقون‌: ذَ ' لِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ علی‌' قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ.

 وأمّا عن‌ الكفّار الذين‌ شرحوا بكفرهم‌ صدراً، فباءوا بغضب‌ من‌ الله‌ تعالي‌، فإنّه‌ يعدّ جميع‌ هذه‌ الجهات‌ مسبّبة‌ عن‌ ترجيحهم‌ للحياة‌ الدنيا علی‌ الحياة‌ الخالدة‌ الاُخري‌ عن‌ اختيار، ثمّ يعتبر أنّ جميع‌ هذه‌ الاسباب‌ والمسبّبات‌ معلولة‌ للختم‌ الذي‌ خُتم‌ علی‌ قلوب‌ هؤلاء الكفّار وأعينهم‌ وآذانهم‌.

 ثمّ ينسب‌ أُولئك‌ الكفّار إلی الغفلة‌، فيقول‌ في‌ الآيات‌ 106 إلی 109، من‌ السورة‌ 16: النحل‌:

 وَلَـ'كِن‌ مَّن‌ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعلیهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَ ' لِكَ بِأَ نَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَو'ةَ الدُّنْيَا علی‌ الاْخِرَةِ وَأَنَّ اللَهَ لاَيَهْدِي‌ الْقَوْمَ الْكَـ'فِرِينَ * أُولَـ'ئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَهُ علی‌' قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـ'رِهِمْ وَأُولَـ'نءِكَ هُمُ الْغَـ'فِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي‌ الاْخِرَةِ هُمُ الْخَـ'سِرُونَ.

 وحاصل‌ القول‌ أنّ هذه‌ الآيات‌ وسواها من‌ الآيات‌ الكثيرة‌ التي‌ وردت‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌ في‌ هذا الشأن‌ تتحدّث‌ بكلام‌ واحد وسياق‌ واحد، وتتّفق‌ علی‌ أمر واحد هو أنّ كفر الكفّار واعتداء المعتدين‌ مستندان‌ علی‌ الطبع‌ علی‌ قلوبهم‌ من‌ قبل‌ الله‌ تعالي‌.

 فالاختيار الذي‌ نمتلكه‌ هو اختيار الله‌ عزّ وجلّ ولا ينفكّ عن‌ إرادته‌ ومشيئته‌ تعالي‌، إذ ليس‌ هناك‌ في‌ العالم‌ من‌ حكومة‌ مستقلّة‌ في‌ قبال‌ حكومة‌ الله‌ سبحانه‌. ولو أ نّنا عددنا أنفسنا مستقلّين‌ في‌ هذا الاختيار قيد شعرة‌، لكان‌ فرضنا هذا هو محض‌ الظلم‌ والشرك‌.

 وقد تكرّرت‌ الجملة‌ الرائعة‌: وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن‌ يَشَآءُ اللَهُ. في‌ موضعين‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌، أوّلهما في‌ الآية‌ 30، من‌ السورة‌ 76: الإنسان‌، والثاني‌ في‌ الآية‌ 29، من‌ السورة‌ 81: التكوير. فيعود السبب‌ في‌ أنّ البعض‌ لايفقه‌ ولا يعلم‌ ولا يؤمن‌، إلی أنّ الله‌ تعالي‌ قد طبع‌ علی‌ قلبه‌؛ حيث‌ نشاهد في‌ الآيات‌ التي‌ مرّت‌، في‌ قوله‌ تعالي‌: وَطُِبِعَ علی‌' قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ؛ وَطَبَعَ اللَهُ علی‌' قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ؛ كَذَ ' لِكَ نَطْبَعُ علی‌' قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ وأمثال‌ هذه‌ الآيات‌، أنّ عبارات‌: فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ؛ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ؛ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً هي‌ جمل‌ تفريعيّة‌. أي‌ أنّ هذا الامر متفرّع‌ علی‌ مطلب‌ سابق‌ ومسبَّب‌ له‌. ومَن‌ له‌ دراية‌ بالادب‌ العربي‌ّ يعلم‌ بأنّ هذه‌ الجمل‌ تمثّل‌ تفريعاً علی‌ ما سبقها.

 ولقد ظنّ بعض‌ مترجمي‌ القرآن‌ بأنّ هذا المعني‌ يستلزم‌ الجبر، فقاموا بترجمة‌ هذه‌ الآيات‌ علی‌ النحو التالي‌:

 «چون‌ خداوند مي‌دانسته‌ است‌ كه‌ آنها اختيار كفر وتجاوز را مي‌كنند، لذا دل‌ آنان‌ را مهر زده‌ است‌» ( =طَبَعَ اللهُ علی‌ قلوبهم‌ لعلمه‌ بأ نّهم‌ سيختارون‌ الكفر والاعتداء ).

 وترجموا الآية‌ 155، من‌ سورة‌ النساء بالكيفيّة‌ التالية‌:

 «بلكه‌ خدا پس‌ از كفر آنها، مُهر بر دلشان‌ زد كه‌ بجز قليلي‌ ايمان‌ نياوردند» ( =بل‌ طبع‌ الله‌ علی‌ قلوبهم‌ بعد كفرهم‌، فلا يؤمنون‌ إلاّ قليلاً ).

 بَيدَ أنّ من‌ الافضل‌ أن‌ نترجم‌ الآية‌ الكريمة‌ بنفس‌ العنوان‌ الذي‌ تحمله‌ دون‌ أن‌ نُقحم‌ فيها آراءنا الخاصّة‌، علی‌ الرغم‌ من‌ أنّ بعض‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ تشير إلی أنّ الانحراف‌ كان‌ موجوداً لدي‌ هؤلاء البعض‌، وأنّ الله‌ تعالي‌ قد أضلّهم‌ بسببه‌. كما في‌ الآية‌ 10، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌، في‌ قوله‌ تعالي‌ في‌ شأن‌ المنافقين‌: فِي‌ قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَهُ مَرَضًا.

 والآية‌ 5، من‌ السورة‌ 61: الصفّ، التي‌ تتحدّث‌ عن‌ قوم‌ موسي‌ علی‌ نبيّنا وآله‌ وعلیه‌ الصلاة‌ والسلام‌ وأذاهم‌ له‌، حيث‌ تقول‌: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَهُ لاَ يَهْدِي‌ الْقَوْمَ الْفَـ'سِقِينَ.

 والآية‌ 26، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌، التي‌ تتحدّث‌ عن‌ الامثلة‌ التي‌ يضربها الله‌ تعالي‌ في‌ القرآن‌ واعتراض‌ الكافرين‌ علیها وتساؤلهم‌: ماذا أراد الله‌ بهذا مثلاً؟ فتقول‌: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي‌ بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَـ'سِقِينَ.

 لكنّ الكلام‌ هو في‌ منشأ المرض‌ الاوّل‌ والنزوع‌ إلی الباطل‌ والفسق‌ الاوّل‌؛ فإنّه‌ إن‌ نشأ عن‌ اختيارهم‌ مستقلاً، لكان‌ التفويض‌ بذاته‌، والتفويض‌ شرك‌ محض‌. وإن‌ كان‌ ناشئاً عن‌ إرادة‌ الله‌ واختياره‌: وَمَا تَشَآءُونَ إِلآ أَن‌ يَشَآءَ اللَهُ، لما كان‌ في‌ مضمون‌ هذه‌ الآيات‌ أيّ اختلاف‌ عن‌ مضامين‌ الآيات‌ الاُخري‌.

 الرجوع الي الفهرس

التفويض‌ كالجبر، كلاهما خطأ

 وخلاصة‌ القول‌ أنّ علینا أن‌ نكون‌ دقيقين‌ في‌ هذا الامر، لئلاّ نهرب‌ من‌ مذهب‌ الجبريّين‌ فنسقط‌ في‌ مذهب‌ المفوّضة‌، لانّ كلا المذهبينِ مجانب‌ للصواب‌. الجبر مخالف‌ للوجدان‌ والحسّ؛ والتفويض‌ يبعث‌ علی‌ عزل‌ الله‌ عزّوجلّ عن‌ التدخّل‌ في‌ كثير من‌ الشؤون‌، وإدخال‌ غيره‌ مكانه‌.

 الرجوع الي الفهرس

الامر بين‌ الامرين‌ من‌ أسرار العلوم‌

 وينبغي‌ الفحص‌ بدقّة‌ فيما يتعلّق‌ بالمعارف‌ الإلهيّة‌، وجعل‌ المطالب‌ برهانيّة‌ حيثما دار البحث‌ في‌ المسائل‌ الفلسفيّة‌ والعقليّة‌ العميقة‌. وبغير ذلك‌ فإنّ أُصول‌ العقائد ستصبح‌ تقليديّة‌، وستكون‌ النتيجة‌ تابعة‌ لاخسّ المقدّمتين‌. وبذلك‌ سيصبح‌ الإيمان‌ بالله‌ وصفاته‌ وأسمائه‌ الحسني‌ تقليديّاً بدوره‌، وهو محلّ ابتلاء أغلب‌ الناس‌ في‌ هذه‌ الايّام‌، حيث‌ نجد أنّ بعض‌ الخواصّ ـ ناهيك‌ عن‌ العوامّ ـ يواجهون‌ مسألة‌ الجبر والاختيار، فيفزعون‌ ـ من‌ حيث‌ يشعرون‌ أو لايشعرون‌ـ إلی مذهب‌ التفويض‌، ويسقطون‌ دون‌ أن‌ يعلموا في‌ شِراك‌ هذا المذهب‌، ويخالون‌ أ نّهم‌ قد فكّوا مغاليق‌ تلك‌ المسألة‌، وأ نّهم‌ قد فهموا جيّداً: أَمْرٌ بَيْنَ الاَمْرَينِ.

 ولا أجمل‌ ولا أبدع‌ من‌ كلام‌ الفقيه‌ النبيه‌: آية‌ الله‌ المرحوم‌ الحاجّ آقا رضا الهمداني‌ّ في‌ هذا المقام‌، فقد كتب‌ في‌ كتابه‌ الشريف‌ « مصباح‌ الفقيه‌ » في‌ الجزء الاخير من‌ مجلّد الطهارة‌، ص‌ 56، بعد استدلاله‌ علی‌ طهارة‌ الجبريّين‌، يقول‌:

 وأظهر من‌ ذلك‌ ( أي‌ من‌ القول‌ بطهارة‌ الجبريّين‌ ) القول‌ بطهارة‌ المفوّضة‌، بل‌ عن‌ « شرح‌ المفاتيح‌ » أنّ ظاهر الفقهاء طهارتهم‌، يعني‌ إسلامهم‌. فما عن‌ كاشف‌ الغطاء من‌ أ نّه‌ عدّ من‌ إنكار الضروري‌ّ القول‌ بالجبر والتفويض‌ في‌ غاية‌ الضعف‌. كيف‌ وعامّة‌ الناس‌ لايمكنهم‌ تصوّر: أَمْرٌ بَيْنَ الاَمْرَيْنِ كما هو المرويّ عن‌ أئمّتنا حتّي‌ يعتقدوا به‌، فإنّه‌ من‌ غوامض‌ العلوم‌، بل‌ من‌ الاسرار التي‌ لا يصل‌ إلی حقيقتها إلاّ الاوحدي‌ّ من‌ الناس‌ الذي‌ هداه‌ الله‌ إلی ذلك‌. ألا تري‌ أ نّك‌ إذا أمعنتَ النظر، لوجدتَ أكثر من‌ تصدّي‌ من‌ أصحابنا لإبطال‌ المذهبينِ لم‌ يقدر علی‌ التخطّي‌ عن‌ مرتبة‌ التفويض‌ وإن‌ أنكره‌ باللسان‌، حيث‌ زعم‌ أنّ منشأ عدم‌استقلال‌ العبد في‌ أفعاله‌، كونها صادرة‌ منه‌ بواسطة‌ أنّ الله‌ تعالي‌ أقدره‌ علیها وهيّأ له‌ أسبابها، مع‌ أ نّه‌ لا يظنّ بأحدٍ ممّن‌ يقول‌ بالتفويض‌ إنكار ذلك‌. والحاصل‌ أنّ هذا المعني‌ بحسب‌ الظاهر عين‌ القول‌ بالتفويض‌، مع‌ أنّ عامّة‌ الناس‌ تقصر أفهامهم‌ عن‌ أن‌ يتعقّلوا مرتبة‌ فوق‌ هذه‌ المرتبة‌ لاتنتهي‌ إلی مرتبة‌ الجبر.

 لكنّ هذا في‌ مقام‌ التصوّر التفصيليّ، وإلاّ فلا يبعد أن‌ يكون‌ ما هو المغروس‌ في‌ أذهان‌ عامّة‌ أصحابنا خواصّهم‌ وعوامهم‌ مرتبة‌ فوق‌ هذه‌ المرتبة‌، فانّهم‌ لم‌ يزالوا يربطون‌ المكوّنات‌ بأسرها من‌ أفعال‌ العباد وغيرها في‌ حدوثها وبقائها بمشيئة‌ الله‌ تعالي‌ وقدرته‌، من‌ غير أن‌ يعزلوا عللها عن‌ التأثير حتّي‌ يلزم‌ منه‌ ـ بالنسبة‌ إلی أفعال‌ العباد ـ الجبر، أو يلتزموا بكون‌ المشيئة‌ من‌ أجزاء عللها حتّي‌ يلزمه‌ الإشراك‌ والوهن‌ في‌ سلطان‌ الله‌ تعالي‌.

 وهذا المعني‌ وإن‌ صعب‌ تصوّره‌ والإذعان‌ به‌ لدي‌ الالتفات‌ التفصيلي‌ّ لما فيه‌ من‌ المناقضة‌ الظاهرة‌ لدي‌ العقول‌ القاصرة‌، لكنّه‌ إجمالاً مغروس‌ في‌ الاذهان‌ ومآله‌ علی‌ الظاهر إلی الالتزام‌ بالاَمْرِ بَيْنَ الاَمْرَيْنِ بالنسبة‌ إلی معلولات‌ جميع‌ العلل‌ من‌ أفعال‌ العباد وغيرها. وكيف‌ كان‌ فلاينبغي‌ الارتياب‌ في‌ أ نّه‌ ليس‌ شي‌ء من‌ مثل‌ هذه‌ العقائد التي‌ ربّما يعجز الفحول‌ عن‌ إبطالها مع‌ مساعدة‌ بعض‌ ظواهر الكتاب‌ والسنّة‌ علیها إنكاراً للضروري‌ّ والله‌ العالم‌ـانتهي‌ كلام‌ الفقيه‌ آية‌ الله‌ الهمداني‌ّ قدّس‌ الله‌ سرّه‌.

 وإذ نمضي‌ كلام‌ هذا الرجل‌ الجليل‌ في‌ قوله‌ بأنّ مسألة‌ الامر بين‌ الامرينِ هي‌ من‌ غوامض‌ العلوم‌، وإنّ غالب‌ الفحول‌ الاعلام‌ قد ابتلوا بمسألة‌ التفويض‌، فإنّ لدينا كلام‌ حول‌ قوله‌ بأنّ ما هو مغروس‌ في‌ الاذهان‌ هو مسألة‌ « لاجبر ولاتفويض‌ » أي‌: الامر بين‌ الامرينِ.

 ويتلخّص‌ كلامنا بما يلي‌:

 أيمكن‌ الاكتفاء بما هو مغروس‌ في‌ الاذهان‌، أم‌ أنّ علی‌ المؤمن‌ الملتزم‌ أن‌ يعمد من‌ خلال‌ البحث‌ والسعي‌ الحثيث‌ إلی كشف‌ الستار عن‌ الحقيقة‌، وأن‌ يضع‌ إيمانه‌ علی‌ أساس‌ عقيدة‌ التوحيد الخالصة‌ علی‌ وجه‌ التفصيل‌ لا الإجمال‌؟

 وبعبارة‌ أُخري‌، فكما أنّ التوحيد الفطري‌ّ موجود لدي‌ جميع‌ أفراد البشر، حتّي‌ أنّ اليهود والنصاري‌ والمشركين‌ والمادّيّين‌ يجدون‌ في‌ قرارة‌ أنفسهم‌ أمر التوحيد فطريّاً وجبلّة‌، ويحسّون‌ بنزعة‌ إلی الذات‌ الواحدة‌ للحي‌ّ القيّوم‌ العلیم‌ الحكيم‌ القدير الازلي‌ّ الابدي‌ّ، بَيدَ أنّ هذا التوحيد الفطري‌ّ أو التوحيد الذهني‌ّ المغروس‌ في‌ الخواطر لايكفي‌ بدون‌ حصول‌ الانكشافات‌ الخارجيّة‌، وبدون‌ التعقّل‌ وإعمال‌ الإدراك‌ وشهود الوجدان‌، وأنّ علی‌ جميع‌ الناس‌ أن‌ يتنزّلوا عن‌ الفطرة‌ إلی العقل‌ والحسّ، فيجهدوا أنفسهم‌ في‌ أمر التوحيد من‌ أجل‌ أن‌ يدركوا الله‌ الواحد ويحسّونه‌ وجداناً، ويطهّروا أسرار ذواتهم‌ من‌ خلال‌ إسلامهم‌ واتّباعهم‌ لرسول‌ الله‌ وللقرآن‌ المقدّس‌، ومن‌ خلال‌ اتّباع‌ الاحكام‌ العباديّة‌، وصولاً إلی مقام‌ التوحيد التفصيلي‌ّ؛ فإنّ الغرس‌ الإجمالي‌ّ في‌ الاذهان‌ لاِمْرٍ بَيْنَ الاَمْرَيْنِ لايضير صاحبه‌ شيئاً، لا نّنا نعلم‌ بأنّ عمل‌ الناس‌ من‌ الخاصّة‌ والعامّة‌ قائم‌ علی‌ أساس‌ الشرك‌ القلبي‌ّ الخفي‌ّ، علی‌ الرغم‌ من‌ قولهم‌ بالتوحيد وعدم‌إذعانهم‌ في‌ الظاهر بهذا الشرك‌.

 وحاصل‌ القول‌ أنّ الإسلام‌ لا يريد منّا نفي‌ الشرك‌ الجلي‌ّ وعبادة‌ الاصنام‌ الخارجيّة‌ فحسب‌، فهذا هو واجب‌ العوامّ والمستضعفين‌؛ بل‌ ينتظر من‌ المسلمين‌ والمؤمنين‌ أن‌ يخطوا إلی الامام‌ في‌ مسيرة‌ التوحيد خطوة‌ فخطوة‌، فينفوا كلّ مؤثّر جزئي‌ّ أو كلّي‌ّ عن‌ مقام‌ ذات‌ الحضرة‌ الاحديّة‌، ويعدّوا الله‌ تعالي‌ المنشأ الاوحد للاثر في‌ عالم‌ الوجود ذاتاً وصفة‌ وفعلاً.

 أفلا تدعونا كلّ هذه‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ إلی الكمال‌؟ ألا تدعونا هذه‌ السنّة‌ السنيّة‌، وهذا المنهاج‌، وهذه‌ الروايات‌ الواضحة‌ المبرهنة‌ من‌ قِبل‌ المعصومين‌ إلی هجر الشرك‌ الخفيّ، وإلي‌ الدخول‌ في‌ الإسلام‌ الاكبر والإيمان‌ الاكبر؟ وما الذي‌ يعنيه‌ الجهاد الاكبر والهجرة‌ الكبري‌ إذاً؟ أيكفي‌ المرء أن‌ يقول‌ جملة‌ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَه‌، كما تقول‌ بعض‌ العجائز، ثمّ ينتهي‌ الامر؟

 إنّ هذه‌ العبادات‌، وهذا المجاهدات‌، وهذه‌ الدائرة‌ الطويلة‌ العريضة‌ للتشريع‌ إنّما تستهدف‌ بأسرها كشف‌ نور التوحيد؛ فلا ينبغي‌ الاكتفاء بما هو مغروس‌ في‌ الاذهان‌. وسيأتي‌ لاحقاً تفصيل‌ معني‌ التفويض‌، الذي‌ يعتبر ذات‌ المرء واختياره‌ وكذا سائر الاسباب‌ الاخري‌ مؤثّرة‌ في‌ الخارج‌ تأثيراً مستقلاّ.

 أجل‌، فربّما لم‌ يكن‌ قصد ذلك‌ العَلَم‌ الجليل‌ إمكان‌ الاكتفاء بما هو مغروس‌ في‌ الاذهان‌، وربّما كان‌ في‌ صدد إثبات‌ أنّ هذه‌ العقائد لاتستلزم‌ إنكار الضروري‌ّ، وأ نّه‌ أراد أن‌ يختم‌ المطلب‌ بلحاظ‌ الطهارة‌ التي‌ تمثّل‌ مسألة‌ فقهيّة‌.

 وعموماً، فإنّ روح‌ المسألة‌ تتمثّل‌ في‌ أ نّنا إذا أردنا اعتبار العبد مستقلاّ في‌ أعماله‌ ولو قدر ذرّة‌ واحدة‌، وإذا عددنا له‌ اختياراً مستقلاّ، فسنكون‌ قد عزلنا الله‌ تعالي‌ عن‌ دائرة‌ فعله‌؛ وليس‌ الشرك‌ شيئاً غير هذا.

 إنّ الشرك‌ لا يعني‌ نفي‌ الاُلوهيّة‌ وتأثير ذات‌ الله‌ القدسيّة‌، بل‌ هو جعل‌ شريك‌ للّه‌ يشاركه‌ في‌ أفعاله‌، واعتبار أنّ تلك‌ الافعال‌ تحصل‌ بيده‌ تعالي‌ وبِيَدِ غيره‌، ولذا فهو مجانب‌ للصواب‌، سيّان‌ في‌ الامر أن‌ يُجعل‌ للّه‌ شريك‌ فيعتبر مستقلاّ في‌ تأثيره‌ في‌ الاُمور المهمّة‌ وغير المهمّة‌، أو أن‌ يكون‌ ذلك‌ الشريك‌ هو اختيار الإنسان‌، أم‌ مَلَكاً سماويّاً أم‌ شيطاناً أرضيّاً.

 وإذا اعتُبر اختيار الإنسان‌ غير مستقلّ في‌ التأثير، وعُدّ خاضعاً لاختيار الله‌ تعالي‌ ومشيئته‌، لجسّد ذلك‌ عين‌ التوحيد ولا شي‌ء سوي‌ التوحيد. بل‌ إنّ اختيار العباد هو عين‌ اختيار الحقّ سبحانه‌ وتعالي‌. وينبغي‌ ألاّ نعدّ هذا المعني‌ مستلزماً للجبر، ثمّ نقول‌ ـفراراً من‌ الجبرـ بأ نّنا نمتلك‌ اختياراً مستقلاّ، وإنّ الله‌ تعالي‌ لمّا كان‌ يعلم‌ بعلم‌ الغيب‌ عند خلقه‌ للعبد أ نّه‌ سيعتبر اختياره‌ مستقلاّ، فقد عاقبه‌ علی‌ هذا الاختيار الاستقلالي‌ّ بالطبع‌ علی‌ قلبه‌؛ لانّ مثل‌ هذه‌ المقولة‌ ليست‌ إلاّ كلاماً معكوساً.

 إنّ الله‌ تعالي‌ ليس‌ ضعيفاً بائساً، لنضع‌ أنفسنا محامين‌ دفاع‌ له‌، ولنحاول‌ ـمن‌ خلال‌ المعارف‌ الإلهيّة‌ التي‌ أسأنا فهمهاـ أن‌ نتكلّم‌ في‌ صالحه‌ بمثل‌ هذه‌ التأويلات‌ الواهية‌ والتعبيرات‌ الركيكة‌ التي‌ لا أساس‌ لها، ونحسب‌ أ نّنا ندافع‌ بذلك‌ عن‌ الدين‌؛ ولنحاول‌ والعياذ بالله‌ تزويق‌ الفساد الذي‌ طرأ علی‌ المعارف‌ المتينة‌ المبرهنة‌ نتيجة‌ سوء فهمنا، إرضاءً لافكار العامّة‌ وجهّال‌ الناس‌، فنكون‌ قد خطونا في‌ مسيرة‌ الشرك‌ بتناغمنا مع‌ هذه‌ الافكار وفق‌ رغبة‌ العوام‌ الذين‌ يبحثون‌ عن‌ صنم‌ ينحتونه‌ ليعبدوه‌، كقوم‌ موسي‌ الذين‌ اشتهوا في‌ غيبته‌ عجلاً يعكفون‌ علی‌ عبادته‌.

 إنّ الله‌ عزّ وجلّ عزيز، والمعارف‌ الإلهيّة‌ متينة‌ وراسخة‌. وتوحيد ذات‌ الله‌ تعالي‌ يسطع‌ علی‌ الدوام‌ كالشمس‌ الوهّاجة‌ المنيرة‌. ونورد في‌ هذا المجال‌ عدّة‌ روايات‌ من‌ « أُصول‌ الكافي‌ » ثمّ نشرع‌ في‌ بيان‌ بحث‌ مختصر إيضاحاً للمطلب‌.

 الرجوع الي الفهرس

الروايات‌ الواردة‌ في‌ مسألة‌ الامر بين‌ الامرين‌

 يروي‌ الكليني‌ّ رحمه‌ الله‌ عن‌ علی‌ّ بن‌ إبراهيم‌، عن‌ محمّد بن‌ عيسي‌، عن‌ يونس‌بن‌ عبدالرحمن‌، عن‌ حفص‌ بن‌ قُرط‌، عن‌ أبي‌ عبدالله‌ ( الصادق‌ ) علیه‌ السلام‌، قال‌:

 قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَّي‌ اللَهُ علیهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَهَ يَأْمُرُ بِالسُّوءِ وَالفَحْشَاءِ فَقَدْ كَذَبَ علی‌ اللَهِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الخَيْرَ وَالشَّرَّ بِغَيْرِ مَشِيَّةِ اللَهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ اللَهَ مِنْ سُلْطَانِهِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ المَعَاصِي‌ بِغَيْرِ قُوَّةِ اللَهِ فَقَدْ كَذَبَ علی‌ اللَهِ؛ وَمَنْ كَذَبَ علی‌ اللَهِ أَدْخَلَهُ اللَهُ النَّارَ. [1]

 كما يروي‌ عن‌ علی‌ّ بن‌ إبراهيم‌، عن‌ أبيه‌، عن‌ إسماعيل‌ بن‌ مرار، عن‌ يونس‌بن‌ عبد الرحمن‌، قال‌:

 قَالَ لِي‌ أَبُو الحَسَنِ الرِّضَا علیهِ السَّلاَمُ: يَا يُونُسُ! لاَ تَقُلْ بِقَوْلِ القَدَرِيَّةِ، فَإنَّ القَدَرِيَّةَ لَمْ يَقُولُوا بِقَوْلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَلاَ بِقَوْلِ أَهْلِ النَّارِ، وَلاَ بِقَوْلِ إبْلِيسَ؛ فَإنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ قَالُوا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي‌ هَدَانَا لِهَـ'ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَهُ». وَقَالَ أَهْلُ النَّارِ: «رَبَّنَا غَلَبَتْ علینَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَآلِّينَ».

 وَقَالَ إبْلِيسُ: «رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي‌».

 فَقُلْتُ: وَاللَهِ مَا أَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، وَلَكِنِّي‌ أَقُولُ: لاَ يَكُونُ إلاَّ بِمَا شَاءَ اللَهُ وَأَرَادَ وَقَدَّرَ وَقَضَي‌.

 فَقَالَ: يَا يُونُسُ! لَيْسَ هَكَذَا؛ لاَ يَكُونُ إلاَّ مَا شَاءَ اللَهُ وَأَرَادَ وَقَدَّرَ وَقَضَي‌ ـ الخبر. [2]

 ويروي‌ عن‌ محمّد بن‌ يحيي‌، عن‌ أحمد بن‌ محمّد بن‌ الحسن‌ الزعلان‌، عن‌ أبي‌ طالب‌ القمّيّ، عن‌ رجل‌، عن‌ أبي‌ عبدالله‌ ( الصادق‌ ) علیه‌ السلام‌، قَالَ:

 قُلْتُ: أَجْبَرَ اللَهُ العِبَادَ علی‌ المَعَاصِي‌؟

 قَالَ: لاَ.

 قُلْتُ: فَفَوَّضَ إلَيْهِمُ الاَمْرَ؟

 قَالَ، قَالَ: لاَ.

 قَالَ، قُلْتُ: فَمَاذَا؟!

 قَالَ: لُطْفٌ مِنْ رَبِّكَ بَيْنَ ذَلِكَ. [3]

 ويروي‌ عن‌ الحسين‌ بن‌ محمّد، عن‌ المعلی‌ بن‌ محمّد، عن‌الحسن‌ ابن‌علی‌ّ الوشّاء، عن‌ أبي‌ الحسن‌ ( الرضا ) علیه‌ السلام‌، قال‌:

 سَأَلْتُهُ فَقُلْتُ: اللَهُ فَوَّضَ الاَمْرَ إلی العِبَادِ؟

 قَالَ: اللَهُ أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ.

 قُلْتُ: فَجَبَّرَهُمْ علی‌ المَعَاصِي‌؟

 قَالَ: اللَهُ أَعْدَلُ وَأَحْكَمُ مِنْ ذَلِكَ.

 قَالَ: ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللَهُ: يَابْنَ آدَمَ! أَنَا أَوْلَي‌ بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَوْلَي‌ بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي‌. عَمِلْتَ المَعَاصِي‌ بِقُوَّتِي‌ الَّتِي‌ جَعَلْتُهَا فِيكَ. [4]

 ويروي‌ عن‌ علی‌ّ بن‌ إبراهيم‌، عن‌ محمّد بن‌ عيسي‌، عن‌ يونس‌ ابن‌عبدالرحمن‌، عن‌ جماعة‌ كثيرة‌ من‌ الرواة‌، عن‌ أبي‌ جعفر ( الباقر ) وأبي‌عبدالله‌ ( الصادق‌ ) علیهما السلام‌، قَالاَ:

 إنَّ اللَهَ أَرْحَمُ بِخَلْقِهِ مِنْ أَنْ يُجْبِرَ خَلْقَهُ علی‌ الذُّنُوبِ ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ علیهَا؛ وَاللَهُ أَعَزُّ مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَمْراً فَلاَ يَكُونُ.

 قَالَ: فَسُئِلاَ علیهِمَا السَّلاَمُ: هَلْ بَيْنَ الجَبْرِ وَالقَدَرِ مَنْزِلَةٌ ثَالِثَةٌ؟!

 قَالاَ: نَعَمْ، أَوْسَعُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالاَرْضِ. [5]

 والخلاصة‌ فقد أوردنا هذه‌ الروايات‌ كأمثلة‌ في‌ هذا المجال‌، حيث‌ إنّها اشتملت‌ علی‌ أُسس‌ مطالب‌ هذا البحث‌. وقد وردت‌ رواية‌ الكليني‌ّ عن‌ محمّدبن‌ أبي‌ عبد الله‌، عن‌ الحسين‌ بن‌ محمّد، عن‌ محمّد بن‌ يحيي‌، عن‌ راوٍ آخر، عن‌ أبي‌ عبد الله‌ ( الصادق‌ ) علیه‌ السلام‌ بلفظ‌: لاَ جَبْرَ وَلاَ تَفْوِيضَ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ.[6]

 الرجوع الي الفهرس

رسالة‌ الإمام‌ الهادي‌ّ علیه‌ السلام‌ في‌ نفي‌ الجبر والتفويض‌

 هذا وقد نقل‌ الحرّاني‌ّ في‌ « تحف‌ العقول‌ » رسالة‌ مفصّلة‌ عن‌ الإمام‌ أبي‌الحسن‌ الثالث‌: علی‌ّ بن‌ محمّد الهادي‌ّ علیه‌ السلام‌ في‌ ردّ الجبر والتفويض‌، وإثبات‌ العدل‌ والمنزلة‌ بين‌ المنزلتين‌، كان‌ علیه‌ السلام‌ قد أرسلها إلی جماعة‌ من‌ أهل‌ الاهواز ردّاً علی‌ رسالة‌ أرسلوها إليه‌، وقد ضمّت‌ رسالة‌ الإمام‌ مطالب‌ نفيسة‌ واستشهادات‌ ببيان‌ الإمام‌ الصادق‌ علیه‌ السلام‌. [7] وقد أورد المجلسيّ رضوان‌ الله‌ علیه‌ هذه‌ الرسالة‌ بتمامها في‌ « بحار الانوار » [8]، وأورد الشيخ‌ الطبرسي‌ّ مختصراً لها في‌ كتاب‌ « الاحتجاج‌ » تحت‌ عنوان‌ « رسالته‌ علیه‌ السلام‌ إلی أهل‌ الاهواز في‌ مسألة‌ الجبر والتفويض‌ ». [9]

 وتعدّ مسألة‌ أَمْرٌ بَيْنَ الاَمْرَيْنِ من‌ المسائل‌ المهمّة‌ ومن‌ أُصول‌ الشيعة‌، والحقّ أنّ بيان‌ هذا الامر في‌ ذلك‌ الزمان‌ من‌ قِبل‌ الائمّة‌ الاطهار علیهم‌ السلام‌ له‌ حكم‌ المعجزة‌، لا نّه‌ يمكن‌ استخلاص‌ جميع‌ الاُسس‌ الإلهيّة‌ الحقّة‌ منها، ولا نّه‌ لا يمكن‌ لاحد أن‌ ينشي‌ نظيرها إلاّ أن‌ يكون‌ متمكّناً من‌ منهل‌ المعارف‌، وأن‌ يكون‌ قد لمس‌ هذا الامر وعاينه‌ بعين‌ بصيرته‌.

 ولا يختصّ هذا الامر بأفعال‌ العباد، بل‌ إنّ الجبر والتفويض‌ منتفيان‌ في‌ عالم‌ الوجود، وإنّ جميع‌ الاُمور خاضعة‌ لسنّة‌ واحدة‌ صحيحة‌ هي‌: أَمْرٌ بَيْنَ الاَمْرَيْنِ.

 يقول‌ الجبريّون‌: إنّ إرادة‌ الله‌ الحتميّة‌ قد تعلّقت‌ بأفعال‌ العباد كتعلّقها بسائر الاُمور، وإنّ الإنسان‌ مُجبر في‌ أعماله‌ غير مختار، وإنّ جميع‌ الاُمور مخلوقة‌ للّه‌ تعالي‌، كسائر أفعال‌ الاسباب‌ التكوينيّة‌.

 أمّا أصحاب‌ مذهب‌ التفويض‌ ـويدعون‌ بالمفوّضة‌ ـ فينفون‌ أي‌ّ تعلّق‌ لإرادة‌ الله‌ تعالي‌ بأفعال‌ العباد، ويعتبرون‌ جميع‌ الافعال‌ مخلوقة‌ للإنسان‌ علی‌ أساس‌ إثبات‌ الاختيار.

 ونشاهد في‌ هذه‌ الروايات‌ أنّ أئمّة‌ الدين‌ قد أبطلوا كلا المذهبينِ وأنكروهما أيّما إنكار.

 أمّا مذهب‌ الجبر، فلانّ الله‌ تعالي‌ عادل‌، فحاشاه‌ أن‌ يجبر عبده‌ علی‌ فعل‌ شي‌ء ثمّ يؤاخذه‌ علیه‌ ويعذّبه‌ علی‌ فعله‌. ونحن‌ نري‌ وجداناً أنّ الإنسان‌ مختار، وأنّ هذا الاختيار مركوز في‌ أساس‌ وجوده‌، وأنّ أحداً لايتدخّل‌ في‌ اختياره‌ أو يُجبره‌ علی‌ أمرٍ ما، وأنّ نفي‌ الاختيار ممّا يخالف‌ الوجدان‌ والشهود.

 وأمّا مذهب‌ التفـويض‌، فلانّ قـدرة‌ الحضرة‌ الاحديّة‌ وسـلطانه‌ ومشيئته‌ لاينقصها شي‌ء ولا يحدّ منها شي‌ء، وأنّ الموجودات‌ ـ بلااستثناء ـ خاضعة‌ في‌ حدوثها وبقائها وجميع‌ جوانبها الوجوديّة‌ إلی قدرة‌ الله‌ تعالي‌ وسلطانه‌ وحكومته‌. وأ نّنا لو قلنا بأنّ الإنسان‌ عموماً فاعل‌ لما يشاء فيما يتعلّق‌ بالافعال‌ الاختياريّة‌، وأنّ الله‌ عزّ وجلّ قد أوكل‌ إلی عباده‌ هذه‌ السلسلة‌ من‌ الافعال‌؛ ولو أ نّنا عزلنا الله‌ تعالي‌ في‌ هذا الجزء من‌ الافعال‌، وأخرجناه‌ من‌ دائرة‌ حكومته‌ في‌ هذه‌ الجهة‌، لَكُنّا قد ظلمناه‌ سبحانه‌.

 إنَّ مَذْهَبَ الجَبْرِ يُمَثِّلُ ظُلْمَ اللَهِ تَعَالَي‌ لِعَبْدِهِ؛ كَمَا أَنَّ مَذْهَبَ التَّفْوِيضِ يُجَسِّدُ ظُلْمَ العَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَي‌.

 ومن‌ هنا فقد جاء نفي‌ هذين‌ النحوينِ من‌ الظلم‌، ونشأ مذهب‌ أَمْرٌ بَيْنَ الاَمْرَيْنِ الذي‌ يرتفع‌ عن‌ مذهب‌ التفويض‌ وينخفض‌ عن‌ مذهب‌ الجبر، وهو مذهب‌ بين‌ المذهبينِ، ومنزلة‌ بين‌ المنزلتينِ، وهو مذهب‌ التوحيد المحض‌، ومذهب‌ التجلّي‌ والظهور. وذلك‌ أنّ العبد مختار، فإن‌ عددنا هذا الاختيار مُغايراً لاختيار الله‌ تعالي‌، للزم‌ من‌ ذلك‌ التفويض‌؛ وإن‌ نفينا هذا الاختيار، للزم‌ من‌ ذلك‌ الجبر. أمّا أَمْرٌ بَيْنَ الاَمْرَيْنِ فيقول‌ بأنّ هذا الاختيار موجود، وهو لا ينفي‌ هذا الاختيار من‌ جهة‌ ولا يجعله‌ غير اختيار الله‌ تعالي‌ من‌ جهة‌ أُخري‌، بل‌ يعتبره‌ اختياراً هو عين‌ اختياره‌ سبحانه‌: وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن‌ يَشَآءَ اللَهُ. فليس‌ ثمّة‌ بينونة‌ وانفصال‌ للعبد عن‌ ربّه‌، بل‌ العبد نفس‌ ظهور الله‌ وتجلّيه‌. ولذلك‌ فليس‌ ثمّة‌ شي‌ء في‌ عالم‌ التوحيد وعلی‌ أساس‌ التوحيد سوي‌ الذات‌ القدسيّة‌ للحي‌ّ القيّوم‌ وأسمائه‌ وصفاته‌ وأفعاله‌.

 العبد مختار، واختياره‌ خاضع‌ لاختيار الله‌ سبحانه‌، وهو عين‌ اختياره‌ تعالي‌.

 الرجوع الي الفهرس

مثال‌ للعلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ في‌ نفي‌ الجبر والتفويض‌

وقد ضرب‌ أُستاذنا العلاّمة‌ الطباطبائيّ مدّ ظلّه‌ مثالاً شيّقاً في‌ هذا المجال‌ في‌ تعلیقاته‌ علی‌ كتاب‌ « الكافي‌ » قال‌ فيه‌:

 فلنفرض‌ إنساناً أُوتي‌ سعة‌ من‌ المال‌ والمنال‌ والضياع‌ والدار والعبيد والإماء، ثمّ اختار واحداً من‌ عبيده‌ وزوّجه‌ إحدي‌ جواريه‌ وأعطاه‌ من‌ الدار والاثاث‌ ما يرفع‌ حوائجه‌ المنزليّة‌، ومن‌ المال‌ والضياع‌ ما يسترزق‌ به‌ في‌ حياته‌ بالكسب‌ والتعمير.

 فإن‌ قلنا: إنّ هذا الإعطاء لا يؤثّر في‌ تملّك‌ العبد شيئاً، والمولي‌ هو المالك‌ وملكه‌ بجميع‌ ما أعطاه‌ قبل‌ الإعطاء وبعده‌ علی‌ السواء، كان‌ ذلك‌ قول‌ المجبّرة‌. وإن‌ قلنا: إنّ العبد صار مالكاً وحيداً بعد الإعطاء، وبطل‌ به‌ ملك‌ المولي‌، وإنّما الامر إلی العبد يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فِي‌ مِلْكِهِ، كان‌ ذلك‌ قول‌ المفوّضة‌. وإن‌ قُلنا ـكما هو الحقّـ إنّ العبد يتملّك‌ ما وهبه‌ له‌ المولي‌ في‌ ظرف‌ ملك‌ المولي‌ وفي‌ طوله‌ لا في‌ عرضه‌، فالمولي‌ هو المالك‌ الاصلي‌ّ، والذي‌ للعبد ملك‌ في‌ ملك‌، كما أنّ الكتابة‌ فعل‌ اختياري‌ّ منسوب‌ إلی يد الإنسان‌ وإلي‌ نفس‌ الإنسان‌، بحيث‌ لايبطل‌ إحدي‌ النسبتينِ الاُخري‌. [10]

 وينبغي‌ العلم‌ بأ نّه‌ قد جي‌ء بهذا المثال‌ تقريباً للمطلب‌، وأ نّه‌ يختلف‌ مع‌ مسألتنا في‌ أنّ ملكيّة‌ المولي‌ للعبد وإعطاءه‌ إيّاه‌ جميع‌ أمواله‌ هي‌ أُمور اعتباريّة‌، أمّا ملكيّة‌ العبد وأفعاله‌ لذات‌ الحقّ المقدّسة‌ فهي‌ ملكيّة‌ حقيقيّة‌. ولذلك‌ فإنّ هذا العالم‌ بكلّ جماله‌ البديع‌ وطراوته‌ هو أفعال‌ الله‌ تعالي‌ وتجلّيات‌ حضرته‌، وأنّ العالم‌ بأرجائه‌ يفيض‌ بالجمال‌ والحسن‌ والروعة‌، ويختصّ كلّ ذلك‌ بذات‌ الله‌ تعالي‌.

 سُبْحَـ'نَ اللَهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ. [11]

 ليـس‌ في‌ عالم‌ خلق‌ الحقّ سـبحانه‌ من‌ عيب‌ ولا نقـص‌ ولافتور ولافطور.

 أمّا أفعال‌ العبد، فخاضعة‌ بأجمعها لنفوذ الحقّ ومشيئته‌؛ وكما ورد في‌ رواية‌ يونس‌، أنّ الرضا علیه‌ السلام‌ أمره‌ أن‌ يقول‌: مَا شَاءَ اللَهُ. ولايقول‌: بِمَا شَاءَ اللَهُ. أي‌ أنّ نفس‌ ما يشاء الله‌ يكون‌، لا بواسطة‌ ما شاء سبحانه‌؛ أي‌ أنّ الإمام‌ أمره‌ بنفي‌ الواسطة‌، لانّ الواسطة‌ شرك‌، ولانّ رائحة‌ الاستقلال‌ أينما شُمّت‌ كانت‌ شركاً، والشرك‌ مجانبة‌ للصواب‌.

 وقد شاهدنا في‌ رواية‌ أبي‌ طالب‌ القمّيّ أنّ الإمام‌ علیه‌ السلام‌ قال‌: لُطْفٌ مِنْ رَبِّكَ بَيْنَ ذَلِكَ ( أي‌ بين‌ الجبر وبين‌ التفويض‌ ). واللطف‌ عبارة‌ عن‌ النفوذ الدقيق‌. كما في‌ قول‌: إِنَّ اللَهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ، [12] أي‌ أنّ الله‌ تعالي‌ نافذ خبير.

 ويعبّر الإمام‌ هنا عن‌ تأثير الله‌ تعالي‌ في‌ أفعال‌ العباد باللطف‌، أي‌ بالاستيلاء الملكي‌ّ الحقيقي‌ّ المتناهي‌ في‌ الدقّة‌ وعدم‌ الشهود؛ وهو أمْرٌ بَيْنَ الاَمْرَيْنِ أوسع‌ ممّا بين‌ السماء والارض‌؛ وهو أوسع‌ حقيقة‌ ممّا بين‌ السماء والارض‌، لانّ أَمْرٌ بَيْنَ الاَمْرَيْنِ ـ كما مرّـ يشمل‌ جميع‌ الموجودات‌، ولانّ الجميع‌ خاضع‌ لحكومة‌ الله‌ عزّ وجلّ، وأ نّه‌ تعالي‌ خبير لطيف‌ بهم‌ جميعاً، وأنّ اللطف‌ والدقّة‌ والنفوذ غير المرئي‌ّ قد طبقت‌ أرجاء عالم‌ الإمكان‌ من‌ المُلك‌ والملكوت‌، وحيثما وجد ممكن‌ من‌ العقول‌ المجرّدة‌ والنفوس‌ الكلّيّة‌، وصولاً إلی عالم‌ الطبع‌ وأظلم‌ العوالم‌، كان‌ الله‌ موجوداً وذا معيّة‌ مع‌ كلّ شي‌ء وفي‌ كلّ مكان‌.

 وكما هو معلوم‌ فإنّ مثل‌ هذا البناء الشامخ‌ للخلقة‌ هو أوسع‌ ممّا بين‌ السماء والارض‌، علی‌ أنّ شرور الافعال‌ والسيّئات‌ والقبائح‌ والمنكرات‌ ترجع‌ بأسرها إلی ماهيّة‌ العبد لا إلی وجود الله‌ تعالي‌، كما رأينا في‌ رواية‌ ابن‌ الوشاء من‌ أنّ الإمام‌ الرضا علیه‌ السلام‌ قد حكي‌ عن‌ الله‌ تعالي‌ قوله‌: يَا بْنَ آدَمَ! أَنَا أَوْلَي‌ بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَوْلَي‌ بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي‌!

 والحقّ أنّ هذه‌ الجملة‌ تمثّل‌ كتاباً في‌ المعرفة‌، وكتاباً في‌ الفلسفة‌ والحكمة‌، وتشكّل‌ عالماً من‌ الشهود والعرفان‌ نضح‌ من‌ معدن‌ النبوّة‌. وهذه‌ الكلمات‌ النفيسة‌ نفاسة‌ الدرر هي‌ إحدي‌ المعجزات‌ الباقية‌ لائمتنا، وهي‌ كلمات‌ تعدل‌ الجبال‌ وزناً وعظمة‌ وجلالة‌.

 إنّ الشرور والسيّئات‌ هي‌ أُمور عدميّة‌، وهي‌ تنشأ عن‌ ماهيّات‌ النفوس‌ لامن‌ أصل‌ وجودها، لانّ أصل‌ وجود النفوس‌ خيرٌ محض‌، والله‌ سبحانه‌ هو خالق‌ الخير لا خالق‌ الشرّ، والشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ.

 ولو أُزيل‌ عنوان‌ السوء من‌ نظر العصاة‌ القاصر، لما اقترفوا معصية‌، ولصارت‌ جميع‌ أعمالهم‌ طاعة‌. لكنّ هذه‌ القبائح‌ والمساوي‌ تنشأ إثر الفكر الفاسد والتجرّي‌ والذنوب‌؛ أمّا مآلها فجهنّم‌ التي‌ تحترق‌ فيها وتتّقد في‌ أَتُونها، حيث‌ تحترق‌ جميع‌ هذه‌ التهم‌ في‌ جهنّم‌ بما فيها من‌ نفاق‌ واثنينيّة‌ وشكّ وشرك‌ وإسناد الظلم‌ إلی ذات‌ الحقّ القدسيّة‌.

 الجنّة‌ مثوي‌ المطهّرين‌؛ والنار مثوي‌ الارجاس‌، وسوف‌ يزاح‌ ستار الاوهام‌ عن‌ بصر من‌ يواجه‌ ابتلاءات‌ الدنيا واختباراتها بالإقرار بتوحيد الحقّ تعالي‌، ومن‌ يضع‌ قدمه‌ علی‌ مضمار عبوديّة‌ الحقّ بالمجاهدة‌ والصبر والاسـتقامة‌، فيصل‌ إلی مقام‌ معرفة‌ الحقّ عزّ وجلّ معرفة‌ شـهوديّة‌ ووجدانيّة‌. ولن‌ يصبح‌ مثل‌ هذا الشخص‌ مذنباً بعد ذلك‌، إذ لن‌ يكون‌ للذنب‌ والمعصية‌ في‌ شأنه‌ من‌ معني‌.

 أمّا من‌ لم‌ يقرّ وجداناً بوحدانيّة‌ الحقّ تعالي‌، فإنّه‌ سيقرّ بذلك‌ عند سـكرات‌ الموت‌، أو في‌ القبر وفي‌ عالم‌ البرزخ‌، أو في‌ الحشـر عند الصراط‌ أو عند الميزان‌ أو عند العرض‌ أو في‌ سائر المواطن‌ الاُخري‌، علی‌ الرغم‌ من‌ أ نّه‌ سيهوي‌ في‌ جهنّم‌ فيحترق‌ بلظاها، لانّ جهنّم‌ تجتذب‌ هذا الرجس‌ والدنس‌. نَعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الجَحِيمِ وَحَرِّهَا وَشَهِيقِهَا وَزَفِيرِهَا.

 كلا المؤمن‌ والكافر مظهر للّه‌ تعالي‌. المؤمن‌ مظهر للرحمة‌، والكافر مظهر للغضب‌. كما أنّ الجنّة‌ وجهنّم‌ كلاهما ظهور للّه‌ عزّ وجلّ؛ ظهور للرحمة‌ وظهور للغضب‌.

 ولو نُظر إلی الاُمور بعينٍ مبصرة‌ للحقّ، لشوهد كلّ منها في‌ موضعه‌ الصحيح‌؛ أمّا لو نُظر إليها بعين‌ مريضة‌ كليلة‌، فلشوهد أنّ هناك‌ إشكالاً في‌ جميع‌ أرجاء العالم‌. لكنّ هذا الإشكال‌ ـ في‌ حقيقة‌ الامرـ ليس‌ في‌ العالم‌، بل‌ في‌ النظر والإبصار، وهو إشكال‌ يتلائم‌ مع‌ جهنّم‌ ويتجانس‌ معها.

 الرجوع الي الفهرس

الشرك‌ والانحراف‌ الفكري‌ّ يؤولان‌ إلی النار

 إنّ جهنّم‌ هي‌ ظهور الحجاب‌؛ والحجاب‌ توغّل‌ في‌ الكثرات‌ وغفلة‌ عن‌ ذات‌ الاحد تبارك‌ وتعالي‌:

 كَلاَّ بَلْ رَانَ علی‌' قُلُوبِهِم‌ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلآ إِنَّهُمْ عَن‌ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ. [13]

 كما أنّ جهنّم‌ هي‌ ظهور للغفلة‌ والجهل‌ والشرك‌ والشكّ في‌ التوحيد ولجميع‌ الذنوب‌ الفكريّة‌ والعمليّة‌ التي‌ تتفرّع‌ منها. والمبعدون‌ عن‌ جهنّم‌ هم‌ أصحاب‌ التوحيد الذين‌ يعترفون‌ بالحضرة‌ الاحديّة‌، أمّا سواهم‌ فهم‌. جميعاً واردو جهنّم‌ حتماً.

 إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن‌ دُونِ اللَهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَ ' رِدُونَ * لَوْ كَانَ هَـ'ؤُلآءِ ءَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَـ'لِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم‌ مِّنَّا الْحُسْنَي‌'´ أُولَـ'ئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي‌ مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَـ'لِدُونَ. [14]

 وفي‌ هذه‌ الآيات‌ شاهد واضح‌ علی‌ أنّ جهنّم‌ تمثّل‌ في‌ عالم‌ الآخرة‌ مظهر الشكّ والشرك‌، وأن‌ ينبغي‌ لمن‌ عبد غير الله‌ وعاش‌ في‌ كثرات‌ عالم‌ الطبع‌ غافلاً عن‌ حضرة‌ ذي‌ الجلال‌ أن‌ يحترق‌ في‌ أَتُونَ جهنّم‌.

 وآيات‌ سورة‌ التكاثر أكثر وضوحاً في‌ بيان‌ هذه‌ الحقيقة‌، في‌ قوله‌ تعالي‌:

 بِـسْـمِ اللَهِ الرَّحْمَـ'نِ الرَّحِيمِ * أَلْهَیـ'كُـمُ التَّكَاثُـرُ * حَتَّي‌' زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ( أنّ هذه‌ الكثرات‌ لا حقيقة‌ لها، وأ نّها لاتحكي‌ عن‌ أصالةٍ ما ) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ( أن‌ الكثرات‌ سراب‌ كاذب‌ ) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنِ النَّعِيمِ.

 تُظهِر هذه‌ الآيات‌ بوضوح‌ أنّ الجحيم‌ والنار المشتعلة‌ المتأجّجة‌ إنّما هي‌ مشاهدة‌ كثرات‌ العالم‌، والغفلة‌ عن‌ نور التوحيد، لكنّ هذا المعني‌ لاينكشف‌ للمرء مادام‌ بصر الباطن‌ لديه‌ مطبقاً؛ أمّا حين‌ يُزاح‌ الستار ويتحقّق‌ عالم‌ اليقين‌، فسيتّضح‌ ما الذي‌ فعله‌ حجاب‌ الكثرة‌، وأي‌ّ جحيم‌ متّقدة‌ ونار محرقة‌ قد أعقبَ!

 فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ. [15]

 لقد ورد الناس‌ بأجمعهم‌ إلی عالم‌ الكثرة‌، فصار علیهم‌ أن‌ يردوا جهنّم‌ بأجمعهم‌، ثمّ يخرج‌ منها مَن‌ سافر من‌ الكثرة‌ إلی التوحيد:

 وَإِن‌ مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُوهَا كَانَ علی‌' رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي‌ الَّذِينَ اتَّقُوا وَّنَذَرُ الظَّـ'لِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا. [16]

 وقد نقل‌ في‌ « تفسير النعماني‌ّ » بسنده‌ المتّصل‌ عن‌ أميرالمؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ قال‌: نَسَخَ قَوْلَهُ تَعَالَي‌ «وَإِن‌ مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُوهَا» قَولُهُ «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم‌ مِّنَّا الْحُسْنَي‌'´ أُولَـ'ئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ». [17]

 بَيدَ أ نّه‌ ينبغي‌ العلم‌ بأنّ فطرة‌ بني‌ آدم‌ لمّا كانت‌ قائمة‌ علی‌ أساس‌ التوحيد، فإنّ الجنّة‌ ينبغي‌ أن‌ تكون‌ قد خُلقت‌ قبل‌ جهنّم‌، وأنّ جميع‌ مراتب‌ الشكّ والشرك‌ والتكاثر هي‌ عارض‌ يغطّي‌ سيماء التوحيد الجميلة‌ المشرقة‌.

 يروي‌ الكليني‌ّ في‌ « روضة‌ الكافي‌ » عن‌ محمّد بن‌ يحيي‌، عن‌أحمد ابن‌محمّد، عن‌ ابن‌ محبوب‌، عن‌ أبي‌ جعفر الاحول‌، عن‌ سلام‌بن‌ المستنير، عن‌ أبي‌ جعفر ( الباقر ) علیه‌ السلام‌، قال‌:

 إنَّ اللَهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ النَّارَ، وَخَلَقَ الطَّاعَةَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ المَعْصِيَةَ، وَخَلَقَ الرَّحْمَةَ قَبْلَ الغَضَبِ، وَخَلَقَ الخَيْرَ قَبْلَ الشَّرِّ، وَخَلَقَ الاَرْضَ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَخَلَقَ الحَيَاةَ قَبْلَ المَوْتِ، وَخَلَقَ الشَّمْسَ قَبْلَ القَمَرِ، وَخَلَقَ النُّورَ قَبْلَ الظُّلْمَةَ. [18]

 الرجوع الي الفهرس

جهنّم‌ محلّ ظهور التكاثر

 وربّما كانت‌ أبواب‌ جهنّم‌ السبعة‌ التي‌ يقود كلّ منها الوارد فيه‌ إلی درك‌ خاصّ، قد وضعت‌ علی‌ أساس‌ اختلاف‌ حجب‌ الواردين‌ واختلاف‌ درجات‌ توغّلهم‌ في‌ الكثرات‌. فكلّما زاد الاهتمام‌ بالاُمور الاعتباريّة‌ الدنيويّة‌ الفانية‌، والتعلّق‌ بالكثرات‌ الوهميّة‌، تسافلت‌ منزلة‌ جهنّم‌ التي‌ تدعي‌ دركاً؛ والعكس‌ صحيح‌.

 يقول‌ الطبرسي‌ّ في‌ تفسير « مجمع‌ البيان‌ » ( في‌ تفسير قوله‌ تعالي‌ « في‌ الدرك‌ الاسفل‌ من‌ النار »): أي‌ في‌ الطبق‌ الاسفل‌ من‌ النار، فإنّ للنار طبقات‌ ودركات‌، كما أنّ للجنّة‌ درجات‌. [19]

 ويقول‌ في‌ تفسير الآية‌ الكريمة‌: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَ ' بٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ: [20]

 روي‌ عن‌ أمير المؤمنين‌ علیه‌ السلام‌ أنّ جهنّم‌ لها سبعة‌ أبواب‌ أطباق‌ بعضها فوق‌ بعض‌ ـووضع‌ إحدي‌ يديه‌ علی‌ الاُخري‌ فقال‌ـ هكذا؛ وأنّ الله‌ وضع‌ الجنان‌ علی‌ العرض‌، ووضع‌ النيران‌ بعضها فوق‌ بعض‌، فأسفلها جَهَنَّم‌ وفوقها لَظَي‌ [21] وفوقها الحُطَمَة‌، وفوقها سَقَر، وفوقها الجَحِيم‌، وفوقها السَّعِير، وفوقها الهَاوِيَة‌.[22]

 وقال‌ علی‌ّ بن‌ إبراهيم‌ القمّيّ في‌ تفسيره‌، في‌ تفسير هذه‌ الآية‌ الشريفة‌: يدخل‌ في‌ كلّ باب‌ أهلُ ملّة‌؛ وللجنّة‌ ثمانية‌ أبواب‌.

 وفي‌ رواية‌ أبي‌ الجارود عن‌ أبي‌ جعفر علیه‌ السلام‌ في‌ قوله‌: إنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ: فبلغني‌ ـ والله‌ أعلم‌ ـ أنّ الله‌ جعلها سبع‌ درجات‌، أعلاها: الجحيم‌، يقوم‌ أهلها علی‌ الصفا منها، تغلي‌ أدمغتهم‌ فيها كغلي‌ القدور بما فيها.

 والثانية‌: لَظَي‌' * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَي‌' تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّي‌' * وَجَمَعَ فَأَوْعَي‌' [23] ( ولم‌يُعطِ المالَ مستحقّيه‌ ).

 والثالثة‌: سَقَرَ * [24] لاَ تُبْقِي‌ وَلاَ تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * علیهَا تِسْعَةَ عَشَرَ. [25]

 والرابعة‌: الحُطَمَة‌ ترمي‌ بشرر كالقصر كأ نّه‌ جمالات‌ صفر، [26] تدقّ كلّ من‌ صار إليها مثل‌ الكحل‌، فلا تموت‌ الروح‌، كلّما صاروا مثل‌ الكحل‌ عادوا.

 والخامسة‌: الهاوية‌، فيها مَلَك‌، يدعون‌: يَا مَالِكُ! أَغِثْنَا، فإذا أغاثهم‌ جعل‌ لهم‌ آنيةً من‌ صفر من‌ نار فيها صديد ماء يسيل‌ من‌ جلودهم‌ كأ نّه‌ مُهل‌، فإذا رفعوه‌ ليشربوا منه‌ تساقط‌ لحم‌ وجوههم‌ فيها من‌ شدّة‌ حرّها، وهو قول‌ الله‌: وَإِن‌ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي‌ الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا.[27]

 ومن‌ هوي‌ فيها هوي‌ سبعين‌ عاماً في‌ النار، كلّما احترق‌ جلده‌ بدّل‌ جلد ] اً [ غيره‌.

 والسادسة‌: السَّعِيرُ، فيها ثلاثمائة‌ سرادق‌ من‌ نار؛ في‌ كلّ سرادق‌ ثلاثمائة‌ قصر من‌ نار؛ في‌ كلّ قصر ثلاثمائة‌ بيت‌ من‌ نار؛ وفي‌ كلّ بيت‌ ثلاثمائة‌ لون‌ من‌ عذاب‌ النار؛ فيها حيّات‌ من‌ نار وعقارب‌ من‌ نار وجوامع‌ من‌ نار وسلاسل‌ وأغلال‌ [28] من‌ نار، وهو الذي‌ يقول‌ الله‌: إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَـ'فِرِينَ سَلَـ'سِلاَ وَأَغْلَـ'لاً وَسَعِيرًا. [29]

 والسابعة‌: جهنّم‌، وفيها الفَلَق‌ وهو جُبّ في‌ جهنّم‌، إذا فُتح‌ أسعر النار سعراً، وهو أشدّ النار. وأمّا صعود فجبلٌ من‌ صفر من‌ نار وسط‌ جهنّم‌؛ وأمّا أثاما فهو وادٍ من‌ صفر مُذاب‌ يجري‌ حول‌ الجبل‌، فهو أشدّ النار عذاباً.[30] يروي‌ الصدوق‌ في‌ « الخصال‌ » عن‌ أحمد بن‌ الحسن‌ القطّان‌، عن‌ أحمدبن‌ يحيي‌بن‌ زكريّا القطّان‌، عن‌ بكر بن‌ عبدالله‌ بن‌ حبيب‌، عن‌ محمّدبن‌ عبدالله‌، عن‌ علی‌ّ بن‌ الحكم‌، عن‌ أبان‌ بن‌ عثمان‌، عن‌ محمّدبن‌ الفضيل‌ الزرقي‌ّ، عن‌ أبي‌ عبد الله‌ ( الصادق‌ ) علیه‌ السلام‌، عن‌ أبيه‌، عن‌ جدّه‌ علیهم‌ السلام‌، قال‌:

 للنار سبعة‌ أبواب‌: باب‌ يدخل‌ منه‌ فرعون‌ وهامان‌ وقارون‌؛ وباب‌ يدخل‌ منه‌ المشركون‌ والكفّار ممّن‌ لم‌ يؤمن‌ بالله‌ طرفة‌ عين‌؛ وباب‌ يدخل‌ منه‌ بنو أُميّة‌ هو لهم‌ خاصّة‌، لا يزاحمهم‌ فيه‌ أحد، وهو باب‌ لظي‌، وهو باب‌ سقر، وهو باب‌ الهاوية‌ تهوي‌ بهم‌ سبعين‌ خريفاً، وكلّما هوي‌ بهم‌ سبعين‌ خريفاً، فار بهم‌ فورة‌ قذف‌ بهم‌ في‌ أعلاها سبعين‌ خريفاً، ثمّ تهوي‌ بهم‌ كذلك‌ سبعين‌ خريفاً، فلا يزالون‌ هكذا أبداً خالدين‌ مخلّدين‌، وباب‌ يدخل‌ منه‌ مُبغضونا ومحاربونا وخاذلونا، وأ نّه‌ لاعظم‌ الابواب‌ وأشدّها حرّاً. [31]

 الرجوع الي الفهرس

 سبع‌ طبقات‌ من‌ العلماء في‌ سبع‌ طبقات‌ من‌ جهنّم‌

ويروي‌ في‌ « الخصال‌ » أيضاً عن‌ محمّد بن‌ علی‌ّ ماجيلويه‌، عن‌ محمّدبن‌ يحيي‌ العطّار، عن‌ محمّد بن‌ أحمد، عن‌ الحسين‌بن‌ موسي‌ الخشّاب‌، عن‌ إسماعيل‌ بن‌ مهران‌ وعلی‌ّ بن‌ أسباط‌ فيما أعلم‌، عن‌ بعض‌ رجالهما، قال‌: قال‌ أبو عبد الله‌ ( الصادق‌ ) علیه‌ السلام‌:

 إنَّ مِنَ العُلَمَاءِ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَخْزِنَ عِلْمَهَ وَلاَ يُؤْخَذَ عَنْهُ، فَذَاكَ فِي‌ الدَّرْكِ الاَوَّلِ مِنَ النَّارِ.

 وَمِنَ العُلَمَاءِ مَنْ إذَا وُعِظَ أَنِفَ، وَإذَا وَعَظَ عَنُفَ، فَذَاكَ فِي‌ الدَّرْكِ الثَّانِي‌ مِنَ النَّارِ.

 وَمِنَ العُلَمَاءِ مَنْ يَرَي‌ أَنْ يَضَعَ العِلْمَ عِنْدَ ذَوِي‌ الثَّرْوَةِ وَالشَّرَفِ، وَلاَ يَرَي‌ لَهُ فِي‌ المَسَاكِينِ وَضْعاً، فَذَاكَ فِي‌ الدَّرْكِ الثَّالِثِ مِنَ النَّارِ.

 وَمِنَ العُلَمَاءِ مَنْ يَذْهَبُ فِي‌ عِلْمِهِ مَذْهَبَ الجَبَابِرَةِ وَالسَّلاَطِينِ، فَإنْ رُدَّ علیهِ شَي‌ْءٌ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ قُصِّرَ فِي‌ شَي‌ْءٍ مِنْ أَمْرِهِ غَضِبَ؛ فَذَاكَ فِي‌ الدَّرْكِ الرَّابِعِ مِنَ النَّارِ.

 وَمِنَ العُلَمَاءِ مَنْ يَطْلُبُ أَحَادِيثَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَي‌ لِيُغْزِرَ بِهِ وَيُكَثِّرَ بِهِ حَدِيثَهُ، فَذَاكَ فِي‌ الدَّرْكِ الخَامِسِ مِنَ النَّارِ.

 وَمِنَ العُلَمَاءِ مَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا وَيَقُولُ: سَلُونِي‌، وَلَعَلَّهُ لاَ يُصِيبُ حَرْفاً وَاحِداً، وَاللَهُ لاَ يُحِبُّ المُتَكَلِّفِينَ، فَذَاكَ فِي‌ الدَّرْكِ السَّادِسِ مِنَ النَّارِ.

 وَمِنَ العُلَمَاءِ مَنْ يَتَّخِذُ عِلْمَهَ مُرُوءَةً وَعَقْلاً، فَذَاكَ فِي‌ الدَّرْكِ السَّابِعِ مِنَ النَّارِ. [32]

 وكما ذكرنا سابقاً، فإنّ جهنّم‌ ناشئة‌ من‌ الاستكبار، أي‌ من‌ عدم‌ رؤية‌ المرء للحقّ تعالي‌، وعدّه‌ نفسه‌ في‌ مرتبة‌ تفوق‌ درجتها وأصالتها؛ وهو بلاء يُصيب‌ العلماء والسلاطين‌ والجبابرة‌، وينبغي‌ أن‌ نستعيذ بالله‌ منه‌.

 وقد وردت‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌ آية‌ ينبغي‌ حقّاً أن‌ تقصم‌ ظهور علماء السوء ممّن‌ يرغبون‌ في‌ الشهرة‌ وكسب‌ الجاه‌ والسمعة‌ بين‌ عامّة‌ الناس‌، وأن‌ تنبّههم‌ من‌ غفلتهم‌؛ وهي‌ قوله‌ تعالي‌: لاَ تَحْسَبَنَّ ( والخطاب‌ للنبي‌ّ ) الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن‌ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُم‌ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. [33]

 ولو قُدّر لإمام‌ العصر أن‌ يظهر ويُقيم‌ ألف‌ دليل‌ وبيّنة‌ علی‌ ولايته‌، لما أقرّ له‌ علماء السوء بسبب‌ غرورهم‌ وتكبّرهم‌ وتعاليهم‌، فتلك‌ أُمور اجتهدوا في‌ كسبها السنين‌ الطوال‌ حتّي‌ صارت‌ لهم‌ مَلَكة‌؛ ولحاولوا الردّ علی‌ الإمام‌ بألف‌ عذر وحجّة‌ وإشكال‌؛ ولجهدوا في‌ أن‌ يعرضوا علیه‌ علومهم‌ الواهية‌ وأفكارهم‌ البالية‌ في‌ رداء من‌ الاصالة‌، وهيهات‌ هيهات‌!

 فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم‌ بِالْبَيِّنَـ'تِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم‌ مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم‌ مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ. [34]

 الرجوع الي الفهرس


 

الدرس‌ الثالث‌ والسبعون‌:

 في‌ خصائص‌ جهنّم‌ وآثارها

 

بِسْمِ اللَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد للَّه‌ ربّ العالمين‌ ولا حول‌ ولا قوّة‌ إلاّ بالله‌ العلی‌ّ العظيم‌

وصلَّي‌ الله‌ علی‌ محمّد وآله‌ الطاهرين‌

ولعنة‌ الله‌ علی‌ أعدائهم‌ أجمعين‌ من‌ الآن‌ إلی قيام‌ يوم‌ الدين‌

 

لا نجاة‌ من‌ النار يوم‌ القيامة‌ بالفدية‌ والرشوة‌

 قال‌ الله‌ الحكيم‌ في‌ كتابه‌ الكريم‌:

 وَقَالُوا ( والقول‌ لليهود ) لَن‌ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلآ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَهِ عَهْدًا فَلَن‌ يُخْلِفَ اللَهُ عَهْدَهُ و´ أَمْ تَقُولُونَ علی‌ اللَهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * بَلَي‌' مَن‌ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَـ'طَتْ بِهِ خَطِي´ئَتُهُ و فَأُولَـ'ئِكَ أَصْحَـ'بُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ'لِدُونَ. [35]

 تبيّن‌ هذه‌ الآيات‌ أنّ جهنّم‌ لا تُصرف‌ عمّن‌ يستحقّها بالرشوة‌ والفدية‌ وعلاقات‌ الصداقة‌ والواسطة‌ والتأريخ‌ الحافل‌ الاعتباريّ الخيالي‌ّ، وأ نّها لاتدور وفق‌ محور الاوهام‌ والافكار الشخصيّة‌، التي‌ يجعلها كلّ شخص‌ وكلّ طائفة‌ ميزانهم‌. كما تبيّن‌ أنّ الجنّة‌ هي‌ مثوي‌ من‌ اعتقد بالله‌ اعتقاداً صادقاً راسخاً، ومن‌ كانت‌ علاقته‌ به‌ عزّ وجلّ علاقة‌ حقيقيّة‌، ومن‌ اجتنب‌ الذنوب‌ والاعتداء علی‌ حقوق‌ الآخرين‌، أمّا ما سواه‌ فالنار مثواه‌.

 إنّ توهّم‌ الشرف‌ والمركز الاجتماعيّ والوجاهة‌ لا ينفع‌ المرء شيئاً، ولا يُبعد عنه‌ نار غضب‌ الله‌ يوم‌ القيامة‌؛ لانّ الاحكام‌ الإلهيّة‌ لم‌توضع‌ عبثاً، ولانّ جهنّم‌ ليست‌ عبثاً، كما أنّ دخولها والخروج‌ منها لايعتمدان‌ علی‌ ميزان‌ الاُمور الاعتباريّة‌ والخياليّة‌؛ وهي‌ حقّ، لا نّها موضوعة‌ من‌ قِبل‌ الحقّ تعالي‌، وإنّ موضع‌ الرجس‌ والدنس‌ واكتساب‌ السيّئات‌ هو في‌ جهنّم‌، مثله‌ مثل‌ أوساخ‌ البيت‌ وقمامته‌ التي‌ تركم‌ في‌ وعاء خاصّ، ثمّ تُحمل‌ إلی المزبلة‌.

 أفشاهد امرؤ أنّ أحداً قد وضع‌ وعاء القمامة‌ في‌ غرفة‌ الاستقبال‌ بدل‌ مزهريّة‌ الورود، وجعله‌ بين‌ انظار الناس‌، وترك‌ روائحه‌ الكريهة‌ تزكم‌ أنُوفهم‌؟ كلاّ ثمّ كلاّ.

 لقد كان‌ اليهود يقولون‌: إنّنا لن‌ ندخل‌ النار، لا نّنا ننحدر من‌ سلالة‌ إسرائيل‌ ـأي‌ يعقوب‌ النبي‌ّـ وإنّ الدنيا لنا، كما أنّ الآخرة‌ لنا، وإن‌ الله‌ تعالي‌ لن‌يعذّبنا إلاّ أيّاماً معدودة‌ تقابل‌ الايّام‌ الاربعين‌ التي‌ ذهب‌ فيها موسي‌ علیه‌ السلام‌ إلی طور سيناء لمناجاة‌ ربّه‌، فعصي‌ بنو إسرائيل‌ أمر أخيه‌ هارون‌ وعبدوا العجل‌؛ ثمّ إنّنا سنخلّد في‌ الجنّة‌ ونتنعّم‌ بلذائذها.

 لكنّ هذه‌ الآيات‌ تبيّن‌ خطأ هذه‌ الاقوال‌ واختلاقها، وأ نّها لاتعدل‌ في‌ ميزان‌ الحقّ شروي‌ نقير، وأنّ مَن‌ كان‌ مطهّراً لم‌ تحط‌ به‌ سيّئاته‌ سيدخل‌ الجنّة‌، أمّا من‌ تلخّص‌ عمره‌ في‌ السوء والفسوق‌ والفجور والعصيان‌ وأنواع‌ الاعتداء علی‌ الحقوق‌، وفي‌ انتهاج‌ سيرة‌ الاستكبار والاستعلاء والعُجب‌ والغرور، فسيذهب‌ إلی النار ليخلّد فيها بلا شكّ، لا فرق‌ في‌ ذلك‌ أيّاً كان‌، ومِن‌ أي‌ّ عنصر أو مذهب‌ أو محيط‌ قد انحدر!

 ولقد خاطبهم‌ القرآن‌ متسائلاً في‌ مقام‌ المؤاخذة‌: أيّها المعتدون‌ من‌ ذوي‌ الفكر القاصر! هل‌ اتّخذتم‌ عندالله‌ عهداً أن‌ لا يسوقكم‌ إلی جهنّم‌، ليكون‌ الله‌ مُلزماً بالوفاء بما عهد؟! أم‌ أ نّكم‌ قد كذبتم‌ علی‌ الله‌ تعالي‌، ولفّقتم‌ من‌ عند أنفسكم‌ ما جعلتموه‌ قانوناً تلتزمون‌ به‌.

 أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَهِ!

 أيّ انحراف‌ سوّل‌ لكم‌ محاولة‌ إخضاع‌ الله‌ سبحانه‌ لرغباتكم‌ وأهوائكم‌؟ كلاّ، بل‌ سيعاقبكم‌ الله‌ عزّ وجلّ ويعاقب‌ أمثالكم‌ بلا استثناء، فيخلّدكم‌ جميعاً في‌ جهنّم‌ المتّقدة‌ المتأجّجة‌ المحرقة‌ جزاءً علی‌ هذه‌ الجرائم‌.

 وعلی‌ هذا الاساس‌، فقد وردت‌ في‌ القرآن‌ الكريم‌ آيات‌ كثيرة‌ جاء فيها عدم‌ جدوي‌ الفدية‌ والرشوة‌ يوم‌ القيامة‌، وأنّ المذنب‌ لن‌يفتدي‌ يومئذٍ نفسه‌ أو عمله‌ بشي‌ء فيُقبل‌ منه‌، وأنّ الشفاعة‌ لن‌ تنفع‌ يومذاك‌ شيئاً.

 والمقصود بالشفاعة‌ الواسطة‌ التي‌ لا تقوم‌ علی‌ أساس‌ أو معيار؛ وقد شاهدنا في‌ بحث‌ الشفاعة‌ أنّ الشفاعة‌ الحقيقيّة‌ القائمة‌ علی‌ أساس‌ علاقة‌ الإيمان‌ بالله‌ وبأوليائه‌ هي‌ التي‌ تنفع‌ يوم‌ القيامة‌، وأ نّها تعدّ من‌ أهمّ وسائل‌ النجاة‌ وسبله‌.

 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن‌ يُقْبَلَ مِنْ أحَدِهِمِ مِّلْءُ الاْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَي‌' بِهِ أُولَـ'ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم‌ مِّن‌ نَّـ'صِرِينَ. [36]

 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم‌ مَّا فِي‌ الاْرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ و مَعَهُ و لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَـ'مَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. [37]

 وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَي'هُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُو´ا أَن‌ يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي‌ كُنتُم‌ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُم‌ مِّنَ الْعَذَابِ الاْدْنَي‌' دُونَ الْعَذَابِ الاْكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. [38]

 الرجوع الي الفهرس

الركون‌ إلی الدنيا والاعتماد علیها هو جهنّم‌ في‌ حقيقته‌

 ومنشأ جهنّم‌ ومبدؤها هو الإعراض‌ عن‌ الله‌ وعن‌ ذِكر الله‌ تعالي‌، والانغمار في‌ عالم‌ الكثرة‌ والدنيا الفانية‌، وإهمال‌ الاُمور الباقية‌ وعالم‌ الآخرة‌ وعالم‌ الوحدة‌ وأصالة‌ الحقّ والحقيقة‌.

 إنّ لقاء الله‌ المتعال‌ هو الجهة‌ الوحيدة‌ التي‌ تجذب‌ قلب‌ الإنسان‌ صوب‌ نشأة‌ المعني‌ والمعرفة‌؛ ولذلك‌ فقد عدّت‌ الآيات‌ القرآنيّة‌ الخلود في‌ نار جهنّم‌ أمراً حتميّاً للافراد الذين‌ ينحصر همّهم‌ في‌ الدنيا ومأكلها ومشربها وإطفاء الشهوات‌ فيها، فهي‌ تقول‌ مرّة‌:

 وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُولَـ'ئِكَ كَالاْنْعَـ'مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَـ'ئِكَ هُمُ الْغَـ'فِلُونَ. [39]

 وتقول‌ أُخري‌: إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَو'ةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَـ'تِنَا غَـ'فِلُونَ * أُولَـ'ئِكَ مَأْوَيـ'هُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. [40]

 وتقول‌: مَن‌ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَو'ةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَـ'لَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَـ'ئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي‌ الاْخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَـ'طِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ. [41]

 وتقول‌: أُولَـ'ئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَو'ةَ الدُّنْيَا بِالاْخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ. [42]

 وتقول‌: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَـ'نَهُ و علی‌' تَقْوَي‌' مِنَ اللَهِ وَرِضْوَ ' نٍ خَيْرٌ أَم‌ مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَـ'نَهُ و علی‌' شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي‌ نَارِ جَهَنَّمَ. [43]

 وتقول‌: وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَهِ ( العزيز القادر المتعال‌ المحيي‌ العلیم‌ السميع‌ البصير ) إِلَـ'هًا ءَاخَرَ ( كبيراً كان‌ أو صغيراً؛ جاهاً كان‌ أو ثروة‌؛ صديقاً حميماً كان‌ أو زوجة‌ أو ولداً ) فَتُلْقَي‌' فِي‌ جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا. [44]

 وما دامت‌ النفس‌ الإنسانيّة‌ الامّارة‌ باقية‌ لم‌ تتبدّل‌ بعد إلی النفس‌ اللوّامة‌ أو النفس‌ المطمئنّة‌ وغيرها، فإنّ جهنّم‌ ستكون‌ باقية‌، لا نّها ظهور وبروز لحقيقة‌ النفس‌ في‌ مراحل‌ الحجاب‌ والبعد.

 إنّ النفس‌ الامّارة‌ لا تنفكّ تأمر الإنسان‌ بالفحشاء والمنكر؛ وما إن‌ يحاول‌ الإطمئنان‌ قليلاً حتّي‌ تعود إلی أمره‌ من‌ جديد. وقد تفتر وتضعف‌ تارةً، لتشتدّ بعد ذلك‌ غير نازعة‌ عن‌ القبح‌ والمنكر. فهي‌ لاتلبث‌ ممسكة‌ بتلابيب‌ صاحبها لا تفارقه‌، كلّما أراد إخمادها اشتعل‌ أوارها واتّقد من‌ جديد.

 وَمَن‌ يَهْدِ اللَهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن‌ يُضْلِلْ فَلَن‌ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن‌ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـ'مَةِ علی‌' وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَي'هُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَـ'هُمْ سَعِيرًا. [45]

 وَاسْتَفْتَحُوا ( والضمير عائد إلی الانبياء والمرسـلين‌ الذين‌ كانت‌ أُممهم‌ تهزأ بهم‌ وكذّبهم‌ وتهدّدهم‌ بإخراجهم‌ من‌ ديارهم‌ ) وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِن‌ وَرَآئِِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَي‌' مِن‌ مَّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ و وَلاَ يَكَادُ يُسِـيغُهُ و وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن‌ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن‌ وَرَانءِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ. [46]

 إِنَّهُ و مَن‌ يَأْتِ رَبَّهُ و مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ و جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَي‌'. [47]

 وَكَفَي‌' بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِـَايَـ'تِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم‌ بَدَّلْنَـ'هُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا. [48]

 وهذه‌ الآيات‌ وما جاء علی‌ سياقها من‌ الآيات‌ الاُخري‌ تدلّ بأجمعها علی‌ أنّ النفس‌ الإنسانيّة‌ الناطقة‌ باقية‌ علی‌ الدوام‌. وأنّ النفس‌ تذوق‌ أنواع‌ العذاب‌ طوراً بعد طور، وحالاً بعد حال‌، كما كانت‌ وهي‌ حيّة‌ في‌ عالم‌ الدنيا بحالات‌ المعصية‌ المختلفة‌ التي‌ كانت‌ تعتريها الواحدة‌ تلو الاُخري‌.

 وممّا يثير العجب‌ هو أنّ الآية‌ المباركة‌ التالية‌ التي‌ وردت‌ في‌ موضعين‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَـ'فِرِينَ؛ [49] تدلّ علی‌ أنّ جهنّم‌ موجودة‌ ومخلوقة‌ فعلاً، لا أ نّها ستخلق‌ فيها بعد؛ لانّ « محيطة‌ » اسم‌ فاعل‌، والعارفون‌ بالعربيّة‌ وآدابها يصرّحون‌ بأجمعهم‌ بأنّ المشتقّ حقيقة‌ في‌ مَن‌ تَلَبَّسَ بِالمَبْدَأ؛ فيكون‌ حاصل‌ المعني‌ أنّ جهنّم‌ محيطة‌ بالكافرين‌ فعلاً، لا أ نّها ستخلق‌ يوم‌ القيامة‌ فتحيط‌ بهم‌. وإلاّ لوجب‌ أن‌ يقال‌: وَإنَّ جَهَنَّمَ لَتُحِيطُ بِالكَافِرِينَ.

 الرجوع الي الفهرس

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ «أُصول‌ الكافي‌» ج‌ 1، ص‌ 158.

[2] ـ «أُصول‌ الكافي‌» ج‌ 1، ص‌ 157 و 158.

[3] ـ «أُصول‌ الكافي‌» ج‌ 1، ص‌ 159.

[4] ـ «أُصول‌ الكافي‌» ج‌ 1، ص‌ 157.

[5] ـ «أُصول‌ الكافي‌» ج‌ 1، ص‌ 159.

[6] ـ «أُصول‌ الكافي‌» ج‌ 1، ص‌ 160.

[7] ـ «تحف‌ العقول‌» ص‌ 458 إلي‌ 475، الطبعة‌ الحروفيّة‌.

[8] ـ «بحار الانوار» العدل‌ والمعاد، ج‌ 3، ص‌ 20 إلي‌ 25، الطبعة‌ القديمة‌ (الكمباني‌ّ).

[9] ـ «الاحتجاج‌» للطبرسي‌ّ، ج‌ 2، ص‌ 250 إلي‌ 254، طبعة‌ النجف‌.

[10] ـ التعليقة‌ علي‌ «أُصول‌ الكافي‌» ج‌ 1، ص‌ 156.

[11] ـ الآيتان‌ 159 و 160، من‌ السورة‌ 37: الصافّات‌.

[12] ـ الآية‌ 63، من‌ السورة‌ 22: الحجّ.

[13] ـ الآيتان‌ 14 و 15، من‌ السورة‌ 83: المطفّفين‌.

[14] ـ الآيات‌ 98 إلي‌ 102، من‌ السورة‌ 21: الانبياء.

[15] ـ الآية‌ 22، من‌ السورة‌ 50: ق‌.

[16] ـ الآيتان‌ 71 و 72، من‌ السورة‌ 19: مريم‌.

[17] ـ «تفسير النعماني‌ّ» ص‌ 15؛ و«بحار الانوار» ج‌ 8، ص‌ 306، الطبعة‌ الحروفيّة‌.

[18] ـ «روضة‌ الكافي‌» ص‌ 145.

[19] ـ تفسير «مجمع‌ البيان‌». ج‌ 2، ص‌ 130، طبعة‌ صيدا.

[20] ـ الآيتان‌ 43 و 44، من‌ السورة‌ 15: الحجر.

[21] ـ لظي‌ معرفة‌، وهي‌ بمعني‌ جهنّم‌. وهي‌ ممنوعة‌ من‌ الصرف‌ باعتبارها علماً مؤنّثاً. أمّا اللظي‌ فمصدر، ويعني‌ نفس‌ النار أو لهب‌ النار.

[22] ـ «مجمع‌ البيان‌» ج‌ 3، ص‌ 338، طبعة‌ صيدا.

[23] ـ الآيات‌ 14 إلي‌ 16، من‌ السورة‌ 70: المعارج‌.

[24] ـ سَقَر معرفة‌، بمعني‌ جهنّم‌. وهي‌ عَلَم‌ لا ينصرف‌. وأمّا سَقَر ـ بفتحتينِ ـ كمصدر أو اسم‌ مصدر أو وصف‌ فغير موجودة‌ في‌ اللغة‌. أمّا سَقْر ـبفتح‌ السين‌ وسكون‌ القاف‌ـ فتعني‌ وهج‌ الشمس‌ والنار الذي‌ يحرق‌ الوجوه‌ والدماغ‌ بحرارته‌.

[25] ـ الآيات‌ 26 إلي‌ 29، من‌ السورة‌ 74: المدثّر (عدا الآية‌ 27: «وما أدرب'ك‌ ما سقر»).

[26] ـ هاتان‌ الفقرتان‌ منتزعتان‌ من‌ الآيتينِ 32 و 33، من‌ السورة‌ 77: المرسلات‌.

[27] ـ الآية‌ 29، من‌ السورة‌ 18: الكهف‌.

[28] ـ الغُلّ: جامعة‌ توضع‌ في‌ العنق‌ واليد فتجمعهما.

[29] ـ الآية‌ 4، من‌ السورة‌ 76: الإنسان‌.

[30] ـ «تفسير القمّي‌ّ» ص‌ 351 و 352.

[31] ـ «الخصال‌» ج‌ 2، ص‌ 12، الطبعة‌ الحجريّة‌؛ وص‌ 361، الطبعة‌ الحروفيّة‌.

[32] ـ «الخصال‌» ج‌ 2، ص‌ 7 و 8، الطبعة‌ الحجريّة‌؛ وص‌ 352 و 353، الطبعة‌ الحروفيّة‌.

[33] ـ الآية‌ 188، من‌ السورة‌ 3: آل‌ عمران‌.

[34] ـ الآية‌ 83، من‌ السورة‌ 40: المؤمن‌.

[35] ـ الآيتان‌ 80 و 81، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[36] ـ الآية‌ 91، من‌ السورة‌ 3: آل‌ عمران‌.

[37] ـ الآيتان‌ 36 و 37، من‌ السورة‌ 5: المائدة‌.

[38] ـ الآيتان‌ 20 و 21، من‌ السورة‌ 32: التنزيل‌.

[39] ـ الآية‌ 179، من‌ السورة‌ 7: الاعراف‌.

[40] ـ الآيتان‌ 7 و 8، من‌ السورة‌ 10: يونس‌.

[41] ـ الآيتان‌ 15 و 16، من‌ السورة‌ 11: هود.

[42] ـ الآية‌ 86، من‌ السورة‌ 2: البقرة‌.

[43] ـ الآية‌ 109، من‌ السورة‌ 9: التوبة‌.

[44] ـ الآية‌ 39، من‌ السورة‌ 17: الاءسراء.

[45] ـ الآية‌ 97، من‌ السورة‌ 17: الاءسراء.

[46] ـ الآيات‌ 15 إلي‌ 17، من‌ السورة‌ 14: إبراهيم‌.

[47] ـ الآية‌ 74، من‌ السورة‌ 20: طه‌.

[48] ـ الآيتان‌ 55 و 56، من‌ السورة‌ 4: النساء.

[49] ـ الآية‌ 49، من‌ السورة‌ 9: التوبة‌؛ والآية‌ 54، من‌ السورة‌ 29: العنكبوت‌.

 الرجوع الي الفهرس

 

.

معرفي و راهنما

كليه حقوق، محفوظ و متعلق به موسسه ترجمه و نشر دوره علوم و معارف اسلام است.
info@maarefislam.com