|
|
|
الصفحة السابقةعلوم الإمام الصادق كالشجي المعترض في حلق المنصورروي القطب الراونديّ عن صفوان الجمّال قال: كنتُ بالحيرة مع أبي عبدالله ( الإمام الصادق ) عليه السلام إذ أقبل الربيع، وقال: أجب أميرالمؤمنين، فلم يلبث أن عاد. قلتُ: أسرعتَ الانصراف! قال: إنّه سألني عن شيء، فاسأل الربيع عنه! فقال صفوان: وكان بيني وبين الربيع لطف. فخرجت إلی الربيع وسألته، فقال: أُخبرك بالعجب: إنّ الاعراب خرجوا يجتنون الكماة، فأصابوا في البرّ خلقاً مُلقيً، فأتوني به. فأدخلته علی الخليفة، فلمّا رآه قال: نحّه وادعُ جعفراً! فدعوته. فقال: يا أبا عبدالله أخبرني عن الهواء ما فيه؟ قال: فِي الهَوَاءِ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ [1] قال: ففيه سكّان؟ قال: نعم! قال: وما سكّانه؟ قال: خَلْقٌ أَبْدَانَهُمْ أَبْدَانُ الحِيتَانِ، وَرُؤُوسُهُمْ رُؤُوسُ الطَّيْرِ، وَلَهُمْ أَعْرِفَةٌ كَأَعْرِفَةِ الدِّيَكَةِ، وَنَغَانِغُ [2] الدِّيَكَةِ، وَأجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ الطَّيْرِ، مِنْ أَلْوَانٍ أَشَدَّ بَيَاضاً مِنَ الفِضَّةِ المَجْلُوَّةِ. فقال الخليفة: هلمّ الطشت! فجئت بها وفيها ذلك الخلق. وإذا هو والله كما وصفه جعفر. فلمّا نظر إلیه جعفر، قال: هَذَا هُوَ الخَلْقُ الَّذِي يَسْكُنُ المَوْجَ المَكْفُوفَ. فأذن له بالانصراف. فلمّا خرج، قال: وَيْلَكَ يَا رَبِيعُ، هَذَا الشَّجَي المُعْتَرِضُ فِي حَلْقِي مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ![3] روي الشيخ الصدوق في أمإلیه بسنده المتّصل عن الربيع صاحب المنصور ونديمه، قال: بعث المنصور إلی الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام يستقدمه لشيءٍ بلغه عنه. فلمّا وافي بابه خرج إلیه الحاجب، فقال: أُعِيذُكَ بِاللَهِ مِنْ سَطْوَةِ هَذَا الجَبَّارِ، فَإنِّي رَأَيْتُ حَرْدَهُ عَلَيْكَ شَدِيداً! فقال الصادق عليه السلام: عَلَيَّ مِنَ اللَهِ جُنَّةٌ وَاقِيَةٌ، تُعيني عليه إن شاءالله. استأذن لي عليه! فاستأذن فأذن له. فلمّا دخل سلّم، فردّ عليهالسلام، ثمّ قال له: يا جعفر! قد علمتَ أنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله قال لابيك عليّ بن أبي طالب عليه السلام: لَوْلاَ أَنْ تَقُولَ فِيكَ طَوَائِفُ مِنْ أُمَّتِي مَا قَالَتِ النَّصَارَي في المَسِيحِ، لَقُلْتُ فِيكَ قَوْلاً لاَ تَمُرُّ بِمَلاَ إلاَّ أَخَذُوا مِنْ تُرَابِ قَدَمَيْكَ، يَسْتَشفُونَ بِهِ! وقال عليّ عليه السلام: يَهْلِكُ فِيَّ اثْنَانِ وَلاَ ذَنْبَ لِي: مُحِبٌّ غالٍ وَمُبْغِضُّ مُفَرِّطٌ. قال: قال ذلك اعتذاراً منه أ نّه لا يرضي بما يقول فيه الغإلی والمفرّط. لعمري إنّ عيسي ابن مريم عليهما السلام لو سكت عمّا قالت فيه النصاري لعذّبه الله. ولقد تعلم ما يقال فيك من الزور والبهتان، وإمساكك عن ذلك ورضاك به سخط الديّان، زعم أوغاد الحجاز، ورعاع الناس، أ نّك حبر الدهر، وناموسه وحجّة المعبود وترجمانه، وعيبة علمه، وميزان قسطه، ومصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة إلی ضياء النور، وأنّ الله لايقبل من عامل جهل حدّك في الدنيا عملاً، ولا يرفع له يوم القيامة وزناً. فنسبوك إلی غير حدّك، وقالوا فيك ما ليس فيك. فقُل فإنّ أوّل من قال الحقّ جدّك، وأوّل من صدّقه عليه أبوك وأنت حريٌّ أن تقتصّ آثارهما، وتسلك سبيلهما. الإمام الصادق عليه السلام يُطفي غضب المنصورفقال الصادق عليه السلام: أَنَا فَرْعٌ مِنْ فُرُعِ الزَّيْتُونَةِ، وَقِندِيلٌ مِنْ قَنَاديلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَأَدِيبُ السَّفَرَةِ، وَرَبِيبُ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَمِصْبَاحٌ مِنْ مَصَابِيحِ المِشْكَاةِ الَّتِي فِيهَا نُورُ النُّورِ، وَصَفْوَةُ الكَمِبَةِ البَاقِيَةِ فِي عَقِبِ المُصْطَفَيْنَ إلی يَوْمِ الحَشْرِ! فالتفت المنصور إلی جلسائه، فقال: هَذَا قَدْ أَحَالَني علی بَحْرٍ مَوَّاجٍ لاَ يُدْرَكُ طَرَفُهُ، وَلاَ يُبْلَغُ عُمْقُهُ، تُحَارُ فِيهِ العُلَمَاءُ، وَيَغْرَقُ فِيهِ السُّبَحَاءُ، وَيَضِيقُ بِالسَّابِحِ عَرْضُ الفَضَاءِ، هَذَا الشَّجَي المُعْتَرِضُ فِي حُلُوقِ الخُلَفَاءِ، الَّذِي لاَ يَجُوزُ نَفْيُهُ، وَلاَ يَحِلُّ قَتْلُهُ. وَلَوْلاَ مَا يَجْمَعُنِي وَإيَّاهُ شَجَرَةٌ طَابَ أَصْلُهَا، وَبَسَقَ فَرْعُهَا، وَعَذُبَ ثَمَرُهَا، وَبُورِكَتْ فِي الذَّرِّ، وَقُدِّسَتْ فِي الزُّبُرِ، لَكَانَ مِنِّي إلیهِ مَا لاَ يُحْمَدُ فِي العَوَاقِبِ، لِمَا يَبْلُغُنِي عَنْهُ مِنْ شِدَّةِ غَيْبِهِ لَنَا، وَسُوءٍ القَوْلِ فِينَا. فقال الصادق عليه السلام: لاَ تَقْبَلْ فِي ذِي رَحِمِكَ وَأَهْلِ الرِّعَايَةِ مِنْ أَهْل بَيْتِكَ قَوولَ مَنْ حَرَّمَ اللَهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ، وَجَعَلَ مَأْوَاهُ النَّارَ. فَإنَّ النَّمَّامَ شَاهِدُ زُورٍ، وَشَرِيكُ إبْلِيسُ فِي الإغْرَاءِ بَيْنَ النَّاسِ. فَقَدْ قَالَ اللَهُ تَعَإلی: «يَـ'أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُو´ا ( وثبّتوا عند العمل بمقتضات ) أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَـ'لَةٍ فَتُصْبِحُوا علی مَا فَعَلْتُمْ نَـ'دِمِينَ». [4] وَنَحْنُ لَكَ أَنْصَارٌ وَأَعَْوَانٌ، وَلِمُلْكِكَ دَعَائِمُ وَأَرْكَانٌ مَا أَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ وَالإحْسَانِ، وَأَمْضَيْتَ فِي الرَّعِيَّةِ أَحْكَامَ القُرْآنِ، وَأَرْغَمْتَ بِطَاعَتِكَ لِلَّهِ أَنْفَ الشَّيْطَانِ، وَإنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْكَ فِي سَعَةِ فَهْمِكَ وَكَثْرَةِ عِلْمِكَ وَمَعْرِفَتِكَ بِآدَابِ اللَهِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ! فَإنَّ المُكَافِيَ لَيْسَ بِالوَاصِلِ. إنَّمَا الوَاصِلُ مَنْ إذَا قَطَعْتَهُ رَحِمُهُ وَصَلَهَا. فَصِلْ رَحِمَكَ يَزِدِ اللَهُ فِي عُمْرِكَ، وَيُخَفِّفْ عَنْكَ الحِسَابَ يَوْمَ حَشْرِكَ! فقال المنصور: قد صفحتُ عنك لقدرك، وتجاوزتُ عنك لصدقك. فحدّثني عن نفسك بحديثٍ أتّعظ به، ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات! فقال الصادق عليه السلام: عَلَيْكَ بِالحِلْمِ، فَإنَّهُ رُكْنُ العِلْمِ، وَامْلِكْ نَفْسَكَ عِنْدَ أَسْبَابِ القُدْرَةِ! فَإنَّكَ إنْ تَفْعَلْ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ كُنْتَ كَمَنْ شُفِيَ غَيْظاً، أَوْ تَدَاوَي حِقْداً، أَوْ يُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ بِالصَّوْلَةِ. وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ إنْ عَاقَبْتَ مُسْتَحِقَّاً لَمْ تَكُنْ غَايَةُ مَا تُوصَفُ بِهِ إلاَّ العَدْلَ، وَالحَالُ الَّتِي تُوجِبُ الشُّكْرَ أَفْضَلُ مِنَ الحَالِ الَّتِي تُوجِبُ الصَّبْرَ. ( أي: يشكرك الناس عند العفو والصفح عنهم، ويصبرون مرغمين عند العقوبةوالبطش). فقال المنصور: وعظتَ فأحسنتَ، وقلتَ فأوجزتَ! فحدّثني عن فضل جدِّك عليّ بن أبي طالب عليه السلام حديثاً لم تأثره العامّة. فقال الصادق عليه السلام: حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله صلّي الله عليه وآله: لَمَّا أُسْرِيَ بِي إلی السَّمَاءِ عَهِدَ إلی رَبِّي جَلَّ جَلاَلُهُ فِي عَلِيٍّ ثَلاَثَ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! فَقُلْتُ: لَبَيْكَ رَبِّي وَسَعْدَيْكَ! فَقَالَ: عَزَّوَجَلَّ: إنَّ عَلِيّاً إمَامُ المُتَّقِينَ، وَقَائِدُ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، وَيَعْسُوبُ المُؤْمِنِينَ، فَبَشِّرْهُ بِذَلِكَ! فَبَشَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّي اللَهُ عَلَيهِ وَآلِهِ بِذَلِكَ. فَخَرَّ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ سَاجِداً شُكْراً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَهِ بَلَغَ مِنْ قَدْرِي حَتَّي أَنِّي أُذْكَرُ هُنَاكَ؟! قَالَ: نَعَمْ، وَإنَّ اللَهَ يَعْرِفُكَ وَإنَّكَ لَتُذْكَرُ فِي الرَّفِيقِ الاَعلی. فقال المنصور: ذَلركَ فَضْلُ اللَهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ. [5] موقف الإمام الحكيم من المنصورإذا أنعمنا النظر في هذه الرواية فإنّ مطالب مهمّة تستبين لنا: أوّلاً: حاول المنصور أن يجبر الإمام علی الإقرار بأنّه خليٌّ من العلوم الملكوتيّة والسرِّيَّة، وبعامّة أراد أن يجعله في عداد العوام من الناس. ثانياً: لم يعترف الإمام عليه السلام بهذا الامر بأيّ وجه من الوجوه، بل أصرّ علی أ نّه من تلك الشجرة الزيتونة المباركة، وأ نّه فرع منها. ثالثاً: بأيّ بيانٍ منطقيّ مرن نافع يستطيع أن يُقنع المنصور بأنّ الانتقام عمل مذموم، وأنّ العالِم يجب أن يكون حليماً؟ وإلاّ يصبح العلم حربةً بِيَدِ زنجيٍّ سِكِّير. رابعاً: في الوقت نفسه نصح المنصور نصيحة مقبولة، لا نصيحة تثيره وتزيد حدّته وتشدّده. ويتّضح هنا جيّداً كيف يجب علی الإمام عليه السلام أن يتحمّل هذه المصائب مع المنصور، ويؤدّي رسالته بالنسبة إلی الاُمّة جميعها، بل بالنسبة إلی المنصور ذاته، وينقذ نفسه من قتلٍ لاطائل تحته فيتسنّي له أن يوصل ثِقْل الإمامة والولاية الحقيقيّة إلی مكانه المنشود. لم يهدأ المنصور عن إرسال الجواسيس إلی المدينة مع يقينه بعدم خروج الإمام ما كان أبو مسلم الخراسانيّ، ولا أبو سلمة من أهل الولاية ومن أنصار الإمام جعفر الصادق عليه السلام. ومع ذلك كانت تصل رسائلها إلیه عليه السلام لجسّ نبضه فيما إذا كان من أهل الثورة والخروج بالسلاح أو لا. عندما اجتمع عبدالله المحض وولداه: محمّد وإبراهيم مع عبدالله السفّاح والمنصور وجماعة آخرين من بني هاشم في الابواء بالمدينة من أجل أخذ البيعة لاحد وَلَدي عبدالله المحض، دخل عليهم الإمام الصادق عليه السلام بغتة علی الرغم من عدم رغبتهم في ذلك، وقال: لا تصحّ هذه البيعة، لانّ محمّداً ليس مهدي آل محمّد. وإنّ محمّداً وإبراهيم سيقتلان بِيَدِ صاحب القباء الاصفر ( المنصور أبي الدوانيق )، وهو الذي سيقبض علی الخلافة. وبعد مضي أيّام سافر عبدالله السفّاح مع أهل بيته من المدينة إلی الكوفة خفية، وخطّط للخلافة مع أبي سلمة الخلاّل. وحين بويع استوزره فاشتهر بوزير آل محمّد. لكنّه قُتل بعد أربعة أشهر، والذي قتله هو أبو مسلم. قال المحدِّث القمّيّ ( ما تعريبه ): استوزر السفّاح أبا سلمة حفص الخلاّل، فدُعي وزير آل محمّد. وهو أوّل مَن وزر في الدولة العبّاسيّة. ثمّ همّ أبو مسلم بقتله، وكان ينتهز الفرصة حتّي خرج ذات ليلة من عند السفّاح قاصداً منزله، فهجم عليه أصحاب أبي مسلم وسفكوا دمه. وكان قتله بعد أربعة أشهر مرّت علی حكومة السفّاح. ولمّا كانت الدولة العبّاسيّة قد قامت بجهود أبي مسلم، لذلك يمسّه السفّاح بأذي، بل كان يحترمه. وظلّ أبو مسلم حتّي إذا هلك السفّاح، وجلس المنصور مجلسه أمر بقتله في رومية المدائن يوم الخامس والعشرين من شعبان سنة 137 ه وكان معروفاً بالحزم والبطش والغيرة، وكان سفّاكاً للدماء حتّي أُحصي عدد المقتولين بيده صبراً فكانوا ستمائة ألف. [6] الإمام الصادق عليه السلام يجيب جواسيس المنصور بالنفيوعندما أخذ العبّاسيّون البيعة لانفسهم وتربّعوا علی أريكة الحكم، وصلت رسائل من أبي مسلم وأبي سلمة إلی المدينة استعلما فيها عن خلافة الإمام الصادق عليه السلام، وعبدالله المحض، وعمرو الاشرف وهم من أولاد أميرالمؤمنين عليه السلام وسألا فيها عن مدي استعدادهم للخلافة. أمّا الإمام الصادق عليه السلام فقد رفض تلك الرسائل وقال: العجب أنّ رجالاً أجانب يطالبون بالخلافة لنا! لقد كان هؤلاء كلّهم جواسيس أرادوا أن يقيسوا قابليّة الإمام عليه السلام للثورة والعمل في مقابل العبّاسيّين، فيفعلوا به ما فعلوا بعبدالله المحض وإخوته وولديه وعشيرته، بَيدَ أنّ الإمام كان واعياً نابهاً من أُولي الفهم والدراية. فلم يعبأ بتلك المراسلات، ولم يتخطَّ طريقه، إذ كان يعلم علم إلیقين أنّ إبراهيم الإمام وأخَوَيه السفّاح والمنصور ليسوا ممّن يتنازل عن الحكم ويسلّم الخلافة لاهلها ويجعلها في مكانها الحقيقيّ. إنّهم يفكّرون بمصالحهم الخاصّة فحسب، ولم يفكّروا إلاّ بتمشية تلك المصالح والمقاصد تحت عنوان دعم أهل البيت والإعلان عن غصب حقّ العلويّين. واتّخذوا من هذا العنوان ذريعة لإمارتهم ورئاستهم وحكومتهم. ولو لميكن ذلك، فَلِمَ لَمْ يُطلعوا الإمام علی هذا الامر في المدينة، وذهبوا إلی الكوفة سرّاً لاخذ البيعة من أهلها؟! وأمّا عبدالله المحض، فلم يَخبُرْ حقيقة الاشياء، ولم يستضيء بنور الباطن والفراسة العميقة فيدرك كُنه الاُمور، فلهذا خُدِعَ بأوراق مزوّرة ورسائل لا مغزي فيها من شيعة خراسان، حتّي أ نّه أساء الظنّ بالإمام الصادق عليه السلام وخال أ نّه لا يبايع ولده محمّد النفس الزكيّة حسداً مع وجود الرسائل التي بعثها شيعة خراسان إلیه. قال المستشار عبدالحليم الجنديّ: كتب أبو مسلم الخراسانيّ أيّامئذٍ إلی الإمام جعفر الصادق عليه السلام: إنِّي قَدْ أَظْهَرْتُ الكَلِمَةَ، وَدَعَوْتُ النَّاسَ عَنْ بَنِي أُمَيَّةَ إلی مَوَالاَةِ «أَهْل البَيْتِ» فَإنْ رَغِبَتَ فَلاَ مَزِيدَ عَلَيْكَ. وأجاب جعفر الصادق معلناً فلسفته: مَا أَنْتَ مِنْ رِجَإلی، وَلاَ الزَّمَانُ زَمَانِي. [7] وفي ذات الوقت بعث أبو سلمة الخلاّل ـ الملقّب بوزير آل محمّد، والذي سيُصبح وزيراً للسفّاح أوّل خلفاء بني العبّاس ـ إلی جعفر الصادق، وعبدالله بن الحسن بن « الحسن »، وعمرو الاشرف، من أبناء عليّ، مع رجل من موإلی أبي سلمة قائلاً له: إن أجاب جعفر فلا تذهب إلی غيره! وإن لم يجب فاقصد إلی عبدالله، فإن أجاب فأبطل كتاب عمرو. ( وإن لميجب عبدالله فاقصد عمرو الاشرف )! وذهب الرسول إلی جعفر، فقال: مَا لِي وَلاِبِي سَلَمَةَ وَهُوَ شِيعَةٌ لِغَيْرِي، وَوَضَعَ الكِتَابَ فِي النَّارِ حَتَّي احْتَرَقَ ـ وَأَبَي أَنْ يَقْرَأَهُ. قَالَ الرَّسُولُ: أَلاَ تُجِيبُهُ؟! قَالَ: رَأَيْتُ الجَوَابَ! ثمّ مضي الرسول إلی عبدالله. فقرأ الكتابَ، وقصد إلی جعفر الصادق يُنبئه بورود الكتاب إلیه من شيعته بخراسان. قال الصادق له: وَمَتَي كَانَ لَكَ شِيعَةٌ بُخَراسَانَ؟! أَأَنْتَ وَجَّهْتَ أَبَا مُسْلِم إلیهِمْ؟! هَلْ تَعْرِفُ أَحَداً مِنْهُمْ بِاسْمِهِ؟! فَكَيْفَ يَكُونُونَ شِيعَتَكَ وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَكَ وَأنْتَ لاَ تَعْرِفُهُمْ؟! قال عبدالله: كَأَنَّ هَذَا الكَلاَمَ مِنْكَ لِشَيءٍ؟! قال الصادق: قَدْ عَلِمَ اللَهُ أَنِّي أُوجِبُ النُّصْحَ علی نَفْسِي لِكُلِّ مُسْلِم فَكَيْفَ أَدَّخِرُوهُ عَنْكَ؟ فَلاَ تَمُنَّ نَفْسَكَ فَإنَّ الدَّوْلَةَ سَتَتِمُّ لِهَؤلاَءِ! [8] تشيّع جعفر بن محمّد بن الاشعث بسبب علوم الإمام الغيبيّةالتجسّس علی العلويّين وخداعهم بالمال الكثيرروي الشيخ محمّد بن يعقوب الكلينيّ في « الكافي » عن أبي عليّ الاشعريّ، عن محمّد بن عبدالجبّار، عن صفوان بن يحيي، عن جعفر بن محمّد بن الاشعث [9] قال: قال لي: أتدري ما كان سبب دخولنا في هذا الامر ومعرفتنا به وما كان عندنا منه ذِكرٌ ولا معرفة شيء ممّا عند الناس؟ قال: قلتُ له: ماذاك! قال: إنّ أبا جعفر ـ يعني أبا الدوانيق ـ قال لابي، محمّدٍ بن الاشعث: يا محمّد! ابغِ لي رجلاً له عقل يؤدّي عنّي! فقال له أبي: قد أصبته لك، هذا فلان ابن مهاجر خإلی. قال: فأتني به! قال: فأتيته بخإلی. فقال له أبو جعفر: يا ابن مهاجر! خذ هذا المال وأت المدينة وأت عبدالله بن الحسن بن الحسن وعدّةً من أهل بيته فيهم جعفر بن محمّد فقل لهم: إنّي رجل غريب من أهل خراسان وبها شيعة من شيعتكم وجَّهوا إلیكم بهذا المال! وادفع إلی كلّ واحد منهم علی شرط كذا وكذا. فإذا قبضوا المال، فقل: إنّي رسولٌ وأُحِبُّ أن يكون معي خطوطكم بقبضكم ما قبضتم! فأخذ المال وأتي المدينة، فرجع إلی أبي الدوانيق ومحمّد بن الاشعث عنده. فقال له أبو الدوانيق: ما وراءك؟! قال: أتيتُ القوم وهذه خطوطهم بقبضهم المال خلا جعفر بن محمّد. فإنّي أتيتُه وهو يصلّي في مسجد الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم. فجلستُ خلفه وقلتُ حتّي ينصرف، فأذكر له ما ذكرتُ لاصحابه. فعجّل وانصرف، ثمّ التفت إلیَّ فقال: يَا هَذَا! اتَّقِ اللَهَ وَلاَ تَغُرَّ أَهْلَ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، فَإنَّهُمْ قَرِيبُ العَهْدِ بِدَوْلَةِ بَنِي مَرْوَانَ وَكُلُّهُمْ مُحْتَاجٌ! فقلتُ: وما ذاك أصلحك الله؟! قال: فأدني رأسه منّي وأخبرني بجميع ما جري بيني وبينك حتّي كأنّه كان ثالثنا. قال: فقال له أبو جعفر: يابن مهاجر! اعلم أ نّه ليس من أهل بيت نبوّة إلاّ وفيه مُحَدَّثٌ،[10] وأنّ جعفر بن محمّد محدَّثنا إلیوم. قال جعفر بن محمّد بن الاشعث: وكانت هذه الدلالة سبب قولنا بهذه المقالة. [11] روي القطب الراونديّ عن مهاجر بن عمّار الخزاعيّ قال: بعثني أبو الدوانيق إلی المدينة، وبعث معي بمال كثير، وأمرني أن أتضرّع لاهل هذا البيت، وأتحفّظ مقالتهم. قال: فلزمتُ الزاوية التي ممّايلي القبر، فلم؟ ن أتنحّي منها في وقت الصلاة، لا في ليل ولا في نهار. قال: وأقبلتُ أطرح إلی السُّؤَّال الذين حول القبر الدراهم ومن هو فوقهم الشيء بعد الشيء حتّي ناولتُ شباباً من بني الحسن ومشيخة حتّي ألفوني وألفتهم في السرّ. قال: وكنتُ كلّما دنوتُ من أبي عبدالله ( جعفر بن محمّد الصادق » يُلاطفني ويُكرمني، حتّي إذا كان يوماً من الايّام دنوتُ من أبي عبدالله وهو يُصلّي. فلمّا قضي صلاته، التفت إلی وقال: تعالَ يا مهاجر ـ ولم أكن أتسمّي ولا أتكنّي بكُنيتي ـ فقال: قل لصاحبك: يقول لك جعفر: كَانَ أَهْلُ بَيْتِكَ إلی غَيْرِ هَذَا مِنْكَ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إلی هَذَا! تَجِيءُ إلی قَوْمٍ شَبَابٍ مُحْتَاجِينَ فَتَدُسَّ إلیهِمْ. فَلَعَلَّ أَحَدَهُمْ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ تَسْتَحِلُّ بِهَا سَفْكَ دَمِهِ. فَلَوْ بَرَرْتَهُمْ وَوَصَلْتَهُمْ وَأَغْنَيْتَهُمْ كَانُوا أَحْوَجَ مَا تُرِيدُ مِنْهُمْ! قال: فلمّا أتيتُ أبا الدوانيق قلتُ له: جئتُك من عند ساحر كذّاب كاهن. من أمره كذا وكذا. قال: صدق والله كانوا إلی غير هذا أحوج. وإيّاك أن يسمع هذا الكلام منك إنسان! [12] هؤلاء الجواسيس كانوا يطّوقون الإمام عليه السلام وأصحابه من جهة، ويحظرون عليه لقاء بالناس من جهة أُخري. وهذه كانت مشكلة سواء للإمام الذي لم يهمّه إلاّ بثّ العلوم ونشر المعارف، أم لجميع الناس الذين ينبغي أن يرتووا من منهله العذب الصافي ليخرجوا من عبوديّة العباد إلی عبوديّة الله. ومع خطر اللقاء والتدريس والتحدّث إلی الناس فسيظلّ بحر العلم الهادر هذا مختفياً، وسيبقي جبل المعرفة الراسخ الشاهق ذاك بلا ثمرة تُذْكَر. روي القطب الراونديّ عن هارون بن خارجة قال: كان رجل من أصحابنا طلّق امرأته ثلاثاً، فسأل أصحابنا فقالوا: ليس بشيء. فقالت امرأته: لا أرضي حتّي تسأل أبا عبدالله! وكان بالحيرة إذ ذاك أيّام أبي العبّاس. قال: فذهب إلی الحيرة ولم أقدر علی كلامه إذ منع الخليفة الناس من الدخول علی أبي عبدالله عليه السلام وأنا أنظر كيف ألتمس لقاءه، فإذا سواديّ عليه جبّة صوف يبيع خياراً، فقلتُ له: بكم خيارك هذا كلّه؟! قال: بدرهم! فأعطيته درهماً، وقلتُ له: أعطني جبّتك هذه! فأخذتها ولبستها وناديتُ: من يشتري خياراً؟ ودنوتُ منه، فإذا غلام من ناحية ينادي يا صاحب الخيار! فقال عليه السلام لي لمّا دنوتُ منه: ما أجود ما احتلتَ! أي شيء حاجتك؟! قلتذ: إنّي ابتُليتُ فطلّقتُ أهلي في دفعةٍ ثلاثاً، فسألتُ أصحابنا فقالوا: ليس بشيء وإنّ المرأة قالت: لا أرضي حتّي تسأل أبا عبدالله عليه السلام. فقال: ارْجِعْ إلی أَهْلِكَ! فَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ! [13] روي ابن شهرآشوب عن محمّد بن سنان، عن المفضّل بن عمر أنّ المنصور قد كان همّ بقتل أبي عبدالله عليه السلام غير مرّةٍ. فكان إذا بعث إلیه ودعاه ليقتله. فإذا نظر إلیه هابه ولم يقتله غير أ نّه منع الناس عنه، ومنعه من القعود للناس، واستقصي عليه أشدّ الاستقصاء، حتّي أ نّه كان يقع لاحدهم مسألة في دينه، في نكاح أو طلاق أو غير ذلك، فلا يكون علم ذلك عندهم، ولا يصلون إلیه فيعتزل الرجل وأهله. فشقّ ذلك علی شيعته وصعب عليهم، حتّي ألقي الله عزّوجلّ في روع المنصور أن يسأل الصادق عليه السلام ليُتحفه بشيء من عنده، لايكون لاحد مثله. فبعث إلیه بمِخْصَرَة [14] للنبيّ صلّي الله عليه وآله طولها ذراع. ففرح بها فرحاً شديداً، وأمر أن تشقّ له أربعة أرباع وقسّمها في أربعة مواضع. ثمّ قال له: مَا جَزَاؤُك عِنْدِي إلاَّ أَنْ أُطْلِقَ لَكَ، وَتُفْشِي عِلْمَكَ لِشِيعَتِكَ وَلاَ أَتَعَرَّضُ لَكَ، وَلاَ لَهُمْ، فَاقْعُدْ غَيْرَ مُخْتَشَمٍ وَأَفْتِ النَّاسَ، وَلاَ تَكُنْ فِي بَلَدٍ أَنَا فِيهِ! فَفَشَا العِلْمُ عَنِ الصَّادِقِ. [15] تقيّة الإمام الصادق عليه السلام الشديدة وخوفه علی سفيانوورد في بعض الآثار أنّ الإمام عليه السلام لم يُنجز للراويّ مجال التوقّف، لا نّه يكون مظنّة لتهمة اللقاء والحديث، ممّا يستتبع عواقب وخيمة. وجاء في الرواية التي نقلها سفيان الثوريّ عن الإمام عليه السلام أنّ الإمام قال له: غَيْرَ مَطْرُودٍ يَا سُفْيَانُ! فَفَرَقٌ عَلَيْكَ مِنَ السُّلْطَانِ! ولم اعثر علی الرواية الآتية التي سأنقلها عن سفيان بهذا الشكل وهذا التفصيل في المجاميع المعروفة،[16] بل أنقلها هنا عن خطٍّ مبارك للمرحوم جدّي آية الله السيّد إبراهيم الطهرانيّ رضوان الله عليه. لقد ذكر هذه الرواية في صفحة سابقة عن ثماني مخطوطات لاُصول قدمائنا، وكان قد جمعها في مجموعة حبيبيّة بخطّ النستعليق الجميل. وفيما يأتي نصّ الرواية: مواعظ الإمام الصادق عليه السلام لسفيان الثوريّرُوِيَ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ [17] قَالَ: لَمَّا حَجَجْتُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، أَرَدْتُ زِيَارَةَ الصَّادِقِ أَبِي عَبْدِاللَهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَنَشَدْتُ عَنْهُ فَأُرْشِدْتُ إلیهِ فَجِئْتُ، طَرَقْتُ البَابَ. فَقَالَ: مَنْ؟! قُلْتُ: صَاحِبُكَ سُفْيَانُ! فَفَتَحَ البَابَ وَوَقَفَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ علی ثَلاَثِ مَرَاقٍ وَقَالَ: مَرْحَباً يَا سُفْيَانُ! مِنَ الجِهَةِ الشِّمَإلیةِ؟! قُلْتُ: نَعَمو يَابْنَ رَسُولِ اللَهِ. مَا لِي أَرَاكَ قَدِ اعْتَزَلْتَ النَّاسَ؟! قَالَ: يَا سُفْيَانُ! فَسَدَ الزَّمَانُ، وَتَغَيَّرَ الإخْوَانُ، وَتَقَلَّبَ الاَعْيَانُ، فَرَأيْتُ الانْفِرَادَ أَسْكَنَ لِلفُؤَادِ! أَمَعَكَ شَيءٌ تَكْتُبُ فِيهِ؟! قُلْتُ: نَعَمْ! فَقَالَ: اكتُب: ذَهَبَ الوَفَاءُ ذَهَابَ أَمسِ الذَّاهِبِ والنَّاسُ بَيْنَ مُخَائِلٍ وَمَوَارِبِ يَغْشُونَ بَيْنَهُمْ المَوَدَّةَ وَالصَّفَا وقُلُوبُهُمْ مَحْشُوَّةٌ بِعَقَارِبِ قُلْتُ: زِدْنِي يَابْنَ رَسُولِ اللَهِ! قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: اكْتُبْ: لاَ تَجْزَعَنَّ لِوَحْدَةٍ وَتَفَرُّدِ ومِنَ التَّفَرُّدِ فِي زَمَانِكَ فَازْوَدِ ذَهَبَ الاخَاءُ فَلَيْسَ ثَمَّ أُخُوَّةٌ إلاَ التَّمَلُقُ بِاللِّسَانِ وَبِإلیدِ فَإذَا نَظَرْتَ جَمِيعَ مَا بِقُلُوبِهِمْ أبْصَرْتَ ثَمَّ نَقِيعَ سَمِّ الاَسْوَدِ [18] ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: غَيْرَ مَطْرُودٍ يَا سُفْيَانُ فَفَرَقٌ عَلَيْكَ مِنَ السُّلْطَانِ! فَقُلْتُ: سَمْعاً، زِدْنِي! قَالَ: إذَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْكَ الهُمُومُ فَقُلْ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ. وَإذَا اسْتَبَطأتَ الرِّزْقَ عَلَيْكَ فَعَلَيْكَ بالاسْتِغْفَارِ، وَعَلَيْكَ بِالتَّقْوَي، وَالزَمِ الصَّبْرَ، وَكُنْ علی حَذَرٍ فِي أَمْرِ دُنيَاكَ وَآخِرَتِكَ. [19] قَقُمْتُ وَانْصَرَفْتُ. [20] أجل، يستفاد من هذه الرواية أنّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام كان مُحاصراً، وكان يخشي بطش المنصور به للحظاتٍ من توقّف سفيان عنده. ومن الطبيعيّ أنّ مطالب مهمّة تُستشفّ من الإمعان في تضاعيف الرواية، ونُحيل ذلك إلی أُولي الالباب والعلوم. ونقل المحدِّث القمّيّ رواية أُخري عن سفيان يحسن بنا أن نذكرها هنا. قال: نُقل عن سفيان أ نّه لقي الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وقال له: يا ابن رسول الله انصحني! فقال عليه السلام: يَا سُفْيَانُ! لاَمُرُوَّةَ لِكَذُوبٍ، وَلاَ أَخَ لِمُلُوكٍ، وَلاَ رَاحَةَ لِحَسُودٍ، وَلاَ سُؤدَدَ لِسَيِّيءِ الخُلقِ. فقال: يا ابن رسول الله زدني! فقال عليه السلام: يَا سُفْيَانُ! ثُِقْ باللَهِ إنْ كُنتَ مُؤمِناً، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَهُ لَكَ تَكُنْ غَبْتّاً، وَأَحْسَنِ مُجَاوَرَةَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِماً، وَلاَ تَصْحَبِ الفَاجِرَ فَيُعَلِّمَكَ مِنْ فُجُورِهِ، وَشَاوِرْ فِي أَمْرِكَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَهَ عَزَّ وَجَلَّ! إلی أن قال: وممّا أوصاني به أبي أ نّه قال: يَا بُنَيَّ مَنْ يَصْحَبْ صَاحِبَ السَّوْءِ لاَ يَسْلَمْ، وَمَنْ يَدْخُلْ مَدَاخِلَ السَّوْءِيُتَّهَمْ، وَمَنْ لاَ يَمْلِكَ لِسَانَهُ يَأثَمْ.[21] كانت مصيبة الإمام الكبري ابتلاءه بولاة الجور بالمدينة في العصرين الامويّ والعبّاسيّ إذا أحصينا السنين التي استغرقتها إمامة الإمام جعفر الصادق عليه السلام منذ وفاة والده سنة 114 حتّي وفاته سنة 148، وجدناها تبلغ أربعاً وثلاثين سنة. وقد عاصر فيها الإمام عليه السلام الحكومتين السفّاكتين الهتّاكتين: الامويّة والعبّاسيّة. وفيما يأتي أسماء السلاطين الجائرين الذين عاصروه: هشام بن عبدالملك المتوفّي سنة 125، والوليد بن يزيد بن عبدالملك المتوفّي سنة 126، وإبراهيم بن يزيد بن عبدالملك المتوفّي سنة 127، ومروان بن محمّد بن مروان بن الحكم المتوفّي سنة 132، وأبو العبّاس السفّاح المتوفّي سنة 136، وأبو جعفر المنصور الدوانيقيّ المتوفّي سنة 158. وهو الذي قضي علی الإمام بالسمّ سنة 158، وعاش بعده عشر سنين. وبلغت المدّة التي عاصر فيها الإمام عليه السلام المنصور اثنتي عشرة سنة. ويتبيّن هذا الامر جيّداً من ملاحظة الجدول أدناه. [22] معاناة الإمام الصادق عليه السلام من الولاة الجائرينيتولّي ولاة المدينة المنصوبون من قبل السلطان مقإلید الحكم فيصدرون الاوامر، ويقتلون ويصلبون وينهبون، ويقيمون الجمعة ويخطبون فيها، ويقيمون صلاة العيدين، وصلاة الجماعة وغير ذلك من الاُمور التي تعدّ من مناصب السلطان. فهم بمنزلة مكبّرة الصوت لافكار السلطان وآرائه وآثاره ونيّاته وعقائده. وهم ـ في الحقيقة ـ نوّابه ويأتون في الدرجة الثانية بعده. ومن الواضح أنّ السلطان لا ينصب شخصاً مخالفاً له في العمل والقصد والمنهج والاُسلوب، لانّ مثل هذا النصب بمنزلة إضعاف حكومته وإمارته. وإضعاف الحكومة يعني ضعف الحدود، ومن ثمّ ضعف استقلال المركزيّة ووحدة البلاد. من هنا، كان السلاطين الامويّون والعبّاسيّون الذين يعدّون من النواصب أعداء آل محمّد يسعون دائماً في نصب ألدّ أعداء أهل البيت وأقساهم علی المدينة التي كانت مركز أهل البيت وَرَثة الرسول الاكرم. وهم ممّن كانوا منقادين لاوامرهم، ونيفّذونها بنحو أكمل وأتمّ. فانظروا ماذا سيجزي في تلك الفترات المظلمة الطويلة علی أهل البيت بخاصّة علی الائمّة الذين كان لهم عنوان الرئاسة والزعامة؟! وكانت المشاركة في صلاة الجمعة والجماعة واجبة من جهة، وإذا لميحضر أحد يؤاخذه الوإلی، ومن جهة أُخري كان حاكم المدينة يمجّد ويعظّم رؤساءه في كلّ خطبة. ويسبّ عليّاً عليه السلام حتّي عصر عمربن عبدالعزيز، ويعدّ مثالب الاعداء فضائل لاهل البيت، وعلی العكس فضائل أهل البيت مثالب الاعداء. سُبْحَانَ اللَهِ! أيّ قلب للحقائق هذا! وأيّ تحريف في القول والعمل؟! مع هذه الاحوال، علی أئمّة الشيعة عليهم السلام أن يجلسوا تحت منابر وعّاظ السلاطين ويستمعوا. فإذا نهضوا للمناقشة، فإنّ عملهم هذا يمسّ أصل الجهاز الحاكم، ويعدّ مسّاً للسلطات العليا. وكنّا نري ونلاحظ ماذا يستتبع من عواقب وخيمة. وإذا سكتوا ولم يُدافعوا، فأيّ غيور يتحمّل قدفَ فاتح بدر وأُحد وخيبر وحُنين بحبّ الدنيا والرئاسة، وعدّ أُولئك الاوغاد الجبناء محبّين للإسلام مفكِّرين بالمصلحة العامّة؟! أنا كلّما أفكّر، لا أتصوّر مصيبة أعظم من هذه المصيبة، ولا أخال عناءً وموتاً بطيئاً أمرّ وأشدّ من هذا العناء وهذا الموت البطيء. كان الإمام جعفر الصادق عليه الصلاة والسلام يواجه هذه المشكلات، ولولا سكوته لما بقي اسم للمذهب الشيعيّ والحديث الإماميّ. ولرُمي بيته بالحجارة، وأُحرق، وأُسقط سقفه علی الاحياء. ولو سكت فسكوته يعني تأييد تلك الخطب الباطلة التي تُلقي لتثبت حكم السلطان، وسير الاُمور في نقطة مضادّة للحقّ، وسيتماشي مع الباطل. فلهذا نجد إمامنا ووليّنا الفاني الناطق الساكت، ومُظهر المعجزة كان يعترض ويدافع في كلماته بين الحين والآخر كي لا يتغلّب الباطل ويشوّه وجه الحقيقة بصدأ التمويه والخدع والمكر الفاسد. ولم يَدَع عليه السلام النطق بالحقّ في مثل هذه المواقف وإن أدّي ذلك إلی قتله والقضاء عليه. لانّ للحياة شأنها واعتبارها إلی درجة معيّنة مادامت لا تُفضي إلی التجريد من الشرف الرفيع، وإلاّ فالموت خير من الحياة حينئذٍ. |
|
بنو مروان |
مدّة الخلافة |
|
مروان بن الحكم |
64-65 |
|
عبدالملك بن مروان |
64-86 |
|
الوليد بن عبدالملك |
86-96 |
|
سليمان بن عبدالملك |
96-99 |
|
عمر بن عبدالعزيز بن مروان |
99-101 |
|
يزيد بن عبدالملك |
101-105 |
|
هشام بن عبدالملك |
105-125 |
|
الوليد بن يزيد بن عبدالملك |
125-126 |
|
يزيد بن الوليد بن عبدالملك |
126 |
|
إبراهيم بن الوليد بن عبدالملك |
126 |
|
مروان بن محمّد بن مروان |
127-132 |
وذكر المسعوديّ في «مروّج الذهب» المدّة التي حكم فيها الامويّون بدقّة.
أقول: ونورد فيما يأتي موجزاً لما ذكره المسعوديّ في «مروج الذهب» ج 3، ص 249، الطبعة الثانية، سنة 1367 ه:
إلیوم الشهر السنة اسم الحاكم
.. .. 20 معاوية بن أبي سفيان
14 8 3 يزيد بن معاوية
11 01 0 معاوية بن يزيد
05 08 0 مروان بن الحكم
20 01 21 عبدالملك بن مروان
02 08 9 الوليد بن عبدالملك
15 06 2 سليمان بن عبدالملك
05 05 2 عمر بن عبدالعزيز
13 00 4 يزيد بن عبدالملك
09 09 19 هشام بن عبدالملك
00 03 1 الوليد بن يزيد بن عبدالملك
10 02 0 يزيد بن الوليد بن عبدالملك
10 02 5 مروان بن محمّد بن مروان
-----------------------------------------------------
14 08 90 بنو أُميّة وأبو العاص (مجموع السنين التي غُصبت فيها الخلافة).
قال المسعوديّ: وأسقطنا أيّام إبراهيم بن الوليد بن عبدالملك كإسقاطنا أيّام إبراهيم بن المهديّ أن يعدّ في الخلفاء العبّاسيّين، فتكون الجملة تسعين سنة وأحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً. يضاف إلی ذلك الثمانية أشهر التي كان مروان يقاتل فيها بني العبّاس إلی أن قُتل، فيصير ملكهم إحدي وتسعين سنة وسبعة أشهر وثلاثة عشر يوماً. يُوضَع من ذلك أيّام الحسن بن علی ـ وهي خمسة أشهر وعشرة أيّام ـ وتُوضَع أيّام عبدالله بن الزبير إلی الوقت الذي قُتل فيه ـ وهي سبع سنين وعشرة أشهر وثلاثة أيّام ـ فيصير الباقي بعد ذلك ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر. يكون ذلك ألف شهر سواء. وقد ذكر قوم أنّ تأويل قوله عزّ وجلّ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّن أَلْفِ شَهْرٍ ما ذكرناه من أيّامهم.
* ـ قال المجلسيّ في الجزء التاسع من «البحار» ص 594، في كلام أميرالمؤمنين علیه السلام في «نهج البلاغة» حول مروان بن الحكم: أما إنّ له امرةً كلَعْقة كَلب: والتشبيه لمدّة ملكه بلعقه الكلب أنفَه، للتنبيه علی قصر أمرها، وكانت مدّة إمرته أربعة أشهر وعشراً، وروي ستّة أشهر.
[23] ـ «أمإلی الطوسيّ» ص 31 و 32، المجلس الثاني؛ و«بحار الانوار» ج 47، ص 165؛ وكتاب «الإمام جعفر الصادق» للمظفّر، ج 1، ص 120 و 121.
[24] ـ «علل الشرائع» ص 496؛ «بحار الانوار» ج 47، ص 166؛ ونقله المظفّر في كتاب «الإمام جعفر الصادق» ص 115، عن «نور الابصار» للشبلنجيّ، ص 141، وذكر في ذيله أنّ المنصور سكت علماً منه أ نّه لو ردّ علیه لوخزه بما هو أمضّ جرحاً، وأنفذ طعناً. ومن الغرائب أنّ السيوطيّ نسب هذا الكلام في «تاريخ الخلفاءش ص 269، الطبعة الرابعة، إلی مقاتل بن سليمان في قوله: روي أنّ المنصور ألحّ علیه ذبابٌ، فطلب مقاتل بن سليمان فسأله: لِمَ خلق الله الذبابَ؟! قال: ليذلّ به الجبّارين.
[25] ـ «علل الشرائع» ص 538؛ «بحار الانوار» ج 47، ص 166.
[26] ـ كتاب «الإمام الصادق» ج 1، ص 121، طبعة جماعة المدرّسين.
[27] ـ «الإمام الصادق» للمظفّر، ج 1، ص 120 إلی 122، طبعة جماعة المدرّسين بقم.
[28] ـ «الكافي» ج 2، ص 562؛ «مشارق أنوار إلیقين» ص 111؛ «المناقب» ج 3، ص 357؛ «بحار الانوار» ج 47، ص 177 و 181 و 209، الطبعة الحديثة.
[29] ـ «اختيار معرفة الرجال» ص 233؛ و«بحار الانوار» ج 47، ص 185.
[30] ـ «اختيار معرفة الرجال» ص 221.؛ و«بحار الانوار» ج 47، ص 185.
|